أوال ..أُم الملوك
كان العالم يستقبل ميلاد السيد المسيح ليخلص البشرية وينشر الأمن والسلام والمسرة في ربوع الأرض عندما كان سكان "تايلوس" يستقبلون القبائل العربية التي قصدتها في عمق الجزيرة العربية ويشكلون مع هذه القبائل حلف "تنوخ"ليخلصهم من ظلم واستبداد الجرهائيين ويعيد إليهم أمنهم وأمانهم وازدهار بلادهم ومكانتها.
تشكل حلف" تنوخ" من مجموعة من أكبر القبائل العربية، ضمت :قُضاعة، وقبيص، وإياد، وتميم، وبقية من القبائل العربية النجدية والتهامية، وعلى مشارف "تايلوس" انضمت إليهم الأزد، وكانت تسكن أرض "تايلوس" إضافة إلى أحد بطون لخم، واتفق زعماء هذه القبائل على تمليك زعيمهم مالك بنفهم القضاعي والمناداة به ملكاً على المنطقة المحصورة بين نجد غرباً والخليج العربي شرقاً وحدود عُمان جنوباً، وحدود البصرة شمالاً ، وقد سميت هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة"البحرين" فيما ظهر اسم"أوال" كعلم على "تايلوس" المدينة لأول مرة، و"أوال" هو اسم لصنم عَبده سكان الجزيرة في فترة ما بعد"تايلوس" وربما يكون هذا الاسم تجسيداً آخر لاسم آخر من أسماء هذا المعبود الصنمي كعادة الشعوب في التعامل مع الآلهة فالإله"زيوس" الذي يُعتبر كبير آلهة الإغريق له تجسيد عند العرب القدماء هو الإله (شمس) والربة (عشتار) التي عُبدت في البحرين، ومنطقة بلاد الرافدين وبلاد الشام باعتبارها ربة الجمال والخصوبة، عُبدت في الجزيرة العربية عند العرب القدماء تحت اسم آخر هو" اللات".
والثابت تاريخياً أن مالك بن فهم القضاعي لم يكن ملكاً على الطريقة الفارسية أو الإغريقية بما عُرف عنهما من فخامة وهيلمان ولكنه كان ملكاً على الطريقة العربية البدائية آنذاك، كما عَرفها أهل البادية، وهؤلاء لم يكونوا يحتملون الخضوع والانتظام ضمن نظام مدني له قوانينه وأواوينه وبروتوكولاته كما عند الممالك العربية في الحضر، ولذلك فقد كان مالك بن فهم القضاعي ملكاً أقرب إلى الزعيم، منه إلى الملك، وفي نفس الوقت فقد احتفظت كل قبيلة بزعامتها شبه المستقلة على رجالها وما تحميه من الأرض، وهكذا فقد تشكلت مملكة البحرين الأولى، من مجموعة من "الممالك" الصغيرة القبلية يضمها حلف"تنوخ" الذي يرأسه مالك بن فهم القضاعي.
في هذه الحقبة الزمنية التي عُرفت تاريخياً باسم" عصر الطوائف" أو " عصر ملوك الطوائف" نسبة على تعدد الممالك الطائفية في بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين مثل" مملكة الأردوانيين" في جنوب العراق و"مملكة الأرمانيين" في أرض بابل وما حولها وغيرهما من الممالك الصغيرة، وكانت هذه الممالك تعيش حالة من الشقاق والخلاف والحروب المستمرة بينها بسبب الاختلافات الطائفية ونزوع بعضها للسيطرة وبسط النفوذ على الأخرى.
