إسرائيل تدفن أكثر من 200 موقع أثري فلسطيني تحت «الجدار العنصري»
أثريون فلسطينيون يتحدثون عن تدمير مقصود وممنهج لتراثهم وتهويد التاريخ
القدس: أسامة العيسة
لم يكن عمر صلاح، الذي يعمل مفتشا للآثار في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، ليعلم بأنه سيكون، ذاك النهار، على موعد مع اغرب كشف اثري في حياته المهنية. ففي بلدة أبو ديس (شرق القدس) التي يعيش فيها الرجل، صادرت السلطات الإسرائيلية أراضي من عائلته، كما فعلت مع عائلات أخرى لبناء جدار الفصل حول القدس. وبينما كانت أسنان الجرافات تغرس أنيابها في الأرض وتقلبها، من دون أن يستطيع السكان فعل شيء حقيقي لوقفها، غير التظاهرات والاحتجاجات، كشفت هذه الجرافات عما تبين في ما بعد انه موقع اثري قديم.
كنيسة تحت الجدار
يقول عمر «في هذه الحالة، يطلب الجيش الإسرائيلي من دائرة الآثار الإسرائيلية المجيء للكشف عن الموقع والحفر فيه وتحديد هويته». وهو ما حدث، حيث تبين أن تلك الأرض تخفي تحتها حضارة أناس دبوا عليها يوما، وتنفسوا هواءها ومنحوها أسرارهم وحبهم* ويشير عمر إلى أن العمل في الموقع كشف عن كنيسة بيزنطية ذات أرضية من الفسيفساء، ومقبرة جماعية للرهبان، وقنوات مياه وقطع فسيفساء مختلفة، ورسومات للحيوانات كالغزال. أما كيف تصرفت حكومة الاحتلال إزاء هذا الكشف؟ فيجيب خالد البو، وهو زميل عمر صلاح في وزارة السياحة والآثار قائلاً: «بعد أن وثق الإسرائيليون الموقع، ونقلوا بعض القطع الأثرية إلى متاحفهم، تم ردم المكان وبناء الجدار عليه». ويعتبر تصرف دائرة الآثار الإسرائيلية هذا مفهوما، حيث تتهم إسرائيل بتجاهل وتحطيم أية آثار لا تخدم الأيدلوجية التي تتبناها* وفي كل صباح ينظر صلاح إلى الجدار المرتفع الذي يحجب عن نظره مدينة القدس، ويتحسر على الموقع الأثري الذي بني عليه.
وقصة ردم الكنيسة البيزنطية وملحقاتها من قبور وآبار ولوحات فنية نادرة، مجرد عينة من مجموع ما أتلفه الجدار من الإرث الفلسطيني، على ما يقول أثريون فلسطينيون. ويعطي خالد البو مثلا آخر يتعلق بمقابر أثرية كشف عنها جنوب القدس قرب مخيم عايدة تم تحطيمها أيضاً، ووضعت أساسات الجدار عليها، ليرتفع عاليا.
موطن القصة الدينية
يقدر الدكتور إبراهيم الفني المواقع الأثرية التي دمرها الجدار أو حجزها خلفه بأكثر من مائتي موقع. ويقول الفني ان المنطقة التي فصلها الجدار هي ذات عنصر الجذب، ويفسر كلامه «يمكن اعتبار كلاً من جبال القدس والخليل ونابلس متعاكسة في الترتيب، حيث الجزء الشمالي منطقة السامرة واسع ومفتوح، والجزء الجنوبي منها منعزل وبسيط، لكنها تتوافق في الامتداد، وبالنسبة للقصة الدينية والتاريخية، فإنها تقع في منطقة الجذب الذي فصلها الجدار». ويشير الفني إلى أن المنطقة التي أقيم عليها الجدار تعاقبت عليها مواقع استوطنها إنسان ما قبل التاريخ وحضارة العصر الحجري والعصر البرونزي المتقدم والمتوسط والمتأخر، وكلاً من الحضارة الفارسية واليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية. ويقول ابراهيم الفني الذي عمل سنوات طويلة في التنقيب الأثري في فلسطين «تشكل تلك الأودية الكبيرة التي تربط بين منطقة غور الأردن ومنطقة البحر المتوسط المركز الفيزيائي الحقيقي لفلسطين الذي ما زالت تدل عليه تلك الحمامات والينابيع والإرث الثقافي القديم قدم الذاكرة التاريخية والأثرية». ويضيف الفني بان إسرائيل تركز على منطقة جبال القدس التي استهوت الجغرافيين، وكذلك منطقة السامرة، لأنها كانت نقطة عبورهم والتقائهم.
