كيف تعامل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الخوارج
لقد كانت فترة خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بداية لمنعطف خطير في تاريخ الإسلام؛ إذ شهدت ظهور فرقتي الخوارج والشيعة بأفكارهما المنحرفة، التي ظلت آثارها السلبية ممتدة إلى اليوم، وقد عانى المسلمون تلكَ الأفكار ما عانوا؛ لأنَّ ولاة أمورهم على مر القرون السَّالفة لم يحسنوا التصرُّف مع الأسباب التي هيئت لوجود هؤلاء على الساحة، فيتلاشوا خطر انتشارها، كما أنهم في أوقات كثيرة لم يحسنوا التصرف مع مثل هؤلاء كما تصرف معهم علي - رضي الله عنه.
وهذه دراسة موجزة أحاولُ أن أبينَ فيها كيف تعامل علي - رضي الله عنه - مع هاتين الفرقتين عندما ظهرتا في عصره، وكيف توسَّط واعتدل مع أتباعهما، فلم يلن معهم لينًا يتركهم في غَوَايَتِهم ويقرهم عليها، ولم يشتد معهم اشتدادًا يخرج به عن منهج الإسلام، وكان بين ذلك سبيلاً توسطًا واعتدالاً.
ولنبدأ حديثنا بالظروف التي نشأ فيها الخوارج والشيعة:
نعلم جميعًا أن الخليفة الثالث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قُتل على أيدي المنافقين الذين أطلق عليهم السَّبئيَّة؛ لسيرهم تحت إمارة عبدالله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام؛ ليكيدَ له على الملأ، وكانت ظروف مقتل عثمان - رضي الله عنه - بهذه الكيفيَّة قد جعلته لا يتمكَّن من ترشيح أحد للخلافة بعده، كما لم تتح لأهل الشُّورى ورجال الحل والعقد الاجتماع؛ للتباحُث في أمر تعيين الخليفة الجديد، فتمَّت بيعة علي - رضي الله عنه - على عجل.
ولم يكن أحد من أصحاب الرأي ليعترض على مبايعته - رضي الله عنه - وهو الذي جاء بعد عثمان - رضي الله عنه - في الأفضلية من بين المرشحين الذين نصَّ عليهم للخلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبيل موته، وكانوا يرون أنه أهل لها، ولكن هيمنة المنافقين والغوغاء على الأمور بالمدينة بعد قتلهم لعثمان - رضي الله عنه - وعجز علي - رضي الله عنه - عن اتِّخاذ قراراته المستقلة في ظل وجودهم، جعلت الأمور لا تمر بسلام؛ مما ألجأ كبار الصحابة وعلى رأسهم طلحة والزبير - رضي الله عنهما - إلى أن يفروا إلى خارج المدينة؛ لعلهم يستطيعون أن يحشدوا من الجنود ما يقضون به على ابن سبأ وأتباعه، ويخلصون المجتمع من فتنتهم.
وبالفعل خرج الزبير وطلحة - رضي الله عنهما - إلى البصرة ترافقهما أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وهناك تطوع الآلاف للانضمام إليهم، وتَمكَّنوا من قتل من عاد إلى البصرة من السبئيَّة، لكن عليًّا - رضي الله عنه - لما علم بخروجهم إليها، ترك المدينة مقر الخلافة وسار إليهم؛ ليُعلمهم أن حشد المسلمين والسير بهم إلى المدينة قد يكون خطره أعظم مما يتصوَّرون، وقد يُؤدي إلى سيل دماء الأبرياء في المدينة التي حُرِّم فيها سفك الدماء.
وصل علي بالقرب من البصرة، وهناك التقى بطلحة والزبير - رضي الله عنهما - وبعد مناقشات ومشاورات اقتنع كلٌّ برأي الآخر، واتفقوا على أن ينصرفوا من الصباح، ويعود علي إلى المدينة مقر الخلافة، غير أن السبئية الذين رافقوه في خروجه من المدينة - على غير علم منه - أحسوا أنَّ مخططهم لإزالة الخلافة في خطر، وأنَّ استقرار الأمور لعلي - رضي الله عنه - معناه أنه سيتفرغ لهم، ويُطهِّر سائر الأمصار الإسلامية من رجزهم، فدبروا بليل مُؤامرة للوقيعة بين مَن كان مع علي من جهة، ومن كان مع الزبير وطلحة من جهة أخرى، انتهت بموقعة الجمل على غير رغبة من الطرفين.
