بسم الله الرحمن الرحيم
الإسرائيليات هي مجموعة من القصص والتفسيرات لقصص وأحكام القرآن الكريم , وأبطالها شخصيات من العهد القديم ورد ذكرهم في القرآن, وسبب تسميتها بذلك وإن كان هذا الاسم يدل بظاهره على اللون اليهودي: إما نظراً إلى الأصل لأن أصل النصارى راجع إلى بني إسرائيل , وإما للتغليب فإن أكثر الأخبار منقول عن اليهود وإما لأمر آخر .
وقد دخل الكثير من الإسرائيليات إلى كتب التفسير الإسلامية عن طريق اليهود الذين اعتنقوا الإسلام في مرحلة مبكرة مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه , ولكن بعد فترة لم يَعُد اليهود الذين أسلموا وحدهم مصدر الإسرائيليات فكثير من المفسرين المسلمين كانوا يعودون بأنفسهم إلى الكتب الدينية اليهودية لتفسـير القصص.
وكتب التفسير من عهد ابن جرير إلى اليوم لا يكاد يخلو تفسير منها من إسرائيليات إلا أنها متفاوتة قلة وكثرة. نعم هناك مفسرون وقفوا من هذه الروايات موقف الناقد المنكر وبخاصة المتأخرين منهم الذين تسنى لهم الإطلاع على أسفار أهل الكتاب بعد أن ترجمت وعرفوا ما فيها من تهافت وتحريف وتغيير إلا أن هذا لم يكن شاملاً وإن الناقدين أنفسهم رووا كثيراً منها في مناسبات كثيرة.
أورد ابن خلدون في مقدمته أسباب الاستكثار من المرويات الإسرائيلية فقال : وقد جمع المتقدمون في ذلك يعني التفسير النقلي وأوعوا ،إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين ، والمقبول والمردود ؛ والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية ،
وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات ،وبدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنها أهل الكتاب قبلهم ،ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى . وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من ( حِمْيَر ) ، الذين أخذوا بدين اليهودية ، فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلّق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها ، مثل أخبار بدء الخليقة ، وما يرجع إلى الحدثان والملاحم ، وأمثال ذلك ، وهؤلاء مثل :» كعب الأحبار ، و وهب ابن منبه ، و عبد الله بن سلام « فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم ، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم ، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل ، وتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملؤوا الكتب بهذه المنقولات ، وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك ، إلا أنهم بَعُدَ صيتهم ، وعظمت أقدارهم ، لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة ، فتُلقيت بالقبول من يومئذ . مقدمة ابن خلدون ص 279 .
ولقد اختلفت موقف العلماء ولا سيما المفسرون من هذه الإسرائيليات على ثلاثة أنحاء :
أ- فمنهم من أكثر منها مقرونة بأسانيدها ، ورأي أنه بذكر أسانيدها خرج من عهدتها ،مثل ابن جرير الطبري.
ب- ومنهم من أكثر منها ، وجردها من الأسانيد غالبا ، فكان حاطب ليل مثل البغوي الذي
قال شيخ الإسلام ابن تيميه عن تفسيره : إنه مختصر من الثعلبي ، لكنه صانه عن الأحاديث الموضوعية والآراء المبتدعة ، وقال عن الثعلبي : إنه حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.
ج- ومنهم من ذكر كثيرا منها، وتعقب البعض مما ذكره بالتضعيف أو الإنكار مثل ابن كثير .
د- ومنهم من بالغ في ردها ولم يذكر منها شيئا يجعله تفسيرا للقرآن كمحمد رشيد رضا .
وها هو الإمام الشوكاني رحمه الله ( ت : 1250هـ) وهو من المفسرين المعاصرين يمتاز تفسيره عن غيره بقلة الإسرائيليات بل لا تكاد توجد فيه إلا للرد عليها, بل كان – رحمه الله – من أشد المفسرين انتقاداً للإسرائيليات فهو لم يدع فرصة تمر دون أن يوجه نقده اللاذع إليها .
