أسوار عكا وقلاعها... تاريخ صمود في وجه الحملات الصليبية
الحقيقي
الكاتب نبيل ممحمود السهلي
قليلة هي الدراسات التي سلطت الضوء على مدينة عكا وأسوارها، تلك الأسوار التي كان لها الدور الأبرز في الدفاع عن فلسطين وصمودها أمام غزوات كثيرة حاولت احتلال المدينة واضطرت في نهاية المطاف للرحيل بفعل صمود أهلها وثبات أسوارها وقلاعها وحصونها.
نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي
تأسست مدينة عكا على الساحل الفلسطيني الجميل على يد إحدى القبائل الكنعانية المعروفة بالجرجاشيين في الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وسميت المدينة عكو، أي الرمل الحار. وتقع عكا المدينة في الطرف الشمالي لخليج عكا، ويدل موقعها بين رأس الناقورة شمالاً وجبل الكرمل في وسط فلسطين على أهمية عامل الحماية واختيار الموقع. وأثرت هذه الصفة في البعد الاستراتيجي لموقع عكا منذ إنشائها.
تعتبر وظيفة عكا العسكرية من اهم وظائف المدينة التي تمتاز بها عن غيرها من مدن الساحل الفلسطيني الجميل، الذي يمتد لأكثر من مئتي كيلومتر من الشمال حتى جنوب فلسطين المحتلة، وتؤكد أسوار مدينة عكا وحصونها وقلاعها وأبراجها المحيطة بها من جهتي البر والبحر على الأهمية الدفاعية في وجه الطامعين من الأقوام المختلفة.
لقد كان الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمدينة عكا مدخلاً لأطماع الغزاة، حيث تسابق على احتلالها غزاة كثر ورحلوا بسبب إرادة أهلها، بيد أن المدينة تعرضت خلال القرون الماضية لعمليات تدمير مبرمجة، ومن ثم إعادة ترميمها من جديد. لقد امتزج دماء شهداء أهل عكا بتربتها الغالية، وتاريخ أسوار عكا الشامخة التي تطل على البحر شاهدة على نضالات أهلها ضد الغزو الصليبي فضلاً عن كسر حصار نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر الميلادي.
لقد أعطى موقع عكا الاستراتيجي أبعاداً أخرى لا تقل أهمية عن البعد العسكري، فعكا صلة الوصل بين أوروبا وفلسطين، ونقطة تجمع الحجاج المسيحيين الى الأرض المقدسة، وقد أقيمت فيها في أيام ظاهر العمر والجزار خانات متعددة كان ينزلها المسافرون والتجار والقوافل المتعددة التي تحمل خيرات البلاد لتنقلها السفن الى دول العالم، ومن اشهر تلك الخانات خان الجزار وخان الشونة، ومن خلال سهل عكا كان أهلها يتمتعون بغلة زراعية وفيرة مثل الحبوب وأشجار الزيتون والخضار والموز والنخيل.
وبفعل العوامل المختلفة التي تمتعت بها مدينة عكا في الجليل الغربي الفلسطيني، باتت المدينة محط أنظار الغزاة الصليبيين، حيث سعوا لحماية نفوذهم في فلسطين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، من خلال محاولة الاستيلاء على الموانئ في الساحل الفلسطيني، ففي عام 496 هجرية الموافق لعام 1102 أسرت السفن الفاطمية في ميناء عكا سفناً تحمل حجاجاً مسيحيين عائدين الى بلادهم وباعوهم في سوق الرقيق في القاهرة، فخشي ملك بيت المقدس من سوء العاقبة، وحاصر مدينة عكا في العام التالي، فأنجدتها السفن الفاطمية عبر نجدات من الموانئ المجاورة وقد ساعدتها في الصمود تحصينات المدينة الجيدة، فعاد جيش الملك أدراجه مهزوماً بعد حصار لم يدم طويلاً لعكا، لكن الملك استنجد بأسطول مدينتي بيزا وجنوا، فاحتلت الأساطيل الصليبية بعد اتفاق مع الملك ساحل جبيل ثم حاصرت مدينة عكا مدة عشرين يوماً بعد صمود مشهود له في التاريخ إلى ان سقطت في عام 497هـ. الموافق لعام 1104م، وتوالت الاحتلالات على المدينة نتيجة موقعها الاستراتيجي، لكن عكا بأسوارها بلغت مجداً عالياً من الصمود خلال حصار نابليون لها في عام 1214هـ. الموافق لعام 1799م، حيث أوقف صمود أهل المدينة ومنعة الأسوار حولها تقدم جيش نابليون، بعد ان احتل مصر وسواحل فلسطين الأخرى.
