حقوق الأخوّة
الحمدُ للهِ الذي هَدَانا إلى الإسلامِ ، وجَعَلَنا مِن أُمَّةِ خيرِ الأنامِ
ثُمَّ الْحَمدُ للهِ الذي جَعَلَ المؤمنينَ إخوةً ، فَقَالَ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)
قَالَ القُرطبيُّ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، أَيْ : فِي الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ لا فِي النَّسَبِ . وَلِهَذَا قِيلَ : أُخُوَّةُ الدِّينِ أَثْبَتُ مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ أُخوّةَ النَّسبِ تَنْقَطِعُ بِمخالفةِ الدِّينِ ، وَأُخُوَّةَ الدِّينِ لا تَنْقَطِعُ بِمُخَالَفَةِ النَّسَبِ. اهـ .
وامْتَنَّ اللهُ على المؤمنينَ أنْ جَعَلَهُمْ إخْوةً ، وأنْ ألَّفَ بَيْنَ قلوبِهِم
فقَالَ تَعَالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
وقَالَ جَلَّ شَأنُهُ : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
أيُّها المؤمِنونَ
تَتَعَارَفُ أرواحُ المؤمنينَ وَتَتَآلَفُ ، وتَتَعَارَفُ أرواحُ الأشرارِ وتَتَآلَفُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ . رَوَاهُ البخاريُّ .
قَالَ الخطابيُّ: الأجسادُ التي فيها الأرواحُ تَلتَقِي في الدُّنيا فتَأتَلِفُ وَتَخْتلِفُ عَلَى حَسَبِ ما جُعلتْ عَليْهِ مِنَ التَّشَاكُلِ أوِ التنافُرِ في بِدْءِ الخِلْقَةِ ، ولذلِكَ تَرَى البَرَّ الخيِّرَ يُحِبُّ شكلَهُ وَيَحِنُّ إلى قُرْبِهِ وينْفِرُ عنْ ضِدِّهِ، وكذلِكَ الرَّهِقُ الفاجِرُ يألَفُ شَكلَهُ ويستحْسِنُ فِعْلَهُ وَيَنْحَرِفُ عَنْ ضِدِّهِ . اهـ
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ، وَلا يُؤْلَفُ . رواه الإمامُ أحمدُ والحاكِمُ وصحَّحَهُ .
وتَوَارَثَ المؤمنونَ تِلْكَ الأُخُوَّةَ ، حَتَّى دَعَا اللاحقُ للسَّابِقِ
(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
وقَامَ بينَهُم عقْدُ الولايةِ ، كما قَالَ تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)
قَالَ البغويُّ في قولِه : (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) : فِي الدِّينِ واجتماعِ الكَلِمةِ والعَونِ وَالنُّصْرَةِ . اهـ .
وقَالَ القرطبيُّ : قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أَيْ : قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ وَالتَّعَاطُفِ . اهـ .
فالموالاةُ عَقْدٌ بينَ المؤمِنِ والمؤمِنِ، ولَهَا درجاتٌ بِحسَبِ تِلْكَ العَلاقَةِ .
وفي الحديثِ : إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ . رَوَاهُ الإمامُ أحْمَدُ ، وحَسَّنَهُ الألبانيُّ .
وفي الحديثِ الآخَرِ : مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ . رَوَاهُ أبو داودَ ، وصححَهُ الألبانيُّ .
وجَاءَ التأكيدُ على هَذِهِ الأُخوّةِ في السُّنَّةِ النبويِّةِ ، واستفاضتْ النصوصُ بشأنِها ، فمِنْ ذلِكَ :
قولُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا . رَوَاهُ البخاريُّ ومسلِم
وقوله عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى . رَوَاهُ مسلم .
قَالَ النوويُّ : هَذِهِ الأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي تَعْظِيمِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَحَثِّهِمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالْمُلاطَفَةِ وَالتَّعَاضُدِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا مَكْرُوهٍ . اهـ .
وامتثلَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللُه عَنْهُم تِلْكَ الأخوّةَ الإيمانيَّةَ وتمثَّلوها واقِعا حَيًّا مَلْمُوسًا
لَمَّا مَرَّ مُصعَبُ بنُ عميرٍ رَضِيَ اللُه عَنْهُ بأخِيهِ " أبي عزيزٍ " وَرَجُلٌ مِن الأنصارِ يأسِرُه . قَالَ مُصعبٌ : شُدَّ يديْكَ بِهِ ، فإنَّ أمَّهُ ذاتَ متاعٍ لَعَلَّها تفديه مِنْكَ . قَالَ أبو عزيزٍ : يا أخِي ! هذِهِ وَصاتُكَ بي ؟ فقَالَ لَهُ مُصعبٌ : إنَّهُ أخِي دُونَكَ .
