أن ذي القرنين المذكور في القرآن ليس هو الاسكندر المقدوني اليوناني الذي بنى الإسكندرية ، لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول كان عبداً مؤمناً صالحا وملكاً عادلاً ... ، وأما الثاني فكان مشركا وكان وزيره فيلسوفا وقد كان بين زمانهما أزيد من ألفي سنة فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور .
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1/493) :
(عن قتادة قال : اسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام .فأما ذو القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس ... بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ، المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل ، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
اما قصة الاسكندر المقدوني فهي كالتالي..
كان الإسكندر يتسكع في عامه السادس عشر فإذا بعاصفة حمقاء تجتاح قصر والده فيليب ملك مقدونيا وتخنق الضحكة في الأشداق . طلق فيليب أولمبيا أم الإسكندر وتزوج بأخرى ، أما السيدة العنيدة فقد ردت الصاع صاعين وأخبرت ابنها الصغير وهى ترحل إلى بلدها النائي ايبروس بسر رهيب .. إنه ليس ابن فيليب ولكنه في الحقيقة ابن زيوس ساكن معبد دلفي وكبير آلهة الإغريق . لن نسخر من حيرة الإسكندر طالما نحن في العام 339 قبل الميلاد حين تتعايش الحقائق والأساطير في انسجام مشهود .. فر الإسكندر من بيلا عاصمة مقدونيا لاحقا بأمه عقب شجار دموي مع فيليب كاد يفقده حياته . تصالح فيليب مع ولى عهده بعد ثلاث سنوات ، ولكن الفتى الغاضب دس السم لأبيه ، وأصبح ملكا على مقدونيا في العشرين من عمره ، أما القادة الذين أبدوا شكوكهم ، فقد لحقوا على الفور بسيدهم المسجى بلا حراك .
اجتمع حكام المدن الإغريقية في كورنتا ، واختاروا الإسكندر سيدا لبلاد الإغريق ، وقائدا للحملة التي أعدوها للانتقام من أعدائهم الفرس الذين غزوا بلادهم في العام 480 ق م تحت قيادة أجرجوس . ذهب الإسكندر لتأديب بعض برابرة الشمال ، فطالت غيبته و انتشرت الشائعات حول موته ، وهكذا عمت الفرحة بلاد اليونان لخلاصها من الصبي الطاغية . أما مدينة طيبة فلم تجد ما تعبر به عن فرحتها بأقل من ذبح الحامية المقدونية التي تركها الإسكندر عن بكرة أبيها . لم يقدر لهذه الفرحة أن تستمر طويلا ، لقد عاد الإسكندر كالزلزال ليدمر طيبة ويقتل ستة آلاف من رجالها في يوم واحد . كانت المجزرة المرعبة كافية لكي يتصاعد الهتاف من جديد بحياة الإسكندر العظيم في كل المدن الإغريقية ، كدليل جديد على عشق الشعوب لجلاديها !.
في العام 334 ق م عبر الإسكندر مضيق الدردنيل على رأس 60 ألف من الإغريق منهم 10 ألف فارس مفتتحا أول حملة من نوعها في التاريخ القديم ، وخلال السنوات التالية وحتى وفاته في23 يونيو 323 ق م ظل الإسكندر على رأس جيشه في حروب مستمرة قادته إلى كل مدن العالم عدا موطـنه الذي لم يقدر له أن يراه بعد ذلك أبدا .
في البداية دفع داريوس عاهل الفرس المرتزقة اليونانيين بقيادة ممنن لمواجهة الإسكندر . قاتل اليونانيون مواطنيهم ببسالة نادرة ، ولكن الإسكندر شتتهم في معارك متتالية . وعندما توفي ممنن البارع ، تقدم داريوس على رأس حشد كبير من القوات بينهم 40 ألف من الفرسان لمواجهة الإغريق في معركة كرانيكوس ، ولكنه فر هاربا عندما فوجىء بالصبى الجسور أمامه بزيه الأحمر الشهير رافعا سيفه . انتصر الإسكندر ولكنه فاجأ الجميع وهو يعامل أسرة داريوس بكرم بالغ ، بل ويدعو نبلاء الفرس للانضمام إلى قواته رفاقا كراما.
