المعبد في بلاد بابل
لقد برز المعبد خلال العصر البابلي المتأخر(627-539 قبل الميلاد)،كمؤسسة اقتصادية كبيرة لها أثرها الفاعل في المجتمع، يمتلك المقاطعات الزراعية الضخمة ويمارس تجارة واسعة. إذ لم تقتصر أهمية المعبد في العهد البابلي الحديث على الأمور الدينية، بل شملت كذلك الأمور الاقتصادية للمجتمع البابلي. وقد ازدهرت المعابد في هذه الفترة وازداد ثرائها، حيث تمكن الكهنة من توحيد أنفسهم اجتماعيا واقتصاديا، ليكونوا شريحة تكاد تكون مستقلة عن الحكومة المركزية. لقد كانت سلطة الملك المركزية في العهد البابلي الحديث اقل بكثير من سلطة المعبد، وان تاريخ بلاد بابل خلال السنوات التي أعقبت القرن السابع كان في بعض أوجهه صراعا للاستحواذ على السلطة بين السلالة الحاكمة ومؤسسات المعبد انتهى أخيرا بانتصار مؤسسات المعبد.
تشير الوثائق الكثيرة التي وجدت في معابد هذا العصر مثل منطقة المعابد في اوروك إلى ازدياد أملاك المعبد، واتساع نشاطه التجاري في داخل البلاد وخارجها، وأصبح معبد اي-أننا(É-anna)مركزا اقتصاديا واجتماعيا مستقلا عن الحكومة تقريبا.
ترينا أرشيفات المعبد انه كان يستحوذ على قطاعات كبيرة تؤجر بعضها للمزا عيين، ويتولى رجاله الإشراف على بقيتها، وغدا كأنه يمتلك معظم أراضي بابل، إذ امتدت أملاكه من مدينة أور في الجنوب حتى مشارف مدينة بابل في الشمال. لقد كان المعبد يستحوذ على أراضي واسعة عن طريق الشراء، أو مصادرتها تسوية لالتزامات مالية، أو كهدايا خاصة، أو منح ملكية، وقد استحوذ المعبد على مزيد من الأملاك عن طريق تنازل بعض مالكي الأراضي عن أراضيهم مقابل حصولهم على الحماية والأمن، وإعفائهم من بعض الالتزامات. وكان يقف على رأس الجهاز الإداري للمعبد ثلاثة إداريين هم: الشتاممو(Šatammu)،(وهو لقب لعله يعني حارس المنطقة) والـ(Qipu)(الناظر) والكاتب(țabšaru).وان جميع النشاطات المتنوعة التي كانت الشتاممو ورفاقه مسئولين عنها يمكن إيجازها بأنها شملت:
تأجير الأراضي، ومقاطعات المعبد الواسعة، وتحديد الحقوق والواجبات ذات العلاقة بالقنوات، والإشراف العام على تخمين وجمع ونقل واستخدام وتوزيع إنتاج الأراضي والقنوات، وحفظ السجلات والحسابات المتعلقة بذلك.
