أحمد عثمان
اختفت أول حضارة أوروبية في ظروف غامضة منذ حوالي 3 آلاف و650 سنة، وحتى الآن لا يعرف أحد أسباب انهيارها المفاجئ. ولكن في برنامج قدمه تلفزيون البي بي سي البريطاني يوم 2 اغسطس (آب) الماضي، كشف الباحثون أن ثوران بركان سانتوريني تسبب في القضاء على الحضارة المينية اولى الحضارات التي ظهرت في اوروبا. وسانتوريني جزيرة بركانية صغيرة في جنوب بحر إيجه، على بعد بضعة كيلومترات شمال كنوسوس عاصمة المملكة المينية القديمة بشمال جزيرة كريت. وتبين ان حمم بركان سانتوريني تسببت في اغلاق ميناء كنوسوس وتجارته، مما ادى في النهاية الى سقوط المملكة المينية وانتهاء حضارتها.
ظهرت أول حضارة أوروبية في جزيرة كريت منذ حوالي أربعة آلاف سنة، وعرفت باسم الحضارة المينية. وبحسب ما جاء في الأساطير اليونانية، ترجع تسمية الحضارة المينية الى اسم مينيون الذي كان يحكم مملكة كريت في ذلك الوقت. وتمكن الملك مينيون من مد نفوذه التجاري والثقافي الى الممالك اليونانية في جزر بحر ايجه، بسبب امتلاكه اسطولاً بحرياً كبيراً فتأثرت بلاد اليونان كلها بالحضارة المينية. وعثر رجال الآثار على بقايا مدينة كنوسوس عاصمة المملكة المينية، مدفونة تحت تل بجزيرة كريت في اوائل القرن العشرين، كما كشف عن قصر الملك مينيون وبداخله مبنى التيه «لابيرنث» الذي تحدثت عنه الأساطير. وكانت الأساطير اليونانية القديمة قد تحدثت عن ملك يسمى مينيون حكم كريت في الأزمنة السابقة على الحضارة الهلنستية، الذي كلف مهندسه ديدليوس بتصميم مبنى التيه في عاصمته كنوسوس، ليحفظ به كائناً أسطورياً اسمه مينوتاور له نصف بشر ونصف ثور.
مدن اليونان لم تكن بلاد اليونان في بداية تاريخها تمثل شعباً متحداً له حكومة واحدة وعاصمة مركزية، وانما اقواماً متفرقة منقسمة الى وحدات عدة وممالك مختلفة ـ مثل ثياليا وبيوتيا وفوسيس وأركاديا ـ وان اتفقت كلها في اللغة والعادات والاعتقادات الدينية. ولم يكن اسم «اليونان» هو الاسم الذي اختارته هذه الأقوام لنفسها، وانما عرفوا في ذلك الزمان باسم الهيلينيين، وكان الرومان هم الذين أطقوا عليهم اسم «غريسيا» بعد ذلك.
والى جانب أرض اليونان الحالية كان الهيلينيون يعيشون في جزيرة صقلية وسواحل آسيا الصغرى. وأقدم من تحدث عن الهيلينيين وتاريخهم الشاعر المعروف هوميروس.
وحسب الكتابات القديمة فان الهيلينيين لهم ثلاثة أصول قبلية مختلفة: الدوريون بجنوب آسيا الصغرى ووسط بلاد اليونان، والإليان الذين انتشروا في أماكن متفرقة في اليونان وشمال آسيا الصغرى، واليونان الذين كانوا في الشمال. وكان هيرودوتوس أول من سجل احداثاً ذات طبيعة تاريخية عن اليونان وبلادهم. وقد ولد هيرودوتوس ـ الذي أصبح يعرف باسم «أب التاريخ» ـ في هاليكارناسوس في الجزء الأول من القرن الخامس السابق للميلاد، وتعتبر كتاباته أقدم أعمال وصلتنا نثراً، تحتوي على اول تسجيل لتاريخ الحضارة الغربية.
