السلام عليكم و حياكم الله و طبتم و طاب سعيكم
وممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا
الحمد لله الذي جعل في هذا العصر الهواتف المحمولة بأسا شديدا ومنافع للناس، وأكرمهم بها ليتعارفوا وهم الشعوب والأجناس، وحرم عليهم ما يأتي عبرها من الخُبُث والخبائث والأرجاس، حتى لا يستعملوها فيما يمس الاعراض وجعلت حلا لكل مشكل وكشفا لكل إلباس.
قد أكرمنا الله تعالى في هذا العصر بتقدم الصناعة؛ فما أجمل الصناعة إذا بنيت على أساس من التقوى والطاعة، وعلى أساس صلاح الفرد والجماعة، وعلى أساس تحقيق الأمن والأمان والعفاف والقناعة.
لقد سيطرت هذه الصناعة اليوم على جميع جوانب حياتنا، بحيث لا نستطيع اليوم العيش بدونها، ولا الحركة بدونها، ولا الدراسة بدونها، ولا الاتصال فيما بيننا بدونها، ولا أن نعمل أي شيء بدونها؛ حتى أصبح إنسان هذا العصر عالة على ما صنع، ويعمل حسب ما يفرضه عليه ما اخترع وأبدع.
ومن هذه الأمور التي بُنِيَتْ عليها حياتنا اليوم الهواتف المحمولة، بحيث لا يوجد إنسان اليوم إلا وله قرين من رقم أو أرقام، ومن هاتف أو هواتف، يحملها معه حيثما حل وارتحل، لا يفارقها ليلا ونهارا، يقظة ومناما، في شغله وفراغه، في مقامه ومساره، هي معه في البيت وفي العمل وفي الدراسة وفي الطريق؛
بل حتى عند قضاء حاجته في المراحيض أعزكم الله، وعند أداء عبادته في المساجد؛ فهي دائما في جيبه، وعلى كل الأحوال هي بجانبه، توظفه ويوظفها في الخير والشر، وفي السراء والضراء؛ فنِعم من وظَّفَتْه أو وظَّفَها في الخير والسراء، وبئس من وظَّفَتْه أو وظَّفَها في الشر والضراء؛ كأننا لما أعرضنا عن ذكر الله تعالى قَيَّضَ الله لنا منها قرناء تَشْغَلنا حتى عن أنفسنا وأهلينا،
والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
تجد الإنسان دائما يَتَطَلَّع إليه؛ فيكون آخرُ ما يَطَّلِع عليه قبل خلوده للنوم هاتفَه المحمول، كما يكون أولُ ما يَطْلُع عليه بعد الاستيقاظ هو شمس هاتفه المحبوب، ليستعرض -قبل فعل أي شيء حتى قبل غسل وجهه من أثر النوم- المكالمات والرسائل التي نزلت عليه من وحي هاتفه وهو مستغرق في نومه.
بدل أن يكون آخرُ شيء وأولُ شيء يتصل به قبل النوم وبعد الاستيقاظ هو أذكار النوم المشروعة؛ اقتداء بالنبيﷺ، يكون آخر ما يتصل به، وأول ما يتصل به هو هاتفه المحمول.
إن الهواتف المحمولة فيها منافع كثيرة متطورة؛ كما فيه مفاسد خطيرة متهورة؛ ومن أجمل ما فيها أنها تقضي الأغراض، ولكنها أيضا من أقبح ما فيها أنها تهتك الأعراض، وتنشر الأمراض؛ فما هي منافعها المتطورة ومفاسدها المتهورة؟
أولا: أما منافعه المتطورة فهي كثيرة ومتوافرة ومتوفرة ويمكن تصنيفها إلى: منافع شخصية، واجتماعية، وعلمية، ودينية:
- أما المنافع الشخصية فهي أكبر من أن تحصى؛ فهي تقرب منك كل بعيد، وتقضي لك الأغراض المستعجلة في وقت وجيز، وتحمل إليك أخبار من تحب مباشرة ومجانا، وتراقب بها عملك وبيتك ومسؤولياتك، فتجعل عالَـمك وأعمالك بين يديك كأنها في بيت واحد، توظفه في البيع والشراء، وفي الإجارة والكراء، وفي التجارة وغيرها من العمل والإجراء...
