خطبةٌ بعنوان الموت .. عِظاتٌ وأحكام
إنِ الْـحَمْدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد أيها الناس:
فإن الحقيقة التي يعرفها كلُّ عالم وكل جاهل، كلُّ كبير وكل صغير، كلُّ مؤمن وكل كافر، أن كل حي سوى الله فمصيره إلى الممات، وكل موجود إلى العدم، وكل بناء إلى الخراب، وكل مخلوق إلى التراب.
كلُّ ابنِ انثى وإن طالت سلامتهُ
يوماً على آلة حدباء محمولُ
وقول الله أعلى وأجل: ﴿كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.
ومن جوامع وصايا النبي صلى الله عليه وسلم قولـه لأصحابه: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) وفي هذا ما يكفي السامع ويُشغل الناظر، ولكن نفوسنا الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعّاظ، وتزويق الألفاظ، فإلى الله المشتكى وهو وحده سبحانه المستعان.
أيها المسلمون :
إذا مات ابن آدم انقطع عمله وتوقَّف سعيه، إلا إن كان بث علماً أو أجرى صدقة أو خلَّف ولداً صالحاً، هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعٌ يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من عَلّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته ).
أيها المسلمون:
ينبغي للمسلم إن خشي أن يُحْدِثَ أهله من بعده بدعةً أو ضلالة أو نياحةً أن يوصيهم بالسنة وينهاهم عن البدعة.
قال الإمام النووي رحمه الله: (ويستحب له استحباباً مؤكداً أن يوصيهم باجتناب ما جرت العادة به من البدع في الجنائز ويؤكّد العهد بذلك) .
فإذا حضره الموت استُحب لمن حوله أن يلقّنوه الشهادة، ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله، من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة).
فأما قراءة سورة (يس) عند المحتضر فليست بسنة ولم يرد في ذلك حديث يصح عنه صلى الله عليه وسلم .
فإذا قضى وأسلم الروح فليغمضوا عينيه، وليدعوا له بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات، قالت أم سلمة رضي الله عنها: (دخل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أبي سلمةَ وقد شقَّ بصرُه، فأغمضَه ثم قال: إنَّ الروحَ إذا قُبِض تبِعه البصرُ). فضجَّ ناسٌ من أهلِه بالبكاء، فقال عليه الصلاة والسلام: (لاتَدْعوا على أنفسِكم إلا بخيرٍ فإنَّ الملائكةَ يُؤمِّنون على ما تقولون).
ثم قال: (اللهمَّ اغفِرْ لأبي سلمةَ وارفَعْ درجتَه في المَهديِّينَ واخلُفْه في عَقِبِه في الغابرين واغفرْ لنا وله يا ربَّ العالَمينَ وافسَحْ له في قبرِه ونَوِّرْ له فيه).
ثم يُغطّى بثوبٍ أو غطاء ثم يجهّز على عجل فقد ثبت عنه ﷺ الأمر بالإسراع بالجنازة.
ويستحب للمسلمين أن يبادروا إلى قضاء دينه من ماله حتى ولو فني ماله واستغرقه الدين ولم يبق للورثة منه شيء، فإن الدَّين مقدّم على الميراث، قال عز وجل: (من بعد وصية يوصي بها أو دين).
فإن كان عليه دين ولم يكن لـه مالٌ استُحِب للمسلمين أن يتطوعوا بسداد دينه، فعن جابر رضي الله عنه قال: مات رجل فغسّلناه وكفَّناه وحنّطناه ووضعناه لرسول الله حيث توضع الجنائز، ثم آذنّاه بالصلاة عليه فجاء معنا ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً. قالوا نعم، عليه ديناران. فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ثم قال صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة: يا رسول الله هما عليّ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك؟ والميت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلى عليه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي أبا قتادة من الغد فقال ما صَنَعَتْ الدنياران؟ قال: يا رسول الله إنما مات أمس. حتى إذا لقيه مرة أخرى فسأله قال أبو قتادة قد قضيتهما يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : الآن برَّدتَ عليه جلده.
