مكة المكرمة البلد الحرام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وسيدنا وقدوتنا وإمامنا ومعلمنا الخير محمد عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه أزكى الصلاة وأتم التسليم، أما بعد:
فإن الله اصطفى من الأرض مكة ليكون بها بيته الحرام وجعل بيته أول بيت وضع للناس فقال سبحانه في ذلك: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}. واختار العظيم جل جلاله لعمارة بيته أيدي موحدة طاهرة؛ اختار لهذه المهمة أبا الأنبياء إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليه السلام وقال في شأن بنائهما للبيت: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
لماذا هذا الاختيار؟
إنه تعظيم للبلد الحرام. ولماذا بنى إبراهيم عليه السلام البيت؟ عمَّره من أجل طاعة الله:{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. فحق والله أن يعظم المسلمون أجمع وسكان البلد الحرام خاصة البيت، وحق أن يعظم البلد الحرام الذي ضمه بين جوانحه. وبعد أن انتهى الخليل عليه السلام من بناء البيت أُمر أمراً إلهياً بالأذان في الناس بحج بيت الله{ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}. ومازالت جموع المسلمين منذ ذلك التاريخ وحتى قيام الساعة تستجيب وتشتاق لإجابة ذلك النداء، وكم نرى تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين لهذا البيت.
وجعل العظيم سبحانه سوراً حول مكة هي المواقيت المكانية فلا يصح لحاج أو معتمر أن يتجاوز تلك المواقيت إلا وقد تلبس بالإحرام لماذا ؟.
تعظيماً للبلد الحرام. فيدخل الحاج والمعتمر لمكة المكرمة يدخل للبلد الحرام خاشعاً ملبياً متشحاً بالبياض عنوان السلم والسلام، وقد حرم عليه الصيد، بل ومنع حتى من رفع الصوت والجدال في مكة تعظيماً للبلد الحرام: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}.
ورتب له على التقيد بذلك أجراً عظيماً أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ).
يا ساكني البلد الحرام إن حرمة بلدكم الحرام ليست وليدة اليوم بل هي منذ خلق الله السموات والأرض أخبركم بذلكم ربكم في محكم التنزيل بقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }. وقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه الإمام البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (...فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَه اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السماوات وَالأرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلا مَنْ عَرَّفَهَا وَلا يُخْتَلَى خَلاهَا ) قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا الإذخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ قَالَ: قَالَ: ((إِلا الإذخِرَ)).
يا ساكني البلد الحرام هذا ربكم يعظم أمر البلد الحرام وهذا نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم يعلن لكم تعظيمه فماذا بعد ذلك؟.يا ساكني البلد الحرام هذه الأرزاق تساق إليكم من كل مكان بفضل الله، يقول الرزاق الكريم:{..أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }. هل شعرت أخي وأنت تتنقل بين أرفف المحلات التجارية تنتقي من أطايب الطعام والشراب بعظمة هذا البلد الحرام ومكانته عند ربك وخالقك جل جلاله فأوجد ذلك قشعريرة في جسدك وتعظيماً لما عظَّم الله؟. يا أهل البلد الحرام إن الله حفظ بلادكم بحفظه فطلب منكم تأمين من يردها فقال:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا.. }.
وإن هذا البلد معظم منذ الجاهلية، حيث كانت قريش تعظم البيت وترعى حقه ومكانته. ومن مظاهر تعظيمهم للبيت أنهم لما أرادوا تجديد بنائه حرصوا حرصاً شديداً على تطييب النفقة وكونها من حلال، ولذلك قصرت بهم النفقة في بناء البيت فقصروه عن قواعد إبراهيم عليه السلام من جهة الحجر وإلا فالحجر من الكعبة. ومن مظاهر التعظيم عند قريش في الجاهلية أنهم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد وثياب الحل إذا دخلوا الحرم وأن يلبسوا ثياباً من الحرم إما شراءً أو عارية أو هبة فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عرايا. وهذه امرأة في الجاهلية توصي ابناً لها بتقديس الحرم وتعظيم حرمته فتقول: أبنيّ لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
أبنيّ من يظلم بمكة يلق آفات الشرور
أبنيّ قد جربتها فوجدت ظالمها يبور
ومن تعظيم أهل الجاهلية للبيت أن الرجل يرى فيه قاتل أبيه فلا يثأر منه بل ولا يزعجه. هذا حال أهل الجاهلية فمن العجيب أن يجهل كثير من المسلمين اليوم حقوق البلد الحرام ويخف تعظيمه في قلوبهم ويُرتكب فيه ما لا يمكن أن يصدر من معظّم ومجل لأعظم بقعة على وجه الأرض.
وكان السلف الصالح يقدرون حرمة البيت ويعظمونه في نفوسهم تعظيماً عجيباً حتى إن منهم من تحرّج من سكنى مكة خشية الوقوع في المعاصي.
قال ابن رجب رحمه الله (وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم خشية ارتكاب الذنوب فيه، وقال: رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لأن أخطئ سبعين خطيئة بركبة أحب إليّ من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة..) .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (كنا نعد لا والله، وبلى والله من الإلحاد في الحرم) وقال بعضهم: إن احتكار الطعام وظلم الخادم إلحاد في الحرم. قال الله تعالى "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" والإلحاد يشمل جميع المنكرات فكل معصية لله بمكة فهي من الإلحاد بالحرم.
قال الإمام ابن باز رحمه الله: وكلمة إلحاد تعم كل ميل إلى باطل سواءً كان في العقيدة أو غيرها؛ لأن الله تعالى قال "ومن يرد فيه بإلحاد" فنكّر الجميع فإذا ألحد أحد أي إلحاد فإنه متوعد بهذا الوعيد.
وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم أن فاعله من أبغض الناس عند الله تعالى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه ".
والمطلوب منا جميعاً أن نزرع في أنفسنا وأهلينا وأولادنا تعظيم البلد الحرام فإنه والله دلالة على تقوى القلوب أعلمنا بذلك رب السموات والأرض بقوله:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }.
فإلى كل من يهم بذنب وخطيئة نقول له تذكر أنك في البلد الحرام. أما علمتم يا من جاور بيت الله الحرام أن النية بالذنب هنا محاسب عليها. فهيا منذ اليوم لنفتح صفحة جديدة مع ربنا ومع بلد الله الحرام، فإن لم تعظم أنت يا من اصطفاك الله لسكنى بلده الحرام ما عظَّم الله فمن يعظمه؟ إذا لم تعظمه أنت الآن فمتى تعظمه؟ فيا قوم احذروا فإن للبيت رباً يحميه{ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } .
د. إحسان بن صالح المعتاز
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
تعليق