- أما المنافع الاجتماعية فمنها: تربية الأولاد، وبر الوالدين، وعياد المرضى، ومساعدة الجيران، وإصلاح ذات البين، وقضاء الأغراض والمآرب، وصلة الأرحام مع الأقارب، والتعرف على الأحباب، والسؤال عن أحوال الأصحاب، ولا سيما حينما تتعذر الزيارة لبعد المسافة والمكان، أو لطول الأيام والزمان؛ كما تستعين بها على معرفة الجديد من الأخبار، وما يدور حولك في العالم من جديد.
- أما المنافع العلمية؛ فهاتفك الذكي المحمول يحملك إلى حقول العلوم في كل مجال؛ العلوم الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والطبية، وغيرها؛ كل ذلك رهن إشارتك؛ فبمجرد مَسَحات أناملك، ولمسات أصابعك تنفتح عليك أبواب العلوم بكل أنواعها، وتسبح في بحور العلوم بكل أشكالها؛
فيجب عليك حينئذ أن تحسن الغوص والاختيار، وإلا فسَدَتْ حياتك فتنهار. وأنا أقول دائما لطلبة العلم: إن شبكة الأنترنيت لا يُسْتَغْنَى عنها ولكن لا يُعْتَمَد عليها؛ فاستعن بها لمعرفة الطريق للعلوم؛ ولكن لا تعتمدها فقط طريقا لعلمك؛ لأنك إن استعنت بها حقَّقَتْ لنفسك العلوم والأمل، وإن اعتمدت عليها فقط خَلَقَتْ فيك الخمول والكسل.
- أما المنافع الدينية؛ فأفضل ما فيها تنزيل القرآن الكريم لأجل التلاوة والاستماع؛ ففيها أفضل المصاحف المشهورة وأتقنها في العالم الإسلامي، ومنها هذا المصحف المحمدي الذي امتلأت به مساجد البلاد اليوم؛ كما بإمكانك أن تَحَمِّل بهاتفك ختمات كبار القراء في العالم وبجميع القراءات، فتتمتع وتتدبر. وأيضا ينبهك للصلاة في وقتها، فيؤذن من غير استئذان، فيُعْلِمك بدخول الوقت لتستعد للقاء الواحد الديان، وهو القائل سبحانه: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}.
ثانيا: أما مفاسده المتهورة فهي كثيرة ومتوافرة ومتوفرة، ويمكن تصنيفها إلى: مفاسد صحية، واجتماعية، ودينية:
- أما المفاسد الصحية؛ فإن الخبراء يدقون ناقوس الخطر، فيجب اتخاذ الحذر؛ فمفاسد الهاتف على الصحة تتجلى في أمور خطيرة: منها الإدمان؛ وهو مرض يتم فيه السيطرة على الإنسان، بحيث لا يملك أمره ولا يستطيع التخلص منه.
ومنها الإضرار بالعنين جراء الأشعة التي تصدرها. ومنها الإشعاعات التي يحملها إليك ما يسمى "الريزو" و"الويفي"، وقد قيل: إنها تشكل خطرا كبيرا على الدماغ،
- أما المفاسد الاجتماعية؛ فمنها تضييع الأوقات، وإفساد العائلات بالصور والإشاعات، وغياب الحوار داخل الأسر؛ لأن كل واحد قد اشتغل في هاتفه بالبحث والنظر، وهذه ظاهرة سيئة أفسدت المجالس واللقاءات بسوء الانتشار، وبعض المشعوذين أيضا يوظف الهاتف في السحر والشعوذة، وأخيرا دراسة إحصائية في بريطانيا تثبت أن كثرة تصفح الهواتف في الشغل يؤثر سلبا على الاقتصاد العام للبلاد.