وفي حادثة أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأولياء الميت: (إنه مأسور بدَينه عن الجنة فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فاسلموه إلى عذاب الله) حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويجوز كشف وجه الميت وتقبيله والبكاء عليه، على أن لا يتجاوز ذلك إلى النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.
وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مع بعض أصحابه على أبي سيف ظئر إبراهيم بن محمد فأخذ رسول الله ولده الصغيرَ إبراهيمَ وأدركته عاطفة الأبوة وحمل الصبي وقبله وشمّه، ثم دخل عليه أخرى فإذا هو في آخر لحظاته وإذا بالصبي ينازع الموت فأخذه أبوه صلى الله عليه وسلم ونظر إليه واشتدت رحمته له وهو الرحيم، فبكى وجعلت عيناه تذرفان. فقال بعض القوم تبكي يا رسول الله؟ فقال: إنها رحمة. ثم اتبع الدمعة بدمعة أخرى ثم قال: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
وينبغي على المسلم عند المصائب أن يصبر ويسلّم ويحتسب الأجر العظيم الذي أعده لله للصابرين (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وفي سنن النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب بثواب دون الجنة).
وينبغي لمن أصيب بمصيبة الموت أن يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون) وأن يقول: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها).
ويجب أن ينتدب بعض المسلمين إلى غسل الميت وينبغي عليهم أن يتفقهوا في ذلك وأن يتعلموا الطريقة الشرعية للغسل، فإن لم يعلموا سألوا أهل العلم، فإنما شفاء العِي السؤال،
ثم يكفن وجوباً، وينبغي تحري السنة في ذلك أيضاً.
ثم تُحمل الجنازة، ويستحب للمسلم أن يتبعها فمن فعل ذلك رجي له الأجر العظيم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: يا رسول الله، ما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين.
ولا يجوز أن تُتبع الجنائز بما يخالف الشريعة كاتباع الميت بصوت أو نار أو رفع الصوت بالذِكر أو قولهم: وحدوه أو التسبيح والتهليل ونحوها، فإن ذلك كله من البدع.
وأقبح من ذلك تشييع الجنازة بالطبول وبالعزف على الآلات الموسيقية، كالذي يُفعَل في جنائز الحُكَّام وأهل الدنيا، وفي ذلك تشبه بالكفار بل إنه عمل محرم بذاته.
كما يحرم وضع الزهور على القبور لما في ذلك من التشبه بالكفار ومجافاة سنة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
ثم يُصلي عليه جماعة وكلما كان الجمع أكثر كان أفضل للميت وأنفع له، وينبغي للمسلم أن يتعلم كيفية صلاة الجنازة وأن يحفظ الأدعية المأثورة في ذلك.
ثم يشرع المسلمون في دفنه مراعين في ذلك الاقتداء بالسنة الشريفة وأن يتركوا كل ما لم يثبت بكتاب ولا سنة مما ابتدعته آراء الناس كقراءة سورة الإخلاص بعد الدفن وقراءة الفاتحة وبعض الآيات والسور، وكل ذلك مُحْدَث لك يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن البدع والمحدثات: رفع القبور وبناؤها والكتابة عليها، كل ذلك مما نهى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم .
ويستحب للمسلمين إذا دفنوا أخاهم أن يستغفروا له ويسألوا له التثبيت، قال عثمان رضي الله عنه (كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا فرغ من دفنِ الميتِ وقَف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا اللهَ له التثبيتَ فإنه الآنَ يُسألُ).
وتشرع تعزية أهل الميت بما يُظن أنه يسليهم ويخفف من حزنهم ويحملهم على الرضا والصبر مما ثبت في السنة إن كان يعلمه، وإلا فبما تيسر من الكلام الذي يحقق الغرض ولا يخالف الشرع.