ترك هيرودوتوس مقر مولده في جنوب غربي آسيا الصغرى أيام الحكم الفارسي، وظل في حالة من الترحلال الدائم طوال حياته زار خلالها معظم بلدان الامبراطورية الفارسية في الجنوب حتى مدينة اسوان بجنوب مصر والشرق حتى بابل والشمال حتى البحر الأسود، ثم استقر به المقام في أثينا التي يعتقد انه مات بها سنة 430 ق.م. هيرودوتوس هذا كتب عن الحروب التي نشبت بين الفرس واليونان في بداية القرن الخامس ق.م، كما سجل من أحداث التاريخ القديم لبلاد اليونان ما تعلمه عن طريق الروايات التي كانت سائدة في عصره، لكنه لم يتجاوز وقائع القرن السادس ق.م في ما رواه.
وكما سلفت الاشارة لم يعرف اليونانيون بلادهم باسم اليونان الذي أطلقه عليهم العرب، ولا باسم الاغريق الذي سماهم به الرومان. ففي الأزمنة الهومرية كانوا يعرفون باسم الأرخبيين والآجيين، وفي العصر الكلاسيكي كان انتماؤهم الى مدنهم، فكانوا يقولون عن أنفسهم «الأثينيون» او «الإسبرطيون» او «الارغوسيون»، إذ انهم في جميع عصورهم القديمة لم يتحدوا أبداً في دولة سياسية واحدة. وبالرغم من معرفتهم لفنون الزراعة منذ حوالي 7 آلاف سنة ق.م، فان أول حضارة يونانية ـ وهي الحضارة المينية في كريت التي ظهرت منذ أربعة آلاف سنة ـ اختفت بعد ذلك بثلاثة قرون ونصف قرن. ثم ظهرت الحضارة الميسينية نسبة الى مدينة ميسيني (مايسيني) المحصنة جنوب غربي اثينا. وكانت منطقة الحضارة الميسينية التي تضمنت عدة ممالك صغيرة، تشمل أرض اليونان الحالية والجزر المنتشرة في بحر ايجه عدا جزيرة كريت. وبالرغم من الطبيعة الجبلية والقرب من البحر، كانت الزراعة هي المهنة الرئيسية في بلاد اليونان منذ القدم تعتمد على مياه الأمطار والعيون، وعلى هذا فان الجماعات السكانية كانت غير كثيفة موزعة بين الوديان الصالحة للزراعة، برغم انعدام وجود سلطة سياسية مركزية واحدة. وقد كشفت الأدلة الأثرية عن وجود نوع موحد من الثقافة والحضارة في بلدان الميسين خلال القرن الثالث عشر ق.م، حيث انتشرت نفس انواع الفخار والحلي والملابس والسلاح والطراز المعماري وطرق الدفن، إلا ان الحضارة الميسينية تعرضت هي الأخرى لكارثة كبيرة بعد حوالي أربعة قرون ونصف قرن في القرن 12 ق.م أدت الى اختفائها تماماً من الوجود، وجاءت فترة أطلق عليها اسم «عصور الظلام» طالت لعدة قرون، ولم تبدأ الحضارة الهيلينية الكلاسيكية إلا منذ القرن الثامن ق.م.
فبعدما قضى الميسينيون بالقضاء على مدينة طروادة على الساحل الغربي لآسيا الصغرى خلال القرن 13 ق.م، حلت ببلادهم كوارث عظيمة أدت في النهاية الى القضاء كلية على دولة الحيثيين (الحثيين) في آسيا الصغرى واختفاء حضارة الميسينيين تماماً من اليونان منذ حوالي 3200 سنة. وبينما عثر الاثريون على بقايا من الفخار الميسيني في المنطقة الساحلية للأناضول وبعض المواقع في كنعان، أكدت أدلة التنقيب حدوث كارثة في بلاد الأناضول حوالي عام 1200 ق.م، حيث جرى تحطيم غالبية المدن ثم حرقها، والقضاء تماماً على سكانها.
ولهذا فنحن نرى في المرحلة التالية أقواماً تختلف في ثقافتها وعاداتها عن الأقوام الحيثية السابقة، يستخدمون الخيل. ومن الواضح ان السكان الجدد هاجروا من موطنهم الأصلي في اليونان في نفس تلك الفترة، وجاءوا الى هنا، وبينما سماهم الشاعر الاغريقي هوميروس «فريغانز» في الأوديسة فان الآشوريين أطلقوا عليهم اسم «موشكي».