تلال مواقع أثرية
وردا على سؤال حول الوقائع التي اعتمدتها إسرائيل كي تبني الجدار قال الفني: «هدف إسرائيل عزل القدس ومنطقة غور الأردن عن العمق الفلسطيني، ساعدها في هذا الواقع الجغرافي، ان الحدود الجنوبية لمنطقة السامرة تتقلص تدريجيا من وادي عجلون إلى وادي عشتار، وموقع قرية عقربا القريبة من نابلس». وأضاف «أما الحدود الشمالية، فهي أكثر تباينا، حيث اعتبر شمال السامرة هو المركز الثالث لهذه الحدود، وكانت تتضمنطقة البحر المتوسط حتى نهر الأردن، وهذا كان يشمل التقاء الحافة الجنوبية إلى منطقة مرج ابن عامر حتى أسفل الكرمل القريب من مدينة حيفا، لهذا بدأت إسرائيل بناء الجدار من بيسان إلى قرية سالم ومن ثم إلى منطقة الشعراوية في طولكرم وحتى قلقيلية».
ويرى الفني أن هذا وفر لإسرائيل «الامتداد جنوب شمال 40 ميلا وشرق غرب 35 ميلا، وهي بالمعدل تمثل منطقة جغرافية تظهر بها سلسلة جبلية مركزية باستثناء منطقة الكرمل، وعبر هذه المنطقة يوجد نحو 50 تلا اثريا معظمها يعود لفترات العصر البرونزي المتقدم حتى المتأخر. وهذه التلال يفصلها عن بعضها بعضا، الوديان المهمة التي تم العثور بها على بقايا متحجرة تعود لمليون سنة، وهي تقع في المنطقة الممتدة منطقة فصايل شرقا إلى وادي اسكندر الذي يصب في البحر المتوسط غربا».
ويعتقد الفني أن هناك أسبابا ساعدت إسرائيل في عزل مناطق مهمة استوطنتها الحضارات الفارسية والآرامية واليونانية والرومانية، وهذه الأسباب برأيه ظاهرة «في تلك السلسلة الجبلية، ومن خلالها تظهر مجموعات منعزلة من التلال، وإذا نظرنا إلى الأعلى فسوف نجدها تظهر كجبل واحد، لهذا استوطنت تلك الحضارات تلك المنطقة». ويؤكد الفني انه عبر هذه السلسلة الجبلية «يوجد أكثر من 200 موقع اثري حضاري جزء منها كشفت عنه الحفريات وجزء آخر تم إجراء مسوحات أثرية فيها، وهذه المسوحات كثيرة بدأت منذ عام 1863 وما بين عامي 1927 ـ 1944 وبين عامي 1963-1960 وكذلك عام 1985».