ولا تُحَدُّ التعزية بثلاثة أيام بل متى كان التعزية مفيدةً محصّلة للغرض أتى بها، فإذا ذهب الحزن وخفت المصيبة ونُسي الخطب لم تشرع التعزية حينئذ.
هذه بعض أحكام الجنائز أوردتها على عجل لتُعلَم السنة، وتستبين البدعة، وليتذكر العبد أنه آت عليه ما أتى على غيره، وأنه كما سمع بموت غيره فإن غيره سيسمع بموته، فمن أراد النجاة فليحسن العمل ومن تولى فالله حسيبه وكفى بالله حسيباً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون :
فإن من أهم ما يجب التنبيه إليه خطرَ الوسائل المفضية إلى الشرك بالله.
وإن من أشدها انتشاراً وشراً وخطراً ما يتعلق ببدع القبور، تلك البدع التي ضل بسببها فئام من المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا فليعلم المسلمون أجمعون أن تشييد القبور برفعها والبناء عليها وجعل القباب فوقها وتزيينها والكتابة عليها ووضع الصور فيها واتخاذها مساجد كل ذلك من البدع المحدثات، المفضيات إلى الشرك بالله تعالى.
ولا ريب أن ما أفضى إلى الشرك فهو من كبائر الذنوب وعظائم الآثام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم "أي لما حضره الموت" طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها. فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم.
وفي الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وأخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر وأن يبنى عليه) وفي رواية: (وأن يكتب عليه).
وأخرج أحمد وأهل السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرُج).
ومن ذلك دفن الميت في بناءٍ، أو في فِناء مسجد وما أشبه ذلك، كل ذلك من الكبائر.
فوا عجباً ممن وقع في أشد المحرمات زاعماً أن ذلك من أفضل القربات. نسأل الله الهدى والسداد، والثبات حتى الممات.
عباد الله صلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمركم الله بذلك فقال:
(إن الله وملائكته يصلون عن النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).
اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حميد مجيد.
❁ ❁ ❁
محمَّد المهنَّا
إنِ الْـحَمْدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد أيها الناس:
فإن الحقيقة التي يعرفها كلُّ عالم وكل جاهل، كلُّ كبير وكل صغير، كلُّ مؤمن وكل كافر، أن كل حي سوى الله فمصيره إلى الممات، وكل موجود إلى العدم، وكل بناء إلى الخراب، وكل مخلوق إلى التراب.
كلُّ ابنِ انثى وإن طالت سلامتهُ
يوماً على آلة حدباء محمولُ
وقول الله أعلى وأجل: ﴿كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام﴾ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.
ومن جوامع وصايا النبي صلى الله عليه وسلم قولـه لأصحابه: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) وفي هذا ما يكفي السامع ويُشغل الناظر، ولكن نفوسنا الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعّاظ، وتزويق الألفاظ، فإلى الله المشتكى وهو وحده سبحانه المستعان.
أيها المسلمون :
إذا مات ابن آدم انقطع عمله وتوقَّف سعيه، إلا إن كان بث علماً أو أجرى صدقة أو خلَّف ولداً صالحاً، هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعٌ يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من عَلّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته ).
أيها المسلمون:
ينبغي للمسلم إن خشي أن يُحْدِثَ أهله من بعده بدعةً أو ضلالة أو نياحةً أن يوصيهم بالسنة وينهاهم عن البدعة.
قال الإمام النووي رحمه الله: (ويستحب له استحباباً مؤكداً أن يوصيهم باجتناب ما جرت العادة به من البدع في الجنائز ويؤكّد العهد بذلك) .
فإذا حضره الموت استُحب لمن حوله أن يلقّنوه الشهادة، ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله، من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة).
فأما قراءة سورة (يس) عند المحتضر فليست بسنة ولم يرد في ذلك حديث يصح عنه صلى الله عليه وسلم .
