قصة لوط وقومه
قد ذكرنا مهاجر لوط مع إبراهيم - عليه السلام - إلى مصر ، وعودهم إلى الشام ، ومقام لوط بسدوم .
فلما أقام بها أرسله الله إلى أهلها ، وكانوا أهل كفر بالله تعالى ، وركوب فاحشة ، كما قال تعالى : ( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ). فكان قطعهم السبيل أنهم كانوا يأخذون المسافر إذا مر بهم ويعملون به ذلك العمل الخبيث ، وهو اللواطة ، وأما إتيانهم المنكر في ناديهم فقيل كانوا يحذفون من مر بهم ويسخرون منهم ، وقيل : كانوا يتضارطون في مجالسهم ، وقيل : كان يأتي بعضهم بعضا في مجالسهم .
وكان لوط يدعوهم إلى عبادة الله وينهاهم عن الأمور التي يكرهها الله منهم من قطع السبيل ، وركوب الفواحش ، وإتيان الذكور في الأدبار ، ويتوعدهم على إصرارهم ، وترك التوبة بالعذاب الأليم ، فلا يزجرهم ذلك ولا يزيدهم وعظه إلا تماديا ، واستعجالا لعقاب الله إنكارا منهم لوعيده ، ويقولون له : ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين . حتى سأل لوط النصرة عليهم لما تطاول عليه أمرهم وتماديهم في غيهم .
[ ص: 107 ] فبعث الله ، لما أراد هلاكهم ونصر رسوله ، جبرائيل وملكين آخرين معه ، أحدهما ميكائيل ، والآخر إسرافيل ، فأقبلوا فيما ذكر مشاة في صورة رجال وأمرهم أن يبدءوا بإبراهيم ، وسارة ويبشرون بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب .
فلما نزلوا على إبراهيم ، وكان الضيف قد أبطأ عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه ، وكان يضيف من نزل به ، وقد وسع الله عليه الرزق ، فرح بهم ورأى ضيفا لم ير مثلهم حسنا وجمالا ، فقال : لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلا أنا بيدي . فخرج إلى أهله فجاء بعجل سمين قد حنذه ، أي أنضجه ، فقربه إليهم ، فأمسكوا أيديهم عنه ( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)وامرأته سارة قائمة فضحكت لما عرفت من أمر الله ولما تعلم من قوم لوط (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاق وَمِنْ وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب)فقالت وصكت وجهها ( أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۖ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ) وكانت ابنة تسعين سنة وإبراهيم ابن عشرين ومائة .
( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى ) ذهب يجادل جبرائيل في قوم لوط ، فقال له : أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين ؟ قالوا : وإن كان فيهم خمسون من المسلمين لم يعذبهم ؟ قال : وأربعون . قالوا : وأربعون ؟ قال : وثلاثون ، حتى بلغ عشرة . قالوا : وإن كان فيهم عشرة ؟ قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ! ثم قال تَعَالَى { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَم بِمَنْ فِيهَا لَأُنْجِيَنهُ وَأَهْله إِلَّا اِمْرَأَته كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ }
ثم مضت الملائكة نحو سدوم قرية لوط ، فلما انتهوا إليها لقوا لوطا في أرض له يعمل فيها ، وقد قال الله تعالى لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فأتوه فقالوا : إنا متضيفوك الليلة ، فانطلق بهم ، فلما مشى ساعة التفت إليهم فقال لهم : [ ص: 108 ] أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض إنسانا أخبث منهم ، حتى قال ذلك أربع مرات .
وقيل : بل لقوا ابنته فقالوا : يا جارية هل من منزل ؟ قالت : نعم ، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم . خافت عليهم من قومها ، فأتت أباها فقالت : يا أبتاه أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت أصبح وجوها منهم لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم . وكان قومه قد نهوه أن يضيف رجلا ، فجاء بهم فلم يعلم إلا أهل بيت لوط ، فخرجت امرأته فأخبرت قومها ، وقالت لهم : قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوها منهم ، ولا أطيب رائحة . فجاءه قومه يهرعون إليه . فقال : يا قوم { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } فنهاهم ورغبهم وقال {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}مما تريدون {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}، فلما لم يقبلوا منه{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}يعني لو أن لي أنصارا أو عشيرة يمنعوني منكم . فلما قال ذلك وجد عليه الرسل ، فقالوا : إن ركنك لشديد ولم يبعث الله نبيا إلا في ثروة من قومه ومنعة من عشيرته . وأغلق لوط الباب ، فعالجوه ، وفتح لوط الباب ، فدخلوا ، واستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له فبسط جناحيه ففقأ أعينهم وخرجوا يدوس بعضهم بعضا عميانا يقولون : النجاء النجاء ! فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض ! وقالوا للوط{ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ}
{ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ}
فأخرجهم الله إلى الشام ، وقال لوط : أهلكوهم الساعة ، فقالوا لم نؤمر إلا بالصبح { أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} فلما كان الصبح أدخل جبرائيل - وقيل ميكائيل - جناحه في أرضهم وقراهم الخمس فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ونباح [ ص: 109 ] كلابهم ، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل فأهلكت من لم يكن بالقرى . وسمعت امرأة لوط الهدة فقالت : واقوماه ! فأدركها حجر فقتلها . ونجى الله لوطا وأهله إلا امرأته .
وذكر أنه كان فيها أربعمائة ألف . وكان إبراهيم يتشرف عليها ويقول : سدوم يوما هالك .
ومدائن قوم لوط خمس : سدوم ، وصبعة ، وعمرة ، ودوما ، وصعوة ، وسدوم هي القرية العظمى .
قوله ( يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ )، هو مشي بين الهرولة والجمز .
تعليق