لقد تغير الإسكندر كثيرا ، أخبره أرسطو أن الشرقيين برابرة لا يصلحون إلا عبيدا للإغريق ، ولكنه ينبهر الآن بحضارة الشرق ، ويرى قومه على حقيقتهم مجموعة من البرابرة سعيدي الطالع ، لأنهم يقاتلون إمبراطورية عظمى في سنوات أفولها . لقد كان الإسكندر مدمنا للقراءة ، وقادته الكتب إلى سيرة قورش الأكبر مؤسس الإمبراطورية الاخيمينية في فارس ، فأصبح مثله الأعلى على الفور ، لقد تعلم منه كيف يكون الرجل أكبر من النصر ، وأرفع عن الكراهية ، وأنبل من الانتقام .
في نوفمبر 332 ق م يدخل الإسكندر إلى مصر فيعيد إليها استقلالها ، ويؤسس بها أكبر المدن التي تحمل اسمه إلى الآن ، وأخيرا يعلن نفسه ابنا للإله المصري آمون متخليا عن أبيه الإلهي السابق زيوس !. عقب دخوله مصرا أصبح الإسكندر أسيرا لحلم واحد نبيل .. الأخوة البشرية .. توحيد الشرق والغرب.. قرية بشرية كبرى تجمع الإغريق والفرس والمصريين والهنود .. خرج الإسكندر من مصر فاستكمل فتح فارس وأفغانستان ومختلف الشعوب الشرقية . حقق الإسكندر واحدة من أعظم انتصاراته على أهل طشقند ، ولكن بدلا من إذلالهم جعلهم حلفائه وتزوج من روكسان ابنة الحاكم . وأخيرا دخل الهند على رأس 120.000 من رجاله حتى وصل إلى البنجاب ، وكعادته أحال الإسكندر نصره إلى تحالف جديد ولكن هذه المرة مع الراجا بوروس . نقل الإسكندر عاصمته إلى شوشه في إقليم الديلم الفارسى ، واتخذ بلاطا شرقيا ، وأصبح جيشه مزيجا من الإغريق والفرس ، ولكنه ظل طاغية عندما يثيره أحد ، وهكذا أعدم كبار قادته بارمينيو ، كلايتوس واخيرا صديقه كاليستينس ثم راح يبكيهم جميعا . اندفع الإسكندر في محاولته دمج الفرس واليونان في عنصر واحد ، فأقام أكبر عرس عرفه التاريخ عندما أمر عشرة الآف من جنوده بالاقتران بفارسيات ، بينما تزوج هو من بارسين ابنة داريوس . حاول الجنود المكدونيون الثورة ضد الإسكندر ، فذبح قادتهم ، وأمر بعودة جنوده القدامى إلى بلادهم ، وأصبح جيشه فارسيا في أغلبيته .
قاتل الإسكندر على رأس قواته لاثنتي عشرة سنة متصلة بلا هزيمة واحدة . استخدم الإسكندر مختلف أنواع التكتيكات بمرونة نادرة ، فلم يكرر نفسه قط ، اكتشف العبقري الصغير أن لكل معركة طبيعتها الخاصة وأنك لا تصطاد الفيل كما تقتنص الثعلب . لم يجعل الإسكندر نفسه عبدا لتكتيك بعينه ولكنه جعل كل التكتيكات عبيدا له يطلبها عند الحاجة . هاجم الإسكندر ودافع ، اقتحم بالمواجهة والتف حول خصمه ، قاتل نهارا قاتل ليلا ، استخدم الرماح الطويلة في الأرض المفتوحة ، والسيوف القصيرة في الغابات الوعرة ، وكان النصر رفيقه الدائم .
إذا حاولنا أن نبحث عن مفتاح واحد لانتصارات الإسكندر- عدا الإسكندر نفسه - لوجدنا الإمداد.. نعم الإمداد ، كان المقاتل الفارسي يسحب خلفه عشرة رجال لخدمته فيكبلون أقدامه أما الإسكندر فلم يصحب سوى رجل واحد خلف كل عشرة من مقاتليه ، فانطلق بهم حيثما يريد . لم يحمل الإسكندر احتياجاته معه ، ولكن ترك هذه المهمة الثقيلة لأعدائه . إنه ينتظر أوان الحصاد ، فيهاجم قبل أن توضع الغلال في المخازن ، وهكذا يجد كل ما يحتاجه . إنه أستاذ أيضا في تكتيكات اللصوص العتاة ، ولن نعجب كثيرا ، فإن الذي يعلم شيئا عن هذه الحياة يدرك أن الفتوحات الكبرى تمر بكل الدروب !!..
لم يكن الإسكندر مجرد صبى وسيم أشقر ..قصير القامة .. قوى البنية .. دموي المزاج ..بالغ الشجاعة ..شغوف باللهو . ولكنه أيضا مثقف محب للمعرفة ، يتتلمذ على يد الفيلسوف ارسطو ، يحاور ديموجين حامل مصباح الحكمة ، يصاحب الفلاسفة والعلماء ، يتنقل دائما وخلفه مكتبته الحافلة . أيضا كان الإسكندر يمتلك الحلم المستحيل ، فقاده الحلم إلى نهاية العالم ، أما السيف فوضعه فوق هذا العالم الذي ذهب إليه.
من الخطورة أن يكون الإنسان عظيما بين الدهماء ، ذكيا بين الأغبياء ، كريما بين السخفاء ، أما أكثر الأشياء خطورة أن يمتلك الرجل حلما نبيلا ، كان الإسكندر كل هذا ، لذلك دسوا له السم وهو في الثالثة والثلاثين . عقب موت الإسكندر انهارت سياسة الدمج العنصري، عاد الإغريق إلى بلادهم ، وشرع الفرس في بناء دولتهم من جديد ، واستعد الجميع لحرب أخرى ، لقد سبح الإسكندر ضد التيار ، فجرفه السيل العارم ، ربما لأن الكراهية أقوى غرائز الإنسان ،وربما أيضا لأن الناس ليسوا أخوة .
لم تذهب حياة الإسكندر عبثا ، لقد أسس 70 مدينة يونانية ونشر الحضارة والفكر في العالم القديم وأقام سوقا مشتركة تمتد من جبل طارق حتى كشمير . . لقد صنع الإسكندر جسرا بين الشرق والغرب ، وعلى هذا الجسر عبرت المسيحية إلى أوروبا بعد رحيل الإسكندر بحوالي 400 عام .. مات الإسكندر الأكبر ، ومازال النورس البحري يرفرف بجـناحيـه مودعا الشمس الغريقة في أسى ، مازال الشجن الخريفي يلف شطان المتوسط موحيا بأجمل الأشعار ، ومازال الحلم باقيا ، ينتقل عبر العصور انتظارا لعودة الفتى الجسور.
واما ذي القرنين الذي ذكر في القران الكريم فهو..
لا نعلم قطعا من هو ذو القرنين. كل ما يخبرنا القرآن عنه أنه ملك صالح، آمن بالله وبالبعث وبالحساب، فمكّن الله له في الأرض، وقوّى ملكه، ويسر له فتوحاته.
بدأ ذو القرنين التجوال بجيشه في الأرض، داعيا إلى الله. فاتجه غربا، حتى وصل للمكان الذي تبدو فيه الشمس كأنها تغيب من وراءه. وربما يكون هذا المكان هو شاطئ المحيط الأطلسي، حيث كان يظن الناس ألا يابسة وراءه. فألهمه الله – أو أوحى إليه- أنه مالك أمر القوم الذين يسكنون هذه الديار، فإما أن يعذهم أو أن يحسن إليهم.
فما كان من الملك الصالح، إلا أن وضّح منهجه في الحكم. فأعلن أنه سيعاقب المعتدين الظالمين في الدنيا، ثم حسابهم على الله يوم القيامة. أما من آمن، فسيكرمه ويحسن إليه.
بعد أن انتهى ذو القرنين من أمر الغرب، توجه للشرق. فوصل لأول منطقة تطلع عليها الشمس. وكانت أرضا مكشوفة لا أشجار فيها ولا مرتفات تحجب الشمس عن أهلها. فحكم ذو القرنين في المشرق بنفس حكمه في المغرب، ثم انطلق.
وصل ذو القرنين في رحلته، لقوم يعيشون بين جبلين أو سدّين بينهما فجوة. وكانوا يتحدثون بلغتهم التي يصعب فهمها. وعندما وجدوه ملكا قويا طلبوا منه أن يساعدهم في صد يأجوج ومأجوج بأن يبني لهم سدا لهذه الفجوة، مقابل خراج من المال يدفعونه له.
فوافق الملك الصالح على بناء السد، لكنه زهد في مالهم، واكتفى بطلب مساعدتهم في العمل على بناء السد وردم الفجوة بين الجبلين.