الحاجز المائي
يعتمد مخطط بناء جدار الفصل ليس فقط على دراسة الأنماط الحضارية الموجودة في تلك المنطقة ولكن أيضا على الواقع الجغرافي الطبيعي. يقول ابراهيم الفني ان «ارتفاع الجناح الغربي لمنطقة السامرة يصل إلى مستوى ثلاثة آلاف قدم، ومعدل تجمع الأمطار ألفا قدم، تلك السلسلة الجبلية تنحدر نحو السهل الساحلي، ولهذا سعت إسرائيل أن يكون الجدار على امتداد المقاطع الصخرية التي كانت تشكل الحاجز الطبيعي الذي استخدمته الحضارات التي استوطنت تلك المنطقة وشيدت عليها المباني والمرافق الطبيعية وهي كثيرة ومهمة، وتوسعت إسرائيل داخل الضفة الغربية في بعض المناطق بعمق يزيد عن 9 كيلومترات، كي تكون المنطقة التي نتحدث عنها هي الحاجز الطبيعي الذي تريده». ويضيف الفني «عندما ندرس الحاجز المائي نجد انه يفصل بين نهرين، وهذا قدم بوضوح مسار الطريق الذي ربط بين نابلس والبحر، حيث يوجد كل من جبلي عيبال وجرزيم اللذين يعتبران ممر العبور، أما قرن سرطبة فهو يقسم منطقة السامرة إلى شعبتين مختلفتين عبر وادي (افجم) وهي تسمى فلسطين الشرقية، والتي تشمل على حصن عال من الجبال المتكدسة بإحكام وتظهر بها الكهوف، ومنطقة شرق جنين وتدعى جلبوع حسب التعريف الآرامي، وحول مدينة جنين يوجد سهل دوتان الذي يقع شمال قرية عرابة، وفيه تل دوتان المكون من 18 طبقة حضارية، بدايتها العصر الحجري المتقدم».
ويعتقد الفني أن إسرائيل من خلال بنائها للجدار، حصلت على ميزتين مهمتين هما: انها سيطرت على المنطقة الجبلية وهي كنز كنوز الموروث الثقافي والحضاري الفلسطيني، وسيطرت كذلك على الحاجز المائي الشرقي والغربي والذي يعتبر عصب الحياة في الضفة الغربية.
لوحة حضارة فسيفسائية
يتفق الباحثون الأثريون على الأهمية البالغة للقدس ويعتبرونها لوحة من لوحات الموروث الثقافي الفلسطيني وتنوعه الفسيفسائي، إن لم تكن درته. ولا تخفي السلطات الإسرائيلية مخططاتها في القدس، وأبرزها ما يسمى القدس الكبرى. وتبلغ مساحة القدس وفقا لهذا التعريف نحو ثلث مساحة الضفة الغربية تعتبرها إسرائيل جزءا منها. يقول الدكتور الفني «إسرائيل تريد أن تنهي قضية القدس عبر مشروعها القدس الكبرى، هذا المشروع غير امتداد القدس من شرق غرب إلى شمال جنوب أي من مستوطنات كفار عتصيون جنوبا إلى مستوطنة شيلو شمالاً بمعدل 40 كيلو مترا». وعبر هذا المشروع فان إسرائيل تكون قد أحكمت قبضتها على المواقع الأثرية والحضارية في القدس والخليل وبيت لحم.
ولكن ما يراه الفني خطيرا هو تهويد التراث، فإسرائيل تعتبر التلال الأثرية التي تقع شمال القدس باتجاه رام الله موروثا يهوديا مثل: تل الفول، وتل النصبة، والنبي صمويل، بالإضافة إلى مواقع كثيرة تقع في أراضي قرى: عناتا، وحزما، والعيزرية، وأبو ديس، والعيسوية، والزعّيم وكذلك مستوطنة معالية ادوميم التي هي بالأصل دير بيزنطي يدعى (المرصوص). وتعمل إسرائيل الآن على فصل قرى وبلدات ذات كثافة سكانية عن بعضها وعن القدس مثلما يحدث في: أبو ديس، والعيزرية، والزعّيم* وينبه الفني إلى احد أهداف الاستيطان في الضفة الغربية، الذي لا يلتفت له احد، ولا يأخذ حقه إعلاميا، وهو السيطرة على الموروث الثقافي الفلسطيني.
ومما يزكي كلام الفني أن معظم المستوطنات بنيت بالفعل على مواقع أثرية حفرت، وحولها المستوطنون إلى مواقع سياحية تسوقها المستوطنات على أساس كونها مواقع أثرية يهودية، ومن هذه المستوطنات: كفار قدوم، وقرني شمرون، ومعاليه شمرون، وارئيل.
تعليق