ولهذا فان بداية القرن الثاني عشر تمثل بداية لعصر تاريخي جديد، ليس فقط في بلاد الأناضول وانما في بلدان بحر إيجه كذلك، استمرت حوالي ثلاثة قرون هي «عصور الظلام» التي لم تنتج سوى أشكال بدائية من الثقافة والفن.
ولكن بعد «عصور الظلام» الطويلة بدأت شمس المعرفة والحضارة اليونانية تستطع من جديد، عندما وصلت اليها مراكب تجار فينيقيا.
تجار فينيقيا خلال «عصور الظلام» حدث انقطاع في الاتصال التجاري بين بلاد اليونان والشرق، دام حتى نهاية القرن التاسع ق.م، عندما اتصلت اليونان بشرق البحر المتوسط ثقافياً في البداية ثم سياسياً بعد ذلك، وازداد هذا الاتصال تدريجياً الى ان بدأ الاسكندر الأكبر زحفه الى الشرق بعد ذلك بخمسة قرون. ومن يطل على نتائج الحفريات الأثرية لا بد ان يقر بأن التجار الفينيقيين ـ وليس المهاجرين الأوروبيين ـ كانوا هم اصحاب الفضل في حمل شعلة الحضارة الى بلاد اليونان التي أدت الى تلاشي «عصور الظلام»، عن طريق نقل نماذج الفنون الشرقية اليها. فقد كانت الحياة الثقافية في بلاد اليونان خلال هذه العصور تمثل مستوى بدائياً من الحضارة، ولم تكن هناك من الفنون سوى الخطوط الهندسية على الأواني الفخارية. وما كان لديهم أي نوع من الآداب او العلوم او الفلسفة. أما أول ما عرفته الحضارة اليونانية الهيلينية من انواع الفنون فهي اعمال العاج والذهب، إذ عثر الاثريون على مئات القطع العاجية في مختلف مناطق اليونان، التي ظهرت في القرنين الثامن والسابع ق.م وفيها اولى محاولات رسم الانسان والحيوان والنبات، وهي تعتبر بمثابة الميلاد الأول للحضارة الهيلينية. وقد وجدت هذه الأعمال على شكل امشاط ومرايا وصناديق للتواليت وتماثيل كما وجدت آلة موسيقية للهارب، واعتقد الباحثون انهم عثروا أخيراً على ما يثبت بداية فن مستقل في بلاد اليونان، الى ان جاءت المفاجأة عندما وجدوا مجموعتين من نفس هذه الأعمال الفنية، مدفونتين في شمال ارض الرافدين داخل عدد من قصور ملوك آشور، عند موقع مدينة نمرود القديمة بالقرب من الموصل بشمال العراق. الأولى وجدها لايارد عام 1847 في القصر القائم في الشمال الغربي من الموقع، الذي استخدمه سرجون كمخزن، وهنا وجدت مجموعة كبيرة من الأعمال العاجية داخل هذا القصر ذات صبغة فينيقية، اهمها يمثل عرشاً ملكياً استولى عليه سرجون من فينيقيا عند اخضاعها. والثانية عثر عليها لوفتوس عام 1854 في القصر القائم في الجنوب الشرقي لموقع نمرود، وهي تختلف سواء في مواضيعها او في طرازها عن المجموعة الأولى، ويمثل غالبها صناديق مستديرة للدهانات ومراوح ومنشآت لها أيد محفورة، ورؤوساً لنساء عاريات، وهذه الأعمال تنتمي الى شمال سورية. وعند مقارنة الملامح الرئيسية لهذه الأعمال مع العاجيات التي عثر عليها في اليونان، تبين بوضوح التشابه الكبير القائم بينها وبين المدارس الشرقية. كذلك عثر على كميات كبيرة من البقايا الفينيقية في جزيرتي رودس وقبرص، وفي مدينة ساموس بجزيرة قبرص، تعود الى 700 ق.م. وعثر عام 1891 على مقبرة في منطقة ديبليون بأثينا فيها مجموعة من خمس قطع عاجية تمثل أشكالاً لنساء عاريات، وتنتمي هذه الأعمال العاجية الى مدرستين مختلفتين، احداهما من شمال سورية وهي تحاكي الفنون الحورية والأرمينية والثانية فينيقية تحاكي الفنون المصرية.
