ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الأثيم
[ ص: 395 ] لما لبس التاج خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم ، وأعلمهم أنه يصلح ذلك ، ثم أمر برءوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة .
وكان سبب قتلهم أن قباذ كان ، كما ذكرنا ، قد اتبع مزدك على دينه وما دعاه إليه ، وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها مما ذكرنا أيام قباذ ، وكان المنذر بن ماء السماء يومئذ عاملا على الحيرة ونواحيها ، فدعاه قباذ إلى ذلك ، فأبى ، فدعا الحارث بن عمرو الكندي ، فأجابه ، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته ، وكانت أم أنوشروان يوما بين يدي قباذ ، فدخل عليه مزدك . فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ : ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها . فقال دونكها . فوثب إليه أنوشروان ، ولم يزل يسأله ويتضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله ، فتركها فحاك ذلك في نفسه .
فهلك قباذ على تلك الحال وملك أنوشروان ، فجلس للملك ، ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان ، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك ، فإن أنوشروان كان منكرا لهذا المذهب كارها له ، ثم إن أنوشروان أذن للناس إذنا عاما ، ودخل عليه مزدك ، ثم دخل عليه المنذر ، فقال أنوشروان : إني كنت تمنيت أمنيتين ، أرجو أن يكون الله - عز وجل - قد جمعها إلي . فقال مزدك : وما هما أيها الملك ؟ . [ ص: 396 ] قال : تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف ، يعني المنذر ، وأن أقتل هذه الزنادقة . فقال مزدك : أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم ؟ فقال : وإنك هاهنا يا ابن الزانية ! والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا . وأمر به فقتل وصلب . وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم ، وسمي يومئذ أنوشروان .
وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو ، فبلغه ذلك وهو بالأنبار ، فخرج هاربا في صحابته وماله وولده ، فمر بالثوية ، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء ، فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه ، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر ، فضرب رقابهم بجفر الأملاك في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة ، فذلك قول عمرو بن كلثوم :
وفيهم يقول امرؤ القيس :
ملوك من بني حجر بن عمرو** يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ** ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسل ** ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم ** وتنتزع الحواجب والعيونا
[ ص: 397 ] ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه ، أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ، ورد الأموال إلى أهلها ، وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه ، وأن يعطى نصيبا من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل ، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها من الغالب ، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين فراقه إلا أن يكون لها زوج فترد إليه .
وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء ، وجهزهن من بيت المال ، وأنكح نساءهم من الأشراف ، واستعان بأبنائهم في أعماله ، وعمر الجسور والقناطر ، وأصلح الخراب ، وتفقد الأساورة وأعطاهم ، وبنى في الطرق القصور والحصون ، وتخير الولاة والعمال والحكام ، واقتدى بسيرة أردشير ، وارتجع بلادا كانت مملكة الفرس ، منها : السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان ، وأعظم القتل في البازر وأجلى بقيتهم عن بلاده .
واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده ، فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها ، وكان الطريق سهلا ، فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنودا ، فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فأسكنوا أذربيجان .
وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنوشزاد ، فبلغه عنه أنه زنديق ، فسيره إلى جنديسابور وجعل معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه . فبينما هم عنده إذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم ، فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعا من الأشرار ، فأرسل إليهم نائب أبيه بالمدائن عسكرا ، فحصروه بجنديسابور ، وأرسل الخبر إلى كسرى ، فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيرا ، فاشتد الحصار حينئذ عليه ودخل العساكر المدينة عنوة فقتلوا بها خلقا كثيرا وأسروا أنوشزاد ، فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي ، فوثب بعامل سجستان [ ص: 398 ] وقاتله ، فهزمه العامل ، فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها ، ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد ، ففعل وآمنه .
وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده ، وبنى عليه ابنه قباذ زيادة ، فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيرا وحصونا حصن بها بلاده جميعها .
وإن سيجيور خاقان قصد بلاده ، وكان أعظم الترك ، واستمال الخزر وأبخز وبلنجر ، فأطاعوه ، فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده إن لم يفعل ، فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصينه بلاده ، وإن ثغر أرمينية قد حصنه ، فصار يكتفي بالعدد اليسير ، فقصده خاقان فلم يقدر على شيء منه ، وعاد خائبا ، وهذا خاقان هو الذي قتل ورد ملك الهياطلة وأخذ كثيرا من بلادهم .
[ ص: 395 ] لما لبس التاج خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ما ابتلوا به من فساد أمورهم ودينهم وأولادهم ، وأعلمهم أنه يصلح ذلك ، ثم أمر برءوس المزدكية فقتلوا وقسمت أموالهم في أهل الحاجة .
وكان سبب قتلهم أن قباذ كان ، كما ذكرنا ، قد اتبع مزدك على دينه وما دعاه إليه ، وأطاعه في كل ما يأمره به من الزندقة وغيرها مما ذكرنا أيام قباذ ، وكان المنذر بن ماء السماء يومئذ عاملا على الحيرة ونواحيها ، فدعاه قباذ إلى ذلك ، فأبى ، فدعا الحارث بن عمرو الكندي ، فأجابه ، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته ، وكانت أم أنوشروان يوما بين يدي قباذ ، فدخل عليه مزدك . فلما رأى أم أنوشروان قال لقباذ : ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها . فقال دونكها . فوثب إليه أنوشروان ، ولم يزل يسأله ويتضرع إليه أن يهب له أمه حتى قبل رجله ، فتركها فحاك ذلك في نفسه .
