الإسرائيليات والحديث النبوي
نأتي إلى تفصيل القول في الرد على الشبهات الواردة في ذلك، وسيكون في محورين رئيسين:
الأول: ما يتعلق باتهام الصحابة بالتوسع في الأخذ عن أهل الكتاب، من غير وعي ولا تمحيص، ورميهم بالانخداع والغفلة والسذاجة.
الثاني: ما يتعلق بالطعن في بعض من أسلموا من أهل الكتاب، وحَسُن إسلامهم وعُرِفوا بالعلم والفضل، والعدالة والثقة والعدالة، واتهامهم بأن غرضهم الدسيسة والكيد للإسلام وأصوله.
أما قضية أخذ بعض الصحابة عن أهل الكتاب ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلم الناس بأمور دينهم ، وقد خصهم الله بالعلم والفهم ، والورع والتقى، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحدٍ بعدهم ، ومن شكَّ في ذلك فعليه أن يراجع دينه وإيمانه ، قال الإمام الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمرٍ استُدْرِك به عليهم، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا".
وما ثبت من أن بعض الصحابة كأبي هريرة وابن عباس وغيرهما كانوا يرجعون إلى بعض من أسلم من أهل الكتاب، فهو أمر لا يعيبهم ولا ينقص من قدرهم وعلمهم وذلك لأمور منها: أنهم لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدّها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لهم فيها بقوله: (بلغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري، وفي الوقت نفسه لم يخالفوا النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... الآية) رواه البخاري.
ولا تعارض بين هذين الحديثين، فإن الأول أباح لهم أن يحدِّثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب لما في أخبارهم من العبرة والعظة ، بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوباً ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحدث بالكذب.
وأما الحديث الثاني فالمراد منه التوقف فيما يحدّث به أهل الكتاب إذا كان محتملاً للصدق والكذب ، لأنه ربما كان صدْقاً في واقع الأمر فيكذبونه ، أو كذباً فيصدقونه فيقعون بذلك في الحرج.
فهذا النوع من الأخبار المحتملة للصدق والكذب هو الذي نهينا عن تصديقه أو تكذيبه، وليس المراد منه ما جاء شرعنا بموافقته أو مخالفته ، فإن الموقف منه واضح ومعروف.
ومن هنا يتبين لنا أنه لا تعارض بين إذنه - صلى الله عليه وسلم - بالتحديث عن بني إسرائيل ، وبين نهيه عن تصديقهم أو تكذيبهم ، كما يتبين لنا القدر الذي أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب.
إذاً فالصحابة رضي الله عنهم كان لديهم منهج سديد ، ومعيار دقيق في قبول ما يلقى إليهم من الإسرائيليات ، فما وافق شرعنا قبلوه ، وما خالفه كذبوه ، وما كان مسكوتاً عنه توقفوا فيه.
ثم إنهم لم يكونوا يرجعون إليهم في كل أمر ، وإنما كانوا يرجعون إليهم لمعرفة بعض جزئيات الحوادث والأخبار ، ولم يُعرف عنهم أبداً أنهم رجعوا إليهم في العقائد ولا في الأحكام ، ولو ثبت أنهم سألوا أهل الكتاب عن شيء يتعلق بالمعتقد فلم يكن ذلك عن تهوك منهم وارتياب ، وإنما كان لإقامة الحجة عليهم ، بالاستشهاد والتأييد لما جاء في شريعتنا ، عن طريق الاحتجاج عليهم بما يعتقدون .
أما إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: (أمتهوكون فيها يابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وإنكار بعض الصحابة - كابن عباس نفسه - على من كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب بقوله كما في البخاري: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم".
هذا الإنكار لا يعارض الجواز والإذن الثابت في نصوص أخرى، لأنه كان في مبدأ الإسلام، وقبل استقرار الأحكام، وأما الإباحة فجاءت بعد أن عرفت الأحكام واستقرت، وذهب خوف الاختلاط والتشويش، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية، خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار" أهـ .