اختفت أول حضارة أوروبية في ظروف غامضة منذ حوالي 3 آلاف و650 سنة، وحتى الآن لا يعرف أحد أسباب انهيارها المفاجئ. ولكن في برنامج قدمه تلفزيون البي بي سي البريطاني يوم 2 اغسطس (آب) الماضي، كشف الباحثون أن ثوران بركان سانتوريني تسبب في القضاء على الحضارة المينية اولى الحضارات التي ظهرت في اوروبا. وسانتوريني جزيرة بركانية صغيرة في جنوب بحر إيجه، على بعد بضعة كيلومترات شمال كنوسوس عاصمة المملكة المينية القديمة بشمال جزيرة كريت. وتبين ان حمم بركان سانتوريني تسببت في اغلاق ميناء كنوسوس وتجارته، مما ادى في النهاية الى سقوط المملكة المينية وانتهاء حضارتها.
ظهرت أول حضارة أوروبية في جزيرة كريت منذ حوالي أربعة آلاف سنة، وعرفت باسم الحضارة المينية. وبحسب ما جاء في الأساطير اليونانية، ترجع تسمية الحضارة المينية الى اسم مينيون الذي كان يحكم مملكة كريت في ذلك الوقت. وتمكن الملك مينيون من مد نفوذه التجاري والثقافي الى الممالك اليونانية في جزر بحر ايجه، بسبب امتلاكه اسطولاً بحرياً كبيراً فتأثرت بلاد اليونان كلها بالحضارة المينية. وعثر رجال الآثار على بقايا مدينة كنوسوس عاصمة المملكة المينية، مدفونة تحت تل بجزيرة كريت في اوائل القرن العشرين، كما كشف عن قصر الملك مينيون وبداخله مبنى التيه «لابيرنث» الذي تحدثت عنه الأساطير. وكانت الأساطير اليونانية القديمة قد تحدثت عن ملك يسمى مينيون حكم كريت في الأزمنة السابقة على الحضارة الهلنستية، الذي كلف مهندسه ديدليوس بتصميم مبنى التيه في عاصمته كنوسوس، ليحفظ به كائناً أسطورياً اسمه مينوتاور له نصف بشر ونصف ثور.
مدن اليونان لم تكن بلاد اليونان في بداية تاريخها تمثل شعباً متحداً له حكومة واحدة وعاصمة مركزية، وانما اقواماً متفرقة منقسمة الى وحدات عدة وممالك مختلفة ـ مثل ثياليا وبيوتيا وفوسيس وأركاديا ـ وان اتفقت كلها في اللغة والعادات والاعتقادات الدينية. ولم يكن اسم «اليونان» هو الاسم الذي اختارته هذه الأقوام لنفسها، وانما عرفوا في ذلك الزمان باسم الهيلينيين، وكان الرومان هم الذين أطقوا عليهم اسم «غريسيا» بعد ذلك.
والى جانب أرض اليونان الحالية كان الهيلينيون يعيشون في جزيرة صقلية وسواحل آسيا الصغرى. وأقدم من تحدث عن الهيلينيين وتاريخهم الشاعر المعروف هوميروس.
وحسب الكتابات القديمة فان الهيلينيين لهم ثلاثة أصول قبلية مختلفة: الدوريون بجنوب آسيا الصغرى ووسط بلاد اليونان، والإليان الذين انتشروا في أماكن متفرقة في اليونان وشمال آسيا الصغرى، واليونان الذين كانوا في الشمال. وكان هيرودوتوس أول من سجل احداثاً ذات طبيعة تاريخية عن اليونان وبلادهم. وقد ولد هيرودوتوس ـ الذي أصبح يعرف باسم «أب التاريخ» ـ في هاليكارناسوس في الجزء الأول من القرن الخامس السابق للميلاد، وتعتبر كتاباته أقدم أعمال وصلتنا نثراً، تحتوي على اول تسجيل لتاريخ الحضارة الغربية.
