لا يشكر الله من لا يشكر الناس
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون : الناس بالناس منذ كانوا يحتاج بعضهم بعضا وَلا يَستَغني أَحَدٌ مِنهُم عَنِ الآخَرِ ، وَقَد جُبِلُوا بِفِطرَتِهِم عَلَى تَقدِيمِ المُسَاعَدَةِ وَبَذلِ المَعرُوفِ ، ثم دَعَتهُمُ الشَّرِيعَةُ بَعدَ ذَلِكَ إِلى قَضَاءِ الحَاجَاتِ وَرَغَّبَتهُم في كَشفِ الكُرُبَاتِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ ، مَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ بها كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَحَبُّ النَّاسِ إِلى اللهِ أَنفَعُهُم لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ سُرُورٌ تُدخِلُهُ عَلَى مُسلِمٍ ، تَكشِفُ عَنهُ كُربَةً أَو تَقضِي عَنهُ دَينًا أَو تَطرُدُ عَنهُ جُوعًا " وَإِنَّهُ مَا مِن أَحَدٍ في هَذِهِ الدُّنيَا إِلاَّ وَعَلَيهِ مِنَ الفَضلِ لِلآخَرِينَ نَصِيبٌ ، إِن هُوَ حَفِظَهُ كَانَ ذَا دِينٍ وَعَقلٍ وَمُرُوءَةٍ ، وَإِن هُوَ ضَيَّعَهُ كَانَ لَئِيمًا خَسِيسَ الطَّبعِ قَلِيلَ الدِّيَانَةِ ، وَقَد أَمَرَنَا اللهُ ـ تَعَالى ـ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ أَلاَّ نَنسَى الفَضلَ بَينَنَا ، وَدَعَانَا نَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلى شُكرِ الجَمِيلِ وَلَو كَانَ قَلِيلاً ، وَقَرَنَ شُكرَ اللهِ بِشُكرِ النَّاسِ ، وَرَغَّبَ في المُكَافَأَةِ عَلَى المَعرُوفِ مَادِيًّا وَمَعنَوِيًّا ، وَحَذَّرَ مِن نُكرَانِ الجَمِيلِ وَكِتمَانِهِ ، أو كُفرِهِ وَتَنَاسِيهِ وَاحتِقَارِهِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَن لم يَشكُرِ القَلِيلَ لم يَشكُرِ الكَثِيرَ ، وَمَن لم يَشكُرِ النَّاسَ لم يَشكُرِ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " وَمَنْ آتَى إلَيكُم مَعرُوفًا فَكَافِئُوهُ ، فَإِنْ لم تَجِدُوا فَادعُوا لَهُ حَتَّى تَعلَمُوا أَنَّكُم قَد كَافَأْتُمُوهُ " وَقَالَ ـ : " مَن صُنِعَ إلَيهِ مَعرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ : جَزَاكَ اللهُ خَيرًا فَقَد أَبلَغَ في الثَّنَاءِ " وَقَالَ : " مَن أُعطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجزِ بِهِ ، وَمَن لم يَجِدْ فَلْيُثنِ ، فَإِنَّ مَن أَثنى فَقَد شَكَرَ ، وَمَن كَتَمَ فَقَد كَفَرَ " وَقَد كَانَ مِن مَحمُودِ صِفَاتِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَكُلُّ صِفَاتِهِ مَحمُودَةٌ ، أَنَّهُ كَانَ حَسَنَ العَهدِ ظَاهِرَ الوَفَاءِ ، يَحفَظُ الجَمِيلَ لِمَن أَسدَاهُ ، وَيُكَافِئُ عَلَى الفَضلِ وَيَرعَاهُ ، حَفِظَ لِزَوجِهِ خَدِيجَةَ فَضلَهَا ، وَأَشَادَ بِفَضلِ أَبي بَكرٍ وَمَدَحَهُ ، وَلم يَنسَ لِلمُطعِمِ بنِ عَدِيٍّ جِوَارَهُ ، فَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا غِرتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلاَّ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَإِنِّي لم أُدرِكْهَا ، قَالَت : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ يَقُولُ : أَرسِلُوا بها إِلى أَصدِقَاءِ خَدِيجَةَ ، قَالَت : فَأَغضَبتُهُ يَومًا فَقُلتُ : خَدِيجَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنِّي قَد رُزِقتُ حُبَّهَا " وَقَالَ : " إِنَّ مِن أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكرٍ ، وَلَو كُنتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيرَ رَبِّي لاتَّخَذتُ أَبَا بَكرٍ ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسلامِ وَمَوَدَّتُهُ " وَعَن جُبَيرِ بنِ مُطعِمِ بنِ عَدِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ قَالَ في أُسَارَى بَدرٍ : " لَو كَانَ المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثم كَلَّمَني في هَؤُلاءِ النَّتنَى لَتَرَكتُهُم لَهُ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم يُضِيعُ بَعضُ النَّاسِ عَلَى أَنفُسِهِم عَظِيمَ الأَجرِ وَيَقَعُونَ في الوِزرِ ، وَذَلِكَ بِجُحُودِهِم جمِيلَ مَن أَحسَنَ إِلَيهِم وَنِسيَانِهِم فَضلَهُ ، وَلَو أَنَّهُم أَثنَوا عَلَيهِ وَدَعَوا لَهُ ، وَأَلانُوا لَهُ الكَلامَ وَاعتَرَفُوا بِفَضلِهِ ، لَنَالُوا مِنَ الأَجرِ كَمِثلِ أَجرِهِ ، وَلَشَجَّعُوهُ عَلَى استِمرَارِ العَطَاءِ وَدَوَامِ الفَضلِ ، وَلَرَفَعُوا عَن أَنفُسِهِم مَعَرَّةَ اللُّؤمِ وَخَسَاسَةِ الطَّبعِ ، عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : إنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، ذَهَبَتِ الأَنصَارُ بِالأَجرِ كُلِّهِ . قَالَ : " لا ، مَا دَعَوتُمُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَهُم وَأَثنَيتُم عَلَيهِم " .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّنَا في زَمَنٍ تَرَاجَعَ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الفَضلِ عَن بَذلِهِ ، بَل وَصَلَ الأَمرُ بِبَعضِهِم إِلى عَدَمِ التَّفكِيرِ فِيهِ أَبَدًا ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لَمَا نَالَهُم مِن لَدَغَاتِ الجَاحِدِينَ ، وَلِمَا اكتَوَوا بِهِ مِن غَدَرَاتِ المُتَنَكِّرِينَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " لَيسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
وَاعلَمُوا أَنَّ الوَفَاءَ مِنَ تَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَسَبَبٌ في مَحَبَّتِهِ لِلعَبدِ وَدُخُولِهِ الجَنَّةَ ، يَتَّصِفُ بِهِ أُولُو الأَلبَابِ مِنَ الرِّجَالِ ، وَأَمَّا كُفرُ المُنعِمِ وَجُحُودُهُ ، فَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِهِ النِّسَاءُ وَأَشبَاهُ النِّسَاءِ مِنَ الحَمقَى وَضِعَافِ العُقُولِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " بَلى مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَفَمَن يَعلَمُ أَنَّما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلبابِ . الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهدِ اللهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثاقَ . وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخشَونَ رَبَّهُم وَيَخافُونَ سُوءَ الحِسَابِ . وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابتِغاءَ وَجهِ رَبِّهِم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدرَؤُنَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُم عُقبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدنٍ يَدخُلُونَها وَمَن صَلَحَ مِن آبائِهِم وَأَزواجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ . سَلامٌ عَلَيكُم بما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدَّارِ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ الإِنسانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذا مَسَّهُ الخَيرُ مَنُوعًا . إِلاَّ المُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُم عَلَى صَلاتِهِم دائِمُونَ . وَالَّذِينَ في أَموالِهِم حَقٌّ مَعلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ . وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَومِ الدِّينِ . وَالَّذِينَ هُم مِن عَذَابِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ . إِنَّ عَذابَ رَبِّهِم غَيرُ مَأمُونٍ . وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حافِظُونَ . إِلاَّ عَلى أَزواجِهِم أَو ما مَلَكَت أَيمانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابتَغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ . وَالَّذِينَ هُم لأَمَانَاتِهِم وَعَهدِهِم رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ . وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلاتِهِم يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ في جَنَّاتٍ مُكرَمُونَ " .