يعني أنَّ الأنصاريَّ أخِي دُونَكَ ، وإنْ كُنْتَ أخِي مِنَ اللحْمِ والدَّمِ .
وإنَّ للأخوَّةِ الإيمانيِّةِ حقوقا يُثابُ عَلَيْها فاعِلُها
ومِنْ حقِّ المسلمِ على أخيهِ : أن لا يَحْقِرَهُ ولا يَظْلِمَهُ وَلا يَخْذُلَهُ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ. رَوَاهُ مسلم .
قَالَ الْعُلَمَاءُ الْخَذْلُ : تَرْكُ الإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ ، وَمَعْنَاهُ إِذَا اسْتَعَانَ بِهِ فِي دَفْعِ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ لَزِمَهُ إِعَانَتَهُ إِذَا أَمْكَنَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ . اهـ . نقله النوويُّ .
بل يجِبُ على المُسْلِمِ أنْ يَحْقِنَ دَمَ أخيهِ ، ولو كَانَ ذلِكَ بارتكابِ مفْسَدَةٍ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانَ سَبَبُ حَبْسِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ ، فَجَاءَ الَّذِي طَلَبَهُ فَقَالَ: أُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ . فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أَنَا إِبْرَاهِيمُ ، فَأَخَذَهُ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ ، فَلَمْ يَسْتَحِلَّ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَيْهِ ، فَأَتَى بِهِ الْحَجَّاجُ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي الدِّيـمَاسِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظِلٌّ مِنَ الشَّمْسِ ، وَلا كِـنٌّ مِنَ الْبَرْدِ ، وَكَانَ كُلُّ اثْنَيْنِ فِي سِلْسِلَةٍ ، فَتَغَيَّرَ إِبْرَاهِيمُ ، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فِي الْحَبْسِ فَلَمْ تَعْرِفْهُ حَتَّى كَلَّمَهَا ، فَمَاتَ فِي السِّجْنِ . فَرَأَى الْحَجَّاجُ فِي مَنَامِهِ قَائِلا يَقُولُ: مَاتَ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: هَلْ مَاتَ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ بِوَاسِطَ؟
قَالَوا: نَعَمْ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ مَاتَ فِي السِّجْنِ . فَقَالَ الْحَجَّاجُ : حُلْمٌ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ !
وَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ عَلَى الْكُنَاسَةِ . رَوَاهُ ابنُ سعدٍ في الطبقاتِ .
فلَمْ يستَحِلَّ ذلك العَالِمُ الْجَلِيلُ أنْ يَدُلَّ على مُسلِمٍ ، أو أنْ يكونَ سببا في ضَررِهِ .
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ : ذَهَبَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى يَمِينٍ إِنْ لَمْ يَحْلِفْهَا قُتِلَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لا حِنْثَ عَلَيْهِ . اهـ .
ومن ذلِكَ : حُسنُ الظَنِّ بالمؤمنينَ
وذلك بأن تُجنِّبَ أخاكَ سوءَ الظنِّ به ؛ لأنَّ سُوءَ الظَّنِّ مِنْ غيرِ قرينةٍ ولا بيِّنَةٍ مُخَالِفٌ لِمَا تقتضيهِ الأخوةُ
نَظَرَ ابنُ عباسٍ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَمَا أَعْظَمَ حَقَّكِ، وَالْمُسْلِمُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ، حَرَّمَ اللَّهُ مَالَهُ، وَحَرَّمَ دَمَهُ، وَحَرَّمَ عِرْضَهُ وَأَذَاهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ سُوءٍ . رَوَاهُ ابنُ أبي شيبةَ .
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : ذَبُّ المسلِمِ عنْ عِرضِ أخيهِ
ومِنْ هذا البابِ فِعْلُ معاذٍ رَضِيَ اللُه عَنْهُ في غزوةِ تبوكَ
فإنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلْيهِ وَسَلَّمَ حين بَلغَ تبوكَ قَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا. رَوَاهُ البخاريُّ ومُسلِم .
وجَاءَ التشديدُ في حِفْظِ أعراضِ المؤمنينَ والمؤمناتِ ، فَمِنْ ذلِكَ :
قولُهُ تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
وقولُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ . رَوَاهُ الإمامُ أحمْدُ وأبو داودَ ، وهُوَ حديثٌ صحيحٌ .
