بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
قريباً من أحوال العصر الذي نعيشه اليوم كان العالم محتاجاً إلى حدوث عملية تغيير كبرى عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان عموم البشر (عرباً وعجماً) يعيشون صراعات متواصلة، ظاهرها سياسي أو عسكري أو اقتصادي أو اجتماعي، وباطنها ديني واعتقادي؛ إنها كانت حروب أفكارٍ بين عقــول وقلوب، ينحاز كلٌّ منهـا إلى ما يراه مقدساً وجـديراً بأن يُفرض على الآخرين.
كانت أمة الروم الكبيرة منقسمة إلى قسمين متخاصمين:
قسم وثني صِرف يعبد الأصنام على طريقة فلاسفة اليونان والإغريق ، وقسم يعبد عيسى - عليه السلام - على أنه إله أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة.
وكان نصارى الروم أنفسهم على عداوات في ما بينهم أججتها الخلافات الجوهرية بين الكاثوليك والأرثودكس الذين تشاركوا في صفات الانحلال والفساد العظيم دينياً وسياسياً وأخلاقياً واجتماعياً. وصدَّروا ذلك للبلدان التي سيطروا عليها في الشام ومصر.
أما الفرس - وهم شركاء الروم في إدارة العالم - فكانوا أسوأ حالاً، يقدسون الملوك بدعوى أن دماء الآلهة تجري في عروقهم، ويعبدون النار، فيحرقون بلهيبها الذي لا يخبو كل قيم الهداية والوحدانية التي جاءت بها الرسل.
وأما في شرق الأرض فقد كانت الشعوب الصينية على عهد الوثنية البوذية كما هو حالها اليوم، بينما كان الهنود يعددون الآلهة من كل صنف؛ حتى قدسوا البحار والأشجار والأحجار والأبقار، مع إهانتهم للإنسان الذي لا ينحدر من الطبقات العنصرية المختارة، فينزلونه منازل أحط من البهائم.
وفي أطـراف متبـاعدة من الأرض كان اليهود - إلا نفراً قليلاً - في شتاتهم ينتظرون الخلاص الإلهي، لكن عن طريق إيقاد الحروب بين من سواهم من البشر الأمميين الذين لا يشاركونهم في عبادة الإله الخاص ببني إسرائيل (يهوه).
وأما بلاد العرب - وسط كل هذا - فكانوا في جزيرة تستورد مما وراء البحار حثالات الديانات والأفكار، لتضيفه إلى ما عندها من إرث جاهلي عريق، يُذكَر فينكَر، ما أتاهم لتغييره من نذير ولا بشير.
جاء الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً بمواجهة كلِّ هذا الباطل ، ومجاهدة كلِّ هذا الفساد الفكري والديني بالوحي المنزل عليه؛ ليعيد البشر إلى العبودية التي تنادي بها الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتوحيد الذي جافاه ونحاه العبيد، ويردَّهم إلى الصلاح الديني والدنيوي الموصل للفلاح الأخروي.
وتلك - بلاشك - مهمة كبرى وغاية عظمى، كانت جديرة بإرسال عشرات أو مئات الرسل في عشرات أو مئات القرى والمدن. لكن الله تعالى اختارلها رجلاً واحداً من بلد واحد ليستقل بهذه المهام الجسام في الأرض كلها وهو محمد صلى الله عليه وسلم
حيث أمره الله تعالى أن يصدع بما يؤمر، وأن يبلغ ما أنزل إليه، وأن يجاهد بهذا القرآن المنزل جهاداً كبيراً، يتناسب مع كبر مهمة الهداية ، وكبر مسؤولية مواجهة الكفر والغواية ، فأنزل عليه قوله تعالى :
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيراً (52) سورة الفرقان.
بين يدي الآية:
كُلِّف النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم دون بقية الرسل برسالة عامة ، ليست قومية ولا إقليمية ، بل عالمية كونية ، لا تقتصر على البلاغ حتى تضم إليه البيان، ولا تنازل الأساطير والخرافات الفكرية الاعتقادية ، إلا وتواجه معها الانحرافات التشريعية والسلوكية، ولا تكتفي بأمور سعادة الناس في الآخرة، حتى تصلح بالدين دنياهم.
وكل ذلك انطلاقاً من بقعة صغيرة من الأرض، مَنْ يعاديه فيها ويحاصره أكثر ممن يؤيده ويناصره، وفي وسط أمة كانت في المؤخرة، ومجتمع لم تكن له مؤهلات أو تطلعات إلى ريادة أو قيادة فيكون عوناً له، بل كان بتفرُّقه وخذلانه عبئاً عليه.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم مطالباً بتغيير هذا الواقع وهو في برج عاجي من أبراج الفلاسفة المنظِّرين، أو صومعة نائية للمتأملين المنقطعين، أو حصن منيع من حصون الملوك المحروسين المتعالين، بل كان عليه صلى الله عليه وسلم أن يغيِّر في أفكار الناس وعقائدهم وهو يعايشهم في مجتمعاتهم، ويغشى مجالسهم، ويمشي في أسواقهم، مؤثراً فيهم غير متأثِّر بهم، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن في موقف الإلقاء والناس حوله في موقف الإصغاء ، كلا , بل كان أكثر خواصهم يجادل بالباطل ويغضب له، وعوامهم يهرفون بما لا يعرفون في حمية جاهلية، لا يصبر على معالجتها إلا إنسان مؤيَّد منصور، وهو ما استوجب أن يجتمع في شخصه صلى الله عليه وسلم ما تفرق من مناقب وصفات جميع المرسلين الذين انتُدبوا لمعالجة جميع أدواء الأمم وأمراض البشر، من المرسلين والأنبياء السابقين قبله،
فاجتمعت فيه عظيم الصفات والسمات : كثبات نوح، وجسارة هود، وهدوء صالح، وقنوت إبراهيم، وتقوى يوسف، وبسالة موسى، وصبر أيوب، وشجاعة داوود، وفطنة سليمان، وسماحة يحيى ، و وداعة عيسى (عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه).
ولنا وقفات مع ما في الآية من فقرات :
تعليق