فإذا قضى وأسلم الروح فليغمضوا عينيه، وليدعوا له بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات، قالت أم سلمة رضي الله عنها: (دخل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أبي سلمةَ وقد شقَّ بصرُه، فأغمضَه ثم قال: إنَّ الروحَ إذا قُبِض تبِعه البصرُ). فضجَّ ناسٌ من أهلِه بالبكاء، فقال عليه الصلاة والسلام: (لاتَدْعوا على أنفسِكم إلا بخيرٍ فإنَّ الملائكةَ يُؤمِّنون على ما تقولون).
ثم قال: (اللهمَّ اغفِرْ لأبي سلمةَ وارفَعْ درجتَه في المَهديِّينَ واخلُفْه في عَقِبِه في الغابرين واغفرْ لنا وله يا ربَّ العالَمينَ وافسَحْ له في قبرِه ونَوِّرْ له فيه).
ثم يُغطّى بثوبٍ أو غطاء ثم يجهّز على عجل فقد ثبت عنه ﷺ الأمر بالإسراع بالجنازة.
ويستحب للمسلمين أن يبادروا إلى قضاء دينه من ماله حتى ولو فني ماله واستغرقه الدين ولم يبق للورثة منه شيء، فإن الدَّين مقدّم على الميراث، قال عز وجل: (من بعد وصية يوصي بها أو دين).
فإن كان عليه دين ولم يكن لـه مالٌ استُحِب للمسلمين أن يتطوعوا بسداد دينه، فعن جابر رضي الله عنه قال: مات رجل فغسّلناه وكفَّناه وحنّطناه ووضعناه لرسول الله حيث توضع الجنائز، ثم آذنّاه بالصلاة عليه فجاء معنا ثم قال: لعل على صاحبكم ديناً. قالوا نعم، عليه ديناران. فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ثم قال صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة: يا رسول الله هما عليّ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك؟ والميت منهما بريء؟ فقال: نعم، فصلى عليه.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي أبا قتادة من الغد فقال ما صَنَعَتْ الدنياران؟ قال: يا رسول الله إنما مات أمس. حتى إذا لقيه مرة أخرى فسأله قال أبو قتادة قد قضيتهما يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم : الآن برَّدتَ عليه جلده.
وفي حادثة أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأولياء الميت: (إنه مأسور بدَينه عن الجنة فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فاسلموه إلى عذاب الله) حديثان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويجوز كشف وجه الميت وتقبيله والبكاء عليه، على أن لا يتجاوز ذلك إلى النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.
وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مع بعض أصحابه على أبي سيف ظئر إبراهيم بن محمد فأخذ رسول الله ولده الصغيرَ إبراهيمَ وأدركته عاطفة الأبوة وحمل الصبي وقبله وشمّه، ثم دخل عليه أخرى فإذا هو في آخر لحظاته وإذا بالصبي ينازع الموت فأخذه أبوه صلى الله عليه وسلم ونظر إليه واشتدت رحمته له وهو الرحيم، فبكى وجعلت عيناه تذرفان. فقال بعض القوم تبكي يا رسول الله؟ فقال: إنها رحمة. ثم اتبع الدمعة بدمعة أخرى ثم قال: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
وينبغي على المسلم عند المصائب أن يصبر ويسلّم ويحتسب الأجر العظيم الذي أعده لله للصابرين (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وفي سنن النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب بثواب دون الجنة).
وينبغي لمن أصيب بمصيبة الموت أن يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون) وأن يقول: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها).
ويجب أن ينتدب بعض المسلمين إلى غسل الميت وينبغي عليهم أن يتفقهوا في ذلك وأن يتعلموا الطريقة الشرعية للغسل، فإن لم يعلموا سألوا أهل العلم، فإنما شفاء العِي السؤال،
ثم يكفن وجوباً، وينبغي تحري السنة في ذلك أيضاً.
ثم تُحمل الجنازة، ويستحب للمسلم أن يتبعها فمن فعل ذلك رجي له الأجر العظيم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: يا رسول الله، ما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين.