قَالَ سفيانُ بنُ حُسينٍ : كُنتُ عِنْدَ إياسِ بنِ مُعَاوِيَةَ، وعِندَهُ رجُلٌ، تخوفتُ إنْ قُمتُ مِنْ عندَهُ أنْ يَقَعَ فِيّ . قَالَ: فجلَسْتُ حتَى قامَ، فلمَّا قامَ ذكرتُهُ لإياسٍ . قَالَ: فجعَلَ ينظرُ فِي وجهي. ولا يقولُ لي شيئا، حتى فَرَغْتُ ، فَقَالَ لي: أغَزَوتَ الدَّيْلَمَ ؟ قلتُ: لا، قَالَ: فَغَزَوْتَ السِّندَ؟ قلتُ: لا. قَالَ: فَغَزَوْتَ الهنْدَ ؟ قلت: لا. قَالَ: فَغَزَوْتَ الرُّومَ؟ قلت: لا. قَالَ: يَسْلَمُ منك الديلَمُ، والسِّندُ، والهندُ، والرومُ. وليس يسلَمُ مِنْكَ أخوك هَذَا؟! قَالَ: فلَمْ يَعُدْ سُفيانُ إلى ذَلِكَ .
ومِنْ حقِّ المسلِمِ على المسلِمِ : التناصُحُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ . رَوَاهُ البخاريُّ في " الأدبِ المفرَدِ " وأبو داودَ ، وحسّنَهُ الألبانيُّ .
قَالَ ابنُ بطَّالٍ : ومِنْ الحقِّ النصيحةُ للمسْلِمِ، وأن يَحوطَهُ في مَالِهِ بما أمْكَنَهُ . اهـ .
وقَالَ العظيمُ آبادي : " يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ " ، أَيْ : يَمْنَعُ تَلَفَهُ وَخُسْرَانَهُ . وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَضَيْعَةُ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مِنْ مَعَاشِهِ كَالصَّنْعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، أَيْ : يَجْمَعُ إِلَيْهِ مَعِيشَتَهُ وَيَضُمُّهَا لَهُ . "وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ " ، أَيْ : يَحْفَظُهُ وَيَصُونُهُ وَيَذُبُّ عَنْهُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ . اهـ .
ومِنْ ذلِكَ : النَّصحُ في البيعِ
قَالَ جَرِيرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللُه عَنْهُ : بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلْيهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ . فَكَانَ جَرِيرُ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ : اعْلَمْ أَنَّ مَا أَخَذْنَا مِنْكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاكَهُ فَاخْتَرْ . رَوَاهُ ابنُ حبَّانَ ، وأصْلُهُ في الصحيحينِ .
ومِنْ حقوقِ الأخوّةِ : التناصُرُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» ، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ . رَوَاهُ البخاريُّ .
قَالَ ابنُ الجوزيِّ : اعْلَمْ أَنَّ مَنْ مَنَعَ شخصا مِنَ الظُّلْمِ فَقَدْ نَصرَهُ على هَوَاهُ ونفَعَهُ بِالْمَنْعِ كَمَا يَنْفَعهُ بالنَّصْرِ . اهـ .
وفي الحديثِ الآخَرِ : مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِالْغَيْبِ نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . رَوَاهُ البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ ، وحسَّنَهُ الألبانيُّ .
ومِنْ حقوقِ الأخوّةِ : صِلَتُهم وإعانتُهم بِحَسَبِ الاستطاعة
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . رَوَاهُ مسلم .
وكَانَ ابنُ المبَارَكِ يُنْفِقُ عَلَى الفُقَرَاءِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ .
وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَتَّجِرُ، وَيَقُوْلُ: لَوْلاَ خَمْسَةٌ مَا تَجِرْتُ ، فَيَتَّجِر ويَصِلهُم.
وكانَ يُعينُ إخوانَهُ في قَضَاءِ حَوائجِهِم ، ويَتَعاهَدُهُم في الخَفَاءِ .
وكَانَ شَابٌّ يَخْتَلِفُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بنِ المبارك ، وَيَقُوْمُ بِحَوَائِجِهِ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيْثَ، فَقَدِمَ عَبْدُ اللهِ مَرَّةً، فَلَمْ يَرَهُ، فَخَرَجَ فِي النَّفِيْرِ مُسْتَعجِلاً، فَلَمَّا رَجَعَ، سَأَلَ عَنِ الشَّابِّ، فَقَالَوا: مَحْبُوْسٌ عَلَى عَشْرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ.
