(100) فائدة تربوية للصيام
عقيل بن سالم الشمري
أن تجلس إلى رمضان، وتتأمل أسراره وأحكامه أمرٌ محفز ومعين على الوصول لها، فكما أن المريض محتاج إلى معرفة علته ليعرف شفاءها، فالصحيح محتاج إلى معرفة شفائه ليحافظ على صحته.
هذه وقفات تربوية من أسرار الصيام،استنباطاً لحكمه، ووقوفاً مع درره، فمن تأمل الصيام وأن الله جعله الركن الثاني من أركان الملة، وشرعه على جميع الأمم ولم يخصنا به ولا أهل الكتاب من قبلنا كما هو الشأن في بعض الأحكام، فدل ذلك على أن به من الفوائد التي تعود على الإيمان والحياة ما يستحق النظر والتأمل.
الفائدة الأولى:
الصيام وسيلة لحصول التقوى لقوله تعالى (لعلكم تتقون ) فمن صام الصيام الشرعي وحفظ جوارحه من خدش الصيام، وأدرك معاني الصوم فقد عاش التقوى وتحققت له، فالتقوى بمعناها العام أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ولا يكون هذا إلاّ باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والمسلم الصائم متبع لأمر الله له بالصوم ومجتنب لنهي الله له عن المفطرات بأنواعها، فإذا كان ذلك بنية صالحة وعلى منهاج النبوة أفلح بتقواه لله.
الفائدة الثانية:
في رمضان بيان لرحمة الله سبحانه، ويتضح هذا من وجوه:
أ ـ جعل الله الصيام أياماً معدودة، ولم يفرضه سرمدياً أبدياً.
ب- جعله جزءاً من يوم ولم يفرضه يوماً كاملاً ليله بنهاره، بل ثبت النهي عن مواصلة الصوم.
ج- من نسي فأكل أو شرب فصومه صحيح مع أنه ناقض معنى الصيام.
د- تخفيفه الصيام على مراحل في بداية التشريع مراعاة لحال الصحابة رضي الله عنهم.
الفائدة الثالثة:
في رمضان يتجلى كرم المولى سبحانه وتعالى، ويتضح ذلك بأمور:
أ- فيه تُفتح أبواب الجنة.
ب- فيه تُغلق أبواب النار.
ج- فيه تُصفّد مردة الجن.
د- اختصاص الله بأجر الصائم في قوله صلى الله عليه وسلم: " إلاّ الصيام فإنه لي وأنا أجزي به".
هـ- "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
ح- "رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا اجتُنبت الكبائر".
و- "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه".
ط- لا ينقص أجره ولو نقص الشهر لقوله صلى الله عليه وسلم " شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة ...".
ز- "من قام رمضان مع الإمام حتى ينصرف كُتب له أجر قيام ليلة".
وكل ما مضى ثابت في الأحاديث الصحيحة.
الفائدة الرابعة:
رمضان مدرسة للاختبار،حيث يمسك الصائم عن الأكل والشرب والشهوة، وهذا اختبار من الله للعبد بصبره وبعبادته وتركه ما نهاه الله عنه لوجهه سبحانه، وتحمله الأوامر وقيامه بها، فرمضان اختبار للإيمان وللنية وللصبر، وبمعنى أعم اختبار لحقيقة إسلامه واستسلامه لله؛ لأن الحياة بالنسبة للمؤمن كلها اختبار، ولحظاتها مجاهدة بين نفسه الأمارة بالسوء وواعظ الله في قلب كل مؤمن، فمن وطّن نفسه على اختبار الصيام، وأدرك أسراره، وذاق لذة النجاح فيه عرف نتيجة الاختبار في باقي شؤون الحياة.
الفائدة الخامسة:
رمضان يورث محبة الله في قلب المؤمن، فإنه إذا رأى كرم ربه وجزيل عطاياه في رمضان، زادت محبته سبحانه، والمحبة ركن في الإيمان وهي أساس الأعمال، فيقبل المؤمن على العمل محباً له متمسكاً به متقناً لأدائه، ففي رمضان يتكرم المولى بالمغفرة لمن صام ولمن قام وفطر صائماً، والحسنة تُضاعف فيه ما لا تتضاعف في غيره، واختص الله بأجر الصائم دون غيره، وما ذاك إلاّ محض فضل منه سبحانه وتعالى.