وتشير الدراسات التاريخية الى ان حصار جيش نابليون البحري والبري لمدينة عكا وهجومه العنيف على الأسوار استمر من الحادي عشر من آذار (مارس) من العام المشار اليه وحتى العشرين من أيار (مايو) من العام نفسه. وتقهقر جيش نابليون بعد ذلك بفعل صمود اهل المدينة بقيادة الجزّار من جهة ومساعدة الأسطول الإنكليزي بقيادة (السير سدني سميث) من جهة أخرى، حيث كان هناك تناحر بين الإنكليز والفرنسيين للسيطرة على بقاع الأرض والمناطق المهمة. وبعد هذه المعركة انتهت أحلام نابليون من دون عودة في محاولات السيطرة على الشرق.
ومن الأهمية الاشارة الى ان سليمان باشا العادل قد خلف الجزّار في حكم مدينة عكا، وقام بإعادة ترميم ما دمرته آلة جيش نابليون بونابرت، وخصوصاً الأسوار المنيعة والحصون المختلفة.
ومن جديد استطاعت بريطانيا عبر نفوذها وانتدابها على فلسطين خلال الفترة الممتدة من عام 1922 الى أيار من عام 1948 مساعدة العصابات الصهيونية في السيطرة على الساحل الفلسطيني ومنها مدينة عكا، حيث تم طرد غالبيـة أهالي قرى القضاء خلال نكبة فلسطين الكبرى في أيار من العام المذكور، فتناقص مجموع سكان مدينة عكا من العرب أصحابها الاصليين ليصبح نحو ثلاثة آلاف بعد النكبة مباشرة، ارتفع الى نحو خمسة آلاف في عام 1965، وبفعل سياسيات الإجلاء الاسرائيلية القسرية بقي مجموع العرب ثابتاً في مديـنـة عـكا حتى عـام 1973، ما لبث بالزيادة بفعل الخصوبة العالية عند النساء العربيات.
أذاً لمدينة عكا وأسوارها تاريخ طويل من الاحتلالات والغزوات والحصارات، لكن الثابت أن الكثير من الغزوات تراجع بفعل صمود أهل عكا وأسوارها التي لا تزال تنتظر عودة العكيين من المنافي القسرية القريبة البعيدة على حد سواء، ومن دونهم لا تكتمل صورة عكا وتاريخها الشامخ.
الحقيقي
الكاتب نبيل ممحمود السهلي
قليلة هي الدراسات التي سلطت الضوء على مدينة عكا وأسوارها، تلك الأسوار التي كان لها الدور الأبرز في الدفاع عن فلسطين وصمودها أمام غزوات كثيرة حاولت احتلال المدينة واضطرت في نهاية المطاف للرحيل بفعل صمود أهلها وثبات أسوارها وقلاعها وحصونها.
نقره على هذا الشريط لعرض الصورة بالمقاس الحقيقي
تأسست مدينة عكا على الساحل الفلسطيني الجميل على يد إحدى القبائل الكنعانية المعروفة بالجرجاشيين في الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وسميت المدينة عكو، أي الرمل الحار. وتقع عكا المدينة في الطرف الشمالي لخليج عكا، ويدل موقعها بين رأس الناقورة شمالاً وجبل الكرمل في وسط فلسطين على أهمية عامل الحماية واختيار الموقع. وأثرت هذه الصفة في البعد الاستراتيجي لموقع عكا منذ إنشائها.
تعتبر وظيفة عكا العسكرية من اهم وظائف المدينة التي تمتاز بها عن غيرها من مدن الساحل الفلسطيني الجميل، الذي يمتد لأكثر من مئتي كيلومتر من الشمال حتى جنوب فلسطين المحتلة، وتؤكد أسوار مدينة عكا وحصونها وقلاعها وأبراجها المحيطة بها من جهتي البر والبحر على الأهمية الدفاعية في وجه الطامعين من الأقوام المختلفة.
لقد كان الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمدينة عكا مدخلاً لأطماع الغزاة، حيث تسابق على احتلالها غزاة كثر ورحلوا بسبب إرادة أهلها، بيد أن المدينة تعرضت خلال القرون الماضية لعمليات تدمير مبرمجة، ومن ثم إعادة ترميمها من جديد. لقد امتزج دماء شهداء أهل عكا بتربتها الغالية، وتاريخ أسوار عكا الشامخة التي تطل على البحر شاهدة على نضالات أهلها ضد الغزو الصليبي فضلاً عن كسر حصار نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر الميلادي.