فَاسْتَدَلَّ عَلَى الغَرِيْمِ، وَوَزَنَ لَهُ عَشْرَةَ آلاَفٍ، وَحَلَّفَهُ أَلاَّ يُخْبِرَ أَحَدا مَا عَاشَ، فَأُخْرِجَ الرَّجُلُ، وَسَرَى ابْنُ المُبَارَكِ، فَلَحِقَهُ الفَتَى ، فَقَالَ له : يَا فَتَى أَيْنَ كُنْتَ؟ لَمْ أَرَكَ !
قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! كُنْتُ مَحْبُوْساً بِدَيْنٍ .
قَالَ: وَكَيْفَ خَلصْتَ؟
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَضَى دَيْنِي، وَلَمْ أَدرِ .
قَالَ: فَاحْمَدِ اللهَ . وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّجُلُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ اللهِ .
ومِنْ حقوقِ الأخوّةِ :
أنْ تَتَجنّبَ المِراءَ والمماراتِ مع إخوانِكَ, فإنَّ المراءَ مُذْهِبٌ لِلْمَحَبَّةِ، ومُذْهِبٌ للصَّداقةِ، ومُحِلٌّ للبغضاءِ والتشاحُنِ والقطيعةِ بينَ الناسِ
ولذلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا . رَوَاهُ أبو داودَ .
قَالَ ابنُ حَجَرٍ : كَثْرَةُ الْمُخَاصَمَةِ تُفْضِي غَالِبًا إِلَى مَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ . اهـ .
قَالَ العلماءُ : لأنَّ مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ والجدالَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، فإنَّه يَمْنَعُ صاحِبَهُ مِنَ التوغُّلِ في الجِدالِ بالباطِلِ .
قَالَ عبدُ الرّحمنِ بنُ أبي ليلى: ما ماريتُ أخي أبدا ؛ لأنّي إنْ ماريتُهَ إمّا أنْ أكذِّبَهُ، وإمّا أنْ أغْضِبَهُ
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : أن يَفْرَحَ بِمَا آتى اللهُ تَعَالى إخْوَانَه ؛ فيَفْرَحُ الأخُ لأخيهِ بِما آتاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ لقولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ .. الحديثُ .
قَالَ ابنُ رجَبٍ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسُوءُهُ مَا يَسُوءُ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ ، وَيُحْزِنُهُ مَا يُحْزِنُهُ . اهـ .
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : كفُّ الأذَى .
قَالَ تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)
قَالَ الحسنُ وقتادةُ: إيّاكُم وأذى المؤمِنِ ، فإنّهُ حَبيبُ ربِّهِ، أحبَّ اللهَ فأحبَّهُ، وغَضِبَ لربِّهِ فغَضِبَ اللهُ لَهُ، وإنَّ اللهَ يحوطُهُ ويؤذي مَنْ آذاه .
قَالَ الفضيلُ لا يَحِلُّ لَكَ أنْ تؤذِيَ كَلْبا أو خِنْزِيرا بغيرِ حَقِّ فَكيْفَ إيذاءُ المؤمنينَ والمؤمناتِ ؟!
وكان ابنُ عونٍ لا يُكري الحوانيتَ إلاَّ مِنْ أهْلِ الذمّةِ، لِمَا فيه مِنَ الروعةِ عِنْدَ كَـرِّ الْحَوْل .
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : السِّترُ والتغافُرُ ، وطيُّ العيوبِ وكتمانُها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. رواه مسلم
قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: مَنْ شَدَّدَ نَفَّرَ، وَمَنْ تَرَاخَى تَأَلَّفَ، وَالسُّرُورُ فِي التَّغَافُلِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْخُزَاعِيُّ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ زَائِدَةَ، يَقُولُ: الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَب .
وقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ: الْمُرُوءَةُ التَّغَافُلُ عَنْ زَلَلِ الإِخْوَانِ .
عباد الله :
احفظوا هَذِهِ الحقوقَ ، وأدُّوا مِنْهَا ما استطعتُم ، واعلموا أنها مما يُتقرَّبُ بِهِ إلى اللهِ ..