- أما مفاسده الدينية فقد سادت في كثير من المجال: منها تركه مفتوحا في المسجد وإذاية المصلين بنغماته الموسيقية الصاخبة المشوشة. ومنها استعماله في التجسس على عورات الناس، وتصوير النساء لا سيما في المناسبات واﻷعراس، فقد شتت بذلك كثيرا من الأسر بالفراق والطلاق. ومنها ربط العلاقات المحرمة بين الشباب والفتيات، وخصوصا في رحاب المدارس والجامعات.
ونشر أحاديث موضوعة و مكذوبة ونسبها للحبيب عليه أفضل الصلوات
وأخطرها أن الهواتف أصبحت مستودعا لتخزين المقاطع الخليعة، وبوابة لمشاهدة الأفلام الجنسية الفظيعة، ليس من طرف الشباب فحسب؛ بل من طرف الشيب أيضا كما يدل على ذلك كثير من الرسائل التي تأتيني من هنا وهناك؛ كأن الشيب يسعون لاستدراك ما فاتهم من الفسوق في فترة الشباب؛ فحينما نكتشف الفضائح في الشباب عادة ما نقول: "اللهم اهدهم"، أما في الشيب فيجب أن نقول: "اللهم اعف عنهم"؛ لأنها في الشباب ضلال يحتاج للاهتداء، وفي الشيب ضلال ومرض يحتاج للاستشفاء؛ وهل للشباب قدوة إلا الشيب؟
إن الناس في توظيف الهواتف المحمولة على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: طائفة السابقين العقلاء، الذين يستفيدون من منافعها المتطورة، ويقضون بها أغراضهم الحاضرة، ويبتعدون عن مفاسدها المتهورة، لا يهتكون بها الأعراض، ولا ينشرون بها الأمراض؛
فهؤلاء هم الصالحون في المجتمع، هم الأصفياء الأنقياء الأتقياء الأوفياء؛ بيد أنهم قلة غرباء، «فطوبى للغرباء» كما قال النبيﷺ، يكاد من يتحدث عنهم يعيش في الأحلام، ويسبح في الأوهام؛ وهذه هي الحقيقة الواقعية التي نطق بها القرآن: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}.
الطائفة الثانية: طائفة اللاحقين الخطائين، الذين خلطوا في هواتفهم عملا صالحا وآخر سيئا، يستفيدون من منافعها المتطورة، ويقضون بها أغراضهم الحاضرة، ولكنهم إذا وجدوا فرصة لا يتورعون عن مفاسدها المتهورة،
وأحيانا يهتكون بها الأعراض، وينشرون بها الأمراض؛ ولم يفصل بينهم وبين الخير إلا التوبة النصوح لينضموا لطائفة السابقين؛ ولكن يخشى عليهم الهلاك إن بقيت حالهم على ما هي عليه، هم كما قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وربما في هذا يدخل أغلب الناس؛ يقول النبيﷺ: «كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ».