لقد أعطى موقع عكا الاستراتيجي أبعاداً أخرى لا تقل أهمية عن البعد العسكري، فعكا صلة الوصل بين أوروبا وفلسطين، ونقطة تجمع الحجاج المسيحيين الى الأرض المقدسة، وقد أقيمت فيها في أيام ظاهر العمر والجزار خانات متعددة كان ينزلها المسافرون والتجار والقوافل المتعددة التي تحمل خيرات البلاد لتنقلها السفن الى دول العالم، ومن اشهر تلك الخانات خان الجزار وخان الشونة، ومن خلال سهل عكا كان أهلها يتمتعون بغلة زراعية وفيرة مثل الحبوب وأشجار الزيتون والخضار والموز والنخيل.
وبفعل العوامل المختلفة التي تمتعت بها مدينة عكا في الجليل الغربي الفلسطيني، باتت المدينة محط أنظار الغزاة الصليبيين، حيث سعوا لحماية نفوذهم في فلسطين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، من خلال محاولة الاستيلاء على الموانئ في الساحل الفلسطيني، ففي عام 496 هجرية الموافق لعام 1102 أسرت السفن الفاطمية في ميناء عكا سفناً تحمل حجاجاً مسيحيين عائدين الى بلادهم وباعوهم في سوق الرقيق في القاهرة، فخشي ملك بيت المقدس من سوء العاقبة، وحاصر مدينة عكا في العام التالي، فأنجدتها السفن الفاطمية عبر نجدات من الموانئ المجاورة وقد ساعدتها في الصمود تحصينات المدينة الجيدة، فعاد جيش الملك أدراجه مهزوماً بعد حصار لم يدم طويلاً لعكا، لكن الملك استنجد بأسطول مدينتي بيزا وجنوا، فاحتلت الأساطيل الصليبية بعد اتفاق مع الملك ساحل جبيل ثم حاصرت مدينة عكا مدة عشرين يوماً بعد صمود مشهود له في التاريخ إلى ان سقطت في عام 497هـ. الموافق لعام 1104م، وتوالت الاحتلالات على المدينة نتيجة موقعها الاستراتيجي، لكن عكا بأسوارها بلغت مجداً عالياً من الصمود خلال حصار نابليون لها في عام 1214هـ. الموافق لعام 1799م، حيث أوقف صمود أهل المدينة ومنعة الأسوار حولها تقدم جيش نابليون، بعد ان احتل مصر وسواحل فلسطين الأخرى.
وتشير الدراسات التاريخية الى ان حصار جيش نابليون البحري والبري لمدينة عكا وهجومه العنيف على الأسوار استمر من الحادي عشر من آذار (مارس) من العام المشار اليه وحتى العشرين من أيار (مايو) من العام نفسه. وتقهقر جيش نابليون بعد ذلك بفعل صمود اهل المدينة بقيادة الجزّار من جهة ومساعدة الأسطول الإنكليزي بقيادة (السير سدني سميث) من جهة أخرى، حيث كان هناك تناحر بين الإنكليز والفرنسيين للسيطرة على بقاع الأرض والمناطق المهمة. وبعد هذه المعركة انتهت أحلام نابليون من دون عودة في محاولات السيطرة على الشرق.
ومن الأهمية الاشارة الى ان سليمان باشا العادل قد خلف الجزّار في حكم مدينة عكا، وقام بإعادة ترميم ما دمرته آلة جيش نابليون بونابرت، وخصوصاً الأسوار المنيعة والحصون المختلفة.
ومن جديد استطاعت بريطانيا عبر نفوذها وانتدابها على فلسطين خلال الفترة الممتدة من عام 1922 الى أيار من عام 1948 مساعدة العصابات الصهيونية في السيطرة على الساحل الفلسطيني ومنها مدينة عكا، حيث تم طرد غالبيـة أهالي قرى القضاء خلال نكبة فلسطين الكبرى في أيار من العام المذكور، فتناقص مجموع سكان مدينة عكا من العرب أصحابها الاصليين ليصبح نحو ثلاثة آلاف بعد النكبة مباشرة، ارتفع الى نحو خمسة آلاف في عام 1965، وبفعل سياسيات الإجلاء الاسرائيلية القسرية بقي مجموع العرب ثابتاً في مديـنـة عـكا حتى عـام 1973، ما لبث بالزيادة بفعل الخصوبة العالية عند النساء العربيات.
أذاً لمدينة عكا وأسوارها تاريخ طويل من الاحتلالات والغزوات والحصارات، لكن الثابت أن الكثير من الغزوات تراجع بفعل صمود أهل عكا وأسوارها التي لا تزال تنتظر عودة العكيين من المنافي القسرية القريبة البعيدة على حد سواء، ومن دونهم لا تكتمل صورة عكا وتاريخها الشامخ.
تعليق