(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
منقول عن
الحمدُ للهِ الذي هَدَانا إلى الإسلامِ ، وجَعَلَنا مِن أُمَّةِ خيرِ الأنامِ
ثُمَّ الْحَمدُ للهِ الذي جَعَلَ المؤمنينَ إخوةً ، فَقَالَ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)
قَالَ القُرطبيُّ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، أَيْ : فِي الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ لا فِي النَّسَبِ . وَلِهَذَا قِيلَ : أُخُوَّةُ الدِّينِ أَثْبَتُ مِنْ أُخُوَّةِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ أُخوّةَ النَّسبِ تَنْقَطِعُ بِمخالفةِ الدِّينِ ، وَأُخُوَّةَ الدِّينِ لا تَنْقَطِعُ بِمُخَالَفَةِ النَّسَبِ. اهـ .
وامْتَنَّ اللهُ على المؤمنينَ أنْ جَعَلَهُمْ إخْوةً ، وأنْ ألَّفَ بَيْنَ قلوبِهِم
فقَالَ تَعَالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
وقَالَ جَلَّ شَأنُهُ : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
أيُّها المؤمِنونَ
تَتَعَارَفُ أرواحُ المؤمنينَ وَتَتَآلَفُ ، وتَتَعَارَفُ أرواحُ الأشرارِ وتَتَآلَفُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ . رَوَاهُ البخاريُّ .
قَالَ الخطابيُّ: الأجسادُ التي فيها الأرواحُ تَلتَقِي في الدُّنيا فتَأتَلِفُ وَتَخْتلِفُ عَلَى حَسَبِ ما جُعلتْ عَليْهِ مِنَ التَّشَاكُلِ أوِ التنافُرِ في بِدْءِ الخِلْقَةِ ، ولذلِكَ تَرَى البَرَّ الخيِّرَ يُحِبُّ شكلَهُ وَيَحِنُّ إلى قُرْبِهِ وينْفِرُ عنْ ضِدِّهِ، وكذلِكَ الرَّهِقُ الفاجِرُ يألَفُ شَكلَهُ ويستحْسِنُ فِعْلَهُ وَيَنْحَرِفُ عَنْ ضِدِّهِ . اهـ
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ، وَلا يُؤْلَفُ . رواه الإمامُ أحمدُ والحاكِمُ وصحَّحَهُ .
وتَوَارَثَ المؤمنونَ تِلْكَ الأُخُوَّةَ ، حَتَّى دَعَا اللاحقُ للسَّابِقِ
(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
وقَامَ بينَهُم عقْدُ الولايةِ ، كما قَالَ تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)
قَالَ البغويُّ في قولِه : (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) : فِي الدِّينِ واجتماعِ الكَلِمةِ والعَونِ وَالنُّصْرَةِ . اهـ .
وقَالَ القرطبيُّ : قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أَيْ : قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ وَالتَّعَاطُفِ . اهـ .
فالموالاةُ عَقْدٌ بينَ المؤمِنِ والمؤمِنِ، ولَهَا درجاتٌ بِحسَبِ تِلْكَ العَلاقَةِ .
وفي الحديثِ : إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ . رَوَاهُ الإمامُ أحْمَدُ ، وحَسَّنَهُ الألبانيُّ .
وفي الحديثِ الآخَرِ : مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ . رَوَاهُ أبو داودَ ، وصححَهُ الألبانيُّ .
وجَاءَ التأكيدُ على هَذِهِ الأُخوّةِ في السُّنَّةِ النبويِّةِ ، واستفاضتْ النصوصُ بشأنِها ، فمِنْ ذلِكَ :
قولُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا . رَوَاهُ البخاريُّ ومسلِم
وقوله عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى . رَوَاهُ مسلم .
قَالَ النوويُّ : هَذِهِ الأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي تَعْظِيمِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَحَثِّهِمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالْمُلاطَفَةِ وَالتَّعَاضُدِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا مَكْرُوهٍ . اهـ .
وامتثلَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللُه عَنْهُم تِلْكَ الأخوّةَ الإيمانيَّةَ وتمثَّلوها واقِعا حَيًّا مَلْمُوسًا
لَمَّا مَرَّ مُصعَبُ بنُ عميرٍ رَضِيَ اللُه عَنْهُ بأخِيهِ " أبي عزيزٍ " وَرَجُلٌ مِن الأنصارِ يأسِرُه . قَالَ مُصعبٌ : شُدَّ يديْكَ بِهِ ، فإنَّ أمَّهُ ذاتَ متاعٍ لَعَلَّها تفديه مِنْكَ . قَالَ أبو عزيزٍ : يا أخِي ! هذِهِ وَصاتُكَ بي ؟ فقَالَ لَهُ مُصعبٌ : إنَّهُ أخِي دُونَكَ .