الطائفة الثالثة: طائفة الفاسقين الحمقى، الأغبياء المغفلين، الذين لا يوظفون هواتفهم إلا في المفاسد المتهورة، همهم تتبع العورات، وهتك الأعراض، ونشر الأمراض، ينشرون بها كل الجرائم، بل جرائم ربما لا تخطر حتى ببال الشيطان؛ من الغيبة والنميمة والكذب والزور، والبغاء والغش والخيانة، والسرقات والاختلاسات، وغير ذلك من الجرائم التي أفسدت الدين والدنيا للعباد، وأهلكت الحر والنسل في البلاد؛
ففي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، وفي مثلهم يقول النبيﷺ:
«يا معشرَ مَنْ أسلم بلسانه، ولم يُفْضِ الإِيمانُ إِلى قلبه، لا تُؤذُوا المسلمين، ولا تُعَيِّرُوهم، ولا تَتَّبِعُوا عوراتِهم، فَإِنَّهُ من تَتبَّع عورة أخيه المسلم، تَتبَّع الله عورتَه، ومَن تتبَّع اللهُ عورَتَهُ يَفْضَحْهُ ولو في جوف رَحْلِهِ»
تلكم هي أحوالنا مع الهواتف المحمولة المتطورة والمتهورة في آن واحد،
فلينظر كل واحد منا من أي طائفة هو من هذه الطوائف الثلاثة؛ فهنيئا لمن كان من الأولى فقد فاز واستبشر، والحذر الحذر لمن كان من الثانية فهو في خطر، وويل لمن كان من الثالثة فقد تعدى وظلم واستكبر، وجزى الله خيرا من قال فيها:
هَوَاتِفُ هَذَا العَصْرِ -لَا شَكَّ- نِعْمَةٌ *** يَعُودُ عَلَيْنَا نَفْعُهَـــــــا وَعَطِيَّةٌ
وَلكِنَّ هَذَا النَّفْعَ يَقْطِـــــــفُ وَرْدَهُ *** لَبِيبٌ لَهُ عَقْـــــــلٌ سَلِيمٌ وَفِطْنَةٌ
يُحَرِّكُهَا لِلْخَيْرِ وَهيَ لَهُ سِفْـــــــرٌ *** وَمَدْرَسَةٌ يَرْقَى بِهَــــــا وَمَجَلَّةٌ
بِهَا يُنْجِزُ الْأَغْرَاضَ وَهْيَ لَــهُ يَدٌ *** تُسَاعِدُ فِي الإِبْدَاعِ وَهْيَ مَطِيَّةٌ
كَمَا هِيَ لِلغُمْرِ الْبَلِيـــــدِ الَّذِي بِهَا *** يُشَاركُ فِي الإفْسَادِ شَرٌّ وَنِقْمَةٌ
وَمَضْيَعَةٌ لِلْوقْتِ فِي الَكَيْدِ وَالْخَنَى *** وَتَسْليةٌ يَلْهُو بِــــــهَا وَمَضَرَّةٌ
...
دمتم بود
وممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا
الحمد لله الذي جعل في هذا العصر الهواتف المحمولة بأسا شديدا ومنافع للناس، وأكرمهم بها ليتعارفوا وهم الشعوب والأجناس، وحرم عليهم ما يأتي عبرها من الخُبُث والخبائث والأرجاس، حتى لا يستعملوها فيما يمس الاعراض وجعلت حلا لكل مشكل وكشفا لكل إلباس.
قد أكرمنا الله تعالى في هذا العصر بتقدم الصناعة؛ فما أجمل الصناعة إذا بنيت على أساس من التقوى والطاعة، وعلى أساس صلاح الفرد والجماعة، وعلى أساس تحقيق الأمن والأمان والعفاف والقناعة.
لقد سيطرت هذه الصناعة اليوم على جميع جوانب حياتنا، بحيث لا نستطيع اليوم العيش بدونها، ولا الحركة بدونها، ولا الدراسة بدونها، ولا الاتصال فيما بيننا بدونها، ولا أن نعمل أي شيء بدونها؛ حتى أصبح إنسان هذا العصر عالة على ما صنع، ويعمل حسب ما يفرضه عليه ما اخترع وأبدع.