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِضمَنُوا لي سِتًّا مِن أَنفُسِكُم أَضمَنْ لَكُمُ الجَنَّةَ : اُصدُقُوا إِذَا حَدَّثتُم ، وَأَوفُوا إِذَا وَعَدتُم ، وَأَدُّوا إِذَا ائتُمِنتُم ، وَاحفَظُوا فُرُوجَكُم ، وَغُضُّوا أَبصَارَكُم ، وَكُفُّوا أَيدِيَكُم " وَفي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ قَالَ : " يَا مَعشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكثِرْنَ الاستِغفَارَ ؛ فَإِنِّي رَأَيتُكُنَّ أَكثَرَ أَهلِ النَّارِ " فَقَالَتِ امرَأَةٌ مِنهُنَّ جَزْلَةٌ : وَمَا لَنَا أَكثَرُ أَهلِ النَّارِ ؟ قَالَ : " تُكثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكفُرْنَ العَشِيرَ ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَمَعَ مَا اتَّصَفَ بِهِ بَعضُ النَّاسِ اليَومَ مِن جُحُودٍ وَأَثَرَةٍ وَحُبٍّ لِلذَّاتِ وَنُكرَانٍ لِلجَمِيلِ ، إِلاَّ إِنَّ لُؤمَ مَن جَحَدَ وَقِلَّةَ مُرُوءَةِ مَن صَدَّ ، لا يَمنَعُ كَرِيمًا مِن مَدِّ يَدِ المَعرُوفِ رَجَاءَ مَا عِندَ اللهِ مِنَ الأَجرِ ، وَلا سِيَّمَا مَن كَانَ غَنِيًّا قَادِرًا ؛ فَإِنَّ اللهَ حَكَمٌ عَدلٌ ، لا يَضِيعُ لَدَيهِ مَعرُوفٌ وَلا تَذهَبُ عِندَهُ صَنِيعَةٌ سُدًى ، وَمَا أَجمَلَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ :
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يُعدَمْ جَوَازِيَهُ لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالنَّاسِ
وَمَا أَلطَفَ مَا قَالَ ابنُ المُبَارَكِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ :
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون : الناس بالناس منذ كانوا يحتاج بعضهم بعضا وَلا يَستَغني أَحَدٌ مِنهُم عَنِ الآخَرِ ، وَقَد جُبِلُوا بِفِطرَتِهِم عَلَى تَقدِيمِ المُسَاعَدَةِ وَبَذلِ المَعرُوفِ ، ثم دَعَتهُمُ الشَّرِيعَةُ بَعدَ ذَلِكَ إِلى قَضَاءِ الحَاجَاتِ وَرَغَّبَتهُم في كَشفِ الكُرُبَاتِ ، قَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ وَلا يُسلِمُهُ ، مَن كَانَ في حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ في حَاجَتِهِ ، وَمَن فَرَّجَ عَن مُسلِمٍ كُربَةً فَرَّجَ اللهُ عَنهُ بها كُربَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ : " أَحَبُّ النَّاسِ إِلى اللهِ أَنفَعُهُم لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ سُرُورٌ تُدخِلُهُ عَلَى مُسلِمٍ ، تَكشِفُ عَنهُ كُربَةً أَو تَقضِي عَنهُ دَينًا أَو تَطرُدُ عَنهُ جُوعًا " وَإِنَّهُ مَا مِن أَحَدٍ في هَذِهِ الدُّنيَا إِلاَّ وَعَلَيهِ مِنَ الفَضلِ لِلآخَرِينَ نَصِيبٌ ، إِن هُوَ حَفِظَهُ كَانَ ذَا دِينٍ وَعَقلٍ وَمُرُوءَةٍ ، وَإِن هُوَ ضَيَّعَهُ كَانَ لَئِيمًا خَسِيسَ الطَّبعِ قَلِيلَ الدِّيَانَةِ ، وَقَد أَمَرَنَا اللهُ ـ تَعَالى ـ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ أَلاَّ نَنسَى الفَضلَ بَينَنَا ، وَدَعَانَا نَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلى شُكرِ الجَمِيلِ وَلَو كَانَ قَلِيلاً ، وَقَرَنَ شُكرَ اللهِ بِشُكرِ النَّاسِ ، وَرَغَّبَ في المُكَافَأَةِ عَلَى المَعرُوفِ مَادِيًّا وَمَعنَوِيًّا ، وَحَذَّرَ مِن نُكرَانِ الجَمِيلِ وَكِتمَانِهِ ، أو كُفرِهِ وَتَنَاسِيهِ وَاحتِقَارِهِ ، قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ: " مَن لم يَشكُرِ القَلِيلَ لم يَشكُرِ الكَثِيرَ ، وَمَن لم يَشكُرِ النَّاسَ لم