ترك هيرودوتوس مقر مولده في جنوب غربي آسيا الصغرى أيام الحكم الفارسي، وظل في حالة من الترحلال الدائم طوال حياته زار خلالها معظم بلدان الامبراطورية الفارسية في الجنوب حتى مدينة اسوان بجنوب مصر والشرق حتى بابل والشمال حتى البحر الأسود، ثم استقر به المقام في أثينا التي يعتقد انه مات بها سنة 430 ق.م. هيرودوتوس هذا كتب عن الحروب التي نشبت بين الفرس واليونان في بداية القرن الخامس ق.م، كما سجل من أحداث التاريخ القديم لبلاد اليونان ما تعلمه عن طريق الروايات التي كانت سائدة في عصره، لكنه لم يتجاوز وقائع القرن السادس ق.م في ما رواه.
وكما سلفت الاشارة لم يعرف اليونانيون بلادهم باسم اليونان الذي أطلقه عليهم العرب، ولا باسم الاغريق الذي سماهم به الرومان. ففي الأزمنة الهومرية كانوا يعرفون باسم الأرخبيين والآجيين، وفي العصر الكلاسيكي كان انتماؤهم الى مدنهم، فكانوا يقولون عن أنفسهم «الأثينيون» او «الإسبرطيون» او «الارغوسيون»، إذ انهم في جميع عصورهم القديمة لم يتحدوا أبداً في دولة سياسية واحدة. وبالرغم من معرفتهم لفنون الزراعة منذ حوالي 7 آلاف سنة ق.م، فان أول حضارة يونانية ـ وهي الحضارة المينية في كريت التي ظهرت منذ أربعة آلاف سنة ـ اختفت بعد ذلك بثلاثة قرون ونصف قرن. ثم ظهرت الحضارة الميسينية نسبة الى مدينة ميسيني (مايسيني) المحصنة جنوب غربي اثينا. وكانت منطقة الحضارة الميسينية التي تضمنت عدة ممالك صغيرة، تشمل أرض اليونان الحالية والجزر المنتشرة في بحر ايجه عدا جزيرة كريت. وبالرغم من الطبيعة الجبلية والقرب من البحر، كانت الزراعة هي المهنة الرئيسية في بلاد اليونان منذ القدم تعتمد على مياه الأمطار والعيون، وعلى هذا فان الجماعات السكانية كانت غير كثيفة موزعة بين الوديان الصالحة للزراعة، برغم انعدام وجود سلطة سياسية مركزية واحدة. وقد كشفت الأدلة الأثرية عن وجود نوع موحد من الثقافة والحضارة في بلدان الميسين خلال القرن الثالث عشر ق.م، حيث انتشرت نفس انواع الفخار والحلي والملابس والسلاح والطراز المعماري وطرق الدفن، إلا ان الحضارة الميسينية تعرضت هي الأخرى لكارثة كبيرة بعد حوالي أربعة قرون ونصف قرن في القرن 12 ق.م أدت الى اختفائها تماماً من الوجود، وجاءت فترة أطلق عليها اسم «عصور الظلام» طالت لعدة قرون، ولم تبدأ الحضارة الهيلينية الكلاسيكية إلا منذ القرن الثامن ق.م.
فبعدما قضى الميسينيون بالقضاء على مدينة طروادة على الساحل الغربي لآسيا الصغرى خلال القرن 13 ق.م، حلت ببلادهم كوارث عظيمة أدت في النهاية الى القضاء كلية على دولة الحيثيين (الحثيين) في آسيا الصغرى واختفاء حضارة الميسينيين تماماً من اليونان منذ حوالي 3200 سنة. وبينما عثر الاثريون على بقايا من الفخار الميسيني في المنطقة الساحلية للأناضول وبعض المواقع في كنعان، أكدت أدلة التنقيب حدوث كارثة في بلاد الأناضول حوالي عام 1200 ق.م، حيث جرى تحطيم غالبية المدن ثم حرقها، والقضاء تماماً على سكانها.
ولهذا فنحن نرى في المرحلة التالية أقواماً تختلف في ثقافتها وعاداتها عن الأقوام الحيثية السابقة، يستخدمون الخيل. ومن الواضح ان السكان الجدد هاجروا من موطنهم الأصلي في اليونان في نفس تلك الفترة، وجاءوا الى هنا، وبينما سماهم الشاعر الاغريقي هوميروس «فريغانز» في الأوديسة فان الآشوريين أطلقوا عليهم اسم «موشكي».