ومن هذه الأمور التي بُنِيَتْ عليها حياتنا اليوم الهواتف المحمولة، بحيث لا يوجد إنسان اليوم إلا وله قرين من رقم أو أرقام، ومن هاتف أو هواتف، يحملها معه حيثما حل وارتحل، لا يفارقها ليلا ونهارا، يقظة ومناما، في شغله وفراغه، في مقامه ومساره، هي معه في البيت وفي العمل وفي الدراسة وفي الطريق؛
بل حتى عند قضاء حاجته في المراحيض أعزكم الله، وعند أداء عبادته في المساجد؛ فهي دائما في جيبه، وعلى كل الأحوال هي بجانبه، توظفه ويوظفها في الخير والشر، وفي السراء والضراء؛ فنِعم من وظَّفَتْه أو وظَّفَها في الخير والسراء، وبئس من وظَّفَتْه أو وظَّفَها في الشر والضراء؛ كأننا لما أعرضنا عن ذكر الله تعالى قَيَّضَ الله لنا منها قرناء تَشْغَلنا حتى عن أنفسنا وأهلينا،
والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
تجد الإنسان دائما يَتَطَلَّع إليه؛ فيكون آخرُ ما يَطَّلِع عليه قبل خلوده للنوم هاتفَه المحمول، كما يكون أولُ ما يَطْلُع عليه بعد الاستيقاظ هو شمس هاتفه المحبوب، ليستعرض -قبل فعل أي شيء حتى قبل غسل وجهه من أثر النوم- المكالمات والرسائل التي نزلت عليه من وحي هاتفه وهو مستغرق في نومه.
بدل أن يكون آخرُ شيء وأولُ شيء يتصل به قبل النوم وبعد الاستيقاظ هو أذكار النوم المشروعة؛ اقتداء بالنبيﷺ، يكون آخر ما يتصل به، وأول ما يتصل به هو هاتفه المحمول.
إن الهواتف المحمولة فيها منافع كثيرة متطورة؛ كما فيه مفاسد خطيرة متهورة؛ ومن أجمل ما فيها أنها تقضي الأغراض، ولكنها أيضا من أقبح ما فيها أنها تهتك الأعراض، وتنشر الأمراض؛ فما هي منافعها المتطورة ومفاسدها المتهورة؟
أولا: أما منافعه المتطورة فهي كثيرة ومتوافرة ومتوفرة ويمكن تصنيفها إلى: منافع شخصية، واجتماعية، وعلمية، ودينية:
- أما المنافع الشخصية فهي أكبر من أن تحصى؛ فهي تقرب منك كل بعيد، وتقضي لك الأغراض المستعجلة في وقت وجيز، وتحمل إليك أخبار من تحب مباشرة ومجانا، وتراقب بها عملك وبيتك ومسؤولياتك، فتجعل عالَـمك وأعمالك بين يديك كأنها في بيت واحد، توظفه في البيع والشراء، وفي الإجارة والكراء، وفي التجارة وغيرها من العمل والإجراء...
- أما المنافع الاجتماعية فمنها: تربية الأولاد، وبر الوالدين، وعياد المرضى، ومساعدة الجيران، وإصلاح ذات البين، وقضاء الأغراض والمآرب، وصلة الأرحام مع الأقارب، والتعرف على الأحباب، والسؤال عن أحوال الأصحاب، ولا سيما حينما تتعذر الزيارة لبعد المسافة والمكان، أو لطول الأيام والزمان؛ كما تستعين بها على معرفة الجديد من الأخبار، وما يدور حولك في العالم من جديد.
- أما المنافع العلمية؛ فهاتفك الذكي المحمول يحملك إلى حقول العلوم في كل مجال؛ العلوم الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والطبية، وغيرها؛ كل ذلك رهن إشارتك؛ فبمجرد مَسَحات أناملك، ولمسات أصابعك تنفتح عليك أبواب العلوم بكل أنواعها، وتسبح في بحور العلوم بكل أشكالها؛
فيجب عليك حينئذ أن تحسن الغوص والاختيار، وإلا فسَدَتْ حياتك فتنهار. وأنا أقول دائما لطلبة العلم: إن شبكة الأنترنيت لا يُسْتَغْنَى عنها ولكن لا يُعْتَمَد عليها؛ فاستعن بها لمعرفة الطريق للعلوم؛ ولكن لا تعتمدها فقط طريقا لعلمك؛ لأنك إن استعنت بها حقَّقَتْ لنفسك العلوم والأمل، وإن اعتمدت عليها فقط خَلَقَتْ فيك الخمول والكسل.