ويبدو أن "ملك البحرين" وزعيم" تنوخ" مالك بن فهم القضاعي، كان يحمل نفساً أبية وهمة عالية، وروحاً تواقة، ولذلك فما إن استتبت له شؤون المُلك والزعامة في البحرين واجتمعت إليه كلمة العرب في المنطقة حتى تسامى بهمته إلى أرض العراق مستثمراً حالة الشقاق والخلاف بين ملوك الطوائف وطامحاً لتأسيس مملكة عربية كبرى تسيطر على كامل المنطقة وهكذا تحركت هذه الموجة العربية العارمة إلى أرض العراق، بمجموعتين أو جيشين قاد الجيش الأول منهما – كما يقول ابن الأثير في كتابه"الكامل في التاريخ" زعيم قبيص الحيقاد بن الحنق وقصد هذا وجيشه مملكة الأرمانيين، الذين سكنوا بابل وما حولا فأغاروا عليهم ثم جاء الجيش الثاني بقيادة مالك بن فهم القضاعي"ملك البحرين" في جمع كبير من قبائل العرب فهاجم الأرمانيين وأجلاهم عن الأرض التي كانوا يسيطرون عليها وتابع طريقه إلى مملكة الأردوانيين فأخرجهم من الأرض التي حكموها واستقر المقام بمالك بن فهم القضاعي ومن معه في منطقة الأنبار حتى حدود الحيرة لتأسيس أول مملكة عربية تمتد من حدود عُمان جنوباً وحتى الحيرة شمالاً وبالطبع فإن البحرين تحولت في هذه الأثناء من "مملكة " إلى "إقليم" يتبع الدولة العربية العتيدة.
في عهد الملك مالك بن فهم القضاعي تأسست الأرضية الصالحة لنشوء الدولة غير أن شؤون الملك والحكومة لم تكن قد تطورت بعد واستمر هذا الحال إلى ما بعد موت مالك بن فهم وتولي شقيقه عمرو بن فهم سدة الحكم غير أن هذا لم يستمر طويلاً فتوفي وخلفه الملك جذيمة بن مالك المعروف بـ" الأبرش" ويُعتبر عدد كبير من المؤرخين جذيمة الأبرش الملك المُؤسس لمملكة اللخميين العرب في الحيرة والأنبار وسائر الجنوب العراقي امتدادً إلى حدود عُمان وهي المملكة التي كانت اللبنة الأولى لدولة " المناذرة".
وفي عهد الملك جذيمة الأبرش استقر الملك للعرب وتطورت أساليب إدارة الحكم وشؤون المُلك ولا شك أن جذيمة الملك استفاد من معارف الفرس وأنظمتهم وأساليبهم في تدبير شؤون المُلك.. ووصفه المؤرخون بأنه ملك عظيم ضم إليه شمل العرب وأسس لهم أركان دولة كبيرة وغزا بجيوشه الممالك المتاخمة لدولته الممتدة.
وجاء بعد جذيمة الأبرش ابن أخته وولي عهده الملك عمرو بن عَديّ الذي يُعتبر جد الملوك اللخميين المناذرة وفي عهد عمرو بن عديّ تحالفت هذه المملكة العربية مع دولة الفرس الساسانيين التي تأسست وازدهرت في إيران، وبدأت تبسط نفوذها وسيطرتها على جزء كبير من العالم وقد تولى الملك عمرو بن عديّ سدة الملك عام 268 للميلاد، واستمر حكمه حتى عام 288 للميلاد، وعاصر من ملوك ذلك الزمان الملك شمر يرعش "ملك حمير التُبعي" والملك سابور بن أردشير وبهرام هرمز بن سابور "الأول" ثم بهرام الثاني بن بهرام الأول ملوك الإمبراطورية الساسانية.
في هذه الفترة كانت البحرين إقليماً تابعاً لدولة المناذرة التي اختارت الحيرة عاصمة لها وكان ملوك الحيرة ينتدبون من قبلهم ملوكاً محليين يمارسون ولايتهم على مناطق محددة من الدولة الشاسعة وبالطبع كانت البحرين من هذه الممالك المحلية أما "أوال" فكانت حاضرة البحرين الإقليم، وإليها كانت تعود شؤون حكم هذا الإقليم غير أنه من الجدير بالذكر أن البحرين في هذه الأثناء وخاصة "أوال" بدأت تعود إلى عهودها الزاهرة وازدهارها التجاري والاقتصادي وعادت من جديد لتشكل واحداً من أهم أسواق العرب وميناءً تصل إليه السلع والبضائع من مختلف أنحاء الدنيا، وكان يسكن البحرين في هذه الأثناء مجموعة قبائل عبد القيس وربيعة وإياد، فيما كانت ربيعة تسيطر على "أوال" بشكل خاص، وكان الملوك المحليين للإقليم من هؤلاء وهؤلاء، أي يكون الملك لعبد القيس تارة ولربيعة تارة أخرى، بينما تحتفظ كل قبيلة بزعيمها المباشر، أما الدولة الأم أي مملكة المناذرة فكانت تُقيم ما يشبه التحالف مع الإمبراطورية الساسانية ولم تكن تابعة لهذه الإمبراطورية، في هذا الوقت.
