سورة الفاتحة من السور التي اشتهر أن لها أسماء كثيرة: لها ما يزيد على عشرين اسما. وإن كانت السنة الصحيحة يتردد فيها السبع المثاني وأم الكتاب وفاتحة الكتاب. ولذلك ركز معظم المفسرين على إيضاح هذه الأسماء الثلاثة:
1- فاتحة الكتاب:
" فأما أنها فاتحة الكتاب فلأنها أول القرآن وفاتحته. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان كلما نزل القرآن أمر بوضعه في موضعه سواء تعلق الأمر بالترتيب في السور أو في موضع الآيات داخل السور، مع وجود خلاف في ترتيب السور. ذكر صاحب كتاب "مناهل العرفان" ص: 350ج 1: وعملا بهذا الترتيب كان الفقهاء يحثون على ضرورة المحافظة عليه حتى في الصلاة. كما أن بعض العلماء عملوا على تأليف كتب خاصة في الحكمة من هذا الترتيب القرآني بإبراز التناسب الوارد في ذلك مثل ما فعله الإمام السيوطي في كتابه "تناسق الدرر في تناسب السور".
والمهم أن سورة الفاتحة باسمها فاتحة الكتاب تأتي من حيث الترتيب في أول القرآن ويجب الحفاظ على ترتيبها هذا مع أنه قد يبدو أنها لا تستحق هذا الموضع باعتبارها أصغر حجما من سور طويلة جدا تليها مباشرة، وقد يظهر أن من الأفضل وضعها مع قصار السور في آخر القرآن. لكن مع كل ذلك فإنها تبقى مفتتح هذا القرآن وكأنها بوضعها هذا جامعة للقرآن كله، بمعنى أن القرآن كله ما هو إلا تفسير لهذه السورة القصيرة. قال الحسن البصري: إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان والنص مأخوذ من كتاب " تناسق الدرر في تناسب السور/ السيوطي. ص: 61.
ومن أمثلة كون سورة الفاتحة جامعة لكل ما في القرآن ما ذكره الإمام السيوطي في ص: 63 وما بعدها في نفس الكتاب " تناسق الدرر في تناسب السور". قال (بتصرف): " قال بعض الأئمة: تضمنت سورة الفاتحة الإقرار بالربوبية والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى، وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكملة لمقصودها. وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس. أما المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل...".
2- أم الكتاب:
وأما أنها أم الكتاب فهو بمعنى أصله. فالفاتحة للقرآن كالأم للولد، فهي منشئه. ومثيل هذا في القرآن ما نجده في كتابات المؤلفين: فإنهم إن كتبوا مؤلفا وضعوا له مقدمة خاصة بينوا فيها كل ما هو آت في الكتاب حتى إذا قرأها القارئ تحمس أو تكاسل في قراءة الكتاب.
فالفاتحة بالنسبة للقرآن الكريم كله تعطي للقارئ نظرة عامة حول ما هو وارد في القرآن من خلال سوره كلها. فمن المعلوم أن القرآن جاء محتويا على أمور متعلقة بالعقائد والأحكام والأخبار من خلال مجموعة نواه وأوامر ووعد ووعيد، والفاتحة جاءت محتوية على كل هذا بصورة إجمالية، وإنما جاءت كل السور الأخرى لتفصل هذا وتبينه.
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره (ج 1. ص: 179).
"المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد. والنبوات، وإثبات القضاء والقدر. فقوله: {الحمد لله رب العالمين} يدل على الإلهيات وقوله {مالك يوم الدين} يدل على نفي الجبر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره وقوله {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله، وعلى النبوات، فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة التي هي المقصد الأعظم من القرآن" مأخوذ من كتاب "تناسق الدرر في تناسب السور" ص 61-62.
وقال الإمام الطاهر بن عاشور (التحرير والتنوير. ص : 133/ج. 1) "وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها منها: أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع: الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه عن جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله تعالى {الحمد لله} إلى قوله {ملك يوم الدين}؛ والأوامر والنواهي من قوله {إياك نعبد}؛ والوعد والوعيد من قوله {صراط الذين} إلى آخرها. فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق منه الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله {الحمد لله} إلى قوله {يوم الدين} حمد وثناء؛ وقوله {إياك نعبد} إلى قوله {المستقيم} من نوع الأوامر والنواهي؛ وقوله {صراط الذي أنعمت} إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن".
3- السبع المثا ن ي:
وأما أنها مسماة السبع المثاني فلأنها سبع آيات لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} ولقد ذكر في سبب تسميتها بهذا الاسم وجوه أبرزها: (كونها تثنى في كل ركعة من الصلاة- أنها تقرأ في الصلاة ثم تثنى بسورة أخرى)
قال الإمام السيوطي في "الإتقان" ص: 118 ج: 1: "وأما المثاني فيحتمل أن يكون مشتقا من الثناء لما فيها من الثناء على الله تعالى؛ ويحتمل أن يكون من التثنية، قيل لأنها تثنى في كل ركعة، يقويه ما أخرجه ابن جرير بسند حسن عن عمر قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب، تثنى في كل ركعة؛ وقيل لأنها تثنى بسورة أخرى؛ وقيل لأنها نزلت على قسمين ثناء ودعاء وقيل لأنها كلما قرأ العبد منها آية ثناه الله بالإخبار عن فعله كما في الحديث: وقيل لأنها اجتمع فيها فصاحة المباني وبلاغة المعاني؛ وقيل غير ذلك"
فهذه إذن هي الأسماء المشهورة التي اشتهرت بها سورة الفاتحة. مع أنها كما أشارة لذلك الإمام السيوطي لها أكثر من عشرين ا سما. قال: "وقد وقفت لها على نيف وعشرين اسما، وذلك يدل على شرفها، فإن كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى" الإتقان: ج / ص: 116.
وسورة الفاتحة مكية باتفاق الجمهور.
وقيل إنها أول ما نزل من القرآن. قال بهذا حديثا الإمام محمد عبده رحمه الله . قال: "إني أرجح أنها أول ما أنزل على الإطلاق، ولا أستثني قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كتاب: دروس من القرآن .ص: 25 وهذا قول مستند الآثار. والصحيح أنها أول سورة كاملة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم لكن أول ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق...} مع أن هذه المسألة فيها خلاف مبني على حجج أورده الإمام السيوطي في الإتقان بدءا من الصفحة 50 من الجزء 1.
وكيفما كان الأمر فالذي يبقى الانتباه إليه ضروريا هو أن الفاتحة هي أول القرآن بحسب الترتيب، فكانت بذلك خير استهلال لكتاب الله الكريم.
موقع البسملة من الفاتحة
افتتح الله عز وجل هذه السورة بالبسملة (بسم الله الرحمان الرحيم) على غرار جميع السور إلا ما كان من سورة التوبة (براءة).
غير أن العلماء اختلفوا في كون البسملة من الفاتحة أم لا؟ فقال بعضهم إنها آية من سورة الفاتحة، وقال آخرون إنها ليست منها.
والخطير في أمر هذا الخلاف هو أن يناقش بعض الناس المسألة مع التعصب لرأي دون آخر بدون الاعتماد على دليل ثابت. فهذا غير مقبول خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة؛ ذلك أن الصلاة مطلوب فيها قراءة الفاتحة، ولا صلاة دون فاتحة، وهنا تقع الفوضى، بحيث يُجادل الناس بعضهم بعضا في مسألة قراءة البسملة في الفاتحة أو عدم قراءتها، دون الاستناد إلى الأدلة والحجج، وأما إن وقع ذلك الاستناد إلى الدليل ـ فلا شك أنه في تلك الحالة لا يقع الجدال.
والذي يمكن الإشارة إليه هنا كدليل ثابت وكتوضيح لابد منه، ما يلي:
- أولا: انقسام الفقهاء إلى شطرين بارزين أحدهما يقول بأن البسملة آية من الفاتحة، ويمثل هذا الشطر: الشافعي في قول من أقواله وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة.
أما الشطر الثاني فيرى أصحابه أن البسملة ليست من الفاتحة، ويمثله: مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة باستثناء عبد الله بن عمر وابن شهاب من فقهاء المدينة.
وأما أبو حنيفة فلم يُنقل عنه شيء، وإن كان الزمخشري قد أخذ عنه أنها ليست من السورة.
- ثانيا: إنه لا خلاف بين المسلمين في أن البسملة (بسم الله الرحمان الرحيم) من القرآن، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول الفاتحة، وإنما الذي اختلفوا فيه هو هل البسملة آية من سورة الفاتحة أم لا؟ بمعنى أنهم لم يختلفوا في كونها قرآنا، بل في تكرار قراءتها، وهذه مسألة ذكرها الفقهاء وحُسِمَ فيها القول (بداية المجتهد ونهاية المقتصد/ابن رشد الحفيد/ ص 89/ج1).
- ثالثا: السر في الخلاف في مسألة البسملة:
بالنسبة للمالكية فإنهم مشهورون بعدم قراءة البسملة في الفاتحة، ولعل من أشهر أقوالهم في هذا ما جاء عند ثلاثة من أشهر المالكية: أبو بكر الباقلاني، أبو بكر بن العربي، والقاضي عبد الوهاب.
- فأما الباقلاني فيقول: "لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد، والأول باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة، والثاني أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فلو وجدناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، ولصار ذلك ظنيا، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف".
- وأما أبو بكر بن العربي فيقول: "يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه".
- وأما القاضي عبد الوهاب فيقول : "إن رسول الله بَيَّن القرآن بيانا واحدا متساويا، ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان، ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حِمْل جَمل عند الإمام المعصوم المنتظر، فلو كانت البسملة من الحمد لبينها رسول الله بيانا شافيا".
فالظاهر من هذه الأقوال كلها أن المالكية يرون أن القرآن الكريم إما أن يثبت لنا بالتواتر أو بالآحاد، والمؤكد أن القرآن الكريم كله ثابت بالتواتر، ولو ثبتت البسملة بالتواتر لما وقع فيها الخلاف، ثم إن القول بأن البسملة نزلت بالآحاد فيه فتح لباب واسع للروافض.
وهذا التوضيح كله يدخل فيما يسمى بدليل النظر.
وهناك دليل ثان: وهو دليل الأثر، وهو مؤيد لما سبق بالنسبة للمالكية، فهناك أخبار كثيرة تثبت أن البسملة ليست آية من الفاتحة، وكلها أخبار من السنة الصحيحة. يُذكر من ذلك مثلا :
- روى الإمام مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمان إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة نصفين بينني وبين عبدي، فنصفها لي، ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل : يقول العبد الحمد لله رب العالمين فأقول حمدني عبدي، ويقول العبد الرحمان الرحيم، يقول الله : أثنى علي عبدي، ويقول العبدُ : مالك يوم الدين، يقول الله : مجَّدني عبدي، يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين، فهذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، هذه لعبدي ولعبدي ما سأل" (ص : 70-71).
- جاء في صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن النسائي عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه، قال: "صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمان الرحيم، لا في أول قراءة ولا في آخرها" (التحرير والتنوير/ ص: 140. ج 1).
- حديث عائشة قي صحيح مسلم وسنن أبي داود، قالت: "كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين" (التحير والتنوير- ص: 140/ج1).
- ما في سنن الترمذي والنسائي عن عبد الله بن مغفل قال: "صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقول بسم الله الرحمان الرحيم، إذا أنت صليت فقل الحمد لله رب العالمين" (التحرير والتنوير- ص: 140/ج1).
- عمل أهل المدينة: فالمسجد النبوي صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون وغيرهم ممن تبعهم من أئمة المدينة، ولم يسمع أحدهم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة الجهرية.
- لما بدأ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن جبريل عليه السلام لما قال له {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (الحديث: البخاري ـ ج 6/ ص: 88) فإنه لم يقل له بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق...
أما الدليل الثالث فهو دليل الذوق العربي، ذلك أن من حسن الذوق العربي أن لا يرد التكرار في الكلام، ومع أن هذا الأمر فيه إفادة وبلاغة، فإنه قد لا يقبل في بعض الأحوال كما هو الشأن في الفاتحة إذا قرئت بالبسملة، فإن تكرار لفظي الرحمن الرحيم في كلام قصير دون وجود فصل كبير ومهم غير محمود في الذوق العربي. قال الفخر الرازي رحمه الله (ج: 1 ص: 207) وهو يرد على هذا الدليل: " إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، وتأكيد كون الله رحمانا رحيما من أعظم المهمات". وأنا أدفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ، مثل التهويل ومقام الرثاء أو التعديد أو التأكيد اللفظي، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير، ولاسيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل، فتعيَّن أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المُكَرَّرَيْن بُعدا يقصيه عن السمع، وقد علمتَ أنهم عَدُّوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار، والقربُ بين الرحمن الرحيم حين كُرِّرا يمنع ذلك" (التحرير والتنوير: ج 1/ ص: 141).
وبالنسبة للشافعية القائلين بأن البسملة من الفاتحة خاصة، فإنهم اعتمدوا في قولهم على أدلة:
- المأثور من الأحاديث:
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم"، وقال فيه ابن عاشور (ص: 142) "إنه نازل عن درجة الصحيح".
حديث أم سلمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين" (بداية المجتهد ونهاية المقتصد/ص:90) وقال عنه ابن عاشور(ص: 142) "إنه ثابت أنه حديث مقطوع رواه ابن أبي مُلَيْكَة ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة عن أم سلمة.
الإجماع على أن كل ما في الكتاب قرآن وكلام الله، (وهذه مسألة ثابتة لا خلاف فيها، إنما يبقى الخلاف في كونها آية من الفاتحة أم لا).
وبالنسبة للإمام أحمد وأبي حنيفة: قال الفخر الرازي في تفسيره (ص: 208/ ج1): "يُروى عن أحمد أنه قال: التسمية آية من الفاتحة، إلا أنه يُسْتَر بها في كل ركعة... وقال أبو حنيفة: ليست آية من الفاتحة إلا أنها يستر بها في كل ركعة ولا يُحجر بها أيضا".
والمهم من هذا كله هو التأكيد على كون البسملة وقع فيها خلاف، والخلاف كله موصل إلى فهم حقيقة ثابتة وهي أن البسملة من القرآن، وهو أمر غير مختلف فيه، وإنما المختلف فيه هو كونها من الفاتحة أم لا؟
ومن خلال ما سبق يتضح أن لكل فريق حججه وأدلته، فلا يحق لأحد أن يتعصب، وإلا فإن إثبات الرأي إنما يتطلب الحجة والدليل، وأما أن يتعصب الإنسان وربما يدفع به تعصبه إلى اتخاذ مواقف ساقطة من غيره، فهذا غير مقبول
{بسم الله}:
والمعنى؛ بذكر اسم الله، وفيها إلزام للمسلم بأن يكون مع الله، والمسلم إذ يقول بسم الله، وكأنه يقول : استمدادا من قوتك يا ألله ومن إذنك أفعل كذا، وهذه الصيغة معروفة عند الناس :فالقاضي مثلا إذا نطق بالحكم النهائي في قضية ما يقول باسم رئيس الدولة، أو باسم الملك أو ما شابه هذا، أي أعلن أن الإذن إنما استمد من قوة هذه الجهة في اتخاذ القرار.
والذكر بالنسبة لبسم الله لا يحق أن يكون لسانيا فقط، بل يجب أن يكون قلبيا. ولما كانت عادة الناس أن البسملة عندهم مجرد لفظ لساني، فإننا نجد من ينطق بها حتى في ارتكاب الحرام.
{ الرحمن الرحيم } :
لقد اختار سبحانه وتعالى أن يبدأ بأول وصف وهو الرحمة بصيغتين؛ الرحمان وهي صيغة عامة، والرحيم وهي أم الصفات الإلهية كلها.
وهناك فرق بين الرحمان والرحيم، مع أن البعض قال إنه لا فرق.
فالرحمان تتصل بكونه سبحانه وتعالى منعم بالنعم العامة، النعم التي تتناول المستحق وغير المستحق، ومن ذلك مثلا أن الله عز وجل يرحم كل الكائنات دون فرق، كما أنه يرحم ويُنعم بنعم مهمة على ذلك الملحد الذي يبذل كل ما في وسعه لتحطيم دين الله. فهو يرحمه لأنه يمنحه القوة والبقاء والصحة والعافية من حيث لا يدري، مع أنه سبحانه بقدرته فعل غير ذلك.
وأما الرحيم فمتصل بكونه سبحانه وتعالى منعم بالنعم الخاصة، النعم التي تخص أولياءه، ويشعر بها المؤمن كلما تغلغل في دينه، ومن ذلك قول أحد الصالحين مُعْلِنا عن اطمئنانه من رحمة الله الخاصة "إننا في لذة لو علمها الملوك لقاتلونا عليها".
قال الإمام أبو حامد الغزالي في توضيح معاني هذين الاسمين: "اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعي مرحوما، ولا مرحوم إلا وهو محتاج من غير قصد وإرادة وعناية، فالمحتاج لا يسمى رحيما، والذي يريد قضاء حاجة ولا يقضيها، فإن كان قادرا على قضائها لا يسمى رحيما، إذ لو تمت الإرادة لوفى بها، وإن كان عاجزا باعتبار ما اعتوره من الرقة، ولكنه ناقص. وإنما الرحمة التامة إضافة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم. والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق، ورحمة الله تامة عامة، أما تمامها : فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، وعم الدنيا والآخرة، وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجية عنها، فهو الرحيم المطلق حقا ...الرحمان أخض من الرحيم، ولذلك لا يسمى به غير الله، والرحيم قد يطلق على غيره، فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله الجاري مجرى العَلَم، وإن كان هذا اشتق من الرحمة قطعا، ولذلك جمع الله بينهما فقال : {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فلزم من هذا الوجه ـ من حيث معنى الترادف في الأسماء المحصاة ـ أن يُفرق بين معنى الاسمين"(1).
من مظاهر الرحمة في العبادات
وهناك أمر آخر مهم لابد من الإشارة إليه، وهو أن رحمة الله عز وجل لا تنتج عن انكسار في القلب كما هو شأن الإنسان، بمعنى، أن الله سبحانه إذا رحم فإنه يرحم لأنه رحيم ورحمان بالعباد، وأما الإنسان فهو لا يرحم إلا إذا رَقَّ قلبه وانكسر وهو ما لا يجوز على الله عز وجل.
ومن خلال هذا الأمر يتضح أن الإنسان بما منحه الله من قوة عقلية وجسمية خاضع لرحمة الله عند لحظة عجزه، خصوصا، ذلك أن الإنسان مأمور ومكلف من ربه، لكن هذا الإنسان قد لا يكون مستطيعا في كل الأحوال، ولذلك فإن الحق سبحانه يبرز له نوعا جديدا وخاصا من الرحمة، فمن مظاهر هذه الرحمة في العبادات مثلا(2):
- الإسقاط بالمرة (كالحج على العاجز).
- النقص (كالتقصير في الصلاة).
- الإبدال (كالجلوس بدل الوقوف في الصلاة).
- التقديم (جمع التقديم في السفر أو في الحج).
- التأخير (جمع التأخير في الصلاة).
- الترخيص.
- تغيير الكيفية (في صلاة الخوف).
وهذه التغييرات التي تقع في العبادات تبرز لنا بجلاء أن شريعة الله رحيمة، وبالمقابل فالقصد في التشدد في الشريعة الإسلامية غير وارد، وإذا ضاعت الشريعة ضاع التيسير وضاعت الرحمة.
في التمييز بين الحمد والشكر والمدح
{الحمد لله رب العالمين}
إن العبد بقراءته لهذا المقطع يُقِرُّ لربه بأمر مهم وهو استجماع الحمد للرب كله.
والحمد مصطلح شرعي واجب استيعابه، وهو من ألزم الكلمات للمسلم، ويجب استحضار معناه، وهو يشبه الشكر والمدح مع اختلاف في بعض الوجوه:
المدح: وهو الثناء على موجود سواء كان بعد الإنعام أم قبله، ومن هنا صح مدح الذي له إرادة واختيار أو غيره، وهو أعم من الحمد.
والمدح إما أن يكون مأمورا به (كمدح الشعراء للرسول صلى الله عليه وسلم)، وإما أن يكون منهيا عنه كمدح من لا يستحق المدح من أناس ماجنين مثل المغنيين والرياضيين)، مما يسبب عُلُوَّ الصغار والساقطين وانحطاط المجتمع بكامله، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أُحْثُوا التُّرَابَ في وَجْهِ المَادِحِينَ".
الحمد: وهو الثناء بالفضيلة، ويترتب عن صدور نعمة من الممدوح، وهو أخص من المدح.
والحمد لا يكون إلا جائزا إذا كان متعلقا بمن يستطيع الحمد، والحمد ثناء على الفواضل، وأما المدح فهو ثناء على الفضائل. ومما يؤمر به في الشرع الإسلامي الحمد للناس؛ بمعنى أنه لابد للفرد أن يكون سريع الإحساس بإحسان الغير والحمد له، قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يحمد الناس لم يحمد الله".
الشكر: قال الراغب الأصفهاني : "الشكر هو تصور المُنْعَمِ عليه النعمة وإظهارها، قيل وهو مقلوب عن الكشر وهو الكشف ويُضاده الكفر...
والشكر على ثلاثة أضرب: شكر بالقلب؛ وهو تصور النعمة، وشكر باللسان؛ وهو الثناء على المنعم، وشكر بسائر الجوارح؛ وهو مكافأة بقدر استحقاقه...
وشكر العبد لربه هو معرفة نعمته وحفظ جوارحه بمنعها عن استعمال ما لا ينبغي...
وقال بعض أهل العلم : كل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله تعالى، فإن شكر نعمته نعمة منه فيحتاج العبد إلى شكر ثان كشكره الأول، وكذلك الحال في الثالث والرابع، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى، ولذلك قال موسى عليه السلام: "اللهم أمرتني بالشكر على نعمتك، وشكري إياك نعمة من نعمك". ومن هذا أنشد الشاعر فقال:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر.
فهذه بعض أوجه الاختلاف بين الحمد والمدح والشكر، وقد جمع هذا الاختلاف الراغب الأصفهاني عند شرحه للفظة الحمد، فقال: "الحمد لله تعالى الثناء عليه بالفضيلة، وهو أخص من المدح وأعم من الشكر، فإن المدح يُقال فيما يكون من الإنسان باختياره، ومما يُقال منه وفيه بالتسخير، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه، والحمد يكون في الثاني دون الأول، والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة، فكل شكر حمدٌ وليس كل حمدٍ شكرا، وكل حمدٍ مدحٌ وليس كل مدحٍ حمدا"(3).
ثم إن بين الحمد والشكر خاصة اختلاف من وجه واحد بارز وهو: إن الذي يُحمد لأنه أحسن وليس ضروريا كأن يُظهر إنسان حمده على عمل شخص غيابيا، وأما الشكر فهو متصل بالإحسان الخاص كأن يظهر الإنسان حمده لشخص أحسن إليه خاصة.
إن الله عز وجل ساق في قوله هنا {الحمد لله} لفظ الحمد وربطه بالله دون أن يترك الأمر للإنسان كأن يظهر يقول مثلا "أحمد الله"، وهذا يعطينا مجموعة من الأمور منها:
- إن الإنسان وهو يقرأ الآية {الحمد لله} يُقِرُّ أن الحمد ثابت لله قاله أو لم يقله، بمعنى : أن الحمد ثابت لله سبحانه بصرف النظر عن وجود الناس.
- إن الحمد بتمام معناه ثابت لله مجرد عن الإنسان، فلو قال الإنسان أحمد الله أنا : فالحمد هنا ضئيل مناسب للنعم الخاصة بهذا الإنسان ومناسب لعلمه، ولو قارنا علم ونعم هذا الإنسان لوجدناها تافهة أمام الله على الناس كافة، ومن هنا فإن حمد الإنسان بصيغة الأنا يبقى ضئيلا جدا.
- من حيث المعنى: لا يصح إلا أن يكون الحمد لله تعالى.
والحمد لو كان متعلقا بالبشر لما تم أبدا.
إن استشعار القلب لعظمة الله هو الداعي إلى الحمد، والله عز وجل هو فاعل هذا الفعل في قلب الإنسان، فيبقى الحمد في كل الأحوال متعلقا بالله عز وجل.