كما أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعاً من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ومقدار سفينة نوح ونوع خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر، وغير ذلك مما يعد السؤال عنه قبيحاً، ومن قبيل تكلف ما لا يعني، وتضييع الأوقات في غير طائل، الأمر الذي ينزه عنه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل أيضاً على أن الصحابة لم يكونوا يتلقفون كل ما يصدر عن أهل الكتاب دون نقد وتمحيص تلك المراجعات العديدة، والردود العلمية على بعض أهل الكتاب في أمور أنكروها، وردوا عليهم خطأهم فيها .
ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه الله إياه)، فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أم رفعت؟ وإذا كانت باقية فهل هي في جمعة واحدة من السنة، أو في كل جمعة منها؟ وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه كعب الأحبار عن ذلك فأجابه كعب بأنها في جمعة واحدة من السنة، فرد عليه أبو هريرة قوله هذا، وبين له أنها في كل جمعة، ولما رجع كعب إلى التوراة، وجد أن الصواب مع أبي هريرة فرجع إليه، كما في الموطأ .
كما سأل أبو هريرة أيضاً عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة قائلاً له: "أخبرني ولا تَضِنَّ عليَّ"، فأجابه عبد الله بن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فرد عليه أبو هريرة بقوله: "كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي..)، وتلك الساعة لا يصلّى فيها؟ أخرجه أبو داود وغيره.
ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس أنه قال: "المفدي إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحق وكذبت اليهود"، ولما بلغه أن نوفاً البكالي - وهو ربيب كعب الأحبار -، يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس بموسى الخضر، قال: "كذب" حدثنا أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث الذي عند البخاري في قصة موسى مع الخضر.
نأتي إلى تفصيل القول في الرد على الشبهات الواردة في ذلك، وسيكون في محورين رئيسين:
الأول: ما يتعلق باتهام الصحابة بالتوسع في الأخذ عن أهل الكتاب، من غير وعي ولا تمحيص، ورميهم بالانخداع والغفلة والسذاجة.
الثاني: ما يتعلق بالطعن في بعض من أسلموا من أهل الكتاب، وحَسُن إسلامهم وعُرِفوا بالعلم والفضل، والعدالة والثقة والعدالة، واتهامهم بأن غرضهم الدسيسة والكيد للإسلام وأصوله.
أما قضية أخذ بعض الصحابة عن أهل الكتاب ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلم الناس بأمور دينهم ، وقد خصهم الله بالعلم والفهم ، والورع والتقى، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحدٍ بعدهم ، ومن شكَّ في ذلك فعليه أن يراجع دينه وإيمانه ، قال الإمام الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وورع وعقل، وأمرٍ استُدْرِك به عليهم، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا".
وما ثبت من أن بعض الصحابة كأبي هريرة وابن عباس وغيرهما كانوا يرجعون إلى بعض من أسلم من أهل الكتاب، فهو أمر لا يعيبهم ولا ينقص من قدرهم وعلمهم وذلك لأمور منها: أنهم لم يخرجوا عن دائرة الجواز التي حدّها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لهم فيها بقوله: (بلغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري، وفي الوقت نفسه لم يخالفوا النهي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... الآية) رواه البخاري.
ولا تعارض بين هذين الحديثين، فإن الأول أباح لهم أن يحدِّثوا عما وقع لبني إسرائيل من الأعاجيب لما في أخبارهم من العبرة والعظة ، بشرط أن يعلموا أنه ليس مكذوباً ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجيز التحدث بالكذب.
وأما الحديث الثاني فالمراد منه التوقف فيما يحدّث به أهل الكتاب إذا كان محتملاً للصدق والكذب ، لأنه ربما كان صدْقاً في واقع الأمر فيكذبونه ، أو كذباً فيصدقونه فيقعون بذلك في الحرج.
فهذا النوع من الأخبار المحتملة للصدق والكذب هو الذي نهينا عن تصديقه أو تكذيبه، وليس المراد منه ما جاء شرعنا بموافقته أو مخالفته ، فإن الموقف منه واضح ومعروف.
ومن هنا يتبين لنا أنه لا تعارض بين إذنه - صلى الله عليه وسلم - بالتحديث عن بني إسرائيل ، وبين نهيه عن تصديقهم أو تكذيبهم ، كما يتبين لنا القدر الذي أباحه الشارع من الرواية عن أهل الكتاب.
إذاً فالصحابة رضي الله عنهم كان لديهم منهج سديد ، ومعيار دقيق في قبول ما يلقى إليهم من الإسرائيليات ، فما وافق شرعنا قبلوه ، وما خالفه كذبوه ، وما كان مسكوتاً عنه توقفوا فيه.
ثم إنهم لم يكونوا يرجعون إليهم في كل أمر ، وإنما كانوا يرجعون إليهم لمعرفة بعض جزئيات الحوادث والأخبار ، ولم يُعرف عنهم أبداً أنهم رجعوا إليهم في العقائد ولا في الأحكام ، ولو ثبت أنهم سألوا أهل الكتاب عن شيء يتعلق بالمعتقد فلم يكن ذلك عن تهوك منهم وارتياب ، وإنما كان لإقامة الحجة عليهم ، بالاستشهاد والتأييد لما جاء في شريعتنا ، عن طريق الاحتجاج عليهم بما يعتقدون .
أما إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: (أمتهوكون فيها يابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وإنكار بعض الصحابة - كابن عباس نفسه - على من كانوا يرجعون إلى أهل الكتاب بقوله كما في البخاري: "يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله، تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله ما رأينا منهم رجلاً قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم".
هذا الإنكار لا يعارض الجواز والإذن الثابت في نصوص أخرى، لأنه كان في مبدأ الإسلام، وقبل استقرار الأحكام، وأما الإباحة فجاءت بعد أن عرفت الأحكام واستقرت، وذهب خوف الاختلاط والتشويش، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية، خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار" أهـ .
كما أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يسألون عن الأشياء التي يشبه أن يكون السؤال عنها نوعاً من اللهو والعبث، كالسؤال عن لون كلب أهل الكهف، والبعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ومقدار سفينة نوح ونوع خشبها، واسم الغلام الذي قتله الخضر، وغير ذلك مما يعد السؤال عنه قبيحاً، ومن قبيل تكلف ما لا يعني، وتضييع الأوقات في غير طائل، الأمر الذي ينزه عنه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل أيضاً على أن الصحابة لم يكونوا يتلقفون كل ما يصدر عن أهل الكتاب دون نقد وتمحيص تلك المراجعات العديدة، والردود العلمية على بعض أهل الكتاب في أمور أنكروها، وردوا عليهم خطأهم فيها .
ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه الله إياه)، فقد اختلف السلف في تعيين هذه الساعة، وهل هي باقية أم رفعت؟ وإذا كانت باقية فهل هي في جمعة واحدة من السنة، أو في كل جمعة منها؟ وقد سأل أبو هريرة رضي الله عنه كعب الأحبار عن ذلك فأجابه كعب بأنها في جمعة واحدة من السنة، فرد عليه أبو هريرة قوله هذا، وبين له أنها في كل جمعة، ولما رجع كعب إلى التوراة، وجد أن الصواب مع أبي هريرة فرجع إليه، كما في الموطأ .
كما سأل أبو هريرة أيضاً عبد الله بن سلام عن تحديد هذه الساعة قائلاً له: "أخبرني ولا تَضِنَّ عليَّ"، فأجابه عبد الله بن سلام بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فرد عليه أبو هريرة بقوله: "كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلِّي..)، وتلك الساعة لا يصلّى فيها؟ أخرجه أبو داود وغيره.
ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس أنه قال: "المفدي إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحق وكذبت اليهود"، ولما بلغه أن نوفاً البكالي - وهو ربيب كعب الأحبار -، يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس بموسى الخضر، قال: "كذب" حدثنا أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث الذي عند البخاري في قصة موسى مع الخضر.
تعليق