والإمام الألوسي رحمه الله (ت : 1270 هـ ) يمحص في تفسيره " روح المعاني " الروايات ويدقق فيه الأخبار،فيرفض الإسرائيليات رفضاً باتاً .
وقد كان لهذه الإسرائيليات أثر سيء في التفسير ، إذ أدخلت فيه كثيرا من القصص الخيالي المخترع ، والأخبار المكذوبة ، وهذا ما دفع العلماء لمقاومتها ، وإخضاعها لمعابير نقد الرواية ، وموازين الشريعة لتمييز المقبول من المردود.
ولذا فقد قسم العلماء حكم رواية الإسرائيليات إلى ثلاثة أقسام :
الأول : مقبول : وهو ما علم صحته بالنقل الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك كتعيين اسم الخضر عليه السلام ، إذ ورد فيه حديث صحيح عند البخاري في صحيحه ، في كتاب التفسير ،أخرجه "البُخَارِي" 1/41(122) و"مسلم" 7/103(6239) .
أو ما كان له شاهد من الشرع يؤيده , وله أمثلة كثيرة في القصص النبوي كقصة الكفل وغيرها , عَنْ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلاَّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَلَكِنِّى سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ لاَ يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ أُرْعِدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ أَأَكْرَهْتُكِ قَالَتْ لاَ وَلَكِنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ وَمَا حَمَلَنِى عَلَيْهِ إِلاَّ الْحَاجَةُ فَقَالَ تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِهِ اذْهَبِى فَهِىَ لَكِ. وَقَالَ لاَ وَاللَّهِ لاَ أَعْصِى اللَّهَ بَعْدَهَا أَبَدًا. فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ. أَخْرَجَهُ أحمد 2/23(4747. والترمذي (2496).
وقصة بغي بني إسرائيل التي سقت كلباً فغفر الله لها وأدخلها الجنة , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا ، فَغُفِرَ لَهَا.أخرجه أحمد 2/507(10591) و"البُخاري" 3467 و"مسلم" 5922.
وقصة الثلاثة من بني إسرائيل : أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى َأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ .أخرجه البخاري 4/208(3464).وقصة المتسلف الأمين , والمتألي على الله , وغيرها .
والثاني : مسكوت عنه: وهو ما لم يعلم صحته ولا كذبه ، وهذا القسم تجوز حكايته للعظة والعبرة ، ولا نؤمن بصدقه ولا كذبه امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ:كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) الآيَةَ. أخرجه البخاري (4485 و7362 و7582).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:لاَ تَكْتُبُوا عَنِّى شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَمَنْ كَتَبَ عَنِّى شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ. وَقَالَ : حَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ , حَدِّثُوا عَنِّى وَلاَ تَكْذِبُوا عَلَىَّ , قَالَ : وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ (قَالَ هَمَّامٌ : أَحْسَبُهُ قَالَ مُتَعَمِّدًا) فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. أخرجه أحمد 3/12(11101) و"الدارِمِي" 450 و"مسلم" 8/229(7620).
قال الإمام مالك - رحمه الله تعالى - : المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما علم كذبه فلا. فتح الباري شرح صحيح البخاري (6/575).
والثالث : مرفوض: وهو ما علم كذبه لتناقضه مع شريعتنا أو مخالفته للعقل ،ولا يصح تصديقه ولا قبوله ولا روايته ، وإذا رواه المفسر في تفسيره وجب عليه بيانه.
قال ابن كثير في مقدمة تفسيره -بعد أن ذَكر حديثَ "بلّغُوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَجَ، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار"-: "ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد. فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه، وتجوزُ حكايتُه لما تقدّم. وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ دينيّ. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسبب ذلك. كما يَذكرون في مثل أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعِدّتهم، وعصا موسى من أيِّ شجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضُرِبَ به القتيلُ من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم. ولكن نقلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز. كما قال تعالى: " سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ . إلى آخر الآية [الكهف: 22].تفسير ابن كثير : 1/31.
فلا بد من أن نستوعب الأقوال في ذلك المقام , وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل وفي الصحيح مندوحة عن الضعيف والموضوع .
تعليق