استخدم ذو القرنين وسيلة هندسية مميزة لبناء السّد. فقام أولا بجمع قطع الحديد ووضعها في الفتحة حتى تساوى الركام مع قمتي الجبلين. ثم أوقد النار على الحديد، وسكب عليه نحاسا مذابا ليلتحم وتشتد صلابته. فسدّت الفجوة، وانقطع الطريق على يأجوج ومأجوج، فلم يتمكنوا من هدم السّد ولا تسوّره. وأمن القوم الضعفاء من شرّهم.
بعد أن انتهى ذو القرنين من هذا العمل الجبار، نظر للسّد، وحمد الله على نعمته، وردّ الفضل والتوفيق في هذا العمل لله سبحانه وتعالى، فلم تأخذه العزة، ولم يسكن الغرور قلبه.
يقول سيّد قطب رحمه الله: "وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين. النموذج الطيب للحاكم الصالح. يمكنه الله في الأرض, وييسر له الأسباب; فيجتاح الأرض شرقا وغربا; ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر, ولا يطغى ولا يتبطر, ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان, ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق; ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه.. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به, ويساعد المتخلفين, ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل; ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح, ودفع العدوان وإحقاق الحق. ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله, ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته, وأنه راجع إلى الله." (في ظلال القرآن).
واختلفوا في السبب الذي سمى به ذا القرنين؛ فقيل: لأنه كان له في رأسه شبه القرنين. وقال وهب بن منبه كان له قرنان من نحاس في رأسه. وهذا ضعيف. وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك فارس والروم. وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس غربا وشرقا، وملك ما بينهما من الأرض. وهذا أشبه من غيره، وهو قول الزهري. وقال الحسن البصري كانت له غديرتان من شعر يطأ فيهما؛ فسمي ذا القرنين. وقال إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: دعا ملكا جبارا إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه، ثم دعاه فدق قرنه الثاني، فكسره، فسمي ذا القرنين. وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فمات، فسمي ذا القرنين. وهكذا رواه شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي به. وفي بعض الروايات، عن أبي الطفيل عن علي قال: لم يكن نبيا ولا رسولا ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا.
المصدر مكتـــوب
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1/493) :
(عن قتادة قال : اسكندر هو ذو القرنين وأبوه أول القياصرة وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام .فأما ذو القرنين الثاني فهو اسكندر بن فيلبس ... بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحق بن إبراهيم الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ، المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل ، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره وهو الذي قتل دارا بن دارا وأذل ملوك الفرس وأوطأ أرضهم.
اما قصة الاسكندر المقدوني فهي كالتالي..
كان الإسكندر يتسكع في عامه السادس عشر فإذا بعاصفة حمقاء تجتاح قصر والده فيليب ملك مقدونيا وتخنق الضحكة في الأشداق . طلق فيليب أولمبيا أم الإسكندر وتزوج بأخرى ، أما السيدة العنيدة فقد ردت الصاع صاعين وأخبرت ابنها الصغير وهى ترحل إلى بلدها النائي ايبروس بسر رهيب .. إنه ليس ابن فيليب ولكنه في الحقيقة ابن زيوس ساكن معبد دلفي وكبير آلهة الإغريق . لن نسخر من حيرة الإسكندر طالما نحن في العام 339 قبل الميلاد حين تتعايش الحقائق والأساطير في انسجام مشهود .. فر الإسكندر من بيلا عاصمة مقدونيا لاحقا بأمه عقب شجار دموي مع فيليب كاد يفقده حياته . تصالح فيليب مع ولى عهده بعد ثلاث سنوات ، ولكن الفتى الغاضب دس السم لأبيه ، وأصبح ملكا على مقدونيا في العشرين من عمره ، أما القادة الذين أبدوا شكوكهم ، فقد لحقوا على الفور بسيدهم المسجى بلا حراك .
