وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ
هذا النص القرآني الكريم جاء في أوائل آيات النصف الثاني من سورة المدثر وهي سورة مكية,و وآياتها ست وخمسون(56) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم الذي هو كناية عن رسول الله صلي الله عليه وسلم كنّاه الله - سبحانه وتعالي - به لأنه صلوات الله وسلامه عليه عاد إلي بيته من غار حراء مرتعدا مما سمع من الوحي لأول مرة, فقال لزوجته أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها فور عودته إلي البيت: دثروني, دثروني, فنزلت هذه السورة المباركة التي يدور محورها حول تكليف رسول الله صلي الله عليه وسلم بالنهوض بأعباء الدعوة إلي الله, محذرا الناس من عذاب الآخرة إن لم يؤمنوا بربهم وخالقهم ورازقهم: الله الواحد الأحد, الفرد الصمد, المنزه في أسمائه وصفاته عن جميع خلقه, وتأمره الآيات أن يعظم ربه, وان يطهر ثيابه, وان يترك كل أمر يستوجب غضب الله وعذابه, وألا يستكثر ما يعطيه للناس مما رزقه اللهسبحانه وتعالي وان يصبر علي تنفيذ أوامره.
ثم تنتقل الآيات بالحديث عن شقي كافر باسم الوليد بن المغيرة, الذي هزه ما استمع إليه خلسة من القرآن الكريم, واعترف بأنه لا يمكن أن يكون بقول بشر, إلا أن تمسكه بالدنيا وحبه للزعامة والرئاسة دفعه إلي إنكار اعترافه وإلي الكذب بالادعاء علي القرآن الكريم بأنه من السحر الذي نقل عن الأولين, فجاءت الآيات مهددة له ومتوعدة إياه بنار جهنم وعذابها.
وحينما نزلت هذه الآيات نطق كافر آخر هو أبو جهل عمرو بن هشام مستهزئا بقلة أعداد خزنة جهنم فنزل قول ربنا تبارك وتعالي: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَ لاَيَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَوَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( المدثر31).
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك إلي القسم بالقمر, وبالليل عند انتهائه, وبالصبح إذا طلع نوره وانكشف علي أن جهنم هي احدي البلايا الخطيرة للخلق المكلفين, فمن شاء منهم أن يتقدم إليها أو يتأخر عنها بعمله, فكيف يستهين بها الكفار المكذبون بالدين ويستهزئون بخطرها؟!
والقسم من الله تعالي هو من قبيل تنبيهنا الي خطر الأمر المقسم به وأهميته, لأن الله سبحانه وتعالي غني عن القسم لعباده.
وتختتم سورة المدثر بالتأكيد علي أن كل نفس مرهونة عند الله تعالي بعملها في الدنيا, وأنها لا تفك من قيدها حتى تؤدي ما عليها من حقوق( إلا أصحاب اليمين) من عباد الله المؤمنين الذي فكوا قيودهم ورقابهم من عذاب الآخرة بإيمانهم بالله تعالي والتزامهم بطاعة أوامره, واجتناب نواهيه, فيدخلهم ربهم جنات النعيم, وهم فيها يتساءلون كأنهم في حوار حي مع المجرمين من الكفار والمشركين والطغاة الباغين في الأرض والمتجبرين علي الخلق, وأولئك المجرمون يجيبون معترفين بجرائمهم في الحياة الدنيا.
وترد الآيات في ختام هذه السورة المباركة بقول ربنا تبارك وتعالي:
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً * كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىوَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ( المدثر:52 ـ56).
من ركائز ( العقيدة ) في سورة المدثر:
(1) الإيمان بالله تعالي وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
(2) التصديق ببعثة الرسول الخاتم, وبالقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالي إليه هداية للخلق أجمعين إلي يوم الدين.
(3) اليقين بحتمية الآخرة, وبكل ما جاء عن أهوالها وأحداثها في كتاب الله, وأول ذلك النفخ في الصور: نفخة البعث والنشور التي عبرت عنها سورة المدثر بقول ربنا تبارك وتعالي: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (المدثر:8) وذلك من قبيل بيان هول الأمر وشدته.
(4) التسليم بأن كل نفس بما كسبت رهينة الا أصحاب اليمين.
(5) الإيمان بحقيقة كل من الجنة والنار وبحتمية الخلود في أي منهما, وبأن أهل النار لا شفيع لهم في يوم القيامة.
من ركائز ( العبادة ) في سورة المدثر:
(1) ضرورة الدعوة إلي دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة, وبالجدال بالتي هي أحسن, وبالصبر علي ذلك.
(2) الأمر الإلهي بالمحافظة علي كل من الطهارة الحسية والمعنوية, طهارة كل من الثوب والبدن, والنفس والسلوك من القاذورات والنجاسات والمعايب والآثام التي تؤدي إلي غضب الله ووقوع عقابه.
(3) النصح بالمداومة علي ذكر الله, وتعظيمه, وتنزيهه عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
(4) النهي عن المن بعد العطاء أو انتظار العوض بأكثر منه.
(5) ضرورة الصبر علي أداء الطاعات و المصابرة عليها.
(6) الأمر الإلهي بضرورة المحافظة علي الصلاة المفروضة, والحرص علي إطعام المساكين.
(7) التنبيه إلي خطورة الكلمة, وذلك بالتحذير من الخوض في أعراض الناس أو من المشاركة في ذلك مع الخائضين.
-يُتبع-
تعليق