فهلك قباذ على تلك الحال وملك أنوشروان ، فجلس للملك ، ولما بلغ المنذر هلاك قباذ أقبل إلى أنوشروان ، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه واتباع مزدك ، فإن أنوشروان كان منكرا لهذا المذهب كارها له ، ثم إن أنوشروان أذن للناس إذنا عاما ، ودخل عليه مزدك ، ثم دخل عليه المنذر ، فقال أنوشروان : إني كنت تمنيت أمنيتين ، أرجو أن يكون الله - عز وجل - قد جمعها إلي . فقال مزدك : وما هما أيها الملك ؟ . [ ص: 396 ] قال : تمنيت أن أملك وأستعمل هذا الرجل الشريف ، يعني المنذر ، وأن أقتل هذه الزنادقة . فقال مزدك : أوتستطيع أن تقتل الناس كلهم ؟ فقال : وإنك هاهنا يا ابن الزانية ! والله ما ذهب نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا . وأمر به فقتل وصلب . وقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان وإلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم ، وسمي يومئذ أنوشروان .
وطلب أنوشروان الحارث بن عمرو ، فبلغه ذلك وهو بالأنبار ، فخرج هاربا في صحابته وماله وولده ، فمر بالثوية ، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء ، فلحق بأرض كلب ونجا وانتهبوا ماله وهجائنه ، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار فقدموا بهم على المنذر ، فضرب رقابهم بجفر الأملاك في ديار بني مرين العباديين بين دير بني هند والكوفة ، فذلك قول عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا *** وأبنا بالملوك مصفدينا
وفيهم يقول امرؤ القيس :
ملوك من بني حجر بن عمرو** يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ** ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسل ** ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم ** وتنتزع الحواجب والعيونا
[ ص: 397 ] ولما قتل أنوشروان مزدك وأصحابه ، أمر بقتل جماعة ممن دخل على الناس في أموالهم ، ورد الأموال إلى أهلها ، وأمر بكل مولود اختلفوا فيه أن يلحق بمن هو منهم إذا لم يعرف أبوه ، وأن يعطى نصيبا من ملك الرجل الذي يسند إليه إذا قبله الرجل ، وبكل امرأة غلبت على نفسها أن يؤخذ مهرها من الغالب ، ثم تخير المرأة بين الإقامة عنده وبين فراقه إلا أن يكون لها زوج فترد إليه .
وأمر بعيال ذوي الأحساب الذين مات قيمهم فأنكح بناتهم الأكفاء ، وجهزهن من بيت المال ، وأنكح نساءهم من الأشراف ، واستعان بأبنائهم في أعماله ، وعمر الجسور والقناطر ، وأصلح الخراب ، وتفقد الأساورة وأعطاهم ، وبنى في الطرق القصور والحصون ، وتخير الولاة والعمال والحكام ، واقتدى بسيرة أردشير ، وارتجع بلادا كانت مملكة الفرس ، منها : السند وسندوست والرخج وزابلستان وطخارستان ، وأعظم القتل في البازر وأجلى بقيتهم عن بلاده .
واجتمع أبخز وبنجر وبلنجر واللان على قصد بلاده ، فقصدوا أرمينية للغارة على أهلها ، وكان الطريق سهلا ، فأمهلهم كسرى حتى توغلوا في البلاد وأرسل إليهم جنودا ، فقاتلوهم فأهلكوهم ما خلا عشرة آلاف رجل أسروا فأسكنوا أذربيجان .
وكان لكسرى أنوشروان ولد هو أكبر أولاده اسمه أنوشزاد ، فبلغه عنه أنه زنديق ، فسيره إلى جنديسابور وجعل معه جماعة يثق بدينهم ليصلحوا دينه وأدبه . فبينما هم عنده إذ بلغه خبر مرض والده لما دخل بلاد الروم ، فوثب بمن عنده فقتلهم وأخرج أهل السجون فاستعان بهم وجمع عنده جموعا من الأشرار ، فأرسل إليهم نائب أبيه بالمدائن عسكرا ، فحصروه بجنديسابور ، وأرسل الخبر إلى كسرى ، فكتب إليه يأمره بالجد في أمره وأخذه أسيرا ، فاشتد الحصار حينئذ عليه ودخل العساكر المدينة عنوة فقتلوا بها خلقا كثيرا وأسروا أنوشزاد ، فبلغه خبر جده لأمه الداور الرازي ، فوثب بعامل سجستان [ ص: 398 ] وقاتله ، فهزمه العامل ، فالتجأ إلى مدينة الرخج وامتنع بها ، ثم كتب إلى كسرى يعتذر ويسأله أن ينفذ إليه من يسلم له البلد ، ففعل وآمنه .
وكان الملك فيروز قد بنى بناحية صول واللان بناء يحصن به بلاده ، وبنى عليه ابنه قباذ زيادة ، فلما ملك كسرى أنوشروان بنى في ناحية صول وجرجان بناء كثيرا وحصونا حصن بها بلاده جميعها .
وإن سيجيور خاقان قصد بلاده ، وكان أعظم الترك ، واستمال الخزر وأبخز وبلنجر ، فأطاعوه ، فأقبل في عدد كثير وكتب إلى كسرى يطلب منه الإتاوة ويتهدده إن لم يفعل ، فلم يجبه كسرى إلى شيء مما طلب لتحصينه بلاده ، وإن ثغر أرمينية قد حصنه ، فصار يكتفي بالعدد اليسير ، فقصده خاقان فلم يقدر على شيء منه ، وعاد خائبا ، وهذا خاقان هو الذي قتل ورد ملك الهياطلة وأخذ كثيرا من بلادهم .