ولا يجوز أن تُتبع الجنائز بما يخالف الشريعة كاتباع الميت بصوت أو نار أو رفع الصوت بالذِكر أو قولهم: وحدوه أو التسبيح والتهليل ونحوها، فإن ذلك كله من البدع.
وأقبح من ذلك تشييع الجنازة بالطبول وبالعزف على الآلات الموسيقية، كالذي يُفعَل في جنائز الحُكَّام وأهل الدنيا، وفي ذلك تشبه بالكفار بل إنه عمل محرم بذاته.
كما يحرم وضع الزهور على القبور لما في ذلك من التشبه بالكفار ومجافاة سنة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
ثم يُصلي عليه جماعة وكلما كان الجمع أكثر كان أفضل للميت وأنفع له، وينبغي للمسلم أن يتعلم كيفية صلاة الجنازة وأن يحفظ الأدعية المأثورة في ذلك.
ثم يشرع المسلمون في دفنه مراعين في ذلك الاقتداء بالسنة الشريفة وأن يتركوا كل ما لم يثبت بكتاب ولا سنة مما ابتدعته آراء الناس كقراءة سورة الإخلاص بعد الدفن وقراءة الفاتحة وبعض الآيات والسور، وكل ذلك مُحْدَث لك يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن البدع والمحدثات: رفع القبور وبناؤها والكتابة عليها، كل ذلك مما نهى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم .
ويستحب للمسلمين إذا دفنوا أخاهم أن يستغفروا له ويسألوا له التثبيت، قال عثمان رضي الله عنه (كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا فرغ من دفنِ الميتِ وقَف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا اللهَ له التثبيتَ فإنه الآنَ يُسألُ).
وتشرع تعزية أهل الميت بما يُظن أنه يسليهم ويخفف من حزنهم ويحملهم على الرضا والصبر مما ثبت في السنة إن كان يعلمه، وإلا فبما تيسر من الكلام الذي يحقق الغرض ولا يخالف الشرع.
ولا تُحَدُّ التعزية بثلاثة أيام بل متى كان التعزية مفيدةً محصّلة للغرض أتى بها، فإذا ذهب الحزن وخفت المصيبة ونُسي الخطب لم تشرع التعزية حينئذ.
هذه بعض أحكام الجنائز أوردتها على عجل لتُعلَم السنة، وتستبين البدعة، وليتذكر العبد أنه آت عليه ما أتى على غيره، وأنه كما سمع بموت غيره فإن غيره سيسمع بموته، فمن أراد النجاة فليحسن العمل ومن تولى فالله حسيبه وكفى بالله حسيباً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون :
فإن من أهم ما يجب التنبيه إليه خطرَ الوسائل المفضية إلى الشرك بالله.
وإن من أشدها انتشاراً وشراً وخطراً ما يتعلق ببدع القبور، تلك البدع التي ضل بسببها فئام من المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا فليعلم المسلمون أجمعون أن تشييد القبور برفعها والبناء عليها وجعل القباب فوقها وتزيينها والكتابة عليها ووضع الصور فيها واتخاذها مساجد كل ذلك من البدع المحدثات، المفضيات إلى الشرك بالله تعالى.
ولا ريب أن ما أفضى إلى الشرك فهو من كبائر الذنوب وعظائم الآثام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم "أي لما حضره الموت" طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها. فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم.
وفي الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
وأخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصَّص القبر وأن يبنى عليه) وفي رواية: (وأن يكتب عليه).
وأخرج أحمد وأهل السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُرُج).
ومن ذلك دفن الميت في بناءٍ، أو في فِناء مسجد وما أشبه ذلك، كل ذلك من الكبائر.
فوا عجباً ممن وقع في أشد المحرمات زاعماً أن ذلك من أفضل القربات. نسأل الله الهدى والسداد، والثبات حتى الممات.
عباد الله صلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمركم الله بذلك فقال:
(إن الله وملائكته يصلون عن النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً).
اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وعلى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حميد مجيد.
❁ ❁ ❁
محمَّد المهنَّا