استمرت ولاية عمرو بن عديّ على مملكة المناذرة نحو عشرين سنة اخذ خلالها عدة حروب مع عدد من الممالك المحاذية وكان أشهر هذه الحروب حربه مع مملكة "تدمر" في بلاد الشام وهي حرب اختلطت فيها الأسطورة بالحقيقة وتمازج فيها الخيال بالواقع فدخلت بذلك ديوان الأقاصيص والروايات والسير الشعبية العربية.
أما التاريخ العربي الموثق فيحكي الكثير عن الملك التالي الذي جاء بعد عمرو بن عديّ وهو امرؤ القيس بن عمرو بن عديّ الذي تجاوزت طموحاته طموحات من سبقه من الملوك العرب وكان بحق صاحب أول مشروح وحدوي لتوحيد البلاد العربية وتشكيل دولة عربية واحدة، تطاول بمكانتها الإمبراطوريتين السائدتين آنذاك، وهما إمبراطورية الفرس الساسانيين والإمبراطورية الرومانية. اعتلى الملك امرؤ القيس بن عمرو سدة المُلك عام 288 للميلاد، وعاصره من ملوك التبابعة في حميرَ ثلاثة ملوك هم: شمر يرعش ثم افريقس الملقب بذي القرنين، ثم يمريرجب، أما معاصروه من ملوك الإمبراطورية الساسانية فهم: بهرام الثالث ثم نرسي بن بهرام ثم هرمز بن نرسي ثم الإمبراطور الدموي سابور الثاني المُلقب بـ(ذي الأكتاف).
يعتبر امرؤ القيس بن عمرو، واحداً من أقوى ملوك المناذرة بل من أقوى الملوك العرب قبل الإسلام وقد استمر حكمه نحو أربعين سنة نهض خلالها إلى إنجاز حلمه الكبير لتوحيد العرب في دولة واحدة فأخضع لسلطانه القبائل والملوك المحليين في سائر البلاد العربية كالحجاز ونجد وتهامة والعراق والشام وحدود اليمن، وغزا مملكة الحميريين التبابعة من اليمن فانتصر على الملك شمر يرعش وقلص نفوذه إلى ما وراء نجران وهاجم بقبائل عب القيس وربيعة القاطنين في البحرين شواطئ فارس مستخدماً أسطولاً بحرياً حربياً كبيراً فعبر إلى أرض الفرس واحتل أجزاءً منها كما هدد بغزواته مشارف الإمبراطورية الرومانية إلا أنه ما لبث أن تصالح مع ملوك الرومان، وتحالف معهم إبان ظهور الإمبراطور الساساني سابور الثاني(ذو الأكتاف) وعودة القوة والازدهار إلى الدولة الساسانية التي سعت بمجرد اشتداد أمرها للثأر من هذا الملك العربي وتطلعاته التحررية لقد وضع سابور (ذو الأكتاف) الفتل بالعرب نُصب عينيه بمجرد أن دانت له دولة فارس فجهز من فوره جيشاً وصل تعداده إلى 70 ألف فارس وقاد هذا الجيش بنفسه ومثيراً الرعب والقتل والدمار، حيثما وصل بقواته الجرارة وبعد معارك ضارية مع ملك المناذرة امرؤ القيس، وجموع العرب تمكن سابور من احتلال الحيرة فيما تراجع امرؤ القيس إلى خد دفاعه الثاني في (إقليم البحرين) فتبعه سابور إلى هناك حيث أسرف في الفتك والقتل، وعذب العرب من أهل البحرين بخلع أكتافهم فمن هنا أطلق عليه العرب هذا اللقب وكان يقول( إنما أقتلكم أيها العرب لأنكم تزعمون أن لكم دولة ومملكة)! وهكذا عادت معظم البلاد العربية بما فيها " إقليم البحرين" لتئن من جديد تحت نير وظلم الفرس والساسانيين وأصبحت دولة المناذرة في الحيرة مملكة تابعة للإمبراطورية الفارسية ونُصب