حوار العقل ومسلماته
لقد قلنا في البديهية الأولى "إن كل وجود محدث لابدَّ أن يصدر عن وجود سابق عليه" فالإنسان مثلاً كصانع لا يستطيع أن يصنع البيت والطائرة إلا من مواد الأرض السابقة على وجود البيت والطائرة. ولكن أليس كل وجود بالقياس إلى الوجود السابق عليه هو محدث وأين ينتهي تسلسل المحدثات في الوجود ليبدأ الوجود الأصيل أو الأصل. وأين كان الوجود الأصل؟.
إن أمامنا ثلاث فرضيات لا يوجد سواها للاستدلال على حقيقة الأصل إذا كنا نقصد بالأصل العناصر المادية في المحدثات أو المادة.
الاحتمال الأول: العدم سبق المادة ثمَّ انبثقت منه، فظهرت المادة ولم تكن موجودة قبل ذلك.
الاحتمال الثاني: إن المادة لم تكن، ثمَّ صنعها الصانع من لا شيء.
الاحتمال الثالث: إن المادة موجودة أزلاً ولا بداية لوجودها كما أنه لا نهاية لوجودها. فهي أزلية أبدية.
الاحتمال الأول: غير ممكن لأن ما لا وجود لـه لا يمكن أن يوجد. فكيف إذا كان العدم موجده. وهل يستطيع العدم أن يوجد نفسه ليوجد غيره. فلو سبق العدم والخلاء الوجود لما كان ثمَّة وجود، وما لم يكن أزلاً لن يكون، ولن يتكون. إذاً المادة قديمة وأزلية، والخلاء موجود أو العدم خارج حدود الوجود. والعقل يدلّنا بداهة بأن الوجود لا يصبح عدماً، وإن كل خبرات العلماء لا تستطيع أن تحول ذرة واحدة من ذرات الوجود إلى عدم، كما أنهم لا يستطيعون إيجاد ذرة واحدة من عدم. فما هو موجود في الأزل سيبقى موجوداً في الأبد، وما هو عدم في الأزل سيظل عدماً في الأبد.
الاحتمال الثاني: لا يصح لأن الإيجاد من العدم هو إيجاد مما لا وجود لـه فهل يصح الإيجاد مما لا وجود له؟. وهذا يحيلنا إلى حوار الفلاسفة الذين طرحوا السؤال هل الفكر سبق المادة أم المادة سبقت الفكر، أو أيهما سبق الآخر في الوجود البيضة أم الدجاجة. وظل الفلاسفة في أخذ ورد إلى وقتنا الحاضر بين المثاليين الذين بدا لهم أن الفكر أو الصانع هو الذي أوجد المادة، بينما ردّ الماديون بأن المادة سبقت الفكر وإن الفكر انبثق منها. فجعلوا المادة صانعة للعقل وصانعة للإنسان. وقد أخطأ هؤلاء وهؤلاء. وإذا كانت البداهة تدلّنا بأن الفكر هو أثر من آثار المادة فهذا لا يعني السبق في الوجود. إذ المادة والفكر متلازمان ولا يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر، ولكن كما نعرف من حالتنا الإنسانية، ومن مراقبتنا لعالم الكائنات الحيّة كلها، ندرك بأن العقل هو الذي يحكم المادة، ويتحكّم بها. فعقلنا هو الذي يحكم أجسامنا ويتحكّم في تصرفاتنا، وهذا العقل كان كامناً منذ اللحظة الأولى في خليتنا الأولى، بل قبل ذلك. كما هو شأن حواسنا والباقي من أعضائنا. كما إن لمادة الجسد برنامجها الخاص الذي لا دور للعقل في السيطرة عليه أو التأثير فيه، فنبضات القلب وعمل أعضاء الجسم أثناء اليقظة والنوم ليس للعقل أي دور فيه أو سلطة عليه. إن العقل يقوم بدور المرشد والمسيطر على تصرفات الجسد ويرد على رسائل الغرائز ولكنه لا يملك التأثير إلا نسبياً في برنامج عمل الأعضاء. وهكذا يتبين أن المادة والعقل يتعاونان منذ اللحظة الأولى في وجود كل كائن حي. وسوف نبين دور العقل والغرائز أو المادة الجسدية في كل مرحلة في فصل خاص بالموضوع. ولكن ما نعرفه هو، أن المادة لم تخلق العقل، بمعنى أنها سابقة لـه في الوجود، إذ لا يمكن مشاهدة البيضة خالية من روح الدجاجة، ولا البذرة خالية من برنامج الشجرة وروحها، إذ هما متلازمان. كما لا يمكن رؤية الكون منفصلاً عن عقل المكوِّن. إذ كيف ستنشأ علاقة بين مادة ميتة وخالق لا علاقة لـه في الأصل بهذه المادة. وكيف سيكون بالإمكان صنع ما لا وجود لـه من عدم. والعدم لا وجود، فهل يمكن إيجاد الوجود من العدم. ما الذي نتوصل إليه من هذا البحث. هل الصانع هو المادة؟ إننا نطرح هذا السؤال لكي لا يضيع الباحث عن الحقيقة وراء أوهام صنعتها الفلسفات، وأحياناً المعتقدات. فالموجودات أزلاً هي مادة وطاقة، مادة وعقل لا ينفصلان ولم يسبق أحدهما الآخر في الوجود، لأنهما عبارة عن وجهين لحقيقة واحدة، وهي حقيقة العالم. وإن حقيقة المادة الكلية في الوجود تقتضي بالمقابل وجود عقل كلّي كوني على موازاتها للتحكّم بها، وإيجاد ما نراه، وهذا لا يتناقض مع وجود الكائنات. فالإنسان لـه حواس ولكل ذرة في جسمه عقلها الخاص بها الذي ترسل من خلاله الرسائل إلى العقل عندما تتألم أو تشتكي أو يجوع الجسم أو تتأثر العين أو الأذن، ومع ذلك العقول الجزئية لا تحول دون وجود العقل الإنساني المستقل بوجوده، والمتعالي بحقيقته على الجسد بما يملكه من خبرة ومعرفة وتقدير لمصلحة الجسد، وإن كان العقل في جسد الإنسان ويسير معه حيث سار. إنها صفاتنا المتعددة التي نحملها في طيّات نوعنا الواحد الملقب بالإنسان. إنه التنوع في الحقيقة الواحدة. هذا التنوع قد يوهم بالتعدد، نتيجة للحيرة التي يثيرها إبداع العقل في الكون، مع أن حقيقة المادة والروح والعقل مترابطان. وبما أن المادة لا تزيد ولا تنقص نظرياً لأنها لا تفني ولا يستطيع العدم أن يضيف إليها شيئاً، فإن من الطبيعي أن يكون العقل الكوني غير قابل للزيادة والنقصان. وبما أنهما أزليان فسيكونان بحكم النتيجة أبديين، لا نهاية لهما. وهكذا نستطيع أن نستنتج بأن الاحتمال الثالث الذي توصلنا إليه هو الصحيح.
لقد قلنا في البديهية الأولى "إن كل وجود محدث لابدَّ أن يصدر عن وجود سابق عليه" فالإنسان مثلاً كصانع لا يستطيع أن يصنع البيت والطائرة إلا من مواد الأرض السابقة على وجود البيت والطائرة. ولكن أليس كل وجود بالقياس إلى الوجود السابق عليه هو محدث وأين ينتهي تسلسل المحدثات في الوجود ليبدأ الوجود الأصيل أو الأصل. وأين كان الوجود الأصل؟.
إن أمامنا ثلاث فرضيات لا يوجد سواها للاستدلال على حقيقة الأصل إذا كنا نقصد بالأصل العناصر المادية في المحدثات أو المادة.
الاحتمال الأول: العدم سبق المادة ثمَّ انبثقت منه، فظهرت المادة ولم تكن موجودة قبل ذلك.
الاحتمال الثاني: إن المادة لم تكن، ثمَّ صنعها الصانع من لا شيء.
الاحتمال الثالث: إن المادة موجودة أزلاً ولا بداية لوجودها كما أنه لا نهاية لوجودها. فهي أزلية أبدية.
الاحتمال الأول: غير ممكن لأن ما لا وجود لـه لا يمكن أن يوجد. فكيف إذا كان العدم موجده. وهل يستطيع العدم أن يوجد نفسه ليوجد غيره. فلو سبق العدم والخلاء الوجود لما كان ثمَّة وجود، وما لم يكن أزلاً لن يكون، ولن يتكون. إذاً المادة قديمة وأزلية، والخلاء موجود أو العدم خارج حدود الوجود. والعقل يدلّنا بداهة بأن الوجود لا يصبح عدماً، وإن كل خبرات العلماء لا تستطيع أن تحول ذرة واحدة من ذرات الوجود إلى عدم، كما أنهم لا يستطيعون إيجاد ذرة واحدة من عدم. فما هو موجود في الأزل سيبقى موجوداً في الأبد، وما هو عدم في الأزل سيظل عدماً في الأبد.