يعني أنَّ الأنصاريَّ أخِي دُونَكَ ، وإنْ كُنْتَ أخِي مِنَ اللحْمِ والدَّمِ .
وإنَّ للأخوَّةِ الإيمانيِّةِ حقوقا يُثابُ عَلَيْها فاعِلُها
ومِنْ حقِّ المسلمِ على أخيهِ : أن لا يَحْقِرَهُ ولا يَظْلِمَهُ وَلا يَخْذُلَهُ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا - وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ. رَوَاهُ مسلم .
قَالَ الْعُلَمَاءُ الْخَذْلُ : تَرْكُ الإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ ، وَمَعْنَاهُ إِذَا اسْتَعَانَ بِهِ فِي دَفْعِ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ لَزِمَهُ إِعَانَتَهُ إِذَا أَمْكَنَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ . اهـ . نقله النوويُّ .
بل يجِبُ على المُسْلِمِ أنْ يَحْقِنَ دَمَ أخيهِ ، ولو كَانَ ذلِكَ بارتكابِ مفْسَدَةٍ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانَ سَبَبُ حَبْسِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ ، فَجَاءَ الَّذِي طَلَبَهُ فَقَالَ: أُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ . فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أَنَا إِبْرَاهِيمُ ، فَأَخَذَهُ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ ، فَلَمْ يَسْتَحِلَّ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَيْهِ ، فَأَتَى بِهِ الْحَجَّاجُ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِ فِي الدِّيـمَاسِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظِلٌّ مِنَ الشَّمْسِ ، وَلا كِـنٌّ مِنَ الْبَرْدِ ، وَكَانَ كُلُّ اثْنَيْنِ فِي سِلْسِلَةٍ ، فَتَغَيَّرَ إِبْرَاهِيمُ ، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فِي الْحَبْسِ فَلَمْ تَعْرِفْهُ حَتَّى كَلَّمَهَا ، فَمَاتَ فِي السِّجْنِ . فَرَأَى الْحَجَّاجُ فِي مَنَامِهِ قَائِلا يَقُولُ: مَاتَ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: هَلْ مَاتَ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ بِوَاسِطَ؟
قَالَوا: نَعَمْ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ مَاتَ فِي السِّجْنِ . فَقَالَ الْحَجَّاجُ : حُلْمٌ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ !
وَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ عَلَى الْكُنَاسَةِ . رَوَاهُ ابنُ سعدٍ في الطبقاتِ .
فلَمْ يستَحِلَّ ذلك العَالِمُ الْجَلِيلُ أنْ يَدُلَّ على مُسلِمٍ ، أو أنْ يكونَ سببا في ضَررِهِ .
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ : ذَهَبَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى يَمِينٍ إِنْ لَمْ يَحْلِفْهَا قُتِلَ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ لا حِنْثَ عَلَيْهِ . اهـ .
ومن ذلِكَ : حُسنُ الظَنِّ بالمؤمنينَ
وذلك بأن تُجنِّبَ أخاكَ سوءَ الظنِّ به ؛ لأنَّ سُوءَ الظَّنِّ مِنْ غيرِ قرينةٍ ولا بيِّنَةٍ مُخَالِفٌ لِمَا تقتضيهِ الأخوةُ
نَظَرَ ابنُ عباسٍ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَمَا أَعْظَمَ حَقَّكِ، وَالْمُسْلِمُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ، حَرَّمَ اللَّهُ مَالَهُ، وَحَرَّمَ دَمَهُ، وَحَرَّمَ عِرْضَهُ وَأَذَاهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ ظَنَّ سُوءٍ . رَوَاهُ ابنُ أبي شيبةَ .
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : ذَبُّ المسلِمِ عنْ عِرضِ أخيهِ
ومِنْ هذا البابِ فِعْلُ معاذٍ رَضِيَ اللُه عَنْهُ في غزوةِ تبوكَ
فإنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلْيهِ وَسَلَّمَ حين بَلغَ تبوكَ قَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعْبٌ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا. رَوَاهُ البخاريُّ ومُسلِم .
وجَاءَ التشديدُ في حِفْظِ أعراضِ المؤمنينَ والمؤمناتِ ، فَمِنْ ذلِكَ :
قولُهُ تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
وقولُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ . رَوَاهُ الإمامُ أحمْدُ وأبو داودَ ، وهُوَ حديثٌ صحيحٌ .