الملك أوس بن قلام على الحيرة ملكاً تابعاً للتاج الساساني أما امرؤ القيس بن عمرو فقد تابع مسيره إلى ملك الروم قسطنطين الكبير في الشام وكان هذا أول من تنصر من ملوك الروم وناصر الديانة المسيحية فاعتنق امرؤ القيس بدوره النصرانية وكأنه كان يريد بذلك دفع الملك قسطنطين الكبير لمساعدته في استرجاع ملكه من الفرس الساسانيين غير أن ذلك على ما يبدو لم يشفع له عند الروم فتوفي في حوران على مشارف الدولة الجنوبية ودُفن هناك فيما بقي أبناؤه يُمنون نفوسهم بدعم ونصرة الروم لهم لاستعادة ملك أبيهم وأجدادهم ومع أن هذا لم يحدث إلا أن سُدة الحكم الملك عادت إليهم من جديد وكانت البداية من البحرين تماماً كما كانت بداية تأسيس المملكة العربية الأولى منها.
وتقول الروايات أن شخصاً من أهل إقليم اسمه جحجبان بن عتيق اللخمي خرج من البحرين قاصداً الحيرة وقد أجمع على الفتك بالملك أوس بن قلام ثاراً لمن كان سابور قتلهم وفتك بهم من أبناء البحرين بمساعدة أوس بن قلام وفعلاً وصل ابن عتيق إلى الحيرة وكمن للملك أوس بن قلام حتى قتله فنشبت فتنة كبرى في الحيرة عام 330 للميلاد دفعت بالملك الفارسي لإعادة الاتصال بأبناء ملك الحيرة المحبوب امرؤ القيس بن عمرو وهم عند ملك الروم من أجل العودة إلى الحيرة وتسلم المُلك وبالطبع على أن تكون المملكة العربية تابعة للتاج الساساني وفعلاً عاد أبناء الملك امرؤ القيس إلى الحيرة ونصبوا أخاهم عمرو بن امرؤ القيس ملكاً في العام 370 للميلاد.
ومنذ هذا التاريخ ظلت دولة المناذرة تابعة للإمبراطورية الفارسية وتمارس في ذات الوقت حكمها وسلطتها غير المباشرة على إقليم البحرين، فيما ظل المُلك متداولاً في سلالة امرئ القيس بن عمرو غالب الأحيان وباستثناء فترات قليلة جداً أُعطي فيها المُلك لآخرين نصبهم ملوك فارس ومن هؤلاء : علقمة أبو يعقر، من 504 إلى 507 للميلاد، والحارث بن عمرو الكدني من 523 إلى 578 للميلاد، وفيشهرت أوزيد من 577 إلى 578 للميلاد وإياس بن قبيصة من 613 إلى 618 للميلاد، وأخيراً زاديه من 618 إلى 638 للميلاد باستثناء هؤلاء فقد توارث المُلك على الحيرة والدولة العربية المنذرية أبناء وسلالة امرؤ القيس بن عمرو منذ عام 370 للميلاد وحتى عام 638 أي بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام بنحو 27 سنة وهي السنة التي ازدهرت فيها حركة الفتوحات الإسلامية خارج الجزيرة العربية حيث سنلاحظ أن أول وصول للمسلمين إلى فارس كان من البحرين وأن القضاء على دولة الفرس بدأ من البحرين وهكذا ظلت البحرين ومنذ بدء التكوين التاريخي للمنطقة مؤثرة في مسارات أحداثها الكبرى وركيزة مهمة من ركائز بناء تاريخ المنطقة وظل ملوكها من أبرز صُناع التاريخ البشري في هذه البقعة من العالم، التي حفلت بالنُبوات تماماً كما اكتظت قبل ذلك بالأرباب الأسطوريين والآلهة المتخيلة جنباً إلى جنب مع الأرباب والآلهة الصنمية ثم منها خرج نور الإسلام ليعمَ العالم.