الاحتمال الثاني: لا يصح لأن الإيجاد من العدم هو إيجاد مما لا وجود لـه فهل يصح الإيجاد مما لا وجود له؟. وهذا يحيلنا إلى حوار الفلاسفة الذين طرحوا السؤال هل الفكر سبق المادة أم المادة سبقت الفكر، أو أيهما سبق الآخر في الوجود البيضة أم الدجاجة. وظل الفلاسفة في أخذ ورد إلى وقتنا الحاضر بين المثاليين الذين بدا لهم أن الفكر أو الصانع هو الذي أوجد المادة، بينما ردّ الماديون بأن المادة سبقت الفكر وإن الفكر انبثق منها. فجعلوا المادة صانعة للعقل وصانعة للإنسان. وقد أخطأ هؤلاء وهؤلاء. وإذا كانت البداهة تدلّنا بأن الفكر هو أثر من آثار المادة فهذا لا يعني السبق في الوجود. إذ المادة والفكر متلازمان ولا يمكن لأحدهما أن يسبق الآخر، ولكن كما نعرف من حالتنا الإنسانية، ومن مراقبتنا لعالم الكائنات الحيّة كلها، ندرك بأن العقل هو الذي يحكم المادة، ويتحكّم بها. فعقلنا هو الذي يحكم أجسامنا ويتحكّم في تصرفاتنا، وهذا العقل كان كامناً منذ اللحظة الأولى في خليتنا الأولى، بل قبل ذلك. كما هو شأن حواسنا والباقي من أعضائنا. كما إن لمادة الجسد برنامجها الخاص الذي لا دور للعقل في السيطرة عليه أو التأثير فيه، فنبضات القلب وعمل أعضاء الجسم أثناء اليقظة والنوم ليس للعقل أي دور فيه أو سلطة عليه. إن العقل يقوم بدور المرشد والمسيطر على تصرفات الجسد ويرد على رسائل الغرائز ولكنه لا يملك التأثير إلا نسبياً في برنامج عمل الأعضاء. وهكذا يتبين أن المادة والعقل يتعاونان منذ اللحظة الأولى في وجود كل كائن حي. وسوف نبين دور العقل والغرائز أو المادة الجسدية في كل مرحلة في فصل خاص بالموضوع. ولكن ما نعرفه هو، أن المادة لم تخلق العقل، بمعنى أنها سابقة لـه في الوجود، إذ لا يمكن مشاهدة البيضة خالية من روح الدجاجة، ولا البذرة خالية من برنامج الشجرة وروحها، إذ هما متلازمان. كما لا يمكن رؤية الكون منفصلاً عن عقل المكوِّن. إذ كيف ستنشأ علاقة بين مادة ميتة وخالق لا علاقة لـه في الأصل بهذه المادة. وكيف سيكون بالإمكان صنع ما لا وجود لـه من عدم. والعدم لا وجود، فهل يمكن إيجاد الوجود من العدم. ما الذي نتوصل إليه من هذا البحث. هل الصانع هو المادة؟ إننا نطرح هذا السؤال لكي لا يضيع الباحث عن الحقيقة وراء أوهام صنعتها الفلسفات، وأحياناً المعتقدات. فالموجودات أزلاً هي مادة وطاقة، مادة وعقل لا ينفصلان ولم يسبق أحدهما الآخر في الوجود، لأنهما عبارة عن وجهين لحقيقة واحدة، وهي حقيقة العالم. وإن حقيقة المادة الكلية في الوجود تقتضي بالمقابل وجود عقل كلّي كوني على موازاتها للتحكّم بها، وإيجاد ما نراه، وهذا لا يتناقض مع وجود الكائنات. فالإنسان لـه حواس ولكل ذرة في جسمه عقلها الخاص بها الذي ترسل من خلاله الرسائل إلى العقل عندما تتألم أو تشتكي أو يجوع الجسم أو تتأثر العين أو الأذن، ومع ذلك العقول الجزئية لا تحول دون وجود العقل الإنساني المستقل بوجوده، والمتعالي بحقيقته على الجسد بما يملكه من خبرة ومعرفة وتقدير لمصلحة الجسد، وإن كان العقل في جسد الإنسان ويسير معه حيث سار. إنها صفاتنا المتعددة التي نحملها في طيّات نوعنا الواحد الملقب بالإنسان. إنه التنوع في الحقيقة الواحدة. هذا التنوع قد يوهم بالتعدد، نتيجة للحيرة التي يثيرها إبداع العقل في الكون، مع أن حقيقة المادة والروح والعقل مترابطان. وبما أن المادة لا تزيد ولا تنقص نظرياً لأنها لا تفني ولا يستطيع العدم أن يضيف إليها شيئاً، فإن من الطبيعي أن يكون العقل الكوني غير قابل للزيادة والنقصان. وبما أنهما أزليان فسيكونان بحكم النتيجة أبديين، لا نهاية لهما. وهكذا نستطيع أن نستنتج بأن الاحتمال الثالث الذي توصلنا إليه هو الصحيح.
تعليق