قَالَ سفيانُ بنُ حُسينٍ : كُنتُ عِنْدَ إياسِ بنِ مُعَاوِيَةَ، وعِندَهُ رجُلٌ، تخوفتُ إنْ قُمتُ مِنْ عندَهُ أنْ يَقَعَ فِيّ . قَالَ: فجلَسْتُ حتَى قامَ، فلمَّا قامَ ذكرتُهُ لإياسٍ . قَالَ: فجعَلَ ينظرُ فِي وجهي. ولا يقولُ لي شيئا، حتى فَرَغْتُ ، فَقَالَ لي: أغَزَوتَ الدَّيْلَمَ ؟ قلتُ: لا، قَالَ: فَغَزَوْتَ السِّندَ؟ قلتُ: لا. قَالَ: فَغَزَوْتَ الهنْدَ ؟ قلت: لا. قَالَ: فَغَزَوْتَ الرُّومَ؟ قلت: لا. قَالَ: يَسْلَمُ منك الديلَمُ، والسِّندُ، والهندُ، والرومُ. وليس يسلَمُ مِنْكَ أخوك هَذَا؟! قَالَ: فلَمْ يَعُدْ سُفيانُ إلى ذَلِكَ .
ومِنْ حقِّ المسلِمِ على المسلِمِ : التناصُحُ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : الْمُؤْمِنُ مَرْآةُ أَخِيهِ، وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ . رَوَاهُ البخاريُّ في " الأدبِ المفرَدِ " وأبو داودَ ، وحسّنَهُ الألبانيُّ .
قَالَ ابنُ بطَّالٍ : ومِنْ الحقِّ النصيحةُ للمسْلِمِ، وأن يَحوطَهُ في مَالِهِ بما أمْكَنَهُ . اهـ .
وقَالَ العظيمُ آبادي : " يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ " ، أَيْ : يَمْنَعُ تَلَفَهُ وَخُسْرَانَهُ . وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَضَيْعَةُ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مِنْ مَعَاشِهِ كَالصَّنْعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، أَيْ : يَجْمَعُ إِلَيْهِ مَعِيشَتَهُ وَيَضُمُّهَا لَهُ . "وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ " ، أَيْ : يَحْفَظُهُ وَيَصُونُهُ وَيَذُبُّ عَنْهُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ . اهـ .
ومِنْ ذلِكَ : النَّصحُ في البيعِ
قَالَ جَرِيرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللُه عَنْهُ : بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلْيهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ . فَكَانَ جَرِيرُ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ : اعْلَمْ أَنَّ مَا أَخَذْنَا مِنْكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاكَهُ فَاخْتَرْ . رَوَاهُ ابنُ حبَّانَ ، وأصْلُهُ في الصحيحينِ .
ومِنْ حقوقِ الأخوّةِ : التناصُرُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» ، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ . رَوَاهُ البخاريُّ .
قَالَ ابنُ الجوزيِّ : اعْلَمْ أَنَّ مَنْ مَنَعَ شخصا مِنَ الظُّلْمِ فَقَدْ نَصرَهُ على هَوَاهُ ونفَعَهُ بِالْمَنْعِ كَمَا يَنْفَعهُ بالنَّصْرِ . اهـ .
وفي الحديثِ الآخَرِ : مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِالْغَيْبِ نَصَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . رَوَاهُ البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ ، وحسَّنَهُ الألبانيُّ .
ومِنْ حقوقِ الأخوّةِ : صِلَتُهم وإعانتُهم بِحَسَبِ الاستطاعة
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . رَوَاهُ مسلم .
وكَانَ ابنُ المبَارَكِ يُنْفِقُ عَلَى الفُقَرَاءِ، فِي كُلِّ سَنَةٍ مائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ .
وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَتَّجِرُ، وَيَقُوْلُ: لَوْلاَ خَمْسَةٌ مَا تَجِرْتُ ، فَيَتَّجِر ويَصِلهُم.
وكانَ يُعينُ إخوانَهُ في قَضَاءِ حَوائجِهِم ، ويَتَعاهَدُهُم في الخَفَاءِ .
وكَانَ شَابٌّ يَخْتَلِفُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بنِ المبارك ، وَيَقُوْمُ بِحَوَائِجِهِ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيْثَ، فَقَدِمَ عَبْدُ اللهِ مَرَّةً، فَلَمْ يَرَهُ، فَخَرَجَ فِي النَّفِيْرِ مُسْتَعجِلاً، فَلَمَّا رَجَعَ، سَأَلَ عَنِ الشَّابِّ، فَقَالَوا: مَحْبُوْسٌ عَلَى عَشْرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ.