- أما المنافع الدينية؛ فأفضل ما فيها تنزيل القرآن الكريم لأجل التلاوة والاستماع؛ ففيها أفضل المصاحف المشهورة وأتقنها في العالم الإسلامي، ومنها هذا المصحف المحمدي الذي امتلأت به مساجد البلاد اليوم؛ كما بإمكانك أن تَحَمِّل بهاتفك ختمات كبار القراء في العالم وبجميع القراءات، فتتمتع وتتدبر. وأيضا ينبهك للصلاة في وقتها، فيؤذن من غير استئذان، فيُعْلِمك بدخول الوقت لتستعد للقاء الواحد الديان، وهو القائل سبحانه: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}.
ثانيا: أما مفاسده المتهورة فهي كثيرة ومتوافرة ومتوفرة، ويمكن تصنيفها إلى: مفاسد صحية، واجتماعية، ودينية:
- أما المفاسد الصحية؛ فإن الخبراء يدقون ناقوس الخطر، فيجب اتخاذ الحذر؛ فمفاسد الهاتف على الصحة تتجلى في أمور خطيرة: منها الإدمان؛ وهو مرض يتم فيه السيطرة على الإنسان، بحيث لا يملك أمره ولا يستطيع التخلص منه.
ومنها الإضرار بالعنين جراء الأشعة التي تصدرها. ومنها الإشعاعات التي يحملها إليك ما يسمى "الريزو" و"الويفي"، وقد قيل: إنها تشكل خطرا كبيرا على الدماغ،
- أما المفاسد الاجتماعية؛ فمنها تضييع الأوقات، وإفساد العائلات بالصور والإشاعات، وغياب الحوار داخل الأسر؛ لأن كل واحد قد اشتغل في هاتفه بالبحث والنظر، وهذه ظاهرة سيئة أفسدت المجالس واللقاءات بسوء الانتشار، وبعض المشعوذين أيضا يوظف الهاتف في السحر والشعوذة، وأخيرا دراسة إحصائية في بريطانيا تثبت أن كثرة تصفح الهواتف في الشغل يؤثر سلبا على الاقتصاد العام للبلاد.
- أما مفاسده الدينية فقد سادت في كثير من المجال: منها تركه مفتوحا في المسجد وإذاية المصلين بنغماته الموسيقية الصاخبة المشوشة. ومنها استعماله في التجسس على عورات الناس، وتصوير النساء لا سيما في المناسبات واﻷعراس، فقد شتت بذلك كثيرا من الأسر بالفراق والطلاق. ومنها ربط العلاقات المحرمة بين الشباب والفتيات، وخصوصا في رحاب المدارس والجامعات.
ونشر أحاديث موضوعة و مكذوبة ونسبها للحبيب عليه أفضل الصلوات
وأخطرها أن الهواتف أصبحت مستودعا لتخزين المقاطع الخليعة، وبوابة لمشاهدة الأفلام الجنسية الفظيعة، ليس من طرف الشباب فحسب؛ بل من طرف الشيب أيضا كما يدل على ذلك كثير من الرسائل التي تأتيني من هنا وهناك؛ كأن الشيب يسعون لاستدراك ما فاتهم من الفسوق في فترة الشباب؛ فحينما نكتشف الفضائح في الشباب عادة ما نقول: "اللهم اهدهم"، أما في الشيب فيجب أن نقول: "اللهم اعف عنهم"؛ لأنها في الشباب ضلال يحتاج للاهتداء، وفي الشيب ضلال ومرض يحتاج للاستشفاء؛ وهل للشباب قدوة إلا الشيب؟
إن الناس في توظيف الهواتف المحمولة على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: طائفة السابقين العقلاء، الذين يستفيدون من منافعها المتطورة، ويقضون بها أغراضهم الحاضرة، ويبتعدون عن مفاسدها المتهورة، لا يهتكون بها الأعراض، ولا ينشرون بها الأمراض؛
فهؤلاء هم الصالحون في المجتمع، هم الأصفياء الأنقياء الأتقياء الأوفياء؛ بيد أنهم قلة غرباء، «فطوبى للغرباء» كما قال النبيﷺ، يكاد من يتحدث عنهم يعيش في الأحلام، ويسبح في الأوهام؛ وهذه هي الحقيقة الواقعية التي نطق بها القرآن: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}.