- لقد ورد في الشرع ضرورة حمد الإنسان كقوله عليه الصلاة والسلام : "من لم يحمد الناس لم يحمد الله"، ومن ذلك مثلا حمد المريض للطبيب، وحمد الطالب للأستاذ، لكن الذي يثير الانتباه هنا هو : كيف يمكن الجمع بين قوله تعالى {الحمد لله} وقوله عليه الصلاة والسلام "من لم يحمد الناس لم يحمد الله"؟
والجواب من وجهين:
أولا: إن الحامد للإنسان إنما يعلن بحمده عن عدم جحده علما بأن الذي سخر ذلك الإنسان للإحسان هو الله عز وجل: فالحمد للإنسان فيه حمد لله.
ثانياً: إن الحمد متعلق بكل من يستطيع الحمد، وهو مترتب عن صدور النعمة، والإنسان مع ضعفه قادر على الإنعام والإحسان كما أن الله عز وجل منعم ومحسن، والفرق ؛ أن أي إنسان يُحسن فإنه ينتفع بإحسانه، فهو إن أحسن كان رجاؤه قويا في ثواب الله، وفي الثناء عليه والمدح، وفي تصفية النفس من داء الحرص والبخل وغير هذا... أما الله عز وجل فليس له من غرض في ذلك، فهو يحسن لأنه يريد أن يحسن ولأنه رحمان رحيم.
{رب العالمين}
- العالمين: كل ما سوى واجب الوجود.
والعالم قسمان:
*عالم علوي "والمراد به ما ارتفع من الفلكيات من سماوات وكواكب وغيرها"(1).
*عالم سفلي: "والمراد به كل ما نزل من الفلكيات كالهواء والسحاب والأرض وما فيها كالمعادن والبحار والسحاب والنبات وغير ذلك"(2).
- رب: قال الراغب الأصفهاني: " الرب في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام. يقال رَبَّهُ وَرَبّاهُ وَرَبَّبَهُ... فالرب مصدر مستعار للفاعل ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات"(3).
فالله عز وجل "بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي، عقب بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلَّق متعلَّق أيضا، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال {يوم يقوم الناس لرب العالمين} ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته"(4).
وصفة الربوبية تعني التنشئة والمتابعة والتربية طورا بعد طور، والله عز وجل مرب لكل العوالم لأنه عز وجل هو منشئها وموجدها، فكيف يكون قادرا على إيجادها وغير قادر على متابعتها بالإمداد المبقي على وجودها؟
"لنتأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات، فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات، ولم يخلق فيها حركات تنبعث بها ولا آلات توصل إليها غذاءها، جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتجذب الماء من الأرض، فتتغذى بها أصولها وما علا منها من الأغصان والأوراق والثمار، فصارت الأرض كالأم المربية لها، وصارت أصولها وعروقها كالأفواه الملتقمة لها، وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان من أمهاتها"(5).
ثم إن هذه الأشجار والنباتات لا شك أنها كانت، قبل أن تصبح على ما هي عليه، عبارة عن بذور ضعيفة مَهِينَة زوَّدها الله عز وجل بمناعة وقوة خاصتين تخضعان لأسباب خاصة ليصل بها الأمر إلى نباتات ضخمة لها منافع أضخم بالنسبة للإنسان. قال الإمام الغزالي: "ثم تأمل خلق الحَب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائب كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان وهو سر لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه"(6).
فلنتأمل كيف تصبح البذرة بعد أن توضع في التراب وتبلل بالماء منتفخة صالحة لأن يخرج منها شيء من جهة ما، لكن الله عز وجل وبتربيته لهذا النوع من الكائنات لا يقبل إلا أن يخرج من هذه البذرة نوعان من العروق؛ إحداهما صالحة لأن تغوص في الأرض وترِق وتدِق كلما غاصت حتى تصبح في آخرها كأنها ماء متجمد، والأخرى تخرج من على سطح التراب ليتكون منها غصن جذع غليظ تستوي عليه أغصان متفرعة مغطاة بأنواع من الورق والثمر.. ثم ينمو ذلك كلما توفرت الأسباب الكونية خاصة ما يتعلق بوجود الماء. وإذ ذاك تظهر عظمة الله في التربية للنبات، والأعجب من هذا أن الجنس الواحد من البذرة يعطينا أنواعا من الألوان والثمار والأحجام وغير هذا مما يظهر من عجائب النباتات مع اختلاف أنواعها. "انظر كيف رتب البارئ الأشجار والثمار والأزهار وجعلها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح، فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير، وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر..."(7).
فالتربية الإلهية متصلة بكل أنواع الكائنات في اختلاف العوالم "من حال النقص إلى حال الكمال وغايات التمام، فهو الذي يتعهد النبات بالتغذية والإنماء، وهكذا الحيوان والإنسان، وكذا العوالم العلوية، وهذه هي التربية التي كان مبدؤها الرحمة"(8).
التربية الإلهية هدفها فلاح الإنسان والعطاء قبل السؤال
ثم إن التربية الإلهية في مقصدها العميق مختلفة عن تربية الكائنات المخلوقة: فالله عز وجل يربي لِيَربح المخلوق الذي يربيه، وأما الكائن المخلوق فإنه يربي ليربح هو على ذلك، بمعنى أن الله عز وجل يربي كائناته خاصة ما يتعلق بالبشر ولا يقبل إلا الرضا والبذل والمزيد من طلبه، وأما الإنسان فإنه إذ يربي فإنه قد يرجو ويتمنى لو أن ولده الذي يربيه مثلا يفارقه أو يخفف عليه من الطلب، ولذلك ورد: "إن الله يحب العبد الملحاح" كما ورد كذلك: "خلقتك لتربح عليَّ لا لأربح عليك". ومن هنا يبقى على العبد المعترف حق الاعتراف بربوبيته سبحانه وتعالى التضرع والخشوع.
إن من ميزات التربية الإلهية كذلك أنه سبحانه وتعالى يُعطي قبل أن يُسأل ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى يوجِد الكائن دون أن يطلب منه ذلك، ولو شاء لتركه في العدم، وهذه هي نعمة الإيجاد، كما أنه سبحانه وتعالى يعطي ويُمد مع الاستحقاق أو دون ذلك : بمعنى أنه سبحانه يمد كائناته خصوصا البشر بنعم عظيمة سواء كان ذلك عن استحقاق أو غير استحقاق، فهو يُمد الكافر والملحد بنعم شتى، كما يُمد الصالح المتقي بنعم كثيرة، وكما يُمد كذلك الكائنات الأخرى على اختلافها بإمدادات عظيمة ... وهذا من رحمته سبحانه، ولذلك فإن من الحياء معه سبحانه سؤاله.
جهل حقيقة الربوبية في حياتنا اليومية
إن كثيرا من المسلمين يرفضون شرع الله عملا نتيجة سوء فهمهم لحقيقة الربوبية : فقد نرى في حياتنا اليومية أن الناس يتصرفون تصرفات منافية للشرع الإسلامي الذي هو دستور البشرية كافة والمسلمين خاصة، كل ذلك ناتج عن تغافلهم عن الربوبية، فلو أن الإنسان فكر في نعم الله عليه وعلى الكائنات الأخرى وما في ذلك من عظيم الفضل الإلهي لاسْتَحْيَى من إتيان الحرام بترك الشرع.
وقد سُئل الحسن البصري عن سر زهده فقال : "علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به سِوَايَ فاشتغلت به، وعلمت أن الله مُطَّلِعٌ علي فاستحييت أن يراني على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي".
إن مسألة الربوبية واجب استيعابها بالنسبة للمسلمين لما لها من علاقة كبيرة بفهم حقيقة الله عز وجل ومدى عظمة قدرته في الكون كله وفي البشرية خاصة.ثم إن الحمد لله عز وجل على ما أنعم به على الإنسان خصوصا، سواء تعلق الأمر به ذاتيا، أو بالكائنات الأخرى وما تلعبه من دور في الإحسان إليه كما يريد الله عز وجل، إن حمد الله واجب، وكما أنه واجب من جهة كون الإنسان غارقا في نعمه سبحانه، شعر أم لم يشعر، فإنه واجب كذلك لأن كل أسباب الثناء والحمد موجودة فيه سبحانه، وهي أسباب واردة في مقاطع من هذه السورة المباركة "الفاتحة"؛ فقوله تعالى {رب العالمين} مرتبط بسبب الكمال، وقوله تعالى {ملك يوم الدين} مرتبط بسبب البطش والقهر، وقوله تعالى {الرحمان الرحيم} مرتبط بسبب الإحسان وتوقع الإحسان.
يُرحم المجتمع بقدر اتصاله بالله
{الرحمن الرحيم}
لقد سبقت الإشارة عند شرح "الرحمان الرحيم" من البسملة إلى أن اللفظين مشتقان من الرحمة، وأن بين الصيغتين فرق: فالرحمان دالة على الرحمة العامة والرحيم دالة على الرحمة الخاصة، وهذا ما عبر عنه الإمام محمد عبده: "وأنا لا أُجيز للمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى مستقل"(9).
إن مما انتبه إليه بعض المفسرين قديما (ابن القيم) وحديثا (محمد عبده والشيخ رشيد رضا)، في هذه الصيغ التي جاءت في هذه الآية أن صيغة الرحمان تدل على الوصف العارض الذي لا يثبت مما يدل على أن موصوفه متصف بصفة دالة على الزوال، بمعنى أن الرحمة في صيغة الرحمان منقطعة، وأما في صيغة {الرحيم} فإن الرحمة ثابتة وملتصقة بالموصوف. وكأن الرحمان دالة على الرحمة لحظة بعد لحظة، وجاءت {الرحيم} لتثبت تلك الرحمة، وفي هذا الشأن يقول الإمام محمد عبده :"إن صيغة فعلان تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال، وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغضبان، وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل"(10).
وكيفما يكون الأمر فإن هذا لا يلغي أن رحمة الله عز وجل فيها العامة والخاصة، وأن المجتمعات الإسلامية ترحم بقدر ما تتصل بالله عز وجل، مع أن الرحمة العامة شاملة تخص المتصلين بالله وغير المتصلين به، وأما الخاصة فإنها مرتبطة بالمؤمنين الصالحين بحسب ما يتصلون بالله عز وجل.
ومن طريف ما أشار إليه الإمام أبو حامد الغزالي في قوله تعالى {الرحمان الرحيم} قوله: " الرحمان الرحيم إشارة إلى الصفة مرة وأخرى، ولا تظن أنه مكرر، تَكرُّر في القرآن، إذ حَدُّ المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة، وذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر مالك يوم الدين ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفضيل مجاري الرحمة؛ إحداهما تلتفت إلى خلق رب العالمين ، فإنه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها وآتاه كل ما يحتاج إليه... وثانيها تعلقها بقوله: مالك يوم الدين، تشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة (المراد بالكلمة، كلمة التوحيد) وعباده ... والمقصود أنه لا مكرَّرَ في القرآن، فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر فانظر في سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته"(11).
فالإمام الغزالي يُؤكد أمرين: أولهما أن كلمتي الرحمان الرحيم ليس فيها تكرار، وإنما هو (كما سماه الإمام الطاهر بن عاشور "تعداد" ج 27 ص: 246) أو كما سماه الأصوليون "التأسيس" وهو إيراد الجملة للإشارة الأولى، وهو مقدم على التأكيد، وقد قالوا إن تكرير قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تعود فيه الآلاء إلى المذكور قبلها حتى ينصرف الكلام إلى التأسيس لا إلى مجرد تكرير آلاء الأولى"(12).
ملك يوم الدين
إن الموضوع العام في هذا المقطع هو اتصاف الله عز وجل بالملك وبأنه أَعَدَّ للناس يوم المتوبة والعقوبة. وهذا ركن أساسي من أركان الإيمان. وإن قلة حضور الإيمان باليوم الآخر يجعل الإسلام مجرد أفكار. وسر هذا اليوم أنه مبني على الجزاء. ومن طبيعة الإنسان وفطرته أنه يرغب في الجزاء. وقد لا ينتفع الإنسان بأي شيء من العلوم الشرعية التي قد يعيها ومهما حفظها إذا لم يكن على علم بعقيدته من جهة يوم الجزاء، اليوم الآخر. وإن من المعاكسة للمنهج الإلهي، القول بفكرة إبعاد كل ما يرهب ويخيف. وهي فكرة منتشرة في المجتمع الإسلامي على مستويات مختلفة وفي مجالات متنوعة. ومن ذلك ما يدعو له بعض رجال التربية في مجال التعليم في المستويات الابتدائية حين نادى بعضهم بضرورة إبعاد كل الآيات أو السور التي فيها ترهيب بحجة كونها مؤدية إلى عقد نفسية بالنسبة للأطفال. إن العقيدة الإسلامية ليست مجرد أفكار مبنية على أساس أهواء الناس وإنما هي تربية مبنية على أساس الترغيب والترهيب طبقا لسنة الله في خلقه.
والحق سبحانه وتعالى إذ يصف نفسه هنا بملك يوم الدين فإن في ذلك إشعارا بعدم المجاملة للخلق، وفيه إبراز لكون هذا الإسلام دستوراً شرعيا يحاسَبُ عليه الإنسان يوم الدين بحسب ما طبَّقَ: {يَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.
وإن أول ما يثير الانتباه في هذا المقطع "ملك يوم الدين" اختلاف القراء في قراءة ملك أو مالك. "قرأ الجمهور ملك بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبي وصاحبيه أبي بكر وعمر في كتاب الترمذي... وأما قراءة مالك بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير.." الطاهر بن عاشور/التحرير والتنوير. ص:173.ج. وكتاب: "روائع البيان" لمحمد علي الصابوني.ص: 44. وقد أضاف صاحب الكتاب الأخير "وقال ابن الأنصاري: وفي (مالك) خمس قراءات وهي: مالك, وملك، وملْك، ومليك، ومَلاك" وقد أخذ القولة من كتاب "البيان في غريب إعراب القرآن".
والذي ينتج عن هذه القراءات معنيان صحيحان: المُلك والمِلك. ويؤيد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} وقوله تعالى : {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ ؟ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ} لكن بعض المفسرين صار يفاضل بين القراءتين، وهي مفاضلة في روايتين ثابتتين لا يجوز الطعن في إحداهما قط. والأخطر من هذا أن بعض الجهال من بعض الذين أتيحت لهم فرصة إمامة المسلمين صار يفاضل بين القراءتين عن جهل حتى صار ذلك مجالا ساخنا للتلاعب بالقرآن.
ومما قاله المفضلون لرواية "مالك": (ذكر منها الرازي وجوها ستة.ص:241-ج01).
-منها حرف زائد، ومعلوم أن قراءة حرف من القرآن بعشر حسنات. فزيادة هذا الحرف في مالك فيه زيادة أجر.
-المالك هو الذي يباشر التصرف في مملوكه مباشرة بخلاف الملك فإنه لا يتولى ذلك مباشرة
-إن قوة معنى المالك ظاهرة : ذلك أن الناس يمكن يخرجوا عن سلطة الملك، أما الخروج عن سلطة المالك فهذا أمر صعب المنال لأن في المالكية سلطة ثابتة.
وأما ما ذكره المفضلون لرواية "ملك": (ذكر منها الرازي وجوها ثلاثة: ص:242.ج01).
-من حيث الدلالة فملك أقوى وأهم من مالك لأن المالك وصف قد يكون لمالكين كثيرين أما الملك فسلطة خاصة وقوية.
-لفظ ملك يصل إلى المعنى بأقل الحروف، وهذا عبارة عن رد على من قال في مالك إن زيادة حرف الألف فيها زيادة أجر ومعنى.
لا شك أن معنى الملك هو دائما دال على معنى ليس في مالك: فالملك إنما يضاف لذوي الإرادة والاختيار، وأما المالك فإنه يضاف إلى الجمادات وما لا يعقل. وهذا معنى جيد انتبه إليه بعض المفسرين. فالملك والمملوك يكونان في علاقة عقود مزدوجة. وعندما نقول ملك فإننا نعتبر بالضرورة وجود مكلفين. وكأن الله عز وجل عندما قال "ملك يوم الدين" يشير إلى أنه سيجازي المكلفين يوم الدين، يوم الجزاء.
ومهما يكن هذا الاختلاف وهذا التفاضل فالضابط عندنا هو : أن كلتا الروايتين ثابتة عن الرسول من ربه. والذي لا يجوز هو الخلط في القراءات: فقد نجد الإنسان يقرأ بمالك في الفاتحة على اعتبار أنها قراءة لحفص، ثم إذا قرأ باقي القرآن وجدناه يقرأ بقراءة ورش. ففي هذا خلط وسوء أدب مع القرآن أولا ومع علماء القراءات ثانيا. وإن في احترام القراءات تثبيتاً لحرمة القرآن وعلمائه.
فالله عز وجل إذن يصف نفسه بأنه ملك يوم الدين أو مالك يوم الدين. و الملك الإلهي ملك مؤسس ومن دعائمه الرحمة والعدل. ومعنى كون الله ملكاً "الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود, بل لا يستغني عنه شيء في شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في وجوده، ولا في بقائه. بل كل شيء فوجوده منه أو مما هو منه. وكل شيء سواه فهو له مملوك في ذاته وصفاته. وهو مستغن عن كل شيء.. فهذا هو المُلك المطلق" (المقصد إلى السنة) الغزالي. ص: 45.
وقال الراغب الأصفهاني في "معجم مفردات ألفاظ القرآن" ص: 492. "الملك هو المُتصرِّف بالأمر والنهي في الجمهور وذلك يختص بسياسة الناطقين ولهذا يُقال ملك الناس ولا يُقال ملك الأشياء... والمِلكُ ضربان: ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك، تَوَلَّى أو لم يَتَوَلَّ.... قال بعضهم: الملك اسم لكل من يملك السياسة إما في نفسه وذلك بالتمكين من زمام قُوَاهُ وصَرْفِها عن هداها، وإما في غيره سواء تولى ذلك أو لم يتولَّ على ما تقدم... فالمُلكُ ضبط الشيء المتصرَّفِ فيه بالحكم، والمِلْكُ كالجنس للمُلك، فكل مُلْكٍ مِلْكٌ وليس كل مِلْكٍ مُلْكاً."
وكون الله عز وجل ملكا ليوم الدين: معناه أنه يثيب ويعاقب على الأفعال التي صدرت عن المكلفين."وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود" التحرير والتنوير: ج.01.ص: 177 ثم إن يوم الدين الذي هو يوم الجزاء الأكبر مؤسس على الثواب والعقاب النهائيين، لكن أليس الثواب والعقاب حاضرين قبل ذلك؟ والجواب: إن الله عز وجل كما يثيب أو يعاقب في اليوم الأكبر, فإنه يفعل ذلك في الدنيا: فقد يستقيم المجتمع على شرع الله فيتاب أهله، وقد يتمرد الناس على شرع الله وسننه فيها جلهم الله بعقابه في الدنيا قبل الآخرة. لكن هذه العقوبة تتطلب قلوبا حاضرة تشعر بالعقاب علما بأن الناس قد يعاقبون لكنهم لا يشعرون بذلك. ومن ذلك ما يتذكر في قصة رجل كافر مع موسى عليه السلام: فقد قال الرجل لموسى: كم أعصي الله فلا يعاقبني؟ فأوحى الله لموسى أن قال له: بل يا موسى قل له: ما أكثر ما أعاقبك ولا تشعر. ألم أحرمك لذة معرفتي؟؟؟ محبتي؟؟؟؟ إن مثوبة الدنيا وعقوبتها لا يراها الجميع ولا يشعر بها إلا المؤمنون. وقد جعل الله يوم الدين يوما عاما يراه الجميع ويحس به الجميع {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
من خلال ما سبق كله يتضح أن هذا المقطع الأول من السورة يتضمن أمرين أساسيين: أولهما: حمد الله عز وجل حمدا مطلقاً
وثانيهما: ذكره سبحانه لخمسة من أسمائه "الله، والرب، والرحمان، والرحيم، والمالك. والسبب فيه كأنه تعالى يقول: خلقتك أولاً فأنا إله، ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا الرب، ثم عصيت فسترتُ عليك فأنا رحمان، ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم، ثم لابد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين" الرازي/تفسيره/ص:245.ج.01.
إياك نعبد}
إن العبد ينتقل بعد ما سبق في الحلقات السابقة إلى مشافهة الله تعالى ويوجه إليه الخطاب. فكأن العبد إذ أقر الصفات السابقة كشفت عنه كثيرا من الحُجُب التي كانت تقصيه من التوجه إلى الله سبحانه. ولاشك أن المخاطبة الصادقة شأن الصالحين. وهو شأن الأنبياء والرسل سابقا.
واللافت للنظر في الآية حديث العابد عن المعبود. وهو المسمى بالحصر في اللغة والمعنى : إياك نعبد ولا نعبد معك غيراً.
ولعل هذه الصيغة في الخطاب هنا إنما جاءت لأمور منها:
- أن البدء بالضمير يجعل النفس في حالة تأهب تستشعر العظمة الإلهية وحينذاك تكون العبادة في جو استحضار المعبود (وقد مثل بعضهم هذا فقال : إن العبادة شاقة وهي تحتاج إلى استعداد وإلى إعانة فهو لذلك يستجمع كل القوى ويستحضر النفس، وإلا فإن الإقدام مع استرخاء يؤدي إلى الفشل) إن استحضار العظمة الإلهية مُؤَدٍّ إلى الثبات على العبادة السليمة.
- وقيل إن معنى إياك يتضمن أن هذا المعبود مقدم في الوجود فيجب تقديمه في الذكر.
- وقيل إن إفراد الله بالعبادة هو المعنى الخفي في هذا التعبير بهذه الصيغة علما بأن العبادة الكاملة لا تكون بمجرد العبادة ولكن بالعبادة والإفراد في العبادة.
إن هذه النصوص الشرعية إنما تريد أن تُكَوِّن الإنسان تكوينا ربانيا ليكون الفرد قادرا على مواجهة الحياة. فالذي يواجه مشاكل الحياة وينتصر عليها هو المسلم لأنه لا يواجه المشاكل كمشاكل مستقلة ولكنه يواجهها باتخاذ شرع الله منهجا وسلاحا. ثم إن العبد المسلم لا ينظر إلى النعمة بل إلى المنعم، ولا ينظر إلى البلية بل إلى المبتلي. وحينذاك يهون عليه كل شيء. وهذا كله مفهوم من كون الله عز وجل يظهر للإنسان إما بمظهر الجمال أو بمظهر الجلال وسواء أرى الله لعباده الجمال أو الجلال فإنه يريد أن يعرفه عباده.
فهذا شيء مما يتعلق بإياك في بدء قوله تعالى {إياك نعبد}. وأما ما يتعلق بقوله {نعبد} فالنون هنا إما أنها للجمع وإما أنها للتعظيم.
وقال بعض العلماء : إن الإنسان إذ يتقدم أمام ربه يقول إياك نعبد ضاما عبادته إلى عبادة غيره من المؤمنين لأنه يعلم من واقع الشريعة الإسلامية أنها تحض على العبادة الجماعية. وحتى ما يظهر من الشريعة أنه فردي كالصيام فإنها جماعية بحكم الزمن أو الحج الذي قد يظهر أنه فردي ولكنه جماعي بحكم المكان.. وهكذا فإن الأقسام الفقهية كلها تمضي في هذا السياق.
وكما أن الله عز وجل يحث على الجماعة فإنه يجعل لذلك في الشرع الإسلامي آداباً وأخلاقاً وشروطاً لقيام هذه الجماعة على أحسن الأحوال. وأن الإخلال بهذه الشروط والآداب يفسد عبادة الإنسان خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة التي يلتقي فيها المؤمنون في أكثر أحوالهم.
وقال بعض المفسرين : إن الإنسان لا يريد أن يقدم صلاته وحده بل يضم صلاته إلى كل العابدين. وشأن الكريم أنه إذا جاءته هذه العبادة مجتمعة فإنه لكرمه سبحانه وتعالى يقبلها كاملة ويتجاوز فيها عن عباده أموراً بسبب هذا الوصف الجماعي الذي جاء فيه متوجها إلى ربه.
إن العبد وهو يقرأ قوله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" فإنه يُقر بعبادة الله. وتوجُّهُه هنا لا يكون لعظيم من الناس أو جماعة من البشروإنما هو توجه إلى الله سبحانه والخطاب موجه لله سبحانه فيكون ذلك أدعى إلى أن يتقوى في العبادة. والعبد الذي يفهم معنى إياك نعبد يصير كل شيء أمامه هيناً لإنه يصير مغمورا بالنور الإلهي. وبذلك تصير العبادة سليمة. ولذلك ربما سمعنا من آثار القدماء أموراً لو خضعناها للعقل لقلنا إنها لا تصح : فقد نسمع مثلاً أن بعضهم تُقطع رجله وهو لا يشعر فهذا أمر قد يبدو غريبا لأن قطع الرجل أمر ليس بهين، فكيف يعقل أن تقطع الرجل دون أن يشعر صاحبها بحجة قوة العبادة؟ لكننا إن قرأنا قوله تعالى : {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشى لله ما هذا بشراً} فهؤلاء نسوة يصيبهن ذهول لدرجة تقطيع أيديهن. وهذا مجرد انشغال إثر ذهول خاص وقع بسبب جرح دون شعور، فكيف إذا كان الذهول نتيجة انغماس في عبادة مشروعة؟
إن العبادة في تقدير بعض الناس "هي طاعة وخضوع". وهذا تفسير فيه تسامح وتجاوز. فالعبادة لا تكونها الطاعة والخضوع فقط.
فقد يكون أحد الناس محبا لإنسان آخر فيذيب إرادته فيمن يحب ويستسلم له فيكون في نهاية الخضوع لمن يحب، لكن هذه الحالة لا تسميها العرب عبادة بل تسميها خضوعا فقط. وكذلك الطاعة، فلو تصورنا حالة أناس ليس لهم إلا الطاعة دون مخالفة فهي حالة ليست كذلك عبادة.
إن العبادة لا تُتصور إلا في حالة وجود أوصاف وشروط:
فالعبادة أولا هي منتهى الخضوع والطاعة؛ بمعنى: ذوبان اختيارات وشهوات وغرائز وطموحات الإنسان في حب من يحبه.
فحينما تتنازع العبد مرة نزوات وشهوات وتتجاوز الأمر الإلهي فإنه حينئذ يكون قد نكص عن معنى العبادة: فإبراهيم وإسماعيل مثلا امتُحنا امتحانا مزدوجا. الأب ممتحن في ابنه والابن في أبيه. الأول مطلوب منه ذبح ابنه والثاني مطلوب منه طاعة أبيه. وكلا الأمرين أشق من أن يطلب من غيرهما فعله... وظهر منتهى الخضوع في تجاوز إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كل الشهوات والأواصر العائلية، وخلا قلب الأب والابن من كل شيء إلا من حب الله عز وجل.
ثم إن للعبادة شرطا آخر وهو أن يكون الخضوع مصحوبا بتعظيم المعبود. فقد نجد من يخضع لغني أو عظيم لا لأنه يحبه ولكن خوفا من بطشه أو طمعا في عطائه. فهو لا يطيعه تعظيما له. فلو تصورنا رئيسا كان مطاعا عندما كانت له سلطة ثم صار كعامة الناس بعد انقضاء أجل سلطته فهل سيطاع كما كان سابقا؟ طبعا لا. لماذا؟لأنه لم يعد يستطيع أن يضر أو ينفع أحدا, ولذلك ربما لا يُصافحه حتى المصافحة في الطريق أما الطاعة التي تشكل العبادة فهي الطاعة الناشئة عن تعظيم يملأ أعماق الإنسان.
إن العبادة تنشأ وتتأصل بالمحبة بمقدار النظر في عظمة الله ومقدار النظر في نعمه على الكائنات.
إن العظمة الإلهية المؤدية إلى العبادة المطلقة تسكن قلب الإنسان كلما وقف أمام مخلوق من مخلوقاته سبحانه وحينئذ يضع الإنسان مكانه في موضع العبودية الحقة.
فقولنا إذن {إياك نعبد} فيه معنى الخضوع لله، وهو شعور لا يمكن ان يكون إلا لله عز وجل.
وإننا أيضا ملتزمون بشروط وآداب العبادة الشرعية الصحيحة. إذ كيف يمكن أن يُعبد الله عز وجل دون وجود شروط لذلك ولأن العبادة ليست هي ما نريده أو ما تشتهيه أنفسنا. فإذا صرنا حتى في العبادة نعبد شهـواتنا فإننا قد نخرج عن أصل العبادة.
إن أقل شروط العبادة أن تكون:
1) : واردة : بمعنى أن تكون مستقاة من الشرع. فالله عز وجل إذ يطلب منا عبادته فإنه حدد لنا الكيفية لذلك : فحدد لنا الصلاة ومواصفاتها والصيام وشروطه والزكاة وطرقها، وغير هذا مما تحتويه الشريعة الإسلامية.
فليس لأي إنسان أن يعبد الله بعبادة يبتكرها ابتكارا وليس له أن يعبده بالتحريف.
إن الله عز وجل يطلب منا عبادته بالنحو الذي طلبه من خلال ما هو ثابت في القرآن والسنة. والعبادة المؤسسة على الابتكار لا يحصل بها أي شيء : فمثلا قد يرتب بعضهم ذكرا يُصحب بآلات موسيقية تهيج الإحساس، ويتخذ ذلك الذكر بديلا لصلاة الجمعة. فإن هذا العمل وهو مما كان يفعل ولازال يحاسب عليه صاحبه لأن فيه استحداثا لعبادة غير مؤصلة. وقد كان الأعلام حتى من الصوفية يتنكرون ويتخوفون من هذا. وقد قال الشاذلي لرجل جاءه ليرتب له ذكرا خاصا "أتُريدني أن أكون مشرعا"
إن العلماء جاهدوا كثيرا في محاربة مثل هذه البدع التي تمس بالعبادة الشرعية وقد قال أحدهم لمالك رحمه الله : إني أريد أنْ أُحرِم من المسجد النبوي" فقال له مالك "لا تفعل ذلك" قال "ولماذا؟" قال مالك "أخشى عليك الفتنة" قال: "وأي فتنة في خطوات أزيدها؟" قال "وأي فتنة أكبر من أن ترى نفسك قمت بعمل قَصُرَ عليه رسول الله.
إن البدع في العبادات أمر خطير وفيه ضياع للوقت والفكر والدين كله، والأخذ بالضوابط الشرعية من الكتاب والسنة في أمر العبادة يصلح أموراً كثيرة.
إن مالم يكن دينا يوم أُكمِل هذا الدين لن يكون دينا أبدا والتشبث بعبادات مستحدثة فيه مضيعة دنيوية وأخروية. والخسارة الكبرى هي أن يتصور الإنسان أنه يعبُد الله وهو على غير ذلك بسبب تطفل بعض العامة على هذا الدين. إننا مطالبون بأن نعود إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحق لا يُعرف بالرجال وإنما يعرف بما كان عليه الرسول وصحابته ولو أن الناس اتفقوا جميعا على فعل فعل مخالف لسنة رسول الله لما كان لذلك أثر في حقيقة سنته صلى الله عليه وسلم ولا في اتباع تلك السنة.
إن المسلم له نية وطبع يظهر بهما أنه سهل المنال مما يدفع بالبعض إلى التلاعب بعقول المسلمين ودفعهم إلى الخوض فيما يضعف هذا الدين وذلك بتنازلهم عن كل ما شرعه الله لمجرد الشهوات.
2) أن يُتوجه بها إلى الله سبحانه: بمعنى أن لا يشرك بها غيره وأن لا يتوجه العبد بعبادته إلى أي كان بشرا أم روحا أم حيا أم ميتا.
لابد أن تنزه العبادة بشكلها الجلي والخفي: فالإنسان قد ينزح لغير الله بسبب العادات كزيارة الأضرحة والدجالين والسحرة، وكلها من المظاهر التي توجه إلى الشرك بطريقة جلية مع أن صاحب الضريح الذي يُقدس قد يكون من الصالحين الذين لا يرضون أن تذبح عليه وهو ميت فضلا عن أن يكون له ذلك وهو حي.
كما أنـــه لا يحق للإنسان أن يشرك بالله شركا خفيا: بمعنى أن هناك من يعبد الله فيحرص على أن يُعرف عليه ذلك بالتظاهر والرياء. وهذا تعلق بالمخلوقات وهو متناف مع العبادة الخالصة لله لما فيه من شرك خفي.
إن الشخصية التي يريدها الإسلام هي الشخصية التي تضع الناس في مواضعها. وإلا فمن أين جاء للمسلمين انعدام الشخصية وعدم القدرة على ضبط النفس واللسان؟ فقد يأتي شخص فيقول لآخر إن فلانا فعل وفعل كذا وكذا فيقول ذلك الشخص نعم قد يفعل ذلك دون أن يلجأ إلى أبسط ضوابط الحق والباطل. ولو قال غير ذلك لما أعجب الأمر صاحبه. وهذه تصرفات غير شرعية. فأين قوله تعالى: {فتبينوا}.
إن المسلمين أصبحوا مشتهرين بالمجاملة لدرجة أنهم لا يستطيعون المقاومة والمنافسة. وذلك كله ناتج عن كونهم تعلموا وتشبثوا بفكرة التعامل مع البشر بعيدا عن الخالق. وقد صدق من قال : "لو تعاملنا مع الحق لاسترحنا من الخلق". إن كل ما يستحقه البشر هو التعامل وفق الآداب الشرعية.
فهذا كلام مختصر عن معنى العبادة في هذا الموضع، وخلاصته أن العبادة ليست مجرد الخضوع والطاعة بل هي منتهى الخضوع والطاعة مع ما يستدعي ذلك من التعظيم ومع إثبات كل عبادة بالوارد من القرآن والسنة دون أي يشرك في ذلك {من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صاحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} والعمل الصالح هو الوارد.
وهو أمر لابد منه في العبادة وهو الخضوع الدائم والطاعة التي لا تستثني منها مجالاً أو زمنا أو مكانا. فمن الناس من يعبد بشروط. وبعضهم قد يصلى وقد يصوم مع نقص واضح في ذلك وما عدا ذلك فلا يعتبره من العبادة..
إن الخضوع الدائم في العبادة يستدعي استحضار الحق سبحانه في كل الأحوال دون أدنى استثناء.
إن الاستمتاع بالعبادة لا يكون إلا بإتيان جميع متطلباتها في كل المجالات
{ إياك نستعين }
هذا اعتراف آخر: إننا لا نستعين بغيرك.
والاستعانة: طلب العون "والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحده" (التحرير والتنوير ج 1ص 184).
وفي هذا المقطع إقرار بالاستعانة الإلهية. وفي هذا الإقرار إشكال: فالإنسان يلتزم بأنه لا يستعين إلا بالله. لكننا من واقع الأمر وحتى في النصوص الشرعية نجد أنفسنا مدعوين إلى أن نستعين بغيرنا من الناس؟ إن الدنيا مؤسسة على تبادل الخدمات، وإن الله خلق البشر مختلفين ومفتقرين. فالإنسان دائم العون فإما أنه معين أو مستعين. والقرآن الكريم يدعو إلى التعاون {وتعاونوا على البر والتقوى} والنص هنا فيه إقرار بالاستعانة بالله وحده. وهذا هو الإشكال.
وتوضيحه: إن قولنا {إياك نستعين} في هذا الموضع من فاتحة الكتاب أمر آخر. ذلك أن الله تعالى رتب هذه الحياة الدنيا على أسباب ملاحظة وأسباب خفية. فالملاحظة هي الأسباب العادية (فمثلا لابد على الفلاح أن يباشر أسبابا ليزرع حتى ينتج) ولكن قد تتأثر هذه الأسباب بآفات سماوية فيتلف كل شيء. وهذه هي الأسباب الخفية. إن الأسباب الخفية هي الضامن للأسباب الملاحظة. إن الإنسان عندما يعجز عن مواجهة هذه الأسباب الخفية يلجأ لشركاء ظنا منه أنهم قادرون على الإعانة. وغالبا ما يلجأ هؤلاء المغفلون إلى الآخر.... وهذا خطأ يفسد عقيدة الإنسان. "إن الاستعانة الإلهية هي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي شعور بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعا وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمام الفعل أو تيْسيرُه" (التحرير والتنوير ج 1ص 184).
إن الأسباب الخفية يُتوجه فيها إلى الله عز وجل. والتوجه إلى الله تعالى يكون بعد إتيان كل الأسباب الظاهرة. فإياك نستعين معناها : إياك نستعين في تدبير ما وراء الأسباب.
إن الاستعانة بغير الله في طلب الأسباب الخفية شرك خطير.
وقد مثل بعض العلماء لهذا الأمر الذي هو الاشتغال بالأسباب ونسيان مسبب الأسباب بسَيّدٍ مَالكٍ لعبيد اختص بعض عبيده بمائدة يغذيهم صباح مساء. ولكنه لا يباشر ذلك هو نفسه بل يكلف لذلك أناساً آخرين من العبيد. فإذا طال الزمن بهؤلاء تناسوا صاحب الرزق الحقيقي وتعلقوا بأولئك العبيد الذين يخدُمونهم فيحترمونهم ويمجدونهم.. فهذه غفلة..
فنحن لنا أسباب مباشرة لا يحق أن تنسينا المسبب المباشر وهو الله عز وجل. والذي ننتبه إليه هنا هو أن الاستعانة إنما تكون من جهتين:
- الاستعانة بالأسباب الخارجية الظاهرة والتي تتم بين الناس والوسائل المتخذة لذلك.
ثم الاستعانة بالله عز وجل وهي الاستعانة المطلقة التي تتصل بما وراء الأسباب.
إن هذا الاعتراف {إياك نستعين} يفيد المسلمين إفادة عظيمة في إصلاح كثير من شؤونهم الدنيوية والأخروية: ذلك أن المؤمن إذا قال إننا نستعين بالله فلا يمكن أن تتصور هذه الاستعانة إلا في الذي يقوم بعمل مع إعلان العجز وعدم القدرة على القيام به على الوجه الأكمل. فالمؤمنون يعملون ولكنهم يستعينون. فلو فرضنا أن إنسانا ما كان يجر عربة وشقت عليه فإنه لا بد أن يستعين بشخص آخر، وحينذاك لا بأس من الطلب لأنه في موضعه. لكن إذا كان الرجل نائما تحت العربة وطلب طلبه فالاستجابة له ليست في موضعها. فلا شك إذن أن كل من يستعين بالله يقوم بعمل. فإياك نستعين لا تقال إلا في حالة عمل ولا تقال في حالة كسل. وهذا يدل على أن أمة الإسلام أمة عمل واجتهاد مع طلب السند من الله عز وجل.
إن من يقول إن المؤمنين يؤمنون باليوم الآخر مما يؤدي إلى تعطل قوانين الطبيعة مخطئ خاطئ: إن الأمة الإسلامية تأخذ دائما بالقوة البشرية دون جهل أو تجاهل الدعم الإلهي. ولذلك كانت دائما منتصرة، وما احتُقرت هذه الأمة وهُزمت إلا عندما تخلت عن هذه القاعدة، ولو أخذنا حروب المسلمين قديما كنموذج لذلك لوجدنا أن الحرب الإسلامية كانت تقوم دائما على أساس القوة المادية ولو كانت ضئيلة، والقوة الروحية التي يكون فيها السند الإلهي. وما انتصر المسلمون يوم بدر سوى لأنهم أتَوْا كل هذه الأسباب.
وهناك فائدة أخرى في {إياك نستعين}: إن الأمة الإسلامية تؤمن بالغيب، ولكنها لا تؤمن بالدجل والخرافات الروحية. فهي أمة تأتي الأسباب مع رجاء الله سبحانه. وبالمقابل فإن الأمم التي تدعي الحضارة الآن تنغمس في الخرافات بعيداً عن الغيب الشرعي، فشعوبها غارقة في الخوف، بل وإنها تخاف من كل شيء لأنها تستعين بكل شيء غير الله. ومن المسلمين من سار على هذا النهج الخرافي فتجد بعضهم يضع صناديق عند أبواب الأضرحة ليجمع أموال المغفلين من المسلمين.
إن الأمة الإسلامية مدعوة إلى التعاون والاستعانة فرادى وجماعات، وعدم التعاون مؤدٍ لا محالة إلى ظهور الأنانية في الإنسان. ثم إن مهمة الإنسان المسلم خاصة والإنسان عامة لا تتم إلا بالاستعانة: فأما المسلمون فاستعانتهم شرعية لها خصوصياتها كما سلف، وأما استعانة غير المسلمين فهي مؤسسة على أساس المصالح المادية ليس إلا. ومع ذلك فالذي يلاحظ أن الأمم غير المسلمة تقَوَّت بسبب تكتلاتها في مختلف المجالات، ولأجل إبقاء هذه التكتلات حافزا لقوتها فإنها وبفضل سياسة حكوماتها تبحث عن كل ما من شأنه أن يجمعها ولو كان ذلك على حساب غيرها من الأمم وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأمة الإسلامية، ولذلك قال أحد الساسة في الأمم الغربية "إن أوربا تبحثُ عن عدو بسبب انتهاء كل ما من شأنه أن يشغلهم" لتبقى فيهم حرارة الحفاظ على التعاون والاجتماع، ولعل عدوهم الذي وجدوه هو الأمة الإسلامية.
إن القول بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله دون اتخاذ أسباب قول سقيم، ثم إن التعاون بين الناس هو من قبيل الأمور الآلية التي يجب أن نحسن تسخيرها: فالمزارع مثلا وبفضل آلاته التي يعتمد عليها في خدمة أرض باعتبارها أسباباً مادية وكذا استعانته بالناس، كل ذلك يكون مساهما في نجاح عمله، ومع ذلك فاستعاناته هذه لا علاقة لها بالشرك بالله. هناك دائما سببان في الاستعانة لأجل قضاء الأمور: سبب مباشر متصل بالخيرات البشرية، وفاعل للأسباب.. الله عز وجل.. المعين الأول والذي لا يقبل أبدا الاستعانة بغير الله كذبح الذبائح لأجل الشرك وفي هذا شرك.
{إياك نستعين} بمعنى: إننا لا نلغي الإعانات المادية والأسباب الكونية. ولهذا يكون الإنسان قد حسنت نيته وقوي إخلاصه بحسن توجهه لله، كما أنه لا شك سيتقن عمله ويجسده.
{ اهدنا الصراط المستقيم }
بعد الوضع الذي عرفناه حيث يضع المسلم نفسه في موضعه أمام الله حين اعترف بتوحيدين: نوحيد ألوهيته (إياك نعبد) ويكافئه (الحمد لله)، وتوحيد ربوبية (إياك نستعين) ويكافئه (رب العالمين)... وهذا هو بيت القصيد والمطلوب. ومعناه أن المؤمن يطلب حاجة هو في حاجة إليها، والذي يطلبه المؤمن هو الهداية باعتبارها أهم شيء يمكن أن يطلبه الإنسان ويتمناه.
معنى الهداية
والهداية واردة كثيراً في القرآن وبعضُها مطلوب، وبعضها محقق في حياة الإنسان.
والهداية: هي الدلالة والإرشاد إلى مقصود بلطف. بمعنى أن الله عز وجل يوجه الإنسان خاصة والكائنات عامة إلى مقاصدهم دون عنف ولا غلظة.
والله عز وجل إذ يهدي الناس، معناه أنه سبحانه يُيَسِّرُ لهم الأسباب والشروط التي تأخذهم إلى الهداية أخذا دون شعور : فقد يهيء الله للإنسان صديقا خيرا، وأبا صالحا أو مناسبة صالحة أو أستاذا بارعا، أو مجلس خير وعلم...
إن الهداية قد تأتي بقوة فتكون سبيلا للنفاق مثل ما يقع عند البشر، مع أن هذا البشر لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات. ومن ذلك مثلا ما يكون بأسلوب الضرب مع أن هذا الأسلوب لا يصلح إلا في التضييق على الأبدان ولا يصلح في تغيير الأفهام.
والهداية المترددة في كتاب الله لها مستويات، وتحدث العلماء عنها كثيرا، ومن أحسن تقاسيمها أنها إما تكون:
1- هداية عامة: "وهي الهداية التي عَمَّ بجنسها كل مكلف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعمَّ منها كل شيء بقَدر فيه حَسْب احتماله كما قال تعالى: {رَبُّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}" المعجم الأصفهاني/ص536
فمن المعلوم أن الله عز وجل قسم العالم إلى عوالم مختلفة فمنها عالم الإنسان وعالم الحيوان، فجعل لكل نوع من أفراد هذا العالم نوعا خاصا من الهداية: فلأ فراد الإنسان نوع خاص من الهداية كالفهم والإدراك والاستيعاب. وهي لا تخص المؤمن فقط بل هي متصلة بكل أفراد الإنسان. فالعقل الذي هو مصدر كل هذه الحالات مثلا هداية تعم كل الناس... ولأفراد الحيوان نوع خاص كذلك من الهداية: فقد منح الله عز وجل مثلا بعض الحشرات هداية خاصة، فهداها بخفاء عجيب إلى تكوين حياتها على نمط خاص لا يتأتى لغيرها من الحشرات أو الحيوانات الأخرى. انظر إلى النملة إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها وتقصد إلى الحَبِّ الذي منه قوتها فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض، فمن خلق هذا في جبلتها إلا الرحمان الرحيم، ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجف، ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض خوفا من السيل أن يغرقها...
ثم انظر إلى النحل وما ألهمت إليه من العجائب والحكم، فإن الباري سبحانه جعل لها رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها، فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه قتل أحدهما الآخر وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق لأنهما إذا كانا أميرين وسلك كل واحد منهما فجا افترق النحل خلفهما، ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار فيستحيل في أجوافها عسلا، فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد من شراب فيه شفاء للناس كما أخبر سبحانه وتعالى...".
2- هداية الأنبياء: فالعقل يهدي الناس إلى الصواب. لكن قد يخطئ هذا العقل فيُضل، ولذلك جاءت النبوات وهي "الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى {وَجَعَلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} (المعجم الأصفهاني /ص: 536).
وحظ الأمة الإسلامية من هذه الهداية حظ وافر لأن بيدها الكتاب الذي جاء في الصورة الأبْدع والأكمل. ولهذا فإن مشكلة الأمة الإسلامية مشكلة عدم الأخذ بما أُرشِدَت إليه وليس بعدم وجود مرشدين. ولذلك فإن أحسن ما يجب أن يتعامل به القرآن هو أن يُؤخذ كهدي وكدستور تعمل به، فلو كتبنا هذا القرآن بكل أنواع التنميق والتزويق، ولو قرأناه بأجود الطرق ولو تغنينا به بكل السبل، فإننا لا يمكن أن نتقدم ولو خطوة. إن القرآن منهج إسلامي وتربية عظيمة لا يمكن لأثرها أن يظهر إلا بتطبيقه خير تطبيق.
3- هداية خاصة: "التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعنى بقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} وقوله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (المعجم الأصفهاني. ص:536)، والقصد بالتوفيق التسديد الإلهي إلى فعل الخير. وهو أن يرشد الله عز وجل العبد وييسر عليه السبل إلى أفضل الأعمال حتى إن العبد يجد نفسه في منتهى النشاط عند إتيان كل فعل خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة مثلا : فتعلق قلب المؤمن بالصلاة مع إقامتها على أفضل وجوهها دون عناء ولا ملل هو من توفيق الله عز وجل. ومثال هذا ما يلاحظ عند الرياضي العاشق للجري، فإنه يجد راحته ونشاطه في كثرة العَدْو، وكلما قل ذلك أصابه اليأس والملل مما يدفعه إلى متابعة جريه بنشاط أقوى وأفضل. وهذه الهداية الثالثة هي التي يطلبها العبد في قوله {اهدنا الصراط المستقيم}. وإذا وقعت هذه الهداية لاشك تقع الهداية الرابعة.
4- هداية الجنة: وهي هداية أهل الجنة إلى الجنة حيث الاستمتاع بالفضاء الواسع لأنه الخروج الأخير: فالإنسان يخرج من العدم، ويخرج من الرحم، ويخرج من الدنيا إلى القبر، ثم إلى الحشر ثم إلى الجنة وهو الخروج الأخير. فهذه هي التقاسيم التي وضعها العلماء بالنسبة للهداية. "وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإن لم تحصل الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل به الثلاثُ التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله. ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا يحصل الثالث" (المعجم الأصفهاني.ص536).
والهداية التي يمكن الوقوف عليها في هذا الموضع من هذه السورة هي بمعنى البيان والإرشاد. ولذلك فإنها قد تتصل بالإنسان كذلك. فقد يكون الإنسان هاديا. على أنه لا يحق ولا يصح لهذا الإنسان أن يكون متشنجا غضوبا شتاما، بل عليه أن يكون صاحب أناة ولطف وخفاء. وهذا النوع من الناس طينة خاصة. وخير طرق الهداية بالنسبة للإنسان أن يجعلها مؤسسة على مخطط ومنهج لا يشعر به المهدي. وذلك يتطلب إيجاد دافع خاص صالح.
لقد اختُلف في قضية إيصال الخير إلى الناس بالنسبة لهداية الله للبشر: فهل يكتفي بمجرد البيان أم أنه لابد من الإيصال؟ والذي عليه الكثير أنه تتم الهداية بمجرد البيان والإرشاد. ومنهج من قال إنها بالإيصال وإلا فإنها لا تختلف عن الإضلال.(وهذه قضية عقدية). قال الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله.(ج.1ص:188): "واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية: فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول الأشاعرة وهو الحق. وذهب جماعة منهج الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله ومشيئته وإرادته وأمره : فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر. والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلْق، ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من المهدي.." والمهم أننا نطلب الله الهداية هنا. ونحن إذ نطلب الهداية فذلك يختلف بحسب اختلاف أوضاعنا كطالبين، وقد نطلب الهداية حتى في هداية الفطرة وإذ ذاك يكون المعنى: احفظ لنا هذه الهداية وأدمها علينا
وإذا تعلق الأمر مثلا بالمواهب، فإن قلنا اهدنا فيها، فهي بمعنى أتم علينا مواهبنا.
ومن هنا فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "اهدنا الصراط المستقيم" ليس هو كمعنى قولنا نحن لذلك: فالرسول في قمة الهداية ويطلب الاستمرار وأما نحن فإننا نطلب الهداية أولاً.
والمهم أن الأمر إما أن يستحْدث بعد عدم، أو يتمم وهو موجود. فقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} ليس فيه استحداث للتقوى بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو طلب إتمامه. ثم إننا ونحن نطلب الهداية نركز على اتجاه خاص وهو الصراط المستقيم: والصراط: الطريق وتنطقه العرب بالصاد والسين وعند بعضهم ينطقونه بالزاي. وهو اسم عربي معروف مع أن الإمام السيوطي رحمه الله ذكر في كتابه (المهذب) أنه الطريق بلغة الروم. (ص:104)
فنحن نسأل الله أن يهدينا الصراط وأي صراط؟ فالصراط أمر حسي ملموس، لكننا نحن نطلب الصراط المعنوي!؟ إن الإنسان يسير في حياته على أحد طريقين إما الهداية أو الضلالة. وحتى يبين الله تعالى للإنسان أنه مسؤول عن هذا يُشبه ذلك السلوك المعنوي بالطريق.
فالإنسان كيفما كان يرتسم في ذهنه أنه يسير في طريق معين. أي أن كل فرد يُشعر ذاته أنها على نهج دون آخر. وكل يظن أو يريد أن يكون منهجه ونهجه هو الأسلم والأنضج عن جهل أو عن قصد.
والإنسان المسلم علمه القرآن أنه على طريق معين. وهو تصور مختلف عن تصور غير المسلم. وكل منهما ينظر للآخر نظرة خاصة. ومع ذلك فإن من المؤكد أن المسلم واضح المنهج والمسلك، والذي يشغله هو أن يعرف إلى أين يوصله منهجه ذلك. ويبقى مثل التائه في طريق فإنه غالبا ما ينتهي إلى السؤال عن نهاية الطريق ومقصده.
الصراط المستقيم أقصر طريق إلى الحق
إن أقل الناس معرفة في الإسلام يعرف حقيقة الطريق الإسلامي، فالذي يشرب الخمر أو يسرق أو يزني يعرف من خلال أعماله تلك أنه في طريق غير الطريق السوي.
ولهذا فإن المسلم يطلب ربه أن يهديه الصراط المستقيم فهو لا يرغب في مجرد الطريق بل يصفه: المستقيم، وهذا أيضا إمعان في التشبيه. وهذا ترشيح.
والصراط المستقيم هو الذي ليس فيه انحرافات ولا موهِمات تؤدي إلى التهلكة.
قال الفخر الرازي رحمه الله متحدثا عن إشارة لطيفة في تعبيره سبحانه بالمستقيم في هذا الموضع (التفسير ص 261 ج1) "اعلم أن أهل الهندسة قالوا: الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين، فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط فكأن العبد يقول: اهدنا الصراط المستقيم لوجوه:
الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.
الثاني: أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضا في الاعوجاج فيشتبه الطريق علي، أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان.
الثالث: الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود والمعوج لا يوصل إليه.
والرابع: المستقيم لا يتغير، والمعوج يتغير.
فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم والله أعلم".
والمهم أن الإنسان مادام في الطريق الواحد لا يخاف، لكن إن كثرت عليه الطرق اشتبه عليه الأمر ووقع المشكل، والمسلم يسأل الله أن يهديه طريقا مستقيما ليس فيه ما يوهم أنه على الحق والحالة أنه على ضلال.
إن من أخطر الحالات التي يكون عليها الإنسان المسلم خصوصا حالة كونه على شيء يبدو له أنه دين، لكن ينكشف الأمر أنه كان ضالا. بمعنى: أن بعض الناس يتوهم أنه على حق فيتصرف وفق ذلك وهو في حقيقة الأمر ضال ولا ينتبه لذلك إلا بعد مدة وربما بعد فوات الأوان. وقد كان الإمام محمد عبده (دروس من القرآن ص 52) يضرب لهذا مثلا: "وأضرب مثلا لذلك بأحد الشيوخ المتفقهين سرق كتابا من وقف أحد الأروقة في الأزهر مستحلا له بحجة أن قصد الواقف الانتفاع به، وهو يحصل بوجود الكتاب عنده.. وقد يفوت النفع ببقائه في الرواق حيث وضعه الواقف".
ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن أن تلاحظ في واقعنا هذا خصوصا في ديار الكفر: فمن الغريب أن بعض المسلمين في دول الكفر وصلت إليهم بعض الفتاوى السقيمة. من ذلك أنه قيل لهم: أنتم في دار الكفر فمال الكفار مُباح لكم، فمن استطاع أن ينهب منهم شيئا فليفعل؟! وهذا من الفقه السقيم.
فهذا المسلم الموجود في دار الكفر لا شك أنه من المستأمنين، فهو دخل لهذه الديار بجواز سفر وبتأشيرة وبمقابل مادي وبالتزامات قانونية ولم يدخلها بالبندقية. فكيف يمكن له أو يحق أن ينهب أموال أبناء هذه الديار؟!
ثم إن مثل هذه الفتوى تعطي صورة دنيئة للإسلام علماً بأن هذه الديار الكافرة خليط من أجناس مختلفة من ملل مختلفة. فيصبح الإسلام في رأي هؤلاء دين نهب وسرقة.
ومن ديار الكفر دائما يمكن إعطاء مثال آخر يبرز خلاله أبناء الإسلام، ويتعلق الأمر بأولئك العمال الذين يتخذون الشهادات الطبية المؤسسة على الكذب سبيلا للذهاب إلى المساجد أو لأجل الراحة أو لأجل أخذ رخص قانونية لأجل الإكثار من جمع المال من حرف مختلفة.
وإذا كان هذا شأن بعض الأحوال المتعلقة بالمسلمين في دول الكفر، فإن هذا لا يغيب في الدول الإسلامية التي نعيش فيها. وإن من أبرز علامات الفهم السقيم للإسلام من بعض أحوال ما يلاحظ في المؤسسات التعليمية التي كان من المنتظر أن تكون عنوانا للتربية الإسلامية، فإن هذه المؤسسات وخصوصا منها ذات المستوى العالي أصبحت عنوانا ورمزا للغش سواء من جهة المعلم أو المتعلم. وظاهرة الغش في الامتحانات أصبحت وسيلة سهلة ومؤدية للنجاح دون أدنى عناء علمي موضوعي. ومن الغريب أنه لا فرق في ذلك بين الذكور والإناث ولا بين المستويات على اختلافها. فقد أصبح من العادي جدا أن يضبط الطلبة وهم يجتازون امتحانات الإجازات في حالة غش.
والذي يجب أن يحسم فيه الأمر هنا هو أن النقل في الامتحانات حرام لأنه يؤدي إلى تجهيل هذه الأمة. والذي يرى الغشاشين من أصحاب النقل أو ما شابه ذلك فهو مساهم في هذه العملية المحرمة.
إن الإسلام يُربي الأمة على الصراحة وعلى العلم وعلى المنافسة بعيداً عن كل ما من شأنه أن يكون مجرد سبب في الحرام وإلا فإن هذه الأمة لن يكون لها شأن.
إن من أغرب ما يمكن أن يلاحظه الإنسان حاليا أن الأمم الكافرة تتعامل مع العلم بجد، ومع المتعلمين بصرامة وجدية ومع العلماء بأدب واحترام، في الوقت الذي أصبح فيه المعلم العالم مذلولا مقهوراً في الأمة الإسلامية علاوة عن انحطاط العلوم وغيابها أمام الضعف الذي أصبح عليه المتعلم بسبب خموله وانصرافه إلى اللهو واللعب في الوقت الذي يبقى فيه المتعلم في الدول الكافرة ملتزما لعلمه إلى وقت متأخر من السنة الدراسية.
إن هناك جسورا دقيقة مضبوطة بين طرق الخير وطرق الشر. وقد لا يتفطن الإنسان لذلك فيضل.
والمسلم إذ يطلب من الحق سبحانه أن يهديّه الصراط المستقيم، فإنه يطلب أن يكون على المنهج السوي وعلى كل ما من شأنه أن يوصله إلى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم. على أن المفسرين ذهبوا إلى تأويل الصراط المستقيم هنا إلى أمور منها: الدين، العدل، الحدود، الإسلام، القرآن. والذي ذهب إليه معظم المفسرين ما سبق توضيحه.
{صراط الذين أنعمت عليهم}
إن الصراط المستقيم بحكم كونه مستقيما يكفي، لكن المسلم يذكر صراط الذين كانوا على اهتداء سابقا ويطلب ربه أن يمنحه صراطا مستقيما خاصا.
لا شك أن الإنسان مثلا إذا كان على علم بكرم أحد الكرماء فإنه ومن شدة إعجابه بذلك الكرم لا يقول لذلك الكريم: أكرمني فقط، بل إنه قد يقول أكرمني كما أكرمت فلانا. وفي هذا القول استحثاث على العطاء الكثير.
ولهذا فإن في ذكر الذين أنعم الله عليهم سابقا طلب استزادة في العطاء.
وهؤلاء الذين أعطوا وصفهم الله بأنهم قد أنعم الله عليهم.
والنعمة هي المنفعة الحسنة المبذولة في غير عوض. أو هي كما قيل حالة الرفاه التي يكون عليها الإنسان. وأصلها أنها حسية لكنها استعملت في معنويات وهي إذ ذاك حالة الرضا التي ينعم بها الإنسان من الله عز وجل.
وعلى العموم فإن الله عز وجل قد أنعم على العبد. ونعمه سبحانه إما أنها مباشرة أي أنه سبحانه تفرد بإيجادها كنعمة الخلق و الإحياء، وإما أنها غير مباشرة أي أنها تصل عن طريق البشر إما بذاته أو بغيره، لكن يكون مصدرها في الأصل هو الله سبحانه وتعالى.
فقد يجعل الله بشرا يجري على يديهم النعمة كالوالدين.وقد يجعل الله القربات و الأدعية مصدر النعمة.
فالنعم كلها مرجعها الحق سبحانه {وما بكم من نعمة فمن الله}.
ومن المعلوم أن الله عز وجل أنعم على جميع الناس مؤمنين و كفرة. ونحن إذ نطلب نعمته هنا فإن المراد بها الإنعام بنعمة الدين و الهداية لا مطلق النعمة، لأن أكبر نعمة لا تقيد هي نعمة الاهتداء.
ثم إن الذين نُعموا بالصحة أو المال أو غيرهما من الأمور العارضة لا يستحقون أن يتخذوا قدوة، ولذلك فإننا نطلب من الله عز وجل نعمة الهداية التي هي أكبر النعم المرجوة. كما أننا نربط هذه الهداية التي تعتبر أكبر نعمة بأولئك الذين أنعم الله عليهم سابقا.
وقد اختلف في هؤلاء.
فقيل هم أتباع الأنبياء..
وقيل هم الأنبياء..
وقيل هم الأنبياء السابقون...
وقيل هم المؤمنون من هذه الأمة..
ومع هذا الاختلاف فإن الأمر قد يحصر في جهتين:
الأولى متعلقة بالمؤمنين: وتبقى غير سليمة إذ كيف يعقل أن يكون الطلب هنا متعلقا بالمؤمنين والسورة من أوائل السور من حيث النزول؟ فلاشك أن الذين أنعم الله عليهم سابقا و المرغوب في طلب نعمتهم هم غير المؤمنين بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثانية: متعلقة بالأنبياء: وربط الآية بهم أمر سليم علما بأنه سبحانه وتعالى جعل قدوتنا الأنبياء تكريما للأمة الإسلامية . وهاهنا سؤالان:
- لماذا نطلب صراط الذين أنعم الله عليهم مع أن الصراط المستقيم معلوم؟
إن لهذا الأمر علاقة بالتربية الإسلامية السليمة. ذلك أن التربية التي لا تُبنى على قدوة لا يمكن أن تكون تربية سليمة. إنه لابد من البحث عن الأمر المرغوب فيه في التربية و القدوة التي نريد الوصول إليها. فلو أردنا تربية الإنسان على العفاف مثلا فإن المتعلم لابد من تلقينه قصة يوسف مثلا كقدوة حسنة، وإن كان الأمر يتعلق بالالتزام والثبات لابد من تلقين وذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الأمر يتعلق بالتضحية فلابد من ذكر قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام. وهكذا.
ومن أجل هذا كان القصص القرآني كثيرا في كتاب الله عز وجل. والاعتناء بهذا القصص في مجال التربية أمر ضروري لأن كل خبر في القصص القرآني شاهد على حكم شرعي.
فصراط الذين أنعمت عليهم أحالتنا إذن على النموذج الذي يجب الإقتداء به. والمسلمون أولى الناس بالأنبياء، وهم يضعونهم جميعا موضع النعمة.
- والسؤال الثاني: إذا كنا نسأل الله في هذا المقام هذا السؤال فلا شك أن هؤلاء الأنبياء بشرائحهم السابقة كانوا على دين وعلى شرع، لكن شريعتنا هي الأكمل، فكيف يمكن أن نطلب النعمة التي نُعِّمَ بها أولئك؟..
والجواب: إننا إذ نسأل الله عز وجل هذه الهداية فإننا نقصد بذلك معنى الدين الشامل. بمعنى: إن الدين كان دائما هو الخضوع لله عز وجل. فالشرائع تختلف لكن جوهر الدين واحد. إن ما ألزمنا به نحن الآن ليس هو ما ألزم به غيرنا سابقا. وما نعبد الله به نحن قد يختلف في أمور فرعية لكن الأصل واحد.
{غير المغضوب عليهم و لا الضالين}
يمضي السياق معددا.
فكأننا نتخوف من أن نقع في شيء مما وقع فيه السابقون بعد ما طلبناه سبحانه وتعالى أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم.
والغضب كيفية من كيفيات النفس في عرف الناس يدعوها إلى الحركة الخارجية قصد طلب الانتقام. قال الأصفهاني (المعجم ص: 34): (الغضب ثوران دم القلب إرادة الانتقام) فهذا الشعور إذن تحولٌ في قلب الإنسان. وهو اضطراب نفسي. والنفس في نظر البعض لها عدة قوى منها قوة الحكمة وقوة العفة وقوة الشجاعة. والغضب ناشئ عن قوة الشجاعة التي توتر الهمة الصلبة. على أن مبدأ الشجاعة له حالات:
- اعتدال: ويؤدي إلى الحفاظ على النوع. ومن ذلك وجدنا مثلا أن الشجاع المعتدل يرغب دائما في الاستقلال بذاته. ولذلك وجدنا المسلمين عبر التاريخ لا يقبلون الاستعمار.
- إفراط: بحيث تتضخم الشجاعة وتصير غرورا وطيشا وتهورا. ومن ذلك مثلا الرد على الكلمات التافهة بالغضب المذموم في وقت يصح فيه السكوت عندما يمس الإسلام وتهتك حرمات الله.
- خمول: بحيث تفتر الشجاعة فيصير الإنسان جبانا منافقا.
من هنا فالغضب كان بالنسبة للإنسان حالة غير طبيعية. (والغضب المنهي عنه هو الغضب للنفس لأنه يصدر عنه الظلم و العدوان، ومن الغضب ما هو محمود، وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصا الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله) (التحرير والتنوير ص: 198 ج 1).
وقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له أوصني، قال: "لا تغضب" فكرر الرجل مرارا فقال: "لا تغضب".
ثم إن الغضب لا يؤثر في الإنسان الفرد فقط بل يتجاوزه إلى الأمة بكاملها. فكلما كانت الأمة متقدمة قل فيها الغضب. ولذلك فإنه ليس من الغريب أن تكون الأمة الإسلامية أمة غضب بسبب ضعف مستواها في مختلف المجالات.
فهذا إذن هو الغضب بالنسبة للإنسان، فهل يصح أن يكون كذلك بالنسبة لله عز وجل؟
إن الغضب الإلهي يرجع إلى معاملته المنكرين لشريعة الإسلام من المشركين والمنافقين والكفار وذلك بالانتقام والعقاب بشكل من أشكال عقابه لهم سبحانه وتعالى. فإذا وصف الله عز وجل بالغضب فإنما يراد بذلك أصلا الانتقام.
وهؤلاء الذين أبغضهم الله وغضب عليهم هم اليهود كما هو مشهور.
والضلال : (هو كل عُدول عن المنهج عمدا كان أم سهوا، يسيرا كان أم كثيرا. وإذا كان الضلال ترك الطريق المستقيم عمدا كان أو سهوا قليلا كان أو كثيرا، صحَّ أن يُستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نُسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار وإن كان بين الضلالين بون بعيد) (المعجم / الأصفهاني ص: 306).
والضلال من وجه آخر ضربان : ضلال في العلوم النظرية كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ومعرفة النبوة ونحوهما...وضلال في العلوم العملية كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات و الضلال البعيد هو إشارة إلى ما هو كفر)(المعجم/ الأصفهاني، ص: 307).
فالضلال إذن هو عدم الهداية.
فمن هنا عرفنا أن أصنافا ثلاثة ذكرت في هذه السورة.
فهناك صنف الذين أنعم الله عليهم وهم الأنبياء السابقون.
وهناك صنف المغضوب عليهم وهم اليهود كما هو مشهور.
وهناك صنف الضالين وهم النصارى كما هو مشهور كذلك.
وإذا كنا قد عرفنا بشيء من التفصيل ما يتعلق بالمنعم عليهم، فإن في ذكر المغضوب عليهم والضالين توضيح لابد منه يجب تبيينه انطلاقا من أساس واضح وهو أن قولنا بان المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى إنما هو على سبيل المثال فقط. بمعنى: إن المغضوب عليهم و الضالين هم المثال فقط. بل المغضوب عليهم والضالون هم كل من سار على نهجهم كأشهر فرق أعلنت عصيانها واستنكارها للشرع الإسلامي بوجه من الأوجه. والإنسان المسلم قد يرتكب من المعاصي ما من شانه أن يضل به أو يدفع به إلى غضب الله عليه ومع ذلك نقول إنه لا يقع له شيء من ذلك.
وهذا خطأ خطير يفسد الإيمان كله.
فمن المعلوم أن الذين غضب الله عليهم أناس واجهوا الحق وهم غير الضالين:
فالمغضوب عليهم واجهوا الحق ورفضوه ولا يقبلون به. وهذا تفسير يصدق دون شك على اليهود الذين كانوا في حصون منيعة وكانت قلوبهم غلف.
وغضب الله على اليهود ليس لأنهم يهود ولكن لأنهم اتخذوا موقفا من الشرع الإسلامي. وكل من اتخذ هذا الموقف فهو مغضوب عليه.
فذكر اليهود ليس على معنى الحصر إنما هو مجرد مثال. وإذ ذاك فالمغضوب عليهم هم كل من رفض الشرع. فالذين يكتبون مثلا ضد الإسلام رغبة في تحطيمه، أليسُوا من المغضوب عليهم ؟ فهم اتخذوا موقفا من الإسلام ويعملون بكل وسائلهم من أجل تحقيق موقفهم..وبالنسبة للذين يباشرون المناكر ويجاهرون بالمعصية، ألا يحق وضعهم في خانة المغضوب عليهم؟
وأما بالنسبة للضالين فهم أناس لم يكن لهم في البدء ذلك الموقف من الوحي مثل المغضوب عليهم، بل لعلهم قبلوا به فترة ما ثُم أدخلوا من التحريف ما جعلهم ينحرفون. فهم غير رافضين لأصل الدين ولكنهم حرفوه وفق أهوائهم. وهذا بالتأكيد وضع النصارى. فإنهم حرفوا الدين وأدخلوا فيه مسألة التثليث ومظاهر أخرى من الشرك. وذكر النصارى هنا إنما هو مثال فقط. وكل من يفعل فعل النصارى بتحريف حقيقة الأصل الديني فإنه يبقى من الضالين لا محالة.
فالضلال إذن غير محصور في النصارى وإنما هو لاحق بكل من اقترف فعلا يشبه فعل النصارى. ولعل من أبرز الأمثلة في واقعنا الحالي ما نلاحظه من مظاهر الشرك الناتجة عن الخرافات و البدع المتصلة بالأضرحة وغيرها.
ولاشك أن هذا الضلال الذي نخاف منه ونسأل الله أن لا نكون عليه هو على درجات:
- أناس ضلوا قبل النبوات إما لأنهم لم تصلهم الدعوة أو أنها وصلتهم على الوجه غير المقنع.
وهؤلاء من أهل الفترة، وأمرهم مفوض لله. ولعل هؤلاء يخفف عليهم بحسب مستوى تفكيرهم.
- أناس بلغتهم الدعوة واجتهدوا في طلب حقائقها ولم يصلوا وهؤلاء أفراد قلائل.
- أناس وصلتهم الدعوة وأخذوها من غير استدلال عليها ولا فهم لأصولها، ولذلك تصرفوا في الدعوة بأهوائهم وغيروا فيها (وهذا بالطبع ما وقع للمبتدعة من المسلمين). ثم إن هذا من أوسع الأبواب لضرب الإسلام.
- أناس ضلوا في الأعمال وفي العبادات. ذلك أنهم صرفوا ما هو لله للمخلوقات وما هو للمخلوقات لله. وهذا من أخطر ما يفسد العقيدة.
إذن فسؤالنا الله عز وجل إبعادنا عن الضالين مقصود به الإبعاد عن أنواع الضلالات.
ثم إن مما يتأكد لدينا هنا أن الضلال غير محصور في النصارى و إنما متصل بكل من يضل الطريق بوجه من الوجوه الأربعة المعلومة
1- فاتحة الكتاب:
" فأما أنها فاتحة الكتاب فلأنها أول القرآن وفاتحته. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان كلما نزل القرآن أمر بوضعه في موضعه سواء تعلق الأمر بالترتيب في السور أو في موضع الآيات داخل السور، مع وجود خلاف في ترتيب السور. ذكر صاحب كتاب "مناهل العرفان" ص: 350ج 1: وعملا بهذا الترتيب كان الفقهاء يحثون على ضرورة المحافظة عليه حتى في الصلاة. كما أن بعض العلماء عملوا على تأليف كتب خاصة في الحكمة من هذا الترتيب القرآني بإبراز التناسب الوارد في ذلك مثل ما فعله الإمام السيوطي في كتابه "تناسق الدرر في تناسب السور".
والمهم أن سورة الفاتحة باسمها فاتحة الكتاب تأتي من حيث الترتيب في أول القرآن ويجب الحفاظ على ترتيبها هذا مع أنه قد يبدو أنها لا تستحق هذا الموضع باعتبارها أصغر حجما من سور طويلة جدا تليها مباشرة، وقد يظهر أن من الأفضل وضعها مع قصار السور في آخر القرآن. لكن مع كل ذلك فإنها تبقى مفتتح هذا القرآن وكأنها بوضعها هذا جامعة للقرآن كله، بمعنى أن القرآن كله ما هو إلا تفسير لهذه السورة القصيرة. قال الحسن البصري: إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان والنص مأخوذ من كتاب " تناسق الدرر في تناسب السور/ السيوطي. ص: 61.
ومن أمثلة كون سورة الفاتحة جامعة لكل ما في القرآن ما ذكره الإمام السيوطي في ص: 63 وما بعدها في نفس الكتاب " تناسق الدرر في تناسب السور". قال (بتصرف): " قال بعض الأئمة: تضمنت سورة الفاتحة الإقرار بالربوبية والالتجاء إليها في دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهود والنصارى، وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكملة لمقصودها. وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بين الناس. أما المائدة فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ومكملات الدين والوفاء بعهود الرسل...".
2- أم الكتاب:
وأما أنها أم الكتاب فهو بمعنى أصله. فالفاتحة للقرآن كالأم للولد، فهي منشئه. ومثيل هذا في القرآن ما نجده في كتابات المؤلفين: فإنهم إن كتبوا مؤلفا وضعوا له مقدمة خاصة بينوا فيها كل ما هو آت في الكتاب حتى إذا قرأها القارئ تحمس أو تكاسل في قراءة الكتاب.
فالفاتحة بالنسبة للقرآن الكريم كله تعطي للقارئ نظرة عامة حول ما هو وارد في القرآن من خلال سوره كلها. فمن المعلوم أن القرآن جاء محتويا على أمور متعلقة بالعقائد والأحكام والأخبار من خلال مجموعة نواه وأوامر ووعد ووعيد، والفاتحة جاءت محتوية على كل هذا بصورة إجمالية، وإنما جاءت كل السور الأخرى لتفصل هذا وتبينه.
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في تفسيره (ج 1. ص: 179).
"المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد. والنبوات، وإثبات القضاء والقدر. فقوله: {الحمد لله رب العالمين} يدل على الإلهيات وقوله {مالك يوم الدين} يدل على نفي الجبر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره وقوله {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله، وعلى النبوات، فقد اشتملت هذه السورة على المطالب الأربعة التي هي المقصد الأعظم من القرآن" مأخوذ من كتاب "تناسق الدرر في تناسب السور" ص 61-62.
وقال الإمام الطاهر بن عاشور (التحرير والتنوير. ص : 133/ج. 1) "وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها منها: أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع: الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه عن جميع النقائص، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله تعالى {الحمد لله} إلى قوله {ملك يوم الدين}؛ والأوامر والنواهي من قوله {إياك نعبد}؛ والوعد والوعيد من قوله {صراط الذين} إلى آخرها. فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق منه الصفات، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله {الحمد لله} إلى قوله {يوم الدين} حمد وثناء؛ وقوله {إياك نعبد} إلى قوله {المستقيم} من نوع الأوامر والنواهي؛ وقوله {صراط الذي أنعمت} إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن".
3- السبع المثا ن ي:
وأما أنها مسماة السبع المثاني فلأنها سبع آيات لقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} ولقد ذكر في سبب تسميتها بهذا الاسم وجوه أبرزها: (كونها تثنى في كل ركعة من الصلاة- أنها تقرأ في الصلاة ثم تثنى بسورة أخرى)
قال الإمام السيوطي في "الإتقان" ص: 118 ج: 1: "وأما المثاني فيحتمل أن يكون مشتقا من الثناء لما فيها من الثناء على الله تعالى؛ ويحتمل أن يكون من التثنية، قيل لأنها تثنى في كل ركعة، يقويه ما أخرجه ابن جرير بسند حسن عن عمر قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب، تثنى في كل ركعة؛ وقيل لأنها تثنى بسورة أخرى؛ وقيل لأنها نزلت على قسمين ثناء ودعاء وقيل لأنها كلما قرأ العبد منها آية ثناه الله بالإخبار عن فعله كما في الحديث: وقيل لأنها اجتمع فيها فصاحة المباني وبلاغة المعاني؛ وقيل غير ذلك"
فهذه إذن هي الأسماء المشهورة التي اشتهرت بها سورة الفاتحة. مع أنها كما أشارة لذلك الإمام السيوطي لها أكثر من عشرين ا سما. قال: "وقد وقفت لها على نيف وعشرين اسما، وذلك يدل على شرفها، فإن كثرة الأسماء دالة على شرف المسمى" الإتقان: ج / ص: 116.
وسورة الفاتحة مكية باتفاق الجمهور.
وقيل إنها أول ما نزل من القرآن. قال بهذا حديثا الإمام محمد عبده رحمه الله . قال: "إني أرجح أنها أول ما أنزل على الإطلاق، ولا أستثني قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كتاب: دروس من القرآن .ص: 25 وهذا قول مستند الآثار. والصحيح أنها أول سورة كاملة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم لكن أول ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق...} مع أن هذه المسألة فيها خلاف مبني على حجج أورده الإمام السيوطي في الإتقان بدءا من الصفحة 50 من الجزء 1.
وكيفما كان الأمر فالذي يبقى الانتباه إليه ضروريا هو أن الفاتحة هي أول القرآن بحسب الترتيب، فكانت بذلك خير استهلال لكتاب الله الكريم.
موقع البسملة من الفاتحة
افتتح الله عز وجل هذه السورة بالبسملة (بسم الله الرحمان الرحيم) على غرار جميع السور إلا ما كان من سورة التوبة (براءة).
غير أن العلماء اختلفوا في كون البسملة من الفاتحة أم لا؟ فقال بعضهم إنها آية من سورة الفاتحة، وقال آخرون إنها ليست منها.
والخطير في أمر هذا الخلاف هو أن يناقش بعض الناس المسألة مع التعصب لرأي دون آخر بدون الاعتماد على دليل ثابت. فهذا غير مقبول خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة؛ ذلك أن الصلاة مطلوب فيها قراءة الفاتحة، ولا صلاة دون فاتحة، وهنا تقع الفوضى، بحيث يُجادل الناس بعضهم بعضا في مسألة قراءة البسملة في الفاتحة أو عدم قراءتها، دون الاستناد إلى الأدلة والحجج، وأما إن وقع ذلك الاستناد إلى الدليل ـ فلا شك أنه في تلك الحالة لا يقع الجدال.
والذي يمكن الإشارة إليه هنا كدليل ثابت وكتوضيح لابد منه، ما يلي:
- أولا: انقسام الفقهاء إلى شطرين بارزين أحدهما يقول بأن البسملة آية من الفاتحة، ويمثل هذا الشطر: الشافعي في قول من أقواله وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة.
أما الشطر الثاني فيرى أصحابه أن البسملة ليست من الفاتحة، ويمثله: مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة باستثناء عبد الله بن عمر وابن شهاب من فقهاء المدينة.
وأما أبو حنيفة فلم يُنقل عنه شيء، وإن كان الزمخشري قد أخذ عنه أنها ليست من السورة.
- ثانيا: إنه لا خلاف بين المسلمين في أن البسملة (بسم الله الرحمان الرحيم) من القرآن، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول الفاتحة، وإنما الذي اختلفوا فيه هو هل البسملة آية من سورة الفاتحة أم لا؟ بمعنى أنهم لم يختلفوا في كونها قرآنا، بل في تكرار قراءتها، وهذه مسألة ذكرها الفقهاء وحُسِمَ فيها القول (بداية المجتهد ونهاية المقتصد/ابن رشد الحفيد/ ص 89/ج1).
- ثالثا: السر في الخلاف في مسألة البسملة:
بالنسبة للمالكية فإنهم مشهورون بعدم قراءة البسملة في الفاتحة، ولعل من أشهر أقوالهم في هذا ما جاء عند ثلاثة من أشهر المالكية: أبو بكر الباقلاني، أبو بكر بن العربي، والقاضي عبد الوهاب.
- فأما الباقلاني فيقول: "لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد، والأول باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة، والثاني أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فلو وجدناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، ولصار ذلك ظنيا، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف".
- وأما أبو بكر بن العربي فيقول: "يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه".
- وأما القاضي عبد الوهاب فيقول : "إن رسول الله بَيَّن القرآن بيانا واحدا متساويا، ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان، ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حِمْل جَمل عند الإمام المعصوم المنتظر، فلو كانت البسملة من الحمد لبينها رسول الله بيانا شافيا".
فالظاهر من هذه الأقوال كلها أن المالكية يرون أن القرآن الكريم إما أن يثبت لنا بالتواتر أو بالآحاد، والمؤكد أن القرآن الكريم كله ثابت بالتواتر، ولو ثبتت البسملة بالتواتر لما وقع فيها الخلاف، ثم إن القول بأن البسملة نزلت بالآحاد فيه فتح لباب واسع للروافض.
وهذا التوضيح كله يدخل فيما يسمى بدليل النظر.
وهناك دليل ثان: وهو دليل الأثر، وهو مؤيد لما سبق بالنسبة للمالكية، فهناك أخبار كثيرة تثبت أن البسملة ليست آية من الفاتحة، وكلها أخبار من السنة الصحيحة. يُذكر من ذلك مثلا :
- روى الإمام مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمان إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة نصفين بينني وبين عبدي، فنصفها لي، ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل : يقول العبد الحمد لله رب العالمين فأقول حمدني عبدي، ويقول العبد الرحمان الرحيم، يقول الله : أثنى علي عبدي، ويقول العبدُ : مالك يوم الدين، يقول الله : مجَّدني عبدي، يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين، فهذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، هذه لعبدي ولعبدي ما سأل" (ص : 70-71).
- جاء في صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن النسائي عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه، قال: "صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمان الرحيم، لا في أول قراءة ولا في آخرها" (التحرير والتنوير/ ص: 140. ج 1).
- حديث عائشة قي صحيح مسلم وسنن أبي داود، قالت: "كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين" (التحير والتنوير- ص: 140/ج1).
- ما في سنن الترمذي والنسائي عن عبد الله بن مغفل قال: "صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقول بسم الله الرحمان الرحيم، إذا أنت صليت فقل الحمد لله رب العالمين" (التحرير والتنوير- ص: 140/ج1).
- عمل أهل المدينة: فالمسجد النبوي صلى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون وغيرهم ممن تبعهم من أئمة المدينة، ولم يسمع أحدهم قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة الجهرية.
- لما بدأ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن جبريل عليه السلام لما قال له {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (الحديث: البخاري ـ ج 6/ ص: 88) فإنه لم يقل له بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق...
أما الدليل الثالث فهو دليل الذوق العربي، ذلك أن من حسن الذوق العربي أن لا يرد التكرار في الكلام، ومع أن هذا الأمر فيه إفادة وبلاغة، فإنه قد لا يقبل في بعض الأحوال كما هو الشأن في الفاتحة إذا قرئت بالبسملة، فإن تكرار لفظي الرحمن الرحيم في كلام قصير دون وجود فصل كبير ومهم غير محمود في الذوق العربي. قال الفخر الرازي رحمه الله (ج: 1 ص: 207) وهو يرد على هذا الدليل: " إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن، وتأكيد كون الله رحمانا رحيما من أعظم المهمات". وأنا أدفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ، مثل التهويل ومقام الرثاء أو التعديد أو التأكيد اللفظي، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير، ولاسيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل، فتعيَّن أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المُكَرَّرَيْن بُعدا يقصيه عن السمع، وقد علمتَ أنهم عَدُّوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار، والقربُ بين الرحمن الرحيم حين كُرِّرا يمنع ذلك" (التحرير والتنوير: ج 1/ ص: 141).
وبالنسبة للشافعية القائلين بأن البسملة من الفاتحة خاصة، فإنهم اعتمدوا في قولهم على أدلة:
- المأثور من الأحاديث:
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم"، وقال فيه ابن عاشور (ص: 142) "إنه نازل عن درجة الصحيح".
حديث أم سلمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين" (بداية المجتهد ونهاية المقتصد/ص:90) وقال عنه ابن عاشور(ص: 142) "إنه ثابت أنه حديث مقطوع رواه ابن أبي مُلَيْكَة ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة عن أم سلمة.
الإجماع على أن كل ما في الكتاب قرآن وكلام الله، (وهذه مسألة ثابتة لا خلاف فيها، إنما يبقى الخلاف في كونها آية من الفاتحة أم لا).
وبالنسبة للإمام أحمد وأبي حنيفة: قال الفخر الرازي في تفسيره (ص: 208/ ج1): "يُروى عن أحمد أنه قال: التسمية آية من الفاتحة، إلا أنه يُسْتَر بها في كل ركعة... وقال أبو حنيفة: ليست آية من الفاتحة إلا أنها يستر بها في كل ركعة ولا يُحجر بها أيضا".
والمهم من هذا كله هو التأكيد على كون البسملة وقع فيها خلاف، والخلاف كله موصل إلى فهم حقيقة ثابتة وهي أن البسملة من القرآن، وهو أمر غير مختلف فيه، وإنما المختلف فيه هو كونها من الفاتحة أم لا؟
ومن خلال ما سبق يتضح أن لكل فريق حججه وأدلته، فلا يحق لأحد أن يتعصب، وإلا فإن إثبات الرأي إنما يتطلب الحجة والدليل، وأما أن يتعصب الإنسان وربما يدفع به تعصبه إلى اتخاذ مواقف ساقطة من غيره، فهذا غير مقبول
{بسم الله}:
والمعنى؛ بذكر اسم الله، وفيها إلزام للمسلم بأن يكون مع الله، والمسلم إذ يقول بسم الله، وكأنه يقول : استمدادا من قوتك يا ألله ومن إذنك أفعل كذا، وهذه الصيغة معروفة عند الناس :فالقاضي مثلا إذا نطق بالحكم النهائي في قضية ما يقول باسم رئيس الدولة، أو باسم الملك أو ما شابه هذا، أي أعلن أن الإذن إنما استمد من قوة هذه الجهة في اتخاذ القرار.
والذكر بالنسبة لبسم الله لا يحق أن يكون لسانيا فقط، بل يجب أن يكون قلبيا. ولما كانت عادة الناس أن البسملة عندهم مجرد لفظ لساني، فإننا نجد من ينطق بها حتى في ارتكاب الحرام.
{ الرحمن الرحيم } :
لقد اختار سبحانه وتعالى أن يبدأ بأول وصف وهو الرحمة بصيغتين؛ الرحمان وهي صيغة عامة، والرحيم وهي أم الصفات الإلهية كلها.
وهناك فرق بين الرحمان والرحيم، مع أن البعض قال إنه لا فرق.
فالرحمان تتصل بكونه سبحانه وتعالى منعم بالنعم العامة، النعم التي تتناول المستحق وغير المستحق، ومن ذلك مثلا أن الله عز وجل يرحم كل الكائنات دون فرق، كما أنه يرحم ويُنعم بنعم مهمة على ذلك الملحد الذي يبذل كل ما في وسعه لتحطيم دين الله. فهو يرحمه لأنه يمنحه القوة والبقاء والصحة والعافية من حيث لا يدري، مع أنه سبحانه بقدرته فعل غير ذلك.
وأما الرحيم فمتصل بكونه سبحانه وتعالى منعم بالنعم الخاصة، النعم التي تخص أولياءه، ويشعر بها المؤمن كلما تغلغل في دينه، ومن ذلك قول أحد الصالحين مُعْلِنا عن اطمئنانه من رحمة الله الخاصة "إننا في لذة لو علمها الملوك لقاتلونا عليها".
قال الإمام أبو حامد الغزالي في توضيح معاني هذين الاسمين: "اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعي مرحوما، ولا مرحوم إلا وهو محتاج من غير قصد وإرادة وعناية، فالمحتاج لا يسمى رحيما، والذي يريد قضاء حاجة ولا يقضيها، فإن كان قادرا على قضائها لا يسمى رحيما، إذ لو تمت الإرادة لوفى بها، وإن كان عاجزا باعتبار ما اعتوره من الرقة، ولكنه ناقص. وإنما الرحمة التامة إضافة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم. والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق، ورحمة الله تامة عامة، أما تمامها : فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، وعم الدنيا والآخرة، وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجية عنها، فهو الرحيم المطلق حقا ...الرحمان أخض من الرحيم، ولذلك لا يسمى به غير الله، والرحيم قد يطلق على غيره، فهو من هذا الوجه قريب من اسم الله الجاري مجرى العَلَم، وإن كان هذا اشتق من الرحمة قطعا، ولذلك جمع الله بينهما فقال : {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فلزم من هذا الوجه ـ من حيث معنى الترادف في الأسماء المحصاة ـ أن يُفرق بين معنى الاسمين"(1).
من مظاهر الرحمة في العبادات
وهناك أمر آخر مهم لابد من الإشارة إليه، وهو أن رحمة الله عز وجل لا تنتج عن انكسار في القلب كما هو شأن الإنسان، بمعنى، أن الله سبحانه إذا رحم فإنه يرحم لأنه رحيم ورحمان بالعباد، وأما الإنسان فهو لا يرحم إلا إذا رَقَّ قلبه وانكسر وهو ما لا يجوز على الله عز وجل.
ومن خلال هذا الأمر يتضح أن الإنسان بما منحه الله من قوة عقلية وجسمية خاضع لرحمة الله عند لحظة عجزه، خصوصا، ذلك أن الإنسان مأمور ومكلف من ربه، لكن هذا الإنسان قد لا يكون مستطيعا في كل الأحوال، ولذلك فإن الحق سبحانه يبرز له نوعا جديدا وخاصا من الرحمة، فمن مظاهر هذه الرحمة في العبادات مثلا(2):
- الإسقاط بالمرة (كالحج على العاجز).
- النقص (كالتقصير في الصلاة).
- الإبدال (كالجلوس بدل الوقوف في الصلاة).
- التقديم (جمع التقديم في السفر أو في الحج).
- التأخير (جمع التأخير في الصلاة).
- الترخيص.
- تغيير الكيفية (في صلاة الخوف).
وهذه التغييرات التي تقع في العبادات تبرز لنا بجلاء أن شريعة الله رحيمة، وبالمقابل فالقصد في التشدد في الشريعة الإسلامية غير وارد، وإذا ضاعت الشريعة ضاع التيسير وضاعت الرحمة.
في التمييز بين الحمد والشكر والمدح
{الحمد لله رب العالمين}
إن العبد بقراءته لهذا المقطع يُقِرُّ لربه بأمر مهم وهو استجماع الحمد للرب كله.
والحمد مصطلح شرعي واجب استيعابه، وهو من ألزم الكلمات للمسلم، ويجب استحضار معناه، وهو يشبه الشكر والمدح مع اختلاف في بعض الوجوه:
المدح: وهو الثناء على موجود سواء كان بعد الإنعام أم قبله، ومن هنا صح مدح الذي له إرادة واختيار أو غيره، وهو أعم من الحمد.
والمدح إما أن يكون مأمورا به (كمدح الشعراء للرسول صلى الله عليه وسلم)، وإما أن يكون منهيا عنه كمدح من لا يستحق المدح من أناس ماجنين مثل المغنيين والرياضيين)، مما يسبب عُلُوَّ الصغار والساقطين وانحطاط المجتمع بكامله، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أُحْثُوا التُّرَابَ في وَجْهِ المَادِحِينَ".
الحمد: وهو الثناء بالفضيلة، ويترتب عن صدور نعمة من الممدوح، وهو أخص من المدح.
والحمد لا يكون إلا جائزا إذا كان متعلقا بمن يستطيع الحمد، والحمد ثناء على الفواضل، وأما المدح فهو ثناء على الفضائل. ومما يؤمر به في الشرع الإسلامي الحمد للناس؛ بمعنى أنه لابد للفرد أن يكون سريع الإحساس بإحسان الغير والحمد له، قال صلى الله عليه وسلم: "من لم يحمد الناس لم يحمد الله".
الشكر: قال الراغب الأصفهاني : "الشكر هو تصور المُنْعَمِ عليه النعمة وإظهارها، قيل وهو مقلوب عن الكشر وهو الكشف ويُضاده الكفر...
والشكر على ثلاثة أضرب: شكر بالقلب؛ وهو تصور النعمة، وشكر باللسان؛ وهو الثناء على المنعم، وشكر بسائر الجوارح؛ وهو مكافأة بقدر استحقاقه...
وشكر العبد لربه هو معرفة نعمته وحفظ جوارحه بمنعها عن استعمال ما لا ينبغي...
وقال بعض أهل العلم : كل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله تعالى، فإن شكر نعمته نعمة منه فيحتاج العبد إلى شكر ثان كشكره الأول، وكذلك الحال في الثالث والرابع، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى، ولذلك قال موسى عليه السلام: "اللهم أمرتني بالشكر على نعمتك، وشكري إياك نعمة من نعمك". ومن هذا أنشد الشاعر فقال:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر.
فهذه بعض أوجه الاختلاف بين الحمد والمدح والشكر، وقد جمع هذا الاختلاف الراغب الأصفهاني عند شرحه للفظة الحمد، فقال: "الحمد لله تعالى الثناء عليه بالفضيلة، وهو أخص من المدح وأعم من الشكر، فإن المدح يُقال فيما يكون من الإنسان باختياره، ومما يُقال منه وفيه بالتسخير، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه، والحمد يكون في الثاني دون الأول، والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة، فكل شكر حمدٌ وليس كل حمدٍ شكرا، وكل حمدٍ مدحٌ وليس كل مدحٍ حمدا"(3).
ثم إن بين الحمد والشكر خاصة اختلاف من وجه واحد بارز وهو: إن الذي يُحمد لأنه أحسن وليس ضروريا كأن يُظهر إنسان حمده على عمل شخص غيابيا، وأما الشكر فهو متصل بالإحسان الخاص كأن يظهر الإنسان حمده لشخص أحسن إليه خاصة.
إن الله عز وجل ساق في قوله هنا {الحمد لله} لفظ الحمد وربطه بالله دون أن يترك الأمر للإنسان كأن يظهر يقول مثلا "أحمد الله"، وهذا يعطينا مجموعة من الأمور منها:
- إن الإنسان وهو يقرأ الآية {الحمد لله} يُقِرُّ أن الحمد ثابت لله قاله أو لم يقله، بمعنى : أن الحمد ثابت لله سبحانه بصرف النظر عن وجود الناس.
- إن الحمد بتمام معناه ثابت لله مجرد عن الإنسان، فلو قال الإنسان أحمد الله أنا : فالحمد هنا ضئيل مناسب للنعم الخاصة بهذا الإنسان ومناسب لعلمه، ولو قارنا علم ونعم هذا الإنسان لوجدناها تافهة أمام الله على الناس كافة، ومن هنا فإن حمد الإنسان بصيغة الأنا يبقى ضئيلا جدا.
- من حيث المعنى: لا يصح إلا أن يكون الحمد لله تعالى.
والحمد لو كان متعلقا بالبشر لما تم أبدا.
إن استشعار القلب لعظمة الله هو الداعي إلى الحمد، والله عز وجل هو فاعل هذا الفعل في قلب الإنسان، فيبقى الحمد في كل الأحوال متعلقا بالله عز وجل.
- لقد ورد في الشرع ضرورة حمد الإنسان كقوله عليه الصلاة والسلام : "من لم يحمد الناس لم يحمد الله"، ومن ذلك مثلا حمد المريض للطبيب، وحمد الطالب للأستاذ، لكن الذي يثير الانتباه هنا هو : كيف يمكن الجمع بين قوله تعالى {الحمد لله} وقوله عليه الصلاة والسلام "من لم يحمد الناس لم يحمد الله"؟
والجواب من وجهين:
أولا: إن الحامد للإنسان إنما يعلن بحمده عن عدم جحده علما بأن الذي سخر ذلك الإنسان للإحسان هو الله عز وجل: فالحمد للإنسان فيه حمد لله.
ثانياً: إن الحمد متعلق بكل من يستطيع الحمد، وهو مترتب عن صدور النعمة، والإنسان مع ضعفه قادر على الإنعام والإحسان كما أن الله عز وجل منعم ومحسن، والفرق ؛ أن أي إنسان يُحسن فإنه ينتفع بإحسانه، فهو إن أحسن كان رجاؤه قويا في ثواب الله، وفي الثناء عليه والمدح، وفي تصفية النفس من داء الحرص والبخل وغير هذا... أما الله عز وجل فليس له من غرض في ذلك، فهو يحسن لأنه يريد أن يحسن ولأنه رحمان رحيم.
{رب العالمين}
- العالمين: كل ما سوى واجب الوجود.
والعالم قسمان:
*عالم علوي "والمراد به ما ارتفع من الفلكيات من سماوات وكواكب وغيرها"(1).
*عالم سفلي: "والمراد به كل ما نزل من الفلكيات كالهواء والسحاب والأرض وما فيها كالمعادن والبحار والسحاب والنبات وغير ذلك"(2).
- رب: قال الراغب الأصفهاني: " الرب في الأصل التربية وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام. يقال رَبَّهُ وَرَبّاهُ وَرَبَّبَهُ... فالرب مصدر مستعار للفاعل ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات"(3).
فالله عز وجل "بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي، عقب بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلَّق متعلَّق أيضا، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال {يوم يقوم الناس لرب العالمين} ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته"(4).
وصفة الربوبية تعني التنشئة والمتابعة والتربية طورا بعد طور، والله عز وجل مرب لكل العوالم لأنه عز وجل هو منشئها وموجدها، فكيف يكون قادرا على إيجادها وغير قادر على متابعتها بالإمداد المبقي على وجودها؟
"لنتأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات، فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات، ولم يخلق فيها حركات تنبعث بها ولا آلات توصل إليها غذاءها، جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتجذب الماء من الأرض، فتتغذى بها أصولها وما علا منها من الأغصان والأوراق والثمار، فصارت الأرض كالأم المربية لها، وصارت أصولها وعروقها كالأفواه الملتقمة لها، وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان من أمهاتها"(5).
ثم إن هذه الأشجار والنباتات لا شك أنها كانت، قبل أن تصبح على ما هي عليه، عبارة عن بذور ضعيفة مَهِينَة زوَّدها الله عز وجل بمناعة وقوة خاصتين تخضعان لأسباب خاصة ليصل بها الأمر إلى نباتات ضخمة لها منافع أضخم بالنسبة للإنسان. قال الإمام الغزالي: "ثم تأمل خلق الحَب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائب كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان وهو سر لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه"(6).
فلنتأمل كيف تصبح البذرة بعد أن توضع في التراب وتبلل بالماء منتفخة صالحة لأن يخرج منها شيء من جهة ما، لكن الله عز وجل وبتربيته لهذا النوع من الكائنات لا يقبل إلا أن يخرج من هذه البذرة نوعان من العروق؛ إحداهما صالحة لأن تغوص في الأرض وترِق وتدِق كلما غاصت حتى تصبح في آخرها كأنها ماء متجمد، والأخرى تخرج من على سطح التراب ليتكون منها غصن جذع غليظ تستوي عليه أغصان متفرعة مغطاة بأنواع من الورق والثمر.. ثم ينمو ذلك كلما توفرت الأسباب الكونية خاصة ما يتعلق بوجود الماء. وإذ ذاك تظهر عظمة الله في التربية للنبات، والأعجب من هذا أن الجنس الواحد من البذرة يعطينا أنواعا من الألوان والثمار والأحجام وغير هذا مما يظهر من عجائب النباتات مع اختلاف أنواعها. "انظر كيف رتب البارئ الأشجار والثمار والأزهار وجعلها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح، فأشكالها ما بين طويل وقصير وجليل وحقير، وألوانها ما بين أحمر وأبيض وأصفر وأخضر..."(7).
فالتربية الإلهية متصلة بكل أنواع الكائنات في اختلاف العوالم "من حال النقص إلى حال الكمال وغايات التمام، فهو الذي يتعهد النبات بالتغذية والإنماء، وهكذا الحيوان والإنسان، وكذا العوالم العلوية، وهذه هي التربية التي كان مبدؤها الرحمة"(8).
التربية الإلهية هدفها فلاح الإنسان والعطاء قبل السؤال
ثم إن التربية الإلهية في مقصدها العميق مختلفة عن تربية الكائنات المخلوقة: فالله عز وجل يربي لِيَربح المخلوق الذي يربيه، وأما الكائن المخلوق فإنه يربي ليربح هو على ذلك، بمعنى أن الله عز وجل يربي كائناته خاصة ما يتعلق بالبشر ولا يقبل إلا الرضا والبذل والمزيد من طلبه، وأما الإنسان فإنه إذ يربي فإنه قد يرجو ويتمنى لو أن ولده الذي يربيه مثلا يفارقه أو يخفف عليه من الطلب، ولذلك ورد: "إن الله يحب العبد الملحاح" كما ورد كذلك: "خلقتك لتربح عليَّ لا لأربح عليك". ومن هنا يبقى على العبد المعترف حق الاعتراف بربوبيته سبحانه وتعالى التضرع والخشوع.
إن من ميزات التربية الإلهية كذلك أنه سبحانه وتعالى يُعطي قبل أن يُسأل ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى يوجِد الكائن دون أن يطلب منه ذلك، ولو شاء لتركه في العدم، وهذه هي نعمة الإيجاد، كما أنه سبحانه وتعالى يعطي ويُمد مع الاستحقاق أو دون ذلك : بمعنى أنه سبحانه يمد كائناته خصوصا البشر بنعم عظيمة سواء كان ذلك عن استحقاق أو غير استحقاق، فهو يُمد الكافر والملحد بنعم شتى، كما يُمد الصالح المتقي بنعم كثيرة، وكما يُمد كذلك الكائنات الأخرى على اختلافها بإمدادات عظيمة ... وهذا من رحمته سبحانه، ولذلك فإن من الحياء معه سبحانه سؤاله.
جهل حقيقة الربوبية في حياتنا اليومية
إن كثيرا من المسلمين يرفضون شرع الله عملا نتيجة سوء فهمهم لحقيقة الربوبية : فقد نرى في حياتنا اليومية أن الناس يتصرفون تصرفات منافية للشرع الإسلامي الذي هو دستور البشرية كافة والمسلمين خاصة، كل ذلك ناتج عن تغافلهم عن الربوبية، فلو أن الإنسان فكر في نعم الله عليه وعلى الكائنات الأخرى وما في ذلك من عظيم الفضل الإلهي لاسْتَحْيَى من إتيان الحرام بترك الشرع.
وقد سُئل الحسن البصري عن سر زهده فقال : "علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به سِوَايَ فاشتغلت به، وعلمت أن الله مُطَّلِعٌ علي فاستحييت أن يراني على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي".
إن مسألة الربوبية واجب استيعابها بالنسبة للمسلمين لما لها من علاقة كبيرة بفهم حقيقة الله عز وجل ومدى عظمة قدرته في الكون كله وفي البشرية خاصة.ثم إن الحمد لله عز وجل على ما أنعم به على الإنسان خصوصا، سواء تعلق الأمر به ذاتيا، أو بالكائنات الأخرى وما تلعبه من دور في الإحسان إليه كما يريد الله عز وجل، إن حمد الله واجب، وكما أنه واجب من جهة كون الإنسان غارقا في نعمه سبحانه، شعر أم لم يشعر، فإنه واجب كذلك لأن كل أسباب الثناء والحمد موجودة فيه سبحانه، وهي أسباب واردة في مقاطع من هذه السورة المباركة "الفاتحة"؛ فقوله تعالى {رب العالمين} مرتبط بسبب الكمال، وقوله تعالى {ملك يوم الدين} مرتبط بسبب البطش والقهر، وقوله تعالى {الرحمان الرحيم} مرتبط بسبب الإحسان وتوقع الإحسان.
يُرحم المجتمع بقدر اتصاله بالله
{الرحمن الرحيم}
لقد سبقت الإشارة عند شرح "الرحمان الرحيم" من البسملة إلى أن اللفظين مشتقان من الرحمة، وأن بين الصيغتين فرق: فالرحمان دالة على الرحمة العامة والرحيم دالة على الرحمة الخاصة، وهذا ما عبر عنه الإمام محمد عبده: "وأنا لا أُجيز للمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى مستقل"(9).
إن مما انتبه إليه بعض المفسرين قديما (ابن القيم) وحديثا (محمد عبده والشيخ رشيد رضا)، في هذه الصيغ التي جاءت في هذه الآية أن صيغة الرحمان تدل على الوصف العارض الذي لا يثبت مما يدل على أن موصوفه متصف بصفة دالة على الزوال، بمعنى أن الرحمة في صيغة الرحمان منقطعة، وأما في صيغة {الرحيم} فإن الرحمة ثابتة وملتصقة بالموصوف. وكأن الرحمان دالة على الرحمة لحظة بعد لحظة، وجاءت {الرحيم} لتثبت تلك الرحمة، وفي هذا الشأن يقول الإمام محمد عبده :"إن صيغة فعلان تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال، وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغضبان، وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل"(10).
وكيفما يكون الأمر فإن هذا لا يلغي أن رحمة الله عز وجل فيها العامة والخاصة، وأن المجتمعات الإسلامية ترحم بقدر ما تتصل بالله عز وجل، مع أن الرحمة العامة شاملة تخص المتصلين بالله وغير المتصلين به، وأما الخاصة فإنها مرتبطة بالمؤمنين الصالحين بحسب ما يتصلون بالله عز وجل.
ومن طريف ما أشار إليه الإمام أبو حامد الغزالي في قوله تعالى {الرحمان الرحيم} قوله: " الرحمان الرحيم إشارة إلى الصفة مرة وأخرى، ولا تظن أنه مكرر، تَكرُّر في القرآن، إذ حَدُّ المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة، وذكر الرحمة بعد ذكر العالمين وقبل ذكر مالك يوم الدين ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفضيل مجاري الرحمة؛ إحداهما تلتفت إلى خلق رب العالمين ، فإنه خلق كل واحد منهم على أكمل أنواعه وأفضلها وآتاه كل ما يحتاج إليه... وثانيها تعلقها بقوله: مالك يوم الدين، تشير إلى الرحمة في المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد في مقابلة كلمة (المراد بالكلمة، كلمة التوحيد) وعباده ... والمقصود أنه لا مكرَّرَ في القرآن، فإن رأيت شيئا مكررا من حيث الظاهر فانظر في سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة في إعادته"(11).
فالإمام الغزالي يُؤكد أمرين: أولهما أن كلمتي الرحمان الرحيم ليس فيها تكرار، وإنما هو (كما سماه الإمام الطاهر بن عاشور "تعداد" ج 27 ص: 246) أو كما سماه الأصوليون "التأسيس" وهو إيراد الجملة للإشارة الأولى، وهو مقدم على التأكيد، وقد قالوا إن تكرير قوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تعود فيه الآلاء إلى المذكور قبلها حتى ينصرف الكلام إلى التأسيس لا إلى مجرد تكرير آلاء الأولى"(12).
ملك يوم الدين
إن الموضوع العام في هذا المقطع هو اتصاف الله عز وجل بالملك وبأنه أَعَدَّ للناس يوم المتوبة والعقوبة. وهذا ركن أساسي من أركان الإيمان. وإن قلة حضور الإيمان باليوم الآخر يجعل الإسلام مجرد أفكار. وسر هذا اليوم أنه مبني على الجزاء. ومن طبيعة الإنسان وفطرته أنه يرغب في الجزاء. وقد لا ينتفع الإنسان بأي شيء من العلوم الشرعية التي قد يعيها ومهما حفظها إذا لم يكن على علم بعقيدته من جهة يوم الجزاء، اليوم الآخر. وإن من المعاكسة للمنهج الإلهي، القول بفكرة إبعاد كل ما يرهب ويخيف. وهي فكرة منتشرة في المجتمع الإسلامي على مستويات مختلفة وفي مجالات متنوعة. ومن ذلك ما يدعو له بعض رجال التربية في مجال التعليم في المستويات الابتدائية حين نادى بعضهم بضرورة إبعاد كل الآيات أو السور التي فيها ترهيب بحجة كونها مؤدية إلى عقد نفسية بالنسبة للأطفال. إن العقيدة الإسلامية ليست مجرد أفكار مبنية على أساس أهواء الناس وإنما هي تربية مبنية على أساس الترغيب والترهيب طبقا لسنة الله في خلقه.
والحق سبحانه وتعالى إذ يصف نفسه هنا بملك يوم الدين فإن في ذلك إشعارا بعدم المجاملة للخلق، وفيه إبراز لكون هذا الإسلام دستوراً شرعيا يحاسَبُ عليه الإنسان يوم الدين بحسب ما طبَّقَ: {يَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}.
وإن أول ما يثير الانتباه في هذا المقطع "ملك يوم الدين" اختلاف القراء في قراءة ملك أو مالك. "قرأ الجمهور ملك بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبي وصاحبيه أبي بكر وعمر في كتاب الترمذي... وأما قراءة مالك بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير.." الطاهر بن عاشور/التحرير والتنوير. ص:173.ج. وكتاب: "روائع البيان" لمحمد علي الصابوني.ص: 44. وقد أضاف صاحب الكتاب الأخير "وقال ابن الأنصاري: وفي (مالك) خمس قراءات وهي: مالك, وملك، وملْك، ومليك، ومَلاك" وقد أخذ القولة من كتاب "البيان في غريب إعراب القرآن".
والذي ينتج عن هذه القراءات معنيان صحيحان: المُلك والمِلك. ويؤيد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} وقوله تعالى : {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ ؟ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ} لكن بعض المفسرين صار يفاضل بين القراءتين، وهي مفاضلة في روايتين ثابتتين لا يجوز الطعن في إحداهما قط. والأخطر من هذا أن بعض الجهال من بعض الذين أتيحت لهم فرصة إمامة المسلمين صار يفاضل بين القراءتين عن جهل حتى صار ذلك مجالا ساخنا للتلاعب بالقرآن.
ومما قاله المفضلون لرواية "مالك": (ذكر منها الرازي وجوها ستة.ص:241-ج01).
-منها حرف زائد، ومعلوم أن قراءة حرف من القرآن بعشر حسنات. فزيادة هذا الحرف في مالك فيه زيادة أجر.
-المالك هو الذي يباشر التصرف في مملوكه مباشرة بخلاف الملك فإنه لا يتولى ذلك مباشرة
-إن قوة معنى المالك ظاهرة : ذلك أن الناس يمكن يخرجوا عن سلطة الملك، أما الخروج عن سلطة المالك فهذا أمر صعب المنال لأن في المالكية سلطة ثابتة.
وأما ما ذكره المفضلون لرواية "ملك": (ذكر منها الرازي وجوها ثلاثة: ص:242.ج01).
-من حيث الدلالة فملك أقوى وأهم من مالك لأن المالك وصف قد يكون لمالكين كثيرين أما الملك فسلطة خاصة وقوية.
-لفظ ملك يصل إلى المعنى بأقل الحروف، وهذا عبارة عن رد على من قال في مالك إن زيادة حرف الألف فيها زيادة أجر ومعنى.
لا شك أن معنى الملك هو دائما دال على معنى ليس في مالك: فالملك إنما يضاف لذوي الإرادة والاختيار، وأما المالك فإنه يضاف إلى الجمادات وما لا يعقل. وهذا معنى جيد انتبه إليه بعض المفسرين. فالملك والمملوك يكونان في علاقة عقود مزدوجة. وعندما نقول ملك فإننا نعتبر بالضرورة وجود مكلفين. وكأن الله عز وجل عندما قال "ملك يوم الدين" يشير إلى أنه سيجازي المكلفين يوم الدين، يوم الجزاء.
ومهما يكن هذا الاختلاف وهذا التفاضل فالضابط عندنا هو : أن كلتا الروايتين ثابتة عن الرسول من ربه. والذي لا يجوز هو الخلط في القراءات: فقد نجد الإنسان يقرأ بمالك في الفاتحة على اعتبار أنها قراءة لحفص، ثم إذا قرأ باقي القرآن وجدناه يقرأ بقراءة ورش. ففي هذا خلط وسوء أدب مع القرآن أولا ومع علماء القراءات ثانيا. وإن في احترام القراءات تثبيتاً لحرمة القرآن وعلمائه.
فالله عز وجل إذن يصف نفسه بأنه ملك يوم الدين أو مالك يوم الدين. و الملك الإلهي ملك مؤسس ومن دعائمه الرحمة والعدل. ومعنى كون الله ملكاً "الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود, بل لا يستغني عنه شيء في شيء: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في وجوده، ولا في بقائه. بل كل شيء فوجوده منه أو مما هو منه. وكل شيء سواه فهو له مملوك في ذاته وصفاته. وهو مستغن عن كل شيء.. فهذا هو المُلك المطلق" (المقصد إلى السنة) الغزالي. ص: 45.
وقال الراغب الأصفهاني في "معجم مفردات ألفاظ القرآن" ص: 492. "الملك هو المُتصرِّف بالأمر والنهي في الجمهور وذلك يختص بسياسة الناطقين ولهذا يُقال ملك الناس ولا يُقال ملك الأشياء... والمِلكُ ضربان: ملك هو التملك والتولي، وملك هو القوة على ذلك، تَوَلَّى أو لم يَتَوَلَّ.... قال بعضهم: الملك اسم لكل من يملك السياسة إما في نفسه وذلك بالتمكين من زمام قُوَاهُ وصَرْفِها عن هداها، وإما في غيره سواء تولى ذلك أو لم يتولَّ على ما تقدم... فالمُلكُ ضبط الشيء المتصرَّفِ فيه بالحكم، والمِلْكُ كالجنس للمُلك، فكل مُلْكٍ مِلْكٌ وليس كل مِلْكٍ مُلْكاً."
وكون الله عز وجل ملكا ليوم الدين: معناه أنه يثيب ويعاقب على الأفعال التي صدرت عن المكلفين."وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود" التحرير والتنوير: ج.01.ص: 177 ثم إن يوم الدين الذي هو يوم الجزاء الأكبر مؤسس على الثواب والعقاب النهائيين، لكن أليس الثواب والعقاب حاضرين قبل ذلك؟ والجواب: إن الله عز وجل كما يثيب أو يعاقب في اليوم الأكبر, فإنه يفعل ذلك في الدنيا: فقد يستقيم المجتمع على شرع الله فيتاب أهله، وقد يتمرد الناس على شرع الله وسننه فيها جلهم الله بعقابه في الدنيا قبل الآخرة. لكن هذه العقوبة تتطلب قلوبا حاضرة تشعر بالعقاب علما بأن الناس قد يعاقبون لكنهم لا يشعرون بذلك. ومن ذلك ما يتذكر في قصة رجل كافر مع موسى عليه السلام: فقد قال الرجل لموسى: كم أعصي الله فلا يعاقبني؟ فأوحى الله لموسى أن قال له: بل يا موسى قل له: ما أكثر ما أعاقبك ولا تشعر. ألم أحرمك لذة معرفتي؟؟؟ محبتي؟؟؟؟ إن مثوبة الدنيا وعقوبتها لا يراها الجميع ولا يشعر بها إلا المؤمنون. وقد جعل الله يوم الدين يوما عاما يراه الجميع ويحس به الجميع {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
من خلال ما سبق كله يتضح أن هذا المقطع الأول من السورة يتضمن أمرين أساسيين: أولهما: حمد الله عز وجل حمدا مطلقاً
وثانيهما: ذكره سبحانه لخمسة من أسمائه "الله، والرب، والرحمان، والرحيم، والمالك. والسبب فيه كأنه تعالى يقول: خلقتك أولاً فأنا إله، ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا الرب، ثم عصيت فسترتُ عليك فأنا رحمان، ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم، ثم لابد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين" الرازي/تفسيره/ص:245.ج.01.
إياك نعبد}
إن العبد ينتقل بعد ما سبق في الحلقات السابقة إلى مشافهة الله تعالى ويوجه إليه الخطاب. فكأن العبد إذ أقر الصفات السابقة كشفت عنه كثيرا من الحُجُب التي كانت تقصيه من التوجه إلى الله سبحانه. ولاشك أن المخاطبة الصادقة شأن الصالحين. وهو شأن الأنبياء والرسل سابقا.
واللافت للنظر في الآية حديث العابد عن المعبود. وهو المسمى بالحصر في اللغة والمعنى : إياك نعبد ولا نعبد معك غيراً.
ولعل هذه الصيغة في الخطاب هنا إنما جاءت لأمور منها:
- أن البدء بالضمير يجعل النفس في حالة تأهب تستشعر العظمة الإلهية وحينذاك تكون العبادة في جو استحضار المعبود (وقد مثل بعضهم هذا فقال : إن العبادة شاقة وهي تحتاج إلى استعداد وإلى إعانة فهو لذلك يستجمع كل القوى ويستحضر النفس، وإلا فإن الإقدام مع استرخاء يؤدي إلى الفشل) إن استحضار العظمة الإلهية مُؤَدٍّ إلى الثبات على العبادة السليمة.
- وقيل إن معنى إياك يتضمن أن هذا المعبود مقدم في الوجود فيجب تقديمه في الذكر.
- وقيل إن إفراد الله بالعبادة هو المعنى الخفي في هذا التعبير بهذه الصيغة علما بأن العبادة الكاملة لا تكون بمجرد العبادة ولكن بالعبادة والإفراد في العبادة.
إن هذه النصوص الشرعية إنما تريد أن تُكَوِّن الإنسان تكوينا ربانيا ليكون الفرد قادرا على مواجهة الحياة. فالذي يواجه مشاكل الحياة وينتصر عليها هو المسلم لأنه لا يواجه المشاكل كمشاكل مستقلة ولكنه يواجهها باتخاذ شرع الله منهجا وسلاحا. ثم إن العبد المسلم لا ينظر إلى النعمة بل إلى المنعم، ولا ينظر إلى البلية بل إلى المبتلي. وحينذاك يهون عليه كل شيء. وهذا كله مفهوم من كون الله عز وجل يظهر للإنسان إما بمظهر الجمال أو بمظهر الجلال وسواء أرى الله لعباده الجمال أو الجلال فإنه يريد أن يعرفه عباده.
فهذا شيء مما يتعلق بإياك في بدء قوله تعالى {إياك نعبد}. وأما ما يتعلق بقوله {نعبد} فالنون هنا إما أنها للجمع وإما أنها للتعظيم.
وقال بعض العلماء : إن الإنسان إذ يتقدم أمام ربه يقول إياك نعبد ضاما عبادته إلى عبادة غيره من المؤمنين لأنه يعلم من واقع الشريعة الإسلامية أنها تحض على العبادة الجماعية. وحتى ما يظهر من الشريعة أنه فردي كالصيام فإنها جماعية بحكم الزمن أو الحج الذي قد يظهر أنه فردي ولكنه جماعي بحكم المكان.. وهكذا فإن الأقسام الفقهية كلها تمضي في هذا السياق.
وكما أن الله عز وجل يحث على الجماعة فإنه يجعل لذلك في الشرع الإسلامي آداباً وأخلاقاً وشروطاً لقيام هذه الجماعة على أحسن الأحوال. وأن الإخلال بهذه الشروط والآداب يفسد عبادة الإنسان خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة التي يلتقي فيها المؤمنون في أكثر أحوالهم.
وقال بعض المفسرين : إن الإنسان لا يريد أن يقدم صلاته وحده بل يضم صلاته إلى كل العابدين. وشأن الكريم أنه إذا جاءته هذه العبادة مجتمعة فإنه لكرمه سبحانه وتعالى يقبلها كاملة ويتجاوز فيها عن عباده أموراً بسبب هذا الوصف الجماعي الذي جاء فيه متوجها إلى ربه.
إن العبد وهو يقرأ قوله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" فإنه يُقر بعبادة الله. وتوجُّهُه هنا لا يكون لعظيم من الناس أو جماعة من البشروإنما هو توجه إلى الله سبحانه والخطاب موجه لله سبحانه فيكون ذلك أدعى إلى أن يتقوى في العبادة. والعبد الذي يفهم معنى إياك نعبد يصير كل شيء أمامه هيناً لإنه يصير مغمورا بالنور الإلهي. وبذلك تصير العبادة سليمة. ولذلك ربما سمعنا من آثار القدماء أموراً لو خضعناها للعقل لقلنا إنها لا تصح : فقد نسمع مثلاً أن بعضهم تُقطع رجله وهو لا يشعر فهذا أمر قد يبدو غريبا لأن قطع الرجل أمر ليس بهين، فكيف يعقل أن تقطع الرجل دون أن يشعر صاحبها بحجة قوة العبادة؟ لكننا إن قرأنا قوله تعالى : {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاشى لله ما هذا بشراً} فهؤلاء نسوة يصيبهن ذهول لدرجة تقطيع أيديهن. وهذا مجرد انشغال إثر ذهول خاص وقع بسبب جرح دون شعور، فكيف إذا كان الذهول نتيجة انغماس في عبادة مشروعة؟
إن العبادة في تقدير بعض الناس "هي طاعة وخضوع". وهذا تفسير فيه تسامح وتجاوز. فالعبادة لا تكونها الطاعة والخضوع فقط.
فقد يكون أحد الناس محبا لإنسان آخر فيذيب إرادته فيمن يحب ويستسلم له فيكون في نهاية الخضوع لمن يحب، لكن هذه الحالة لا تسميها العرب عبادة بل تسميها خضوعا فقط. وكذلك الطاعة، فلو تصورنا حالة أناس ليس لهم إلا الطاعة دون مخالفة فهي حالة ليست كذلك عبادة.
إن العبادة لا تُتصور إلا في حالة وجود أوصاف وشروط:
فالعبادة أولا هي منتهى الخضوع والطاعة؛ بمعنى: ذوبان اختيارات وشهوات وغرائز وطموحات الإنسان في حب من يحبه.
فحينما تتنازع العبد مرة نزوات وشهوات وتتجاوز الأمر الإلهي فإنه حينئذ يكون قد نكص عن معنى العبادة: فإبراهيم وإسماعيل مثلا امتُحنا امتحانا مزدوجا. الأب ممتحن في ابنه والابن في أبيه. الأول مطلوب منه ذبح ابنه والثاني مطلوب منه طاعة أبيه. وكلا الأمرين أشق من أن يطلب من غيرهما فعله... وظهر منتهى الخضوع في تجاوز إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كل الشهوات والأواصر العائلية، وخلا قلب الأب والابن من كل شيء إلا من حب الله عز وجل.
ثم إن للعبادة شرطا آخر وهو أن يكون الخضوع مصحوبا بتعظيم المعبود. فقد نجد من يخضع لغني أو عظيم لا لأنه يحبه ولكن خوفا من بطشه أو طمعا في عطائه. فهو لا يطيعه تعظيما له. فلو تصورنا رئيسا كان مطاعا عندما كانت له سلطة ثم صار كعامة الناس بعد انقضاء أجل سلطته فهل سيطاع كما كان سابقا؟ طبعا لا. لماذا؟لأنه لم يعد يستطيع أن يضر أو ينفع أحدا, ولذلك ربما لا يُصافحه حتى المصافحة في الطريق أما الطاعة التي تشكل العبادة فهي الطاعة الناشئة عن تعظيم يملأ أعماق الإنسان.
إن العبادة تنشأ وتتأصل بالمحبة بمقدار النظر في عظمة الله ومقدار النظر في نعمه على الكائنات.
إن العظمة الإلهية المؤدية إلى العبادة المطلقة تسكن قلب الإنسان كلما وقف أمام مخلوق من مخلوقاته سبحانه وحينئذ يضع الإنسان مكانه في موضع العبودية الحقة.
فقولنا إذن {إياك نعبد} فيه معنى الخضوع لله، وهو شعور لا يمكن ان يكون إلا لله عز وجل.
وإننا أيضا ملتزمون بشروط وآداب العبادة الشرعية الصحيحة. إذ كيف يمكن أن يُعبد الله عز وجل دون وجود شروط لذلك ولأن العبادة ليست هي ما نريده أو ما تشتهيه أنفسنا. فإذا صرنا حتى في العبادة نعبد شهـواتنا فإننا قد نخرج عن أصل العبادة.
إن أقل شروط العبادة أن تكون:
1) : واردة : بمعنى أن تكون مستقاة من الشرع. فالله عز وجل إذ يطلب منا عبادته فإنه حدد لنا الكيفية لذلك : فحدد لنا الصلاة ومواصفاتها والصيام وشروطه والزكاة وطرقها، وغير هذا مما تحتويه الشريعة الإسلامية.
فليس لأي إنسان أن يعبد الله بعبادة يبتكرها ابتكارا وليس له أن يعبده بالتحريف.
إن الله عز وجل يطلب منا عبادته بالنحو الذي طلبه من خلال ما هو ثابت في القرآن والسنة. والعبادة المؤسسة على الابتكار لا يحصل بها أي شيء : فمثلا قد يرتب بعضهم ذكرا يُصحب بآلات موسيقية تهيج الإحساس، ويتخذ ذلك الذكر بديلا لصلاة الجمعة. فإن هذا العمل وهو مما كان يفعل ولازال يحاسب عليه صاحبه لأن فيه استحداثا لعبادة غير مؤصلة. وقد كان الأعلام حتى من الصوفية يتنكرون ويتخوفون من هذا. وقد قال الشاذلي لرجل جاءه ليرتب له ذكرا خاصا "أتُريدني أن أكون مشرعا"
إن العلماء جاهدوا كثيرا في محاربة مثل هذه البدع التي تمس بالعبادة الشرعية وقد قال أحدهم لمالك رحمه الله : إني أريد أنْ أُحرِم من المسجد النبوي" فقال له مالك "لا تفعل ذلك" قال "ولماذا؟" قال مالك "أخشى عليك الفتنة" قال: "وأي فتنة في خطوات أزيدها؟" قال "وأي فتنة أكبر من أن ترى نفسك قمت بعمل قَصُرَ عليه رسول الله.
إن البدع في العبادات أمر خطير وفيه ضياع للوقت والفكر والدين كله، والأخذ بالضوابط الشرعية من الكتاب والسنة في أمر العبادة يصلح أموراً كثيرة.
إن مالم يكن دينا يوم أُكمِل هذا الدين لن يكون دينا أبدا والتشبث بعبادات مستحدثة فيه مضيعة دنيوية وأخروية. والخسارة الكبرى هي أن يتصور الإنسان أنه يعبُد الله وهو على غير ذلك بسبب تطفل بعض العامة على هذا الدين. إننا مطالبون بأن نعود إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحق لا يُعرف بالرجال وإنما يعرف بما كان عليه الرسول وصحابته ولو أن الناس اتفقوا جميعا على فعل فعل مخالف لسنة رسول الله لما كان لذلك أثر في حقيقة سنته صلى الله عليه وسلم ولا في اتباع تلك السنة.
إن المسلم له نية وطبع يظهر بهما أنه سهل المنال مما يدفع بالبعض إلى التلاعب بعقول المسلمين ودفعهم إلى الخوض فيما يضعف هذا الدين وذلك بتنازلهم عن كل ما شرعه الله لمجرد الشهوات.
2) أن يُتوجه بها إلى الله سبحانه: بمعنى أن لا يشرك بها غيره وأن لا يتوجه العبد بعبادته إلى أي كان بشرا أم روحا أم حيا أم ميتا.
لابد أن تنزه العبادة بشكلها الجلي والخفي: فالإنسان قد ينزح لغير الله بسبب العادات كزيارة الأضرحة والدجالين والسحرة، وكلها من المظاهر التي توجه إلى الشرك بطريقة جلية مع أن صاحب الضريح الذي يُقدس قد يكون من الصالحين الذين لا يرضون أن تذبح عليه وهو ميت فضلا عن أن يكون له ذلك وهو حي.
كما أنـــه لا يحق للإنسان أن يشرك بالله شركا خفيا: بمعنى أن هناك من يعبد الله فيحرص على أن يُعرف عليه ذلك بالتظاهر والرياء. وهذا تعلق بالمخلوقات وهو متناف مع العبادة الخالصة لله لما فيه من شرك خفي.
إن الشخصية التي يريدها الإسلام هي الشخصية التي تضع الناس في مواضعها. وإلا فمن أين جاء للمسلمين انعدام الشخصية وعدم القدرة على ضبط النفس واللسان؟ فقد يأتي شخص فيقول لآخر إن فلانا فعل وفعل كذا وكذا فيقول ذلك الشخص نعم قد يفعل ذلك دون أن يلجأ إلى أبسط ضوابط الحق والباطل. ولو قال غير ذلك لما أعجب الأمر صاحبه. وهذه تصرفات غير شرعية. فأين قوله تعالى: {فتبينوا}.
إن المسلمين أصبحوا مشتهرين بالمجاملة لدرجة أنهم لا يستطيعون المقاومة والمنافسة. وذلك كله ناتج عن كونهم تعلموا وتشبثوا بفكرة التعامل مع البشر بعيدا عن الخالق. وقد صدق من قال : "لو تعاملنا مع الحق لاسترحنا من الخلق". إن كل ما يستحقه البشر هو التعامل وفق الآداب الشرعية.
فهذا كلام مختصر عن معنى العبادة في هذا الموضع، وخلاصته أن العبادة ليست مجرد الخضوع والطاعة بل هي منتهى الخضوع والطاعة مع ما يستدعي ذلك من التعظيم ومع إثبات كل عبادة بالوارد من القرآن والسنة دون أي يشرك في ذلك {من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صاحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} والعمل الصالح هو الوارد.
وهو أمر لابد منه في العبادة وهو الخضوع الدائم والطاعة التي لا تستثني منها مجالاً أو زمنا أو مكانا. فمن الناس من يعبد بشروط. وبعضهم قد يصلى وقد يصوم مع نقص واضح في ذلك وما عدا ذلك فلا يعتبره من العبادة..
إن الخضوع الدائم في العبادة يستدعي استحضار الحق سبحانه في كل الأحوال دون أدنى استثناء.
إن الاستمتاع بالعبادة لا يكون إلا بإتيان جميع متطلباتها في كل المجالات
{ إياك نستعين }
هذا اعتراف آخر: إننا لا نستعين بغيرك.
والاستعانة: طلب العون "والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحده" (التحرير والتنوير ج 1ص 184).
وفي هذا المقطع إقرار بالاستعانة الإلهية. وفي هذا الإقرار إشكال: فالإنسان يلتزم بأنه لا يستعين إلا بالله. لكننا من واقع الأمر وحتى في النصوص الشرعية نجد أنفسنا مدعوين إلى أن نستعين بغيرنا من الناس؟ إن الدنيا مؤسسة على تبادل الخدمات، وإن الله خلق البشر مختلفين ومفتقرين. فالإنسان دائم العون فإما أنه معين أو مستعين. والقرآن الكريم يدعو إلى التعاون {وتعاونوا على البر والتقوى} والنص هنا فيه إقرار بالاستعانة بالله وحده. وهذا هو الإشكال.
وتوضيحه: إن قولنا {إياك نستعين} في هذا الموضع من فاتحة الكتاب أمر آخر. ذلك أن الله تعالى رتب هذه الحياة الدنيا على أسباب ملاحظة وأسباب خفية. فالملاحظة هي الأسباب العادية (فمثلا لابد على الفلاح أن يباشر أسبابا ليزرع حتى ينتج) ولكن قد تتأثر هذه الأسباب بآفات سماوية فيتلف كل شيء. وهذه هي الأسباب الخفية. إن الأسباب الخفية هي الضامن للأسباب الملاحظة. إن الإنسان عندما يعجز عن مواجهة هذه الأسباب الخفية يلجأ لشركاء ظنا منه أنهم قادرون على الإعانة. وغالبا ما يلجأ هؤلاء المغفلون إلى الآخر.... وهذا خطأ يفسد عقيدة الإنسان. "إن الاستعانة الإلهية هي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي شعور بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعا وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمام الفعل أو تيْسيرُه" (التحرير والتنوير ج 1ص 184).
إن الأسباب الخفية يُتوجه فيها إلى الله عز وجل. والتوجه إلى الله تعالى يكون بعد إتيان كل الأسباب الظاهرة. فإياك نستعين معناها : إياك نستعين في تدبير ما وراء الأسباب.
إن الاستعانة بغير الله في طلب الأسباب الخفية شرك خطير.
وقد مثل بعض العلماء لهذا الأمر الذي هو الاشتغال بالأسباب ونسيان مسبب الأسباب بسَيّدٍ مَالكٍ لعبيد اختص بعض عبيده بمائدة يغذيهم صباح مساء. ولكنه لا يباشر ذلك هو نفسه بل يكلف لذلك أناساً آخرين من العبيد. فإذا طال الزمن بهؤلاء تناسوا صاحب الرزق الحقيقي وتعلقوا بأولئك العبيد الذين يخدُمونهم فيحترمونهم ويمجدونهم.. فهذه غفلة..
فنحن لنا أسباب مباشرة لا يحق أن تنسينا المسبب المباشر وهو الله عز وجل. والذي ننتبه إليه هنا هو أن الاستعانة إنما تكون من جهتين:
- الاستعانة بالأسباب الخارجية الظاهرة والتي تتم بين الناس والوسائل المتخذة لذلك.
ثم الاستعانة بالله عز وجل وهي الاستعانة المطلقة التي تتصل بما وراء الأسباب.
إن هذا الاعتراف {إياك نستعين} يفيد المسلمين إفادة عظيمة في إصلاح كثير من شؤونهم الدنيوية والأخروية: ذلك أن المؤمن إذا قال إننا نستعين بالله فلا يمكن أن تتصور هذه الاستعانة إلا في الذي يقوم بعمل مع إعلان العجز وعدم القدرة على القيام به على الوجه الأكمل. فالمؤمنون يعملون ولكنهم يستعينون. فلو فرضنا أن إنسانا ما كان يجر عربة وشقت عليه فإنه لا بد أن يستعين بشخص آخر، وحينذاك لا بأس من الطلب لأنه في موضعه. لكن إذا كان الرجل نائما تحت العربة وطلب طلبه فالاستجابة له ليست في موضعها. فلا شك إذن أن كل من يستعين بالله يقوم بعمل. فإياك نستعين لا تقال إلا في حالة عمل ولا تقال في حالة كسل. وهذا يدل على أن أمة الإسلام أمة عمل واجتهاد مع طلب السند من الله عز وجل.
إن من يقول إن المؤمنين يؤمنون باليوم الآخر مما يؤدي إلى تعطل قوانين الطبيعة مخطئ خاطئ: إن الأمة الإسلامية تأخذ دائما بالقوة البشرية دون جهل أو تجاهل الدعم الإلهي. ولذلك كانت دائما منتصرة، وما احتُقرت هذه الأمة وهُزمت إلا عندما تخلت عن هذه القاعدة، ولو أخذنا حروب المسلمين قديما كنموذج لذلك لوجدنا أن الحرب الإسلامية كانت تقوم دائما على أساس القوة المادية ولو كانت ضئيلة، والقوة الروحية التي يكون فيها السند الإلهي. وما انتصر المسلمون يوم بدر سوى لأنهم أتَوْا كل هذه الأسباب.
وهناك فائدة أخرى في {إياك نستعين}: إن الأمة الإسلامية تؤمن بالغيب، ولكنها لا تؤمن بالدجل والخرافات الروحية. فهي أمة تأتي الأسباب مع رجاء الله سبحانه. وبالمقابل فإن الأمم التي تدعي الحضارة الآن تنغمس في الخرافات بعيداً عن الغيب الشرعي، فشعوبها غارقة في الخوف، بل وإنها تخاف من كل شيء لأنها تستعين بكل شيء غير الله. ومن المسلمين من سار على هذا النهج الخرافي فتجد بعضهم يضع صناديق عند أبواب الأضرحة ليجمع أموال المغفلين من المسلمين.
إن الأمة الإسلامية مدعوة إلى التعاون والاستعانة فرادى وجماعات، وعدم التعاون مؤدٍ لا محالة إلى ظهور الأنانية في الإنسان. ثم إن مهمة الإنسان المسلم خاصة والإنسان عامة لا تتم إلا بالاستعانة: فأما المسلمون فاستعانتهم شرعية لها خصوصياتها كما سلف، وأما استعانة غير المسلمين فهي مؤسسة على أساس المصالح المادية ليس إلا. ومع ذلك فالذي يلاحظ أن الأمم غير المسلمة تقَوَّت بسبب تكتلاتها في مختلف المجالات، ولأجل إبقاء هذه التكتلات حافزا لقوتها فإنها وبفضل سياسة حكوماتها تبحث عن كل ما من شأنه أن يجمعها ولو كان ذلك على حساب غيرها من الأمم وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأمة الإسلامية، ولذلك قال أحد الساسة في الأمم الغربية "إن أوربا تبحثُ عن عدو بسبب انتهاء كل ما من شأنه أن يشغلهم" لتبقى فيهم حرارة الحفاظ على التعاون والاجتماع، ولعل عدوهم الذي وجدوه هو الأمة الإسلامية.
إن القول بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله دون اتخاذ أسباب قول سقيم، ثم إن التعاون بين الناس هو من قبيل الأمور الآلية التي يجب أن نحسن تسخيرها: فالمزارع مثلا وبفضل آلاته التي يعتمد عليها في خدمة أرض باعتبارها أسباباً مادية وكذا استعانته بالناس، كل ذلك يكون مساهما في نجاح عمله، ومع ذلك فاستعاناته هذه لا علاقة لها بالشرك بالله. هناك دائما سببان في الاستعانة لأجل قضاء الأمور: سبب مباشر متصل بالخيرات البشرية، وفاعل للأسباب.. الله عز وجل.. المعين الأول والذي لا يقبل أبدا الاستعانة بغير الله كذبح الذبائح لأجل الشرك وفي هذا شرك.
{إياك نستعين} بمعنى: إننا لا نلغي الإعانات المادية والأسباب الكونية. ولهذا يكون الإنسان قد حسنت نيته وقوي إخلاصه بحسن توجهه لله، كما أنه لا شك سيتقن عمله ويجسده.
{ اهدنا الصراط المستقيم }
بعد الوضع الذي عرفناه حيث يضع المسلم نفسه في موضعه أمام الله حين اعترف بتوحيدين: نوحيد ألوهيته (إياك نعبد) ويكافئه (الحمد لله)، وتوحيد ربوبية (إياك نستعين) ويكافئه (رب العالمين)... وهذا هو بيت القصيد والمطلوب. ومعناه أن المؤمن يطلب حاجة هو في حاجة إليها، والذي يطلبه المؤمن هو الهداية باعتبارها أهم شيء يمكن أن يطلبه الإنسان ويتمناه.
معنى الهداية
والهداية واردة كثيراً في القرآن وبعضُها مطلوب، وبعضها محقق في حياة الإنسان.
والهداية: هي الدلالة والإرشاد إلى مقصود بلطف. بمعنى أن الله عز وجل يوجه الإنسان خاصة والكائنات عامة إلى مقاصدهم دون عنف ولا غلظة.
والله عز وجل إذ يهدي الناس، معناه أنه سبحانه يُيَسِّرُ لهم الأسباب والشروط التي تأخذهم إلى الهداية أخذا دون شعور : فقد يهيء الله للإنسان صديقا خيرا، وأبا صالحا أو مناسبة صالحة أو أستاذا بارعا، أو مجلس خير وعلم...
إن الهداية قد تأتي بقوة فتكون سبيلا للنفاق مثل ما يقع عند البشر، مع أن هذا البشر لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات. ومن ذلك مثلا ما يكون بأسلوب الضرب مع أن هذا الأسلوب لا يصلح إلا في التضييق على الأبدان ولا يصلح في تغيير الأفهام.
والهداية المترددة في كتاب الله لها مستويات، وتحدث العلماء عنها كثيرا، ومن أحسن تقاسيمها أنها إما تكون:
1- هداية عامة: "وهي الهداية التي عَمَّ بجنسها كل مكلف من العقل والفطنة والمعارف الضرورية التي أعمَّ منها كل شيء بقَدر فيه حَسْب احتماله كما قال تعالى: {رَبُّنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}" المعجم الأصفهاني/ص536
فمن المعلوم أن الله عز وجل قسم العالم إلى عوالم مختلفة فمنها عالم الإنسان وعالم الحيوان، فجعل لكل نوع من أفراد هذا العالم نوعا خاصا من الهداية: فلأ فراد الإنسان نوع خاص من الهداية كالفهم والإدراك والاستيعاب. وهي لا تخص المؤمن فقط بل هي متصلة بكل أفراد الإنسان. فالعقل الذي هو مصدر كل هذه الحالات مثلا هداية تعم كل الناس... ولأفراد الحيوان نوع خاص كذلك من الهداية: فقد منح الله عز وجل مثلا بعض الحشرات هداية خاصة، فهداها بخفاء عجيب إلى تكوين حياتها على نمط خاص لا يتأتى لغيرها من الحشرات أو الحيوانات الأخرى. انظر إلى النملة إنها ألهمت حفر بيوت في الأرض تبتدئ في ذلك بإخراج ترابها وتقصد إلى الحَبِّ الذي منه قوتها فتقسمه خشية أن ينبت بنداوة الأرض، فمن خلق هذا في جبلتها إلا الرحمان الرحيم، ثم إذا أصاب الحب بلل أخرجته فنشرته حتى يجف، ثم إنها لا تتخذ البيوت إلا فيما علا من الأرض خوفا من السيل أن يغرقها...
ثم انظر إلى النحل وما ألهمت إليه من العجائب والحكم، فإن الباري سبحانه جعل لها رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها، فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه قتل أحدهما الآخر وذلك لمصلحة ظاهرة وهو خوف الافتراق لأنهما إذا كانا أميرين وسلك كل واحد منهما فجا افترق النحل خلفهما، ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار فيستحيل في أجوافها عسلا، فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد من شراب فيه شفاء للناس كما أخبر سبحانه وتعالى...".
2- هداية الأنبياء: فالعقل يهدي الناس إلى الصواب. لكن قد يخطئ هذا العقل فيُضل، ولذلك جاءت النبوات وهي "الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى {وَجَعَلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} (المعجم الأصفهاني /ص: 536).
وحظ الأمة الإسلامية من هذه الهداية حظ وافر لأن بيدها الكتاب الذي جاء في الصورة الأبْدع والأكمل. ولهذا فإن مشكلة الأمة الإسلامية مشكلة عدم الأخذ بما أُرشِدَت إليه وليس بعدم وجود مرشدين. ولذلك فإن أحسن ما يجب أن يتعامل به القرآن هو أن يُؤخذ كهدي وكدستور تعمل به، فلو كتبنا هذا القرآن بكل أنواع التنميق والتزويق، ولو قرأناه بأجود الطرق ولو تغنينا به بكل السبل، فإننا لا يمكن أن نتقدم ولو خطوة. إن القرآن منهج إسلامي وتربية عظيمة لا يمكن لأثرها أن يظهر إلا بتطبيقه خير تطبيق.
3- هداية خاصة: "التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعنى بقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى} وقوله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (المعجم الأصفهاني. ص:536)، والقصد بالتوفيق التسديد الإلهي إلى فعل الخير. وهو أن يرشد الله عز وجل العبد وييسر عليه السبل إلى أفضل الأعمال حتى إن العبد يجد نفسه في منتهى النشاط عند إتيان كل فعل خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصلاة مثلا : فتعلق قلب المؤمن بالصلاة مع إقامتها على أفضل وجوهها دون عناء ولا ملل هو من توفيق الله عز وجل. ومثال هذا ما يلاحظ عند الرياضي العاشق للجري، فإنه يجد راحته ونشاطه في كثرة العَدْو، وكلما قل ذلك أصابه اليأس والملل مما يدفعه إلى متابعة جريه بنشاط أقوى وأفضل. وهذه الهداية الثالثة هي التي يطلبها العبد في قوله {اهدنا الصراط المستقيم}. وإذا وقعت هذه الهداية لاشك تقع الهداية الرابعة.
4- هداية الجنة: وهي هداية أهل الجنة إلى الجنة حيث الاستمتاع بالفضاء الواسع لأنه الخروج الأخير: فالإنسان يخرج من العدم، ويخرج من الرحم، ويخرج من الدنيا إلى القبر، ثم إلى الحشر ثم إلى الجنة وهو الخروج الأخير. فهذه هي التقاسيم التي وضعها العلماء بالنسبة للهداية. "وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإن لم تحصل الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل به الثلاثُ التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله. ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا يحصل الثالث" (المعجم الأصفهاني.ص536).
والهداية التي يمكن الوقوف عليها في هذا الموضع من هذه السورة هي بمعنى البيان والإرشاد. ولذلك فإنها قد تتصل بالإنسان كذلك. فقد يكون الإنسان هاديا. على أنه لا يحق ولا يصح لهذا الإنسان أن يكون متشنجا غضوبا شتاما، بل عليه أن يكون صاحب أناة ولطف وخفاء. وهذا النوع من الناس طينة خاصة. وخير طرق الهداية بالنسبة للإنسان أن يجعلها مؤسسة على مخطط ومنهج لا يشعر به المهدي. وذلك يتطلب إيجاد دافع خاص صالح.
لقد اختُلف في قضية إيصال الخير إلى الناس بالنسبة لهداية الله للبشر: فهل يكتفي بمجرد البيان أم أنه لابد من الإيصال؟ والذي عليه الكثير أنه تتم الهداية بمجرد البيان والإرشاد. ومنهج من قال إنها بالإيصال وإلا فإنها لا تختلف عن الإضلال.(وهذه قضية عقدية). قال الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله.(ج.1ص:188): "واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية: فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول الأشاعرة وهو الحق. وذهب جماعة منهج الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله ومشيئته وإرادته وأمره : فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر. والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلْق، ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من المهدي.." والمهم أننا نطلب الله الهداية هنا. ونحن إذ نطلب الهداية فذلك يختلف بحسب اختلاف أوضاعنا كطالبين، وقد نطلب الهداية حتى في هداية الفطرة وإذ ذاك يكون المعنى: احفظ لنا هذه الهداية وأدمها علينا
وإذا تعلق الأمر مثلا بالمواهب، فإن قلنا اهدنا فيها، فهي بمعنى أتم علينا مواهبنا.
ومن هنا فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "اهدنا الصراط المستقيم" ليس هو كمعنى قولنا نحن لذلك: فالرسول في قمة الهداية ويطلب الاستمرار وأما نحن فإننا نطلب الهداية أولاً.
والمهم أن الأمر إما أن يستحْدث بعد عدم، أو يتمم وهو موجود. فقوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} ليس فيه استحداث للتقوى بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو طلب إتمامه. ثم إننا ونحن نطلب الهداية نركز على اتجاه خاص وهو الصراط المستقيم: والصراط: الطريق وتنطقه العرب بالصاد والسين وعند بعضهم ينطقونه بالزاي. وهو اسم عربي معروف مع أن الإمام السيوطي رحمه الله ذكر في كتابه (المهذب) أنه الطريق بلغة الروم. (ص:104)
فنحن نسأل الله أن يهدينا الصراط وأي صراط؟ فالصراط أمر حسي ملموس، لكننا نحن نطلب الصراط المعنوي!؟ إن الإنسان يسير في حياته على أحد طريقين إما الهداية أو الضلالة. وحتى يبين الله تعالى للإنسان أنه مسؤول عن هذا يُشبه ذلك السلوك المعنوي بالطريق.
فالإنسان كيفما كان يرتسم في ذهنه أنه يسير في طريق معين. أي أن كل فرد يُشعر ذاته أنها على نهج دون آخر. وكل يظن أو يريد أن يكون منهجه ونهجه هو الأسلم والأنضج عن جهل أو عن قصد.
والإنسان المسلم علمه القرآن أنه على طريق معين. وهو تصور مختلف عن تصور غير المسلم. وكل منهما ينظر للآخر نظرة خاصة. ومع ذلك فإن من المؤكد أن المسلم واضح المنهج والمسلك، والذي يشغله هو أن يعرف إلى أين يوصله منهجه ذلك. ويبقى مثل التائه في طريق فإنه غالبا ما ينتهي إلى السؤال عن نهاية الطريق ومقصده.
الصراط المستقيم أقصر طريق إلى الحق
إن أقل الناس معرفة في الإسلام يعرف حقيقة الطريق الإسلامي، فالذي يشرب الخمر أو يسرق أو يزني يعرف من خلال أعماله تلك أنه في طريق غير الطريق السوي.
ولهذا فإن المسلم يطلب ربه أن يهديه الصراط المستقيم فهو لا يرغب في مجرد الطريق بل يصفه: المستقيم، وهذا أيضا إمعان في التشبيه. وهذا ترشيح.
والصراط المستقيم هو الذي ليس فيه انحرافات ولا موهِمات تؤدي إلى التهلكة.
قال الفخر الرازي رحمه الله متحدثا عن إشارة لطيفة في تعبيره سبحانه بالمستقيم في هذا الموضع (التفسير ص 261 ج1) "اعلم أن أهل الهندسة قالوا: الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين، فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط فكأن العبد يقول: اهدنا الصراط المستقيم لوجوه:
الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.
الثاني: أن المستقيم واحد وما عداه معوجة وبعضها يشبه بعضا في الاعوجاج فيشتبه الطريق علي، أما المستقيم فلا يشابهه غيره فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان.
الثالث: الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود والمعوج لا يوصل إليه.
والرابع: المستقيم لا يتغير، والمعوج يتغير.
فلهذه الأسباب سأل الصراط المستقيم والله أعلم".
والمهم أن الإنسان مادام في الطريق الواحد لا يخاف، لكن إن كثرت عليه الطرق اشتبه عليه الأمر ووقع المشكل، والمسلم يسأل الله أن يهديه طريقا مستقيما ليس فيه ما يوهم أنه على الحق والحالة أنه على ضلال.
إن من أخطر الحالات التي يكون عليها الإنسان المسلم خصوصا حالة كونه على شيء يبدو له أنه دين، لكن ينكشف الأمر أنه كان ضالا. بمعنى: أن بعض الناس يتوهم أنه على حق فيتصرف وفق ذلك وهو في حقيقة الأمر ضال ولا ينتبه لذلك إلا بعد مدة وربما بعد فوات الأوان. وقد كان الإمام محمد عبده (دروس من القرآن ص 52) يضرب لهذا مثلا: "وأضرب مثلا لذلك بأحد الشيوخ المتفقهين سرق كتابا من وقف أحد الأروقة في الأزهر مستحلا له بحجة أن قصد الواقف الانتفاع به، وهو يحصل بوجود الكتاب عنده.. وقد يفوت النفع ببقائه في الرواق حيث وضعه الواقف".
ومن الأمثلة الأخرى التي يمكن أن تلاحظ في واقعنا هذا خصوصا في ديار الكفر: فمن الغريب أن بعض المسلمين في دول الكفر وصلت إليهم بعض الفتاوى السقيمة. من ذلك أنه قيل لهم: أنتم في دار الكفر فمال الكفار مُباح لكم، فمن استطاع أن ينهب منهم شيئا فليفعل؟! وهذا من الفقه السقيم.
فهذا المسلم الموجود في دار الكفر لا شك أنه من المستأمنين، فهو دخل لهذه الديار بجواز سفر وبتأشيرة وبمقابل مادي وبالتزامات قانونية ولم يدخلها بالبندقية. فكيف يمكن له أو يحق أن ينهب أموال أبناء هذه الديار؟!
ثم إن مثل هذه الفتوى تعطي صورة دنيئة للإسلام علماً بأن هذه الديار الكافرة خليط من أجناس مختلفة من ملل مختلفة. فيصبح الإسلام في رأي هؤلاء دين نهب وسرقة.
ومن ديار الكفر دائما يمكن إعطاء مثال آخر يبرز خلاله أبناء الإسلام، ويتعلق الأمر بأولئك العمال الذين يتخذون الشهادات الطبية المؤسسة على الكذب سبيلا للذهاب إلى المساجد أو لأجل الراحة أو لأجل أخذ رخص قانونية لأجل الإكثار من جمع المال من حرف مختلفة.
وإذا كان هذا شأن بعض الأحوال المتعلقة بالمسلمين في دول الكفر، فإن هذا لا يغيب في الدول الإسلامية التي نعيش فيها. وإن من أبرز علامات الفهم السقيم للإسلام من بعض أحوال ما يلاحظ في المؤسسات التعليمية التي كان من المنتظر أن تكون عنوانا للتربية الإسلامية، فإن هذه المؤسسات وخصوصا منها ذات المستوى العالي أصبحت عنوانا ورمزا للغش سواء من جهة المعلم أو المتعلم. وظاهرة الغش في الامتحانات أصبحت وسيلة سهلة ومؤدية للنجاح دون أدنى عناء علمي موضوعي. ومن الغريب أنه لا فرق في ذلك بين الذكور والإناث ولا بين المستويات على اختلافها. فقد أصبح من العادي جدا أن يضبط الطلبة وهم يجتازون امتحانات الإجازات في حالة غش.
والذي يجب أن يحسم فيه الأمر هنا هو أن النقل في الامتحانات حرام لأنه يؤدي إلى تجهيل هذه الأمة. والذي يرى الغشاشين من أصحاب النقل أو ما شابه ذلك فهو مساهم في هذه العملية المحرمة.
إن الإسلام يُربي الأمة على الصراحة وعلى العلم وعلى المنافسة بعيداً عن كل ما من شأنه أن يكون مجرد سبب في الحرام وإلا فإن هذه الأمة لن يكون لها شأن.
إن من أغرب ما يمكن أن يلاحظه الإنسان حاليا أن الأمم الكافرة تتعامل مع العلم بجد، ومع المتعلمين بصرامة وجدية ومع العلماء بأدب واحترام، في الوقت الذي أصبح فيه المعلم العالم مذلولا مقهوراً في الأمة الإسلامية علاوة عن انحطاط العلوم وغيابها أمام الضعف الذي أصبح عليه المتعلم بسبب خموله وانصرافه إلى اللهو واللعب في الوقت الذي يبقى فيه المتعلم في الدول الكافرة ملتزما لعلمه إلى وقت متأخر من السنة الدراسية.
إن هناك جسورا دقيقة مضبوطة بين طرق الخير وطرق الشر. وقد لا يتفطن الإنسان لذلك فيضل.
والمسلم إذ يطلب من الحق سبحانه أن يهديّه الصراط المستقيم، فإنه يطلب أن يكون على المنهج السوي وعلى كل ما من شأنه أن يوصله إلى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم. على أن المفسرين ذهبوا إلى تأويل الصراط المستقيم هنا إلى أمور منها: الدين، العدل، الحدود، الإسلام، القرآن. والذي ذهب إليه معظم المفسرين ما سبق توضيحه.
{صراط الذين أنعمت عليهم}
إن الصراط المستقيم بحكم كونه مستقيما يكفي، لكن المسلم يذكر صراط الذين كانوا على اهتداء سابقا ويطلب ربه أن يمنحه صراطا مستقيما خاصا.
لا شك أن الإنسان مثلا إذا كان على علم بكرم أحد الكرماء فإنه ومن شدة إعجابه بذلك الكرم لا يقول لذلك الكريم: أكرمني فقط، بل إنه قد يقول أكرمني كما أكرمت فلانا. وفي هذا القول استحثاث على العطاء الكثير.
ولهذا فإن في ذكر الذين أنعم الله عليهم سابقا طلب استزادة في العطاء.
وهؤلاء الذين أعطوا وصفهم الله بأنهم قد أنعم الله عليهم.
والنعمة هي المنفعة الحسنة المبذولة في غير عوض. أو هي كما قيل حالة الرفاه التي يكون عليها الإنسان. وأصلها أنها حسية لكنها استعملت في معنويات وهي إذ ذاك حالة الرضا التي ينعم بها الإنسان من الله عز وجل.
وعلى العموم فإن الله عز وجل قد أنعم على العبد. ونعمه سبحانه إما أنها مباشرة أي أنه سبحانه تفرد بإيجادها كنعمة الخلق و الإحياء، وإما أنها غير مباشرة أي أنها تصل عن طريق البشر إما بذاته أو بغيره، لكن يكون مصدرها في الأصل هو الله سبحانه وتعالى.
فقد يجعل الله بشرا يجري على يديهم النعمة كالوالدين.وقد يجعل الله القربات و الأدعية مصدر النعمة.
فالنعم كلها مرجعها الحق سبحانه {وما بكم من نعمة فمن الله}.
ومن المعلوم أن الله عز وجل أنعم على جميع الناس مؤمنين و كفرة. ونحن إذ نطلب نعمته هنا فإن المراد بها الإنعام بنعمة الدين و الهداية لا مطلق النعمة، لأن أكبر نعمة لا تقيد هي نعمة الاهتداء.
ثم إن الذين نُعموا بالصحة أو المال أو غيرهما من الأمور العارضة لا يستحقون أن يتخذوا قدوة، ولذلك فإننا نطلب من الله عز وجل نعمة الهداية التي هي أكبر النعم المرجوة. كما أننا نربط هذه الهداية التي تعتبر أكبر نعمة بأولئك الذين أنعم الله عليهم سابقا.
وقد اختلف في هؤلاء.
فقيل هم أتباع الأنبياء..
وقيل هم الأنبياء..
وقيل هم الأنبياء السابقون...
وقيل هم المؤمنون من هذه الأمة..
ومع هذا الاختلاف فإن الأمر قد يحصر في جهتين:
الأولى متعلقة بالمؤمنين: وتبقى غير سليمة إذ كيف يعقل أن يكون الطلب هنا متعلقا بالمؤمنين والسورة من أوائل السور من حيث النزول؟ فلاشك أن الذين أنعم الله عليهم سابقا و المرغوب في طلب نعمتهم هم غير المؤمنين بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثانية: متعلقة بالأنبياء: وربط الآية بهم أمر سليم علما بأنه سبحانه وتعالى جعل قدوتنا الأنبياء تكريما للأمة الإسلامية . وهاهنا سؤالان:
- لماذا نطلب صراط الذين أنعم الله عليهم مع أن الصراط المستقيم معلوم؟
إن لهذا الأمر علاقة بالتربية الإسلامية السليمة. ذلك أن التربية التي لا تُبنى على قدوة لا يمكن أن تكون تربية سليمة. إنه لابد من البحث عن الأمر المرغوب فيه في التربية و القدوة التي نريد الوصول إليها. فلو أردنا تربية الإنسان على العفاف مثلا فإن المتعلم لابد من تلقينه قصة يوسف مثلا كقدوة حسنة، وإن كان الأمر يتعلق بالالتزام والثبات لابد من تلقين وذكر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الأمر يتعلق بالتضحية فلابد من ذكر قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام. وهكذا.
ومن أجل هذا كان القصص القرآني كثيرا في كتاب الله عز وجل. والاعتناء بهذا القصص في مجال التربية أمر ضروري لأن كل خبر في القصص القرآني شاهد على حكم شرعي.
فصراط الذين أنعمت عليهم أحالتنا إذن على النموذج الذي يجب الإقتداء به. والمسلمون أولى الناس بالأنبياء، وهم يضعونهم جميعا موضع النعمة.
- والسؤال الثاني: إذا كنا نسأل الله في هذا المقام هذا السؤال فلا شك أن هؤلاء الأنبياء بشرائحهم السابقة كانوا على دين وعلى شرع، لكن شريعتنا هي الأكمل، فكيف يمكن أن نطلب النعمة التي نُعِّمَ بها أولئك؟..
والجواب: إننا إذ نسأل الله عز وجل هذه الهداية فإننا نقصد بذلك معنى الدين الشامل. بمعنى: إن الدين كان دائما هو الخضوع لله عز وجل. فالشرائع تختلف لكن جوهر الدين واحد. إن ما ألزمنا به نحن الآن ليس هو ما ألزم به غيرنا سابقا. وما نعبد الله به نحن قد يختلف في أمور فرعية لكن الأصل واحد.
{غير المغضوب عليهم و لا الضالين}
يمضي السياق معددا.
فكأننا نتخوف من أن نقع في شيء مما وقع فيه السابقون بعد ما طلبناه سبحانه وتعالى أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم.
والغضب كيفية من كيفيات النفس في عرف الناس يدعوها إلى الحركة الخارجية قصد طلب الانتقام. قال الأصفهاني (المعجم ص: 34): (الغضب ثوران دم القلب إرادة الانتقام) فهذا الشعور إذن تحولٌ في قلب الإنسان. وهو اضطراب نفسي. والنفس في نظر البعض لها عدة قوى منها قوة الحكمة وقوة العفة وقوة الشجاعة. والغضب ناشئ عن قوة الشجاعة التي توتر الهمة الصلبة. على أن مبدأ الشجاعة له حالات:
- اعتدال: ويؤدي إلى الحفاظ على النوع. ومن ذلك وجدنا مثلا أن الشجاع المعتدل يرغب دائما في الاستقلال بذاته. ولذلك وجدنا المسلمين عبر التاريخ لا يقبلون الاستعمار.
- إفراط: بحيث تتضخم الشجاعة وتصير غرورا وطيشا وتهورا. ومن ذلك مثلا الرد على الكلمات التافهة بالغضب المذموم في وقت يصح فيه السكوت عندما يمس الإسلام وتهتك حرمات الله.
- خمول: بحيث تفتر الشجاعة فيصير الإنسان جبانا منافقا.
من هنا فالغضب كان بالنسبة للإنسان حالة غير طبيعية. (والغضب المنهي عنه هو الغضب للنفس لأنه يصدر عنه الظلم و العدوان، ومن الغضب ما هو محمود، وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصا الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله) (التحرير والتنوير ص: 198 ج 1).
وقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له أوصني، قال: "لا تغضب" فكرر الرجل مرارا فقال: "لا تغضب".
ثم إن الغضب لا يؤثر في الإنسان الفرد فقط بل يتجاوزه إلى الأمة بكاملها. فكلما كانت الأمة متقدمة قل فيها الغضب. ولذلك فإنه ليس من الغريب أن تكون الأمة الإسلامية أمة غضب بسبب ضعف مستواها في مختلف المجالات.
فهذا إذن هو الغضب بالنسبة للإنسان، فهل يصح أن يكون كذلك بالنسبة لله عز وجل؟
إن الغضب الإلهي يرجع إلى معاملته المنكرين لشريعة الإسلام من المشركين والمنافقين والكفار وذلك بالانتقام والعقاب بشكل من أشكال عقابه لهم سبحانه وتعالى. فإذا وصف الله عز وجل بالغضب فإنما يراد بذلك أصلا الانتقام.
وهؤلاء الذين أبغضهم الله وغضب عليهم هم اليهود كما هو مشهور.
والضلال : (هو كل عُدول عن المنهج عمدا كان أم سهوا، يسيرا كان أم كثيرا. وإذا كان الضلال ترك الطريق المستقيم عمدا كان أو سهوا قليلا كان أو كثيرا، صحَّ أن يُستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما، ولذلك نُسب الضلال إلى الأنبياء وإلى الكفار وإن كان بين الضلالين بون بعيد) (المعجم / الأصفهاني ص: 306).
والضلال من وجه آخر ضربان : ضلال في العلوم النظرية كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ومعرفة النبوة ونحوهما...وضلال في العلوم العملية كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات و الضلال البعيد هو إشارة إلى ما هو كفر)(المعجم/ الأصفهاني، ص: 307).
فالضلال إذن هو عدم الهداية.
فمن هنا عرفنا أن أصنافا ثلاثة ذكرت في هذه السورة.
فهناك صنف الذين أنعم الله عليهم وهم الأنبياء السابقون.
وهناك صنف المغضوب عليهم وهم اليهود كما هو مشهور.
وهناك صنف الضالين وهم النصارى كما هو مشهور كذلك.
وإذا كنا قد عرفنا بشيء من التفصيل ما يتعلق بالمنعم عليهم، فإن في ذكر المغضوب عليهم والضالين توضيح لابد منه يجب تبيينه انطلاقا من أساس واضح وهو أن قولنا بان المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى إنما هو على سبيل المثال فقط. بمعنى: إن المغضوب عليهم و الضالين هم المثال فقط. بل المغضوب عليهم والضالون هم كل من سار على نهجهم كأشهر فرق أعلنت عصيانها واستنكارها للشرع الإسلامي بوجه من الأوجه. والإنسان المسلم قد يرتكب من المعاصي ما من شانه أن يضل به أو يدفع به إلى غضب الله عليه ومع ذلك نقول إنه لا يقع له شيء من ذلك.
وهذا خطأ خطير يفسد الإيمان كله.
فمن المعلوم أن الذين غضب الله عليهم أناس واجهوا الحق وهم غير الضالين:
فالمغضوب عليهم واجهوا الحق ورفضوه ولا يقبلون به. وهذا تفسير يصدق دون شك على اليهود الذين كانوا في حصون منيعة وكانت قلوبهم غلف.
وغضب الله على اليهود ليس لأنهم يهود ولكن لأنهم اتخذوا موقفا من الشرع الإسلامي. وكل من اتخذ هذا الموقف فهو مغضوب عليه.
فذكر اليهود ليس على معنى الحصر إنما هو مجرد مثال. وإذ ذاك فالمغضوب عليهم هم كل من رفض الشرع. فالذين يكتبون مثلا ضد الإسلام رغبة في تحطيمه، أليسُوا من المغضوب عليهم ؟ فهم اتخذوا موقفا من الإسلام ويعملون بكل وسائلهم من أجل تحقيق موقفهم..وبالنسبة للذين يباشرون المناكر ويجاهرون بالمعصية، ألا يحق وضعهم في خانة المغضوب عليهم؟
وأما بالنسبة للضالين فهم أناس لم يكن لهم في البدء ذلك الموقف من الوحي مثل المغضوب عليهم، بل لعلهم قبلوا به فترة ما ثُم أدخلوا من التحريف ما جعلهم ينحرفون. فهم غير رافضين لأصل الدين ولكنهم حرفوه وفق أهوائهم. وهذا بالتأكيد وضع النصارى. فإنهم حرفوا الدين وأدخلوا فيه مسألة التثليث ومظاهر أخرى من الشرك. وذكر النصارى هنا إنما هو مثال فقط. وكل من يفعل فعل النصارى بتحريف حقيقة الأصل الديني فإنه يبقى من الضالين لا محالة.
فالضلال إذن غير محصور في النصارى وإنما هو لاحق بكل من اقترف فعلا يشبه فعل النصارى. ولعل من أبرز الأمثلة في واقعنا الحالي ما نلاحظه من مظاهر الشرك الناتجة عن الخرافات و البدع المتصلة بالأضرحة وغيرها.
ولاشك أن هذا الضلال الذي نخاف منه ونسأل الله أن لا نكون عليه هو على درجات:
- أناس ضلوا قبل النبوات إما لأنهم لم تصلهم الدعوة أو أنها وصلتهم على الوجه غير المقنع.
وهؤلاء من أهل الفترة، وأمرهم مفوض لله. ولعل هؤلاء يخفف عليهم بحسب مستوى تفكيرهم.
- أناس بلغتهم الدعوة واجتهدوا في طلب حقائقها ولم يصلوا وهؤلاء أفراد قلائل.
- أناس وصلتهم الدعوة وأخذوها من غير استدلال عليها ولا فهم لأصولها، ولذلك تصرفوا في الدعوة بأهوائهم وغيروا فيها (وهذا بالطبع ما وقع للمبتدعة من المسلمين). ثم إن هذا من أوسع الأبواب لضرب الإسلام.
- أناس ضلوا في الأعمال وفي العبادات. ذلك أنهم صرفوا ما هو لله للمخلوقات وما هو للمخلوقات لله. وهذا من أخطر ما يفسد العقيدة.
إذن فسؤالنا الله عز وجل إبعادنا عن الضالين مقصود به الإبعاد عن أنواع الضلالات.
ثم إن مما يتأكد لدينا هنا أن الضلال غير محصور في النصارى و إنما متصل بكل من يضل الطريق بوجه من الوجوه الأربعة المعلومة
تعليق