فَاسْتَدَلَّ عَلَى الغَرِيْمِ، وَوَزَنَ لَهُ عَشْرَةَ آلاَفٍ، وَحَلَّفَهُ أَلاَّ يُخْبِرَ أَحَدا مَا عَاشَ، فَأُخْرِجَ الرَّجُلُ، وَسَرَى ابْنُ المُبَارَكِ، فَلَحِقَهُ الفَتَى ، فَقَالَ له : يَا فَتَى أَيْنَ كُنْتَ؟ لَمْ أَرَكَ !
قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! كُنْتُ مَحْبُوْساً بِدَيْنٍ .
قَالَ: وَكَيْفَ خَلصْتَ؟
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَضَى دَيْنِي، وَلَمْ أَدرِ .
قَالَ: فَاحْمَدِ اللهَ . وَلَمْ يَعْلَمِ الرَّجُلُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ اللهِ .
ومِنْ حقوقِ الأخوّةِ :
أنْ تَتَجنّبَ المِراءَ والمماراتِ مع إخوانِكَ, فإنَّ المراءَ مُذْهِبٌ لِلْمَحَبَّةِ، ومُذْهِبٌ للصَّداقةِ، ومُحِلٌّ للبغضاءِ والتشاحُنِ والقطيعةِ بينَ الناسِ
ولذلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا . رَوَاهُ أبو داودَ .
قَالَ ابنُ حَجَرٍ : كَثْرَةُ الْمُخَاصَمَةِ تُفْضِي غَالِبًا إِلَى مَا يُذَمُّ صَاحِبُهُ . اهـ .
قَالَ العلماءُ : لأنَّ مَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ والجدالَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، فإنَّه يَمْنَعُ صاحِبَهُ مِنَ التوغُّلِ في الجِدالِ بالباطِلِ .
قَالَ عبدُ الرّحمنِ بنُ أبي ليلى: ما ماريتُ أخي أبدا ؛ لأنّي إنْ ماريتُهَ إمّا أنْ أكذِّبَهُ، وإمّا أنْ أغْضِبَهُ
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : أن يَفْرَحَ بِمَا آتى اللهُ تَعَالى إخْوَانَه ؛ فيَفْرَحُ الأخُ لأخيهِ بِما آتاهُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؛ لقولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ .. الحديثُ .
قَالَ ابنُ رجَبٍ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسُوءُهُ مَا يَسُوءُ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ ، وَيُحْزِنُهُ مَا يُحْزِنُهُ . اهـ .
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : كفُّ الأذَى .
قَالَ تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)
قَالَ الحسنُ وقتادةُ: إيّاكُم وأذى المؤمِنِ ، فإنّهُ حَبيبُ ربِّهِ، أحبَّ اللهَ فأحبَّهُ، وغَضِبَ لربِّهِ فغَضِبَ اللهُ لَهُ، وإنَّ اللهَ يحوطُهُ ويؤذي مَنْ آذاه .
قَالَ الفضيلُ لا يَحِلُّ لَكَ أنْ تؤذِيَ كَلْبا أو خِنْزِيرا بغيرِ حَقِّ فَكيْفَ إيذاءُ المؤمنينَ والمؤمناتِ ؟!
وكان ابنُ عونٍ لا يُكري الحوانيتَ إلاَّ مِنْ أهْلِ الذمّةِ، لِمَا فيه مِنَ الروعةِ عِنْدَ كَـرِّ الْحَوْل .
ومِنْ حقوقِ الأخوَّةِ : السِّترُ والتغافُرُ ، وطيُّ العيوبِ وكتمانُها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. رواه مسلم
قَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ: مَنْ شَدَّدَ نَفَّرَ، وَمَنْ تَرَاخَى تَأَلَّفَ، وَالسُّرُورُ فِي التَّغَافُلِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْخُزَاعِيُّ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ زَائِدَةَ، يَقُولُ: الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَب .
وقَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْمَكِّيُّ: الْمُرُوءَةُ التَّغَافُلُ عَنْ زَلَلِ الإِخْوَانِ .
عباد الله :
احفظوا هَذِهِ الحقوقَ ، وأدُّوا مِنْهَا ما استطعتُم ، واعلموا أنها مما يُتقرَّبُ بِهِ إلى اللهِ ..
(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
منقول عن
تعليق