اجتمع حكام المدن الإغريقية في كورنتا ، واختاروا الإسكندر سيدا لبلاد الإغريق ، وقائدا للحملة التي أعدوها للانتقام من أعدائهم الفرس الذين غزوا بلادهم في العام 480 ق م تحت قيادة أجرجوس . ذهب الإسكندر لتأديب بعض برابرة الشمال ، فطالت غيبته و انتشرت الشائعات حول موته ، وهكذا عمت الفرحة بلاد اليونان لخلاصها من الصبي الطاغية . أما مدينة طيبة فلم تجد ما تعبر به عن فرحتها بأقل من ذبح الحامية المقدونية التي تركها الإسكندر عن بكرة أبيها . لم يقدر لهذه الفرحة أن تستمر طويلا ، لقد عاد الإسكندر كالزلزال ليدمر طيبة ويقتل ستة آلاف من رجالها في يوم واحد . كانت المجزرة المرعبة كافية لكي يتصاعد الهتاف من جديد بحياة الإسكندر العظيم في كل المدن الإغريقية ، كدليل جديد على عشق الشعوب لجلاديها !.
في العام 334 ق م عبر الإسكندر مضيق الدردنيل على رأس 60 ألف من الإغريق منهم 10 ألف فارس مفتتحا أول حملة من نوعها في التاريخ القديم ، وخلال السنوات التالية وحتى وفاته في23 يونيو 323 ق م ظل الإسكندر على رأس جيشه في حروب مستمرة قادته إلى كل مدن العالم عدا موطـنه الذي لم يقدر له أن يراه بعد ذلك أبدا .
في البداية دفع داريوس عاهل الفرس المرتزقة اليونانيين بقيادة ممنن لمواجهة الإسكندر . قاتل اليونانيون مواطنيهم ببسالة نادرة ، ولكن الإسكندر شتتهم في معارك متتالية . وعندما توفي ممنن البارع ، تقدم داريوس على رأس حشد كبير من القوات بينهم 40 ألف من الفرسان لمواجهة الإغريق في معركة كرانيكوس ، ولكنه فر هاربا عندما فوجىء بالصبى الجسور أمامه بزيه الأحمر الشهير رافعا سيفه . انتصر الإسكندر ولكنه فاجأ الجميع وهو يعامل أسرة داريوس بكرم بالغ ، بل ويدعو نبلاء الفرس للانضمام إلى قواته رفاقا كراما.
لقد تغير الإسكندر كثيرا ، أخبره أرسطو أن الشرقيين برابرة لا يصلحون إلا عبيدا للإغريق ، ولكنه ينبهر الآن بحضارة الشرق ، ويرى قومه على حقيقتهم مجموعة من البرابرة سعيدي الطالع ، لأنهم يقاتلون إمبراطورية عظمى في سنوات أفولها . لقد كان الإسكندر مدمنا للقراءة ، وقادته الكتب إلى سيرة قورش الأكبر مؤسس الإمبراطورية الاخيمينية في فارس ، فأصبح مثله الأعلى على الفور ، لقد تعلم منه كيف يكون الرجل أكبر من النصر ، وأرفع عن الكراهية ، وأنبل من الانتقام .
في نوفمبر 332 ق م يدخل الإسكندر إلى مصر فيعيد إليها استقلالها ، ويؤسس بها أكبر المدن التي تحمل اسمه إلى الآن ، وأخيرا يعلن نفسه ابنا للإله المصري آمون متخليا عن أبيه الإلهي السابق زيوس !. عقب دخوله مصرا أصبح الإسكندر أسيرا لحلم واحد نبيل .. الأخوة البشرية .. توحيد الشرق والغرب.. قرية بشرية كبرى تجمع الإغريق والفرس والمصريين والهنود .. خرج الإسكندر من مصر فاستكمل فتح فارس وأفغانستان ومختلف الشعوب الشرقية . حقق الإسكندر واحدة من أعظم انتصاراته على أهل طشقند ، ولكن بدلا من إذلالهم جعلهم حلفائه وتزوج من روكسان ابنة الحاكم . وأخيرا دخل الهند على رأس 120.000 من رجاله حتى وصل إلى البنجاب ، وكعادته أحال الإسكندر نصره إلى تحالف جديد ولكن هذه المرة مع الراجا بوروس . نقل الإسكندر عاصمته إلى شوشه في إقليم الديلم الفارسى ، واتخذ بلاطا شرقيا ، وأصبح جيشه مزيجا من الإغريق والفرس ، ولكنه ظل طاغية عندما يثيره أحد ، وهكذا أعدم كبار قادته بارمينيو ، كلايتوس واخيرا صديقه كاليستينس ثم راح يبكيهم جميعا . اندفع الإسكندر في محاولته دمج الفرس واليونان في عنصر واحد ، فأقام أكبر عرس عرفه التاريخ عندما أمر عشرة الآف من جنوده بالاقتران بفارسيات ، بينما تزوج هو من بارسين ابنة داريوس . حاول الجنود المكدونيون الثورة ضد الإسكندر ، فذبح قادتهم ، وأمر بعودة جنوده القدامى إلى بلادهم ، وأصبح جيشه فارسيا في أغلبيته .