ولم يكن خطر تلك الموقعة المشؤومة مقصورًا على مَن قتل فيها من صفوة المسلمين، وعلى رأسهم طلحة والزبير؛ وإنَّما لأنَّها أحدثت أول شرخ بين المسلمين، وكانت الشرارة الأولى لاشتعال نار الخوارج وتطرف الشيعة؛ وذلك لأنَّ عليًّا - رضي الله عنه - ما أن خرج من تلك المعركة حتَّى صار من اندسوا إلى جيشه من السبئية يطعنون فيه أيضًا، حين نهاهم عن أخذ أموال مَن قاتل من المسلمين في صف الزبير وطلحة - رضي الله عنهما - فقالوا: ما له يحل لنا دماءهم، ويحرم علينا أموالهم؟!
ثم جاءت موقعة "صفين" التي هلك فيها من المسلمين الآلاف المؤلفة، وانتهت بالصلح؛ حقنًا لما تبقى من الدِّماء من الفريقين، وبرضا من فضلاء الصَّحابة، وعلى رأسهم علي ومعاوية - رضي الله عنهما - فاعترض على هذا الصلح أصحابُ الفتنة الذين كانوا يسعَون في الخفاء لأن يُفني المسلمون بعضهم بعضًا.
وصاروا يرددون: لا حكم إلا لله، وأن عليًّا حكَّم الرجال، وترك كتاب الله، فتلقفها الأعراب الذين لم يكُن عندهم فقه في الدين، وانطلت عليهم الحيلة، ووقعوا في الفخ، فخرجوا على إمامهم دون بينة، وعند عودة علي - رضي الله عنه - من صفين بجيشه انفصلوا عنه، وساروا في طريق غير طريقه، ولم يكفوا خلال سيرهم عن الشتم والسب لعلي، ومن رضي معه بالصُّلح ووقف القتال، وأخذوا يقولون: يا أعداءَ الله، أدْهَنتم في أمر الله، وجاءه رجل منهم يسمى: زرعة بن البرج الطائي، فقال: يا علي، لئن لم تدع تحكيم الرِّجال لأقاتلنك، أطلب وجه الله - تعالى - فقال علي: بؤسًا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح!
ثم سار هؤلاء حتى نزلوا في مكان يُسمى حروراء، فسُموا الحرورية لذلك، وكان عددهم اثني عَشَر ألفًا، وهم أول طائفة تبنت فكر الخوارج.
وقد ولوا عليهم رجلاً يُسمى "شبث بن ربعي التميمي"، وقالوا: هو أمير القتال، وآخر يُسمى "عبدالله بن الكوا اليشكري"، وقالوا: هو أمير الصلاة، وادَّعَوْا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فلَمَّا سمع مَن بقوا مع علي - رضي الله عنه - بأمرهم، قالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء مَن واليت وأعداء من عاديت، وكانت تلك بداية التشيُّع، ولكنه لم يكن تشيعًا منبوذًا، ولا غلوَّ فيه، إلا أن الحرورية قابلوا هذا الفعل منهم بقولهم: استبقتم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم عليًّا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى.
ويومًا بعد يوم بدأ الشيطان يجنح بهم نحو الهاوية؛ إلاَّ أن عليًّا - رضي الله عنه - كان يترأف بهم، ورَغْم أن خروجهم زاد من أوجاعه؛ حيث كان يرى فيه شرخًا آخر بجسد الأمة، وهو خارج من التو من قتال أهل الشام إلاَّ أنه صبر عليهم، وتَحمَّل مِن سبِّهم وشتمهم واتهامهم له بالباطل ما تحمل، وبعث إليهم عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - وقال: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك.
فخرج إليهم عبدالله فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال تعالى: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35]، فكيف بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الخوارج: أمَّا ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا في هذا، فقال ابن عباس: فإن الله - تعالى - يقول: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 95]، فقالوا: أو تجعل الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها، كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يُقاتلنا؟ فإن كان عدلاً فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرِّجال، وقد أمضى الله حكمه في مُعاوية وأصحابه أن يُقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتابًا، وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب، مذ نزلت براءة إلا مَن أقر بالجزية.
تعليق