كان العالم يستقبل ميلاد السيد المسيح ليخلص البشرية وينشر الأمن والسلام والمسرة في ربوع الأرض عندما كان سكان "تايلوس" يستقبلون القبائل العربية التي قصدتها في عمق الجزيرة العربية ويشكلون مع هذه القبائل حلف "تنوخ"ليخلصهم من ظلم واستبداد الجرهائيين ويعيد إليهم أمنهم وأمانهم وازدهار بلادهم ومكانتها.
تشكل حلف" تنوخ" من مجموعة من أكبر القبائل العربية، ضمت :قُضاعة، وقبيص، وإياد، وتميم، وبقية من القبائل العربية النجدية والتهامية، وعلى مشارف "تايلوس" انضمت إليهم الأزد، وكانت تسكن أرض "تايلوس" إضافة إلى أحد بطون لخم، واتفق زعماء هذه القبائل على تمليك زعيمهم مالك بنفهم القضاعي والمناداة به ملكاً على المنطقة المحصورة بين نجد غرباً والخليج العربي شرقاً وحدود عُمان جنوباً، وحدود البصرة شمالاً ، وقد سميت هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة"البحرين" فيما ظهر اسم"أوال" كعلم على "تايلوس" المدينة لأول مرة، و"أوال" هو اسم لصنم عَبده سكان الجزيرة في فترة ما بعد"تايلوس" وربما يكون هذا الاسم تجسيداً آخر لاسم آخر من أسماء هذا المعبود الصنمي كعادة الشعوب في التعامل مع الآلهة فالإله"زيوس" الذي يُعتبر كبير آلهة الإغريق له تجسيد عند العرب القدماء هو الإله (شمس) والربة (عشتار) التي عُبدت في البحرين، ومنطقة بلاد الرافدين وبلاد الشام باعتبارها ربة الجمال والخصوبة، عُبدت في الجزيرة العربية عند العرب القدماء تحت اسم آخر هو" اللات".
والثابت تاريخياً أن مالك بن فهم القضاعي لم يكن ملكاً على الطريقة الفارسية أو الإغريقية بما عُرف عنهما من فخامة وهيلمان ولكنه كان ملكاً على الطريقة العربية البدائية آنذاك، كما عَرفها أهل البادية، وهؤلاء لم يكونوا يحتملون الخضوع والانتظام ضمن نظام مدني له قوانينه وأواوينه وبروتوكولاته كما عند الممالك العربية في الحضر، ولذلك فقد كان مالك بن فهم القضاعي ملكاً أقرب إلى الزعيم، منه إلى الملك، وفي نفس الوقت فقد احتفظت كل قبيلة بزعامتها شبه المستقلة على رجالها وما تحميه من الأرض، وهكذا فقد تشكلت مملكة البحرين الأولى، من مجموعة من "الممالك" الصغيرة القبلية يضمها حلف"تنوخ" الذي يرأسه مالك بن فهم القضاعي.
في هذه الحقبة الزمنية التي عُرفت تاريخياً باسم" عصر الطوائف" أو " عصر ملوك الطوائف" نسبة على تعدد الممالك الطائفية في بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين مثل" مملكة الأردوانيين" في جنوب العراق و"مملكة الأرمانيين" في أرض بابل وما حولها وغيرهما من الممالك الصغيرة، وكانت هذه الممالك تعيش حالة من الشقاق والخلاف والحروب المستمرة بينها بسبب الاختلافات الطائفية ونزوع بعضها للسيطرة وبسط النفوذ على الأخرى.