قاتل الإسكندر على رأس قواته لاثنتي عشرة سنة متصلة بلا هزيمة واحدة . استخدم الإسكندر مختلف أنواع التكتيكات بمرونة نادرة ، فلم يكرر نفسه قط ، اكتشف العبقري الصغير أن لكل معركة طبيعتها الخاصة وأنك لا تصطاد الفيل كما تقتنص الثعلب . لم يجعل الإسكندر نفسه عبدا لتكتيك بعينه ولكنه جعل كل التكتيكات عبيدا له يطلبها عند الحاجة . هاجم الإسكندر ودافع ، اقتحم بالمواجهة والتف حول خصمه ، قاتل نهارا قاتل ليلا ، استخدم الرماح الطويلة في الأرض المفتوحة ، والسيوف القصيرة في الغابات الوعرة ، وكان النصر رفيقه الدائم .
إذا حاولنا أن نبحث عن مفتاح واحد لانتصارات الإسكندر- عدا الإسكندر نفسه - لوجدنا الإمداد.. نعم الإمداد ، كان المقاتل الفارسي يسحب خلفه عشرة رجال لخدمته فيكبلون أقدامه أما الإسكندر فلم يصحب سوى رجل واحد خلف كل عشرة من مقاتليه ، فانطلق بهم حيثما يريد . لم يحمل الإسكندر احتياجاته معه ، ولكن ترك هذه المهمة الثقيلة لأعدائه . إنه ينتظر أوان الحصاد ، فيهاجم قبل أن توضع الغلال في المخازن ، وهكذا يجد كل ما يحتاجه . إنه أستاذ أيضا في تكتيكات اللصوص العتاة ، ولن نعجب كثيرا ، فإن الذي يعلم شيئا عن هذه الحياة يدرك أن الفتوحات الكبرى تمر بكل الدروب !!..
لم يكن الإسكندر مجرد صبى وسيم أشقر ..قصير القامة .. قوى البنية .. دموي المزاج ..بالغ الشجاعة ..شغوف باللهو . ولكنه أيضا مثقف محب للمعرفة ، يتتلمذ على يد الفيلسوف ارسطو ، يحاور ديموجين حامل مصباح الحكمة ، يصاحب الفلاسفة والعلماء ، يتنقل دائما وخلفه مكتبته الحافلة . أيضا كان الإسكندر يمتلك الحلم المستحيل ، فقاده الحلم إلى نهاية العالم ، أما السيف فوضعه فوق هذا العالم الذي ذهب إليه.
من الخطورة أن يكون الإنسان عظيما بين الدهماء ، ذكيا بين الأغبياء ، كريما بين السخفاء ، أما أكثر الأشياء خطورة أن يمتلك الرجل حلما نبيلا ، كان الإسكندر كل هذا ، لذلك دسوا له السم وهو في الثالثة والثلاثين . عقب موت الإسكندر انهارت سياسة الدمج العنصري، عاد الإغريق إلى بلادهم ، وشرع الفرس في بناء دولتهم من جديد ، واستعد الجميع لحرب أخرى ، لقد سبح الإسكندر ضد التيار ، فجرفه السيل العارم ، ربما لأن الكراهية أقوى غرائز الإنسان ،وربما أيضا لأن الناس ليسوا أخوة .
لم تذهب حياة الإسكندر عبثا ، لقد أسس 70 مدينة يونانية ونشر الحضارة والفكر في العالم القديم وأقام سوقا مشتركة تمتد من جبل طارق حتى كشمير . . لقد صنع الإسكندر جسرا بين الشرق والغرب ، وعلى هذا الجسر عبرت المسيحية إلى أوروبا بعد رحيل الإسكندر بحوالي 400 عام .. مات الإسكندر الأكبر ، ومازال النورس البحري يرفرف بجـناحيـه مودعا الشمس الغريقة في أسى ، مازال الشجن الخريفي يلف شطان المتوسط موحيا بأجمل الأشعار ، ومازال الحلم باقيا ، ينتقل عبر العصور انتظارا لعودة الفتى الجسور.