الفائدة السادسة:
مجرد معرفة أن الصوم كتب على الأمم من قبلنا فهذا دليل على آثاره العظيمة وفوائده على الإيمان والإنسان والمجتمع، ويدل على ذلك أن الله لم يفرضه علينا وعلى أهل الكتاب من قبلنا فقط بل قال: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) ليشمل جميع الأمم، وشيء بديهي أن أمراً يُفرض على تلك الأعداد الهائلة من الأمم فيه من الأسرار والحكم والفوائد ما يستحق ذلك التعظيم والوقوف.
الفائدة السابعة:
رمضان تربية للجود بجميع أنواعه:
أ ـ جود المال: ففيه الحث على الصدقة وتفطير الصائمين والإنفاق وتعهد الأرامل والمحتاجين.
ب ـ جود الوقت: ففيه نفع المسلمين والمشي في حاجاتهم والقيام على شؤونهم.
ج- جود الذات: ففيه بذل الجاه عند الأغنياء وأصحاب اليسر ابتغاء الأجر من الله.
د- الجود ببذل الأعمال الصالحة: فيفعل الصالحات، وينوع العبادة ما بين فرض ونفل وصلاة، وصدقة وقرآن وتفطير، وإمامة وأذان وقيام على حاجات الناس، وإنفاق وكلمة وخطبة وهكذا.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، أجود بالخير من الريح المرسلة، كما ثبت في الحديث الصحيح.
الفائدة الثامنة:
رمضان يربي الناس على تجديد النية والاحتساب، ويُؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً " فجاء رمضان يؤكد قضية النية وتجديدها في الصيام وفي السحور وفي الإفطار، فيتربى المسلم على تجديد النية في الأمور الإيمانية والعبادات بل حتى في الأمور العادية من أكل وشرب، ولا يخفى أثر النية على الأجر المترتب على العمل وعلى النفع به في الدنيا.
الفائدة التاسعة:
في رمضان ربط للناس بكتاب ربهم سبحانه، وهذا من وجوه:
1 ـ أن القرآن نزل في رمضان.
2 ـ أن جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كاملاً في رمضان.
3 ـ في السنة التي توفي فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- دارسه جبريل عليه السلام مرتين.
4 ـ قيام رمضان يُتلى فيه القرآن، والسلف رحمهم الله كانوا يختمون في القيام.
فتزداد صلة المسلم بكلام ربه قراءة وسماعاً وتأملاً وتدبراً، فيزداد لذلك إيماناً وتقى وصلاحاً.
الفائدة العاشرة:
رمضان يربي الناس على تدارس القرآن وتدبره، وهو معنى أخص من مجرد قراءته، فيعيش المسلم بين آيات القرآن وقصصه ووعده ووعيده، فتدمع عينه تارة ويلين قلبه تارة أخرى، يرى الأمم الماضية حاضرة عنده، ويعيش مع الأنبياء صبرهم ونصحهم وابتلاءهم، ويستنبط الأحكام ويستفيد الفوائد، ولذلك كان جبريل يدارس النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في رمضان كل ليلة".
الفائدة الحادية عشرة:
في أحاديث رمضان من السنة النبوية تأصيل لمنهج أهل السنة والجماعة في الإيمان، وأن الأعمال من الإيمان فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من قام رمضان إيماناً واحتساباً" فيحرص المسلم على الأعمال؛ لأنها ركن من أركان الإيمان.
الفائدة الثانية عشرة:
فيه عظم أثر الإخلاص، فمن قام رمضان إيماناً واحتساباً، وصام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، فما أعظم أثر الإخلاص على الإنسان حيث يبلغ بعمله -وإن كان قليلاً- المنازل العليا.
الفائدة الثالثة عشر:
في رمضان حث للناس وزرع لروح المسابقة في الخيرات وميادينها؛ ففي رمضان تفتح مجالات الخيرات، وميادين المشاريع الإيمانية، وتكثر أبواب الخير، فيبقى على الناس التنافس والمسابقة تطبيقاً لقوله تعالى: ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ). [آل عمران:133].
فأهل الغنى بأموالهم، وأهل العلم بتعليمهم وفتاواهم، وسائر الناس بعباداتهم وختