يلفت انتباه قارئ القرآن ارتباط الإيمان بالله تعالى بالإيمان باليوم الآخر، دون سائر أركان الإيمان، وكُرر ذلك في عشرين موضعا من كتاب الله تعالى، وجاء في موضوعات متعددة .
ففي الإيمان بالقرآن أخبر الله تعالى عن المؤمنين به بأنهم المؤمنون بالله واليوم الآخر كما في آية الراسخين في العلم من سورة النساء.
وفي مدح المؤمنين بالله واليوم الآخر ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 99].
وفي بناء البيت دعا الخليل عليه الصلاة و السلام ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 126] فخص دعوته بالمؤمنين بالله واليوم الآخر.
وفي باب المودة والمحبة ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: 22].
وفي الحث على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وفي الرد إلى السنة عند التنازع ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59].
وفي عمارة المساجد ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 18]
ويُكرر ذلك في الآية التالية لها ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 19].
وفي شأن الجهاد في سبيل الله تعالى ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ [التوبة: 44-45] فكُرر في الآيتين الإيمان بالله واليوم الآخر.
وفي فرض الجزية ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].
وفي وصف المؤمنين من أهل الكتاب ﴿ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ [آل عمران: 114].
وفي الإشهاد على الطلاق: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [الطلاق: 2].
وفي شأن المطلقات الحوامل ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 228].
ولما ذكر الله تعالى عضل النساء وعظ أولياء النساء فقال سبحانه ﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 232].
وفي إقامة الحد على الزانيين قال سبحانه ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النور: 2].
وفي نفي الإيمان أيضا يُكرر في القرآن أن الإيمان منفي عمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8]
وفي آية أخرى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 264]
وفي آية ثالثة ﴿ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ ثم في الآية التالية لها يحرض الله تعالى على الإيمان بالله واليوم الآخر، بتوبيخ من لم يحقق الإيمان بهذين الركنين ﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 38- 39].
فَبَان بهذه الآيات الكثيرة الارتباط الوثيق بين ركني: الإيمان بالله تعالى و الإيمان باليوم الآخر ،
والعلماء كانوا ولا يزالون يتلمسون علة ذلك وحكمته ، فذكروا أن الإيمان بالله واليوم الآخر هما أشرف أركان الإيمان وأعظمهما؛ ولذا نُصَّ عليهما، وأن الإيمان بالله تعالى هو الدين أو لبه، وأن الإيمان باليوم الآخر هو فيصل الإذعان والتمرد، وفيصل الإيمان بالغيب والجحود به؛ إذ لَا يكفر به إلا من لَا يؤمن إلا بالمحسوس.
والإيمان بالله تعالى هُوَ مَبْدَأُ الِاعْتِقَادَاتِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِرَبٍّ وَاحِدٍ لَا يَصِلُ إِلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ؛ إِذِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ هُوَ الْأَصْلُ، وَبِهِ يَصْلُحُ الِاعْتِقَادُ وَهُوَ أَصْلُ الْعَمَلِ، وَالإيمان باليوم الآخر هُوَ الْوَازِعُ وَالْبَاعِثُ فِي الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وَفِيهِ صَلَاحُ الْحَالِ الْعَمَلِيِّ.
والإيمان له مبتدأ ومنتهى ، فمبتدؤه الإيمان بالله تعالى ومنتهاه اليوم الآخر وما فيه من الجزاء ، وبين البداية والنهاية دخلت كل أركان الإيمان، وشرائع الإسلام.
وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندرج الإيمان بالملائكة والرسل والكتب والبعث والقدر، والمؤمن بالله واليوم الآخر يسعد في الدنيا بالعمل لله تعالى يرجو ثوابه، ويسعد في الآخرة حين يلقى جزاءه.
ولذا وُعد المؤمنون بهذين الركنين العظيمين من الأمم السابقة بالثواب العظيم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾[البقرة: 62].
فجَمِيعَ هَذِهِ الْأُمَمِ لَهَا أَدْيَانٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهِي الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل، وجاءت بها جميع الرسل؛ هي الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة.
المصدر باختصار
تعليق