واما ذي القرنين الذي ذكر في القران الكريم فهو..
لا نعلم قطعا من هو ذو القرنين. كل ما يخبرنا القرآن عنه أنه ملك صالح، آمن بالله وبالبعث وبالحساب، فمكّن الله له في الأرض، وقوّى ملكه، ويسر له فتوحاته.
بدأ ذو القرنين التجوال بجيشه في الأرض، داعيا إلى الله. فاتجه غربا، حتى وصل للمكان الذي تبدو فيه الشمس كأنها تغيب من وراءه. وربما يكون هذا المكان هو شاطئ المحيط الأطلسي، حيث كان يظن الناس ألا يابسة وراءه. فألهمه الله – أو أوحى إليه- أنه مالك أمر القوم الذين يسكنون هذه الديار، فإما أن يعذهم أو أن يحسن إليهم.
فما كان من الملك الصالح، إلا أن وضّح منهجه في الحكم. فأعلن أنه سيعاقب المعتدين الظالمين في الدنيا، ثم حسابهم على الله يوم القيامة. أما من آمن، فسيكرمه ويحسن إليه.
بعد أن انتهى ذو القرنين من أمر الغرب، توجه للشرق. فوصل لأول منطقة تطلع عليها الشمس. وكانت أرضا مكشوفة لا أشجار فيها ولا مرتفات تحجب الشمس عن أهلها. فحكم ذو القرنين في المشرق بنفس حكمه في المغرب، ثم انطلق.
وصل ذو القرنين في رحلته، لقوم يعيشون بين جبلين أو سدّين بينهما فجوة. وكانوا يتحدثون بلغتهم التي يصعب فهمها. وعندما وجدوه ملكا قويا طلبوا منه أن يساعدهم في صد يأجوج ومأجوج بأن يبني لهم سدا لهذه الفجوة، مقابل خراج من المال يدفعونه له.
فوافق الملك الصالح على بناء السد، لكنه زهد في مالهم، واكتفى بطلب مساعدتهم في العمل على بناء السد وردم الفجوة بين الجبلين.
استخدم ذو القرنين وسيلة هندسية مميزة لبناء السّد. فقام أولا بجمع قطع الحديد ووضعها في الفتحة حتى تساوى الركام مع قمتي الجبلين. ثم أوقد النار على الحديد، وسكب عليه نحاسا مذابا ليلتحم وتشتد صلابته. فسدّت الفجوة، وانقطع الطريق على يأجوج ومأجوج، فلم يتمكنوا من هدم السّد ولا تسوّره. وأمن القوم الضعفاء من شرّهم.
بعد أن انتهى ذو القرنين من هذا العمل الجبار، نظر للسّد، وحمد الله على نعمته، وردّ الفضل والتوفيق في هذا العمل لله سبحانه وتعالى، فلم تأخذه العزة، ولم يسكن الغرور قلبه.
يقول سيّد قطب رحمه الله: "وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين. النموذج الطيب للحاكم الصالح. يمكنه الله في الأرض, وييسر له الأسباب; فيجتاح الأرض شرقا وغربا; ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر, ولا يطغى ولا يتبطر, ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان, ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق; ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه.. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به, ويساعد المتخلفين, ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل; ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح, ودفع العدوان وإحقاق الحق. ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله, ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته, وأنه راجع إلى الله." (في ظلال القرآن).
واختلفوا في السبب الذي سمى به ذا القرنين؛ فقيل: لأنه كان له في رأسه شبه القرنين. وقال وهب بن منبه كان له قرنان من نحاس في رأسه. وهذا ضعيف. وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك فارس والروم. وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس غربا وشرقا، وملك ما بينهما من الأرض. وهذا أشبه من غيره، وهو قول الزهري. وقال الحسن البصري كانت له غديرتان من شعر يطأ فيهما؛ فسمي ذا القرنين. وقال إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: دعا ملكا جبارا إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه، ثم دعاه فدق قرنه الثاني، فكسره، فسمي ذا القرنين. وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر فمات، فسمي ذا القرنين. وهكذا رواه شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي به. وفي بعض الروايات، عن أبي الطفيل عن علي قال: لم يكن نبيا ولا رسولا ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا.
المصدر مكتـــوب
تعليق