يَشكُرِ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ " وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " وَمَنْ آتَى إلَيكُم مَعرُوفًا فَكَافِئُوهُ ، فَإِنْ لم تَجِدُوا فَادعُوا لَهُ حَتَّى تَعلَمُوا أَنَّكُم قَد كَافَأْتُمُوهُ " وَقَالَ ـ : " مَن صُنِعَ إلَيهِ مَعرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ : جَزَاكَ اللهُ خَيرًا فَقَد أَبلَغَ في الثَّنَاءِ " وَقَالَ : " مَن أُعطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجزِ بِهِ ، وَمَن لم يَجِدْ فَلْيُثنِ ، فَإِنَّ مَن أَثنى فَقَد شَكَرَ ، وَمَن كَتَمَ فَقَد كَفَرَ " وَقَد كَانَ مِن مَحمُودِ صِفَاتِهِ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ وَكُلُّ صِفَاتِهِ مَحمُودَةٌ ، أَنَّهُ كَانَ حَسَنَ العَهدِ ظَاهِرَ الوَفَاءِ ، يَحفَظُ الجَمِيلَ لِمَن أَسدَاهُ ، وَيُكَافِئُ عَلَى الفَضلِ وَيَرعَاهُ ، حَفِظَ لِزَوجِهِ خَدِيجَةَ فَضلَهَا ، وَأَشَادَ بِفَضلِ أَبي بَكرٍ وَمَدَحَهُ ، وَلم يَنسَ لِلمُطعِمِ بنِ عَدِيٍّ جِوَارَهُ ، فَعَن عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهَا ـ قَالَت : مَا غِرتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِلاَّ عَلَى خَدِيجَةَ ، وَإِنِّي لم أُدرِكْهَا ، قَالَت : وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ يَقُولُ : أَرسِلُوا بها إِلى أَصدِقَاءِ خَدِيجَةَ ، قَالَت : فَأَغضَبتُهُ يَومًا فَقُلتُ : خَدِيجَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنِّي قَد رُزِقتُ حُبَّهَا " وَقَالَ : " إِنَّ مِن أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكرٍ ، وَلَو كُنتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيرَ رَبِّي لاتَّخَذتُ أَبَا بَكرٍ ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسلامِ وَمَوَدَّتُهُ " وَعَن جُبَيرِ بنِ مُطعِمِ بنِ عَدِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ النَّبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم ـ قَالَ في أُسَارَى بَدرٍ : " لَو كَانَ المُطعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثم كَلَّمَني في هَؤُلاءِ النَّتنَى لَتَرَكتُهُم لَهُ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، كَم يُضِيعُ بَعضُ النَّاسِ عَلَى أَنفُسِهِم عَظِيمَ الأَجرِ وَيَقَعُونَ في الوِزرِ ، وَذَلِكَ بِجُحُودِهِم جمِيلَ مَن أَحسَنَ إِلَيهِم وَنِسيَانِهِم فَضلَهُ ، وَلَو أَنَّهُم أَثنَوا عَلَيهِ وَدَعَوا لَهُ ، وَأَلانُوا لَهُ الكَلامَ وَاعتَرَفُوا بِفَضلِهِ ، لَنَالُوا مِنَ الأَجرِ كَمِثلِ أَجرِهِ ، وَلَشَجَّعُوهُ عَلَى استِمرَارِ العَطَاءِ وَدَوَامِ الفَضلِ ، وَلَرَفَعُوا عَن أَنفُسِهِم مَعَرَّةَ اللُّؤمِ وَخَسَاسَةِ الطَّبعِ ، عَن أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ـ قَالَ : إنَّ المُهَاجِرِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، ذَهَبَتِ الأَنصَارُ بِالأَجرِ كُلِّهِ . قَالَ : " لا ، مَا دَعَوتُمُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لَهُم وَأَثنَيتُم عَلَيهِم " .
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَإِنَّنَا في زَمَنٍ تَرَاجَعَ كَثِيرٌ مِن أَهلِ الفَضلِ عَن بَذلِهِ ، بَل وَصَلَ الأَمرُ بِبَعضِهِم إِلى عَدَمِ التَّفكِيرِ فِيهِ أَبَدًا ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لَمَا نَالَهُم مِن لَدَغَاتِ الجَاحِدِينَ ، وَلِمَا اكتَوَوا بِهِ مِن غَدَرَاتِ المُتَنَكِّرِينَ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : " لَيسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ "
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ ـ تَعَالى ـ وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ .
وَاعلَمُوا أَنَّ الوَفَاءَ مِنَ تَقوَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَسَبَبٌ في مَحَبَّتِهِ لِلعَبدِ وَدُخُولِهِ الجَنَّةَ ، يَتَّصِفُ بِهِ أُولُو الأَلبَابِ مِنَ الرِّجَالِ ، وَأَمَّا كُفرُ المُنعِمِ وَجُحُودُهُ ، فَإِنَّمَا يَتَّصِفُ بِهِ النِّسَاءُ وَأَشبَاهُ النِّسَاءِ مِنَ الحَمقَى وَضِعَافِ العُقُولِ ، قَالَ ـ تَعَالى ـ : " بَلى مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ " وَقَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : " أَفَمَن يَعلَمُ أَنَّما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلبابِ . الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهدِ اللهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثاقَ . وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخشَونَ رَبَّهُم وَيَخافُونَ سُوءَ الحِسَابِ . وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابتِغاءَ وَجهِ رَبِّهِم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقناهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدرَؤُنَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُم عُقبَى الدَّارِ . جَنَّاتُ عَدنٍ يَدخُلُونَها وَمَن صَلَحَ مِن آبائِهِم وَأَزواجِهِم وَذُرِّيَّاتِهِم وَالمَلائِكَةُ يَدخُلُونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بَابٍ . سَلامٌ عَلَيكُم بما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدَّارِ " وَقَالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : " إِنَّ الإِنسانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذا مَسَّهُ الخَيرُ مَنُوعًا . إِلاَّ المُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُم عَلَى صَلاتِهِم دائِمُونَ . وَالَّذِينَ في أَموالِهِم حَقٌّ مَعلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالمَحرُومِ . وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَومِ الدِّينِ . وَالَّذِينَ هُم مِن عَذَابِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ . إِنَّ عَذابَ رَبِّهِم غَيرُ مَأمُونٍ . وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حافِظُونَ . إِلاَّ عَلى أَزواجِهِم أَو ما مَلَكَت أَيمانُهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابتَغى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ . وَالَّذِينَ هُم لأَمَانَاتِهِم وَعَهدِهِم رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ . وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلاتِهِم يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ في جَنَّاتٍ مُكرَمُونَ " .
وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " اِضمَنُوا لي سِتًّا مِن أَنفُسِكُم أَضمَنْ لَكُمُ الجَنَّةَ : اُصدُقُوا إِذَا حَدَّثتُم ، وَأَوفُوا إِذَا وَعَدتُم ، وَأَدُّوا إِذَا ائتُمِنتُم ، وَاحفَظُوا فُرُوجَكُم ، وَغُضُّوا أَبصَارَكُم ، وَكُفُّوا أَيدِيَكُم " وَفي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ ـ قَالَ : " يَا مَعشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكثِرْنَ الاستِغفَارَ ؛ فَإِنِّي رَأَيتُكُنَّ أَكثَرَ أَهلِ النَّارِ " فَقَالَتِ امرَأَةٌ مِنهُنَّ جَزْلَةٌ : وَمَا لَنَا أَكثَرُ أَهلِ النَّارِ ؟ قَالَ : " تُكثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكفُرْنَ العَشِيرَ ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَمَعَ مَا اتَّصَفَ بِهِ بَعضُ النَّاسِ اليَومَ مِن جُحُودٍ وَأَثَرَةٍ وَحُبٍّ لِلذَّاتِ وَنُكرَانٍ لِلجَمِيلِ ، إِلاَّ إِنَّ لُؤمَ مَن جَحَدَ وَقِلَّةَ مُرُوءَةِ مَن صَدَّ ، لا يَمنَعُ كَرِيمًا مِن مَدِّ يَدِ المَعرُوفِ رَجَاءَ مَا عِندَ اللهِ مِنَ الأَجرِ ، وَلا سِيَّمَا مَن كَانَ غَنِيًّا قَادِرًا ؛ فَإِنَّ اللهَ حَكَمٌ عَدلٌ ، لا يَضِيعُ لَدَيهِ مَعرُوفٌ وَلا تَذهَبُ عِندَهُ صَنِيعَةٌ سُدًى ، وَمَا أَجمَلَ مَا قَالَ الشَّاعِرُ :
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يُعدَمْ جَوَازِيَهُ لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللهِ وَالنَّاسِ
وَمَا أَلطَفَ مَا قَالَ ابنُ المُبَارَكِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ :
يَدُ المَعرُوفِ غُنمٌ حَيثُ كَانَت تَحَمَّلَهَا شَكُورٌ أَو كَفُورُ
فَفِي شُكرِ الشَّكُورِ لها جَزَاءٌ وَعِندَ اللهِ مَا كَفَرَ الكَفُورُ
المصدر منبر الجــمــعـــة
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
أخوكم المحب أبومعاذ شاكر الرويلي
فَفِي شُكرِ الشَّكُورِ لها جَزَاءٌ وَعِندَ اللهِ مَا كَفَرَ الكَفُورُ
المصدر منبر الجــمــعـــة
الشيخ / عبد الله بن محمد البصري
أخوكم المحب أبومعاذ شاكر الرويلي
تعليق