ولهذا فان بداية القرن الثاني عشر تمثل بداية لعصر تاريخي جديد، ليس فقط في بلاد الأناضول وانما في بلدان بحر إيجه كذلك، استمرت حوالي ثلاثة قرون هي «عصور الظلام» التي لم تنتج سوى أشكال بدائية من الثقافة والفن.
ولكن بعد «عصور الظلام» الطويلة بدأت شمس المعرفة والحضارة اليونانية تستطع من جديد، عندما وصلت اليها مراكب تجار فينيقيا.
تجار فينيقيا خلال «عصور الظلام» حدث انقطاع في الاتصال التجاري بين بلاد اليونان والشرق، دام حتى نهاية القرن التاسع ق.م، عندما اتصلت اليونان بشرق البحر المتوسط ثقافياً في البداية ثم سياسياً بعد ذلك، وازداد هذا الاتصال تدريجياً الى ان بدأ الاسكندر الأكبر زحفه الى الشرق بعد ذلك بخمسة قرون. ومن يطل على نتائج الحفريات الأثرية لا بد ان يقر بأن التجار الفينيقيين ـ وليس المهاجرين الأوروبيين ـ كانوا هم اصحاب الفضل في حمل شعلة الحضارة الى بلاد اليونان التي أدت الى تلاشي «عصور الظلام»، عن طريق نقل نماذج الفنون الشرقية اليها. فقد كانت الحياة الثقافية في بلاد اليونان خلال هذه العصور تمثل مستوى بدائياً من الحضارة، ولم تكن هناك من الفنون سوى الخطوط الهندسية على الأواني الفخارية. وما كان لديهم أي نوع من الآداب او العلوم او الفلسفة. أما أول ما عرفته الحضارة اليونانية الهيلينية من انواع الفنون فهي اعمال العاج والذهب، إذ عثر الاثريون على مئات القطع العاجية في مختلف مناطق اليونان، التي ظهرت في القرنين الثامن والسابع ق.م وفيها اولى محاولات رسم الانسان والحيوان والنبات، وهي تعتبر بمثابة الميلاد الأول للحضارة الهيلينية. وقد وجدت هذه الأعمال على شكل امشاط ومرايا وصناديق للتواليت وتماثيل كما وجدت آلة موسيقية للهارب، واعتقد الباحثون انهم عثروا أخيراً على ما يثبت بداية فن مستقل في بلاد اليونان، الى ان جاءت المفاجأة عندما وجدوا مجموعتين من نفس هذه الأعمال الفنية، مدفونتين في شمال ارض الرافدين داخل عدد من قصور ملوك آشور، عند موقع مدينة نمرود القديمة بالقرب من الموصل بشمال العراق. الأولى وجدها لايارد عام 1847 في القصر القائم في الشمال الغربي من الموقع، الذي استخدمه سرجون كمخزن، وهنا وجدت مجموعة كبيرة من الأعمال العاجية داخل هذا القصر ذات صبغة فينيقية، اهمها يمثل عرشاً ملكياً استولى عليه سرجون من فينيقيا عند اخضاعها. والثانية عثر عليها لوفتوس عام 1854 في القصر القائم في الجنوب الشرقي لموقع نمرود، وهي تختلف سواء في مواضيعها او في طرازها عن المجموعة الأولى، ويمثل غالبها صناديق مستديرة للدهانات ومراوح ومنشآت لها أيد محفورة، ورؤوساً لنساء عاريات، وهذه الأعمال تنتمي الى شمال سورية. وعند مقارنة الملامح الرئيسية لهذه الأعمال مع العاجيات التي عثر عليها في اليونان، تبين بوضوح التشابه الكبير القائم بينها وبين المدارس الشرقية. كذلك عثر على كميات كبيرة من البقايا الفينيقية في جزيرتي رودس وقبرص، وفي مدينة ساموس بجزيرة قبرص، تعود الى 700 ق.م. وعثر عام 1891 على مقبرة في منطقة ديبليون بأثينا فيها مجموعة من خمس قطع عاجية تمثل أشكالاً لنساء عاريات، وتنتمي هذه الأعمال العاجية الى مدرستين مختلفتين، احداهما من شمال سورية وهي تحاكي الفنون الحورية والأرمينية والثانية فينيقية تحاكي الفنون المصرية.
تعليق