ويبدو أن "ملك البحرين" وزعيم" تنوخ" مالك بن فهم القضاعي، كان يحمل نفساً أبية وهمة عالية، وروحاً تواقة، ولذلك فما إن استتبت له شؤون المُلك والزعامة في البحرين واجتمعت إليه كلمة العرب في المنطقة حتى تسامى بهمته إلى أرض العراق مستثمراً حالة الشقاق والخلاف بين ملوك الطوائف وطامحاً لتأسيس مملكة عربية كبرى تسيطر على كامل المنطقة وهكذا تحركت هذه الموجة العربية العارمة إلى أرض العراق، بمجموعتين أو جيشين قاد الجيش الأول منهما – كما يقول ابن الأثير في كتابه"الكامل في التاريخ" زعيم قبيص الحيقاد بن الحنق وقصد هذا وجيشه مملكة الأرمانيين، الذين سكنوا بابل وما حولا فأغاروا عليهم ثم جاء الجيش الثاني بقيادة مالك بن فهم القضاعي"ملك البحرين" في جمع كبير من قبائل العرب فهاجم الأرمانيين وأجلاهم عن الأرض التي كانوا يسيطرون عليها وتابع طريقه إلى مملكة الأردوانيين فأخرجهم من الأرض التي حكموها واستقر المقام بمالك بن فهم القضاعي ومن معه في منطقة الأنبار حتى حدود الحيرة لتأسيس أول مملكة عربية تمتد من حدود عُمان جنوباً وحتى الحيرة شمالاً وبالطبع فإن البحرين تحولت في هذه الأثناء من "مملكة " إلى "إقليم" يتبع الدولة العربية العتيدة.
في عهد الملك مالك بن فهم القضاعي تأسست الأرضية الصالحة لنشوء الدولة غير أن شؤون الملك والحكومة لم تكن قد تطورت بعد واستمر هذا الحال إلى ما بعد موت مالك بن فهم وتولي شقيقه عمرو بن فهم سدة الحكم غير أن هذا لم يستمر طويلاً فتوفي وخلفه الملك جذيمة بن مالك المعروف بـ" الأبرش" ويُعتبر عدد كبير من المؤرخين جذيمة الأبرش الملك المُؤسس لمملكة اللخميين العرب في الحيرة والأنبار وسائر الجنوب العراقي امتدادً إلى حدود عُمان وهي المملكة التي كانت اللبنة الأولى لدولة " المناذرة".
وفي عهد الملك جذيمة الأبرش استقر الملك للعرب وتطورت أساليب إدارة الحكم وشؤون المُلك ولا شك أن جذيمة الملك استفاد من معارف الفرس وأنظمتهم وأساليبهم في تدبير شؤون المُلك.. ووصفه المؤرخون بأنه ملك عظيم ضم إليه شمل العرب وأسس لهم أركان دولة كبيرة وغزا بجيوشه الممالك المتاخمة لدولته الممتدة.
وجاء بعد جذيمة الأبرش ابن أخته وولي عهده الملك عمرو بن عَديّ الذي يُعتبر جد الملوك اللخميين المناذرة وفي عهد عمرو بن عديّ تحالفت هذه المملكة العربية مع دولة الفرس الساسانيين التي تأسست وازدهرت في إيران، وبدأت تبسط نفوذها وسيطرتها على جزء كبير من العالم وقد تولى الملك عمرو بن عديّ سدة الملك عام 268 للميلاد، واستمر حكمه حتى عام 288 للميلاد، وعاصر من ملوك ذلك الزمان الملك شمر يرعش "ملك حمير التُبعي" والملك سابور بن أردشير وبهرام هرمز بن سابور "الأول" ثم بهرام الثاني بن بهرام الأول ملوك الإمبراطورية الساسانية.
في هذه الفترة كانت البحرين إقليماً تابعاً لدولة المناذرة التي اختارت الحيرة عاصمة لها وكان ملوك الحيرة ينتدبون من قبلهم ملوكاً محليين يمارسون ولايتهم على مناطق محددة من الدولة الشاسعة وبالطبع كانت البحرين من هذه الممالك المحلية أما "أوال" فكانت حاضرة البحرين الإقليم، وإليها كانت تعود شؤون حكم هذا الإقليم غير أنه من الجدير بالذكر أن البحرين في هذه الأثناء وخاصة "أوال" بدأت تعود إلى عهودها الزاهرة وازدهارها التجاري والاقتصادي وعادت من جديد لتشكل واحداً من أهم أسواق العرب وميناءً تصل إليه السلع والبضائع من مختلف أنحاء الدنيا، وكان يسكن البحرين في هذه الأثناء مجموعة قبائل عبد القيس وربيعة وإياد، فيما كانت ربيعة تسيطر على "أوال" بشكل خاص، وكان الملوك المحليين للإقليم من هؤلاء وهؤلاء، أي يكون الملك لعبد القيس تارة ولربيعة تارة أخرى، بينما تحتفظ كل قبيلة بزعيمها المباشر، أما الدولة الأم أي مملكة المناذرة فكانت تُقيم ما يشبه التحالف مع الإمبراطورية الساسانية ولم تكن تابعة لهذه الإمبراطورية، في هذا الوقت.