فضلا عن تنظيم علاقات الموظفين والمستخدمين والأشراف على النشاطات التي لها علاقة بالعبادة. لقد كانت البضائع التي تنتج في مقاطعات المعبد تجلب أولا إلى المستودعات في اوروك، ومهما كانت وجهتها النهائية. وكانت شبكة القنوات قد جعلت من النقل أمرا سهلا لأي صنف من أصناف البضائع، وهناك رسالة تعطي تعليمات لإرسال شحنة من الأغنام حيث يأمر الكاتب ولعله شتاممو معبد اي –أننا: "إذا كانت الأرض ملائمة دعمهم يأتون على الأقدام، وألا فدعهم يأتون بالسفينة". وربما كانت السفن المستخدمة لذلك ضمن ممتلكات المعبد في معظم الحالات، ولو إنها كانت تستأجر بالتأكيد من أصحاب السفن أحيانا. لقد أصبح رجال الدين مزارعين، وأصحاب مشاغل وصيارفة على نطاق واسع كما اصحبوا كتاب عقود، يوقعون ويشهدون على صحة العقود المبرمة، ويكتبون الوصايا، ويستمعون إلى الدعاوى القانونية، ويصدرون الأحكام عليها، ويترأسون المرافعات، ويحتفظون بالسجلات الرسمية، ويسجلون الصفقات التجارية العامة والخاصة، وهناك نص من مدينة نفر(Nibru) يصور مدى الثراء الكبير الذي بلغته المعابد،ولو انه يعود لبداية العصر البابلي المتأخر (تاريخ النص في حدود 630 ق.م)،وهو عبارة عن قرض من المعبد مقداره (30) طالنت من الفضة(909كغم) وهو مبلغ كبير جدا .لقد قام المعبد باستئجار العمال، والعبيد، وحرث الحقول، وحصد وكري الأنهار، وحفرها في الأراضي الزراعية العائدة له، كما كان للمعبد ضريبة يفرضها تعرف بالكارو (Karu) تعطى مقابل مرور السفن عبر القنوات التابعة له، كما كان للمعبد، كما يبدو امتيازا خاصا لعبور القنوات الملكية، وكان بإمكان الشتاممو تزويد السفينة بإشارة تدعى خوتارو (ḫutaru) التي لا نعرف طبيعتها بالضبط،تحصل السفينة بموجبها حق العبور الحر دون رسوم كما يتبين من الرسالة التالية:
"رسالة اديننا،(Iddina)، وشمش-اريبا(Šamaš-eriba) إلى الشتاممو ، سيدنا إننا نصلي يوميا إلى بيل(Bel)، ونابو(Nabu) وسيدة أوروك(Belit uruk) ونانا(Nana) من اجل حياة ونفس وسعادة وطول أيام سيدنا لقد جلبنا(200) كور من التمر من القنال المسمى نان-ابلي، وقد أوقفنا من قبل سيد الميناء من بيت-كيسر لتأتي رسالة خطية من سيدي إلى نونا (Nuna) سيد الميناء ليسمح لنا بعبور الميناء …انه يتحقق علينا كل يوم نصف شاقل أجرة السفينة، وشاقل من الفضة أجرة الرجال المؤجرين ليعرف سيدنا إننا حجزنا في الميناء منذ العشرين على أن يأتي مع رسالة سيدي خوتارو وتبقى على السفينة". كان معبد اي-أننا مركزا تجاريا نشطا، وكان جزء كبيرا من البضائع التي تجمع هناك وتذهب ثانية إلى أجزاء أخرى من بلاد بابل، وحتى إلى خارج البلاد، وهناك بعض الرسائل توفر عدد من الإشارات إلى التجارة حيث كانت تستبدل منتجات ومقاطعات المعبد بصورة رئيسة ببضائع تجارية كالفخار والشب والسمسم والمعادن والخشب والقماش.
وكانت الموارد المالية للمعبد تشمل غلة الأرض وأرباح التجارة، وريع الحقول والبيوت، والضرائب الدينية المفروضة على المواطنين إضافة إلى قسم من النذور والقرابين، التي كان تقديمها مسالة طواعية من الناحية النظرية وان كانت إلزامية عمليا. لقد أدت الاحتكارات المعبدية للاقتصاد إلى تضاؤل واردات الملك وحكومته إلى درجة لا تتماشى مع متطلبات الدولة على الإنفاق على المشاريع، وعلى رأسها نفقات الجيش الذي أصبح منذ عهد نبوخذنصر الثاني(605-562 قبل الميلاد) جيشا نظاميا قائما يتطلب الإنفاق لأعالته وتجهيزه فلم تسد الثروة الزراعية تلك الحاجة بالنظر إلى مزاحمة المعبد في امتلاك الأراضي الزراعية الواسعة، ولهذا فقد أدت الاحتكارات المعبدية للشؤون الاقتصادية إلى أزمة حادة في البلاد.