الطائفة الثانية: طائفة اللاحقين الخطائين، الذين خلطوا في هواتفهم عملا صالحا وآخر سيئا، يستفيدون من منافعها المتطورة، ويقضون بها أغراضهم الحاضرة، ولكنهم إذا وجدوا فرصة لا يتورعون عن مفاسدها المتهورة،
وأحيانا يهتكون بها الأعراض، وينشرون بها الأمراض؛ ولم يفصل بينهم وبين الخير إلا التوبة النصوح لينضموا لطائفة السابقين؛ ولكن يخشى عليهم الهلاك إن بقيت حالهم على ما هي عليه، هم كما قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وربما في هذا يدخل أغلب الناس؛ يقول النبيﷺ: «كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ».
الطائفة الثالثة: طائفة الفاسقين الحمقى، الأغبياء المغفلين، الذين لا يوظفون هواتفهم إلا في المفاسد المتهورة، همهم تتبع العورات، وهتك الأعراض، ونشر الأمراض، ينشرون بها كل الجرائم، بل جرائم ربما لا تخطر حتى ببال الشيطان؛ من الغيبة والنميمة والكذب والزور، والبغاء والغش والخيانة، والسرقات والاختلاسات، وغير ذلك من الجرائم التي أفسدت الدين والدنيا للعباد، وأهلكت الحر والنسل في البلاد؛
ففي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، وفي مثلهم يقول النبيﷺ:
«يا معشرَ مَنْ أسلم بلسانه، ولم يُفْضِ الإِيمانُ إِلى قلبه، لا تُؤذُوا المسلمين، ولا تُعَيِّرُوهم، ولا تَتَّبِعُوا عوراتِهم، فَإِنَّهُ من تَتبَّع عورة أخيه المسلم، تَتبَّع الله عورتَه، ومَن تتبَّع اللهُ عورَتَهُ يَفْضَحْهُ ولو في جوف رَحْلِهِ»
تلكم هي أحوالنا مع الهواتف المحمولة المتطورة والمتهورة في آن واحد،
فلينظر كل واحد منا من أي طائفة هو من هذه الطوائف الثلاثة؛ فهنيئا لمن كان من الأولى فقد فاز واستبشر، والحذر الحذر لمن كان من الثانية فهو في خطر، وويل لمن كان من الثالثة فقد تعدى وظلم واستكبر، وجزى الله خيرا من قال فيها:
هَوَاتِفُ هَذَا العَصْرِ -لَا شَكَّ- نِعْمَةٌ *** يَعُودُ عَلَيْنَا نَفْعُهَـــــــا وَعَطِيَّةٌ
وَلكِنَّ هَذَا النَّفْعَ يَقْطِـــــــفُ وَرْدَهُ *** لَبِيبٌ لَهُ عَقْـــــــلٌ سَلِيمٌ وَفِطْنَةٌ
يُحَرِّكُهَا لِلْخَيْرِ وَهيَ لَهُ سِفْـــــــرٌ *** وَمَدْرَسَةٌ يَرْقَى بِهَــــــا وَمَجَلَّةٌ
بِهَا يُنْجِزُ الْأَغْرَاضَ وَهْيَ لَــهُ يَدٌ *** تُسَاعِدُ فِي الإِبْدَاعِ وَهْيَ مَطِيَّةٌ
كَمَا هِيَ لِلغُمْرِ الْبَلِيـــــدِ الَّذِي بِهَا *** يُشَاركُ فِي الإفْسَادِ شَرٌّ وَنِقْمَةٌ
وَمَضْيَعَةٌ لِلْوقْتِ فِي الَكَيْدِ وَالْخَنَى *** وَتَسْليةٌ يَلْهُو بِــــــهَا وَمَضَرَّةٌ
...
دمتم بود
تعليق