استمرت ولاية عمرو بن عديّ على مملكة المناذرة نحو عشرين سنة اخذ خلالها عدة حروب مع عدد من الممالك المحاذية وكان أشهر هذه الحروب حربه مع مملكة "تدمر" في بلاد الشام وهي حرب اختلطت فيها الأسطورة بالحقيقة وتمازج فيها الخيال بالواقع فدخلت بذلك ديوان الأقاصيص والروايات والسير الشعبية العربية.
أما التاريخ العربي الموثق فيحكي الكثير عن الملك التالي الذي جاء بعد عمرو بن عديّ وهو امرؤ القيس بن عمرو بن عديّ الذي تجاوزت طموحاته طموحات من سبقه من الملوك العرب وكان بحق صاحب أول مشروح وحدوي لتوحيد البلاد العربية وتشكيل دولة عربية واحدة، تطاول بمكانتها الإمبراطوريتين السائدتين آنذاك، وهما إمبراطورية الفرس الساسانيين والإمبراطورية الرومانية. اعتلى الملك امرؤ القيس بن عمرو سدة المُلك عام 288 للميلاد، وعاصره من ملوك التبابعة في حميرَ ثلاثة ملوك هم: شمر يرعش ثم افريقس الملقب بذي القرنين، ثم يمريرجب، أما معاصروه من ملوك الإمبراطورية الساسانية فهم: بهرام الثالث ثم نرسي بن بهرام ثم هرمز بن نرسي ثم الإمبراطور الدموي سابور الثاني المُلقب بـ(ذي الأكتاف).
يعتبر امرؤ القيس بن عمرو، واحداً من أقوى ملوك المناذرة بل من أقوى الملوك العرب قبل الإسلام وقد استمر حكمه نحو أربعين سنة نهض خلالها إلى إنجاز حلمه الكبير لتوحيد العرب في دولة واحدة فأخضع لسلطانه القبائل والملوك المحليين في سائر البلاد العربية كالحجاز ونجد وتهامة والعراق والشام وحدود اليمن، وغزا مملكة الحميريين التبابعة من اليمن فانتصر على الملك شمر يرعش وقلص نفوذه إلى ما وراء نجران وهاجم بقبائل عب القيس وربيعة القاطنين في البحرين شواطئ فارس مستخدماً أسطولاً بحرياً حربياً كبيراً فعبر إلى أرض الفرس واحتل أجزاءً منها كما هدد بغزواته مشارف الإمبراطورية الرومانية إلا أنه ما لبث أن تصالح مع ملوك الرومان، وتحالف معهم إبان ظهور الإمبراطور الساساني سابور الثاني(ذو الأكتاف) وعودة القوة والازدهار إلى الدولة الساسانية التي سعت بمجرد اشتداد أمرها للثأر من هذا الملك العربي وتطلعاته التحررية لقد وضع سابور (ذو الأكتاف) الفتل بالعرب نُصب عينيه بمجرد أن دانت له دولة فارس فجهز من فوره جيشاً وصل تعداده إلى 70 ألف فارس وقاد هذا الجيش بنفسه ومثيراً الرعب والقتل والدمار، حيثما وصل بقواته الجرارة وبعد معارك ضارية مع ملك المناذرة امرؤ القيس، وجموع العرب تمكن سابور من احتلال الحيرة فيما تراجع امرؤ القيس إلى خد دفاعه الثاني في (إقليم البحرين) فتبعه سابور إلى هناك حيث أسرف في الفتك والقتل، وعذب العرب من أهل البحرين بخلع أكتافهم فمن هنا أطلق عليه العرب هذا اللقب وكان يقول( إنما أقتلكم أيها العرب لأنكم تزعمون أن لكم دولة ومملكة)! وهكذا عادت معظم البلاد العربية بما فيها " إقليم البحرين" لتئن من جديد تحت نير وظلم الفرس والساسانيين وأصبحت دولة المناذرة في الحيرة مملكة تابعة للإمبراطورية الفارسية ونُصب الملك أوس بن قلام على الحيرة ملكاً تابعاً للتاج الساساني أما امرؤ القيس بن عمرو فقد تابع مسيره إلى ملك الروم قسطنطين الكبير في الشام وكان هذا أول من تنصر من ملوك الروم وناصر الديانة المسيحية فاعتنق امرؤ القيس بدوره النصرانية وكأنه كان يريد بذلك دفع الملك قسطنطين الكبير لمساعدته في استرجاع ملكه من الفرس الساسانيين غير أن ذلك على ما يبدو لم يشفع له عند الروم فتوفي في حوران على مشارف الدولة الجنوبية ودُفن هناك فيما بقي أبناؤه يُمنون نفوسهم بدعم ونصرة الروم لهم لاستعادة ملك أبيهم وأجدادهم ومع أن هذا لم يحدث إلا أن سُدة الحكم الملك عادت إليهم من جديد وكانت البداية من البحرين تماماً كما كانت بداية تأسيس المملكة العربية الأولى منها.
وتقول الروايات أن شخصاً من أهل إقليم اسمه جحجبان بن عتيق اللخمي خرج من البحرين قاصداً الحيرة وقد أجمع على الفتك بالملك أوس بن قلام ثاراً لمن كان سابور قتلهم وفتك بهم من أبناء البحرين بمساعدة أوس بن قلام وفعلاً وصل ابن عتيق إلى الحيرة وكمن للملك أوس بن قلام حتى قتله فنشبت فتنة كبرى في الحيرة عام 330 للميلاد دفعت بالملك الفارسي لإعادة الاتصال بأبناء ملك الحيرة المحبوب امرؤ القيس بن عمرو وهم عند ملك الروم من أجل العودة إلى الحيرة وتسلم المُلك وبالطبع على أن تكون المملكة العربية تابعة للتاج الساساني وفعلاً عاد أبناء الملك امرؤ القيس إلى الحيرة ونصبوا أخاهم عمرو بن امرؤ القيس ملكاً في العام 370 للميلاد.
ومنذ هذا التاريخ ظلت دولة المناذرة تابعة للإمبراطورية الفارسية وتمارس في ذات الوقت حكمها وسلطتها غير المباشرة على إقليم البحرين، فيما ظل المُلك متداولاً في سلالة امرئ القيس بن عمرو غالب الأحيان وباستثناء فترات قليلة جداً أُعطي فيها المُلك لآخرين نصبهم ملوك فارس ومن هؤلاء : علقمة أبو يعقر، من 504 إلى 507 للميلاد، والحارث بن عمرو الكدني من 523 إلى 578 للميلاد، وفيشهرت أوزيد من 577 إلى 578 للميلاد وإياس بن قبيصة من 613 إلى 618 للميلاد، وأخيراً زاديه من 618 إلى 638 للميلاد باستثناء هؤلاء فقد توارث المُلك على الحيرة والدولة العربية المنذرية أبناء وسلالة امرؤ القيس بن عمرو منذ عام 370 للميلاد وحتى عام 638 أي بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام بنحو 27 سنة وهي السنة التي ازدهرت فيها حركة الفتوحات الإسلامية خارج الجزيرة العربية حيث سنلاحظ أن أول وصول للمسلمين إلى فارس كان من البحرين وأن القضاء على دولة الفرس بدأ من البحرين وهكذا ظلت البحرين ومنذ بدء التكوين التاريخي للمنطقة مؤثرة في مسارات أحداثها الكبرى وركيزة مهمة من ركائز بناء تاريخ المنطقة وظل ملوكها من أبرز صُناع التاريخ البشري في هذه البقعة من العالم، التي حفلت بالنُبوات تماماً كما اكتظت قبل ذلك بالأرباب الأسطوريين والآلهة المتخيلة جنباً إلى جنب مع الأرباب والآلهة الصنمية ثم منها خرج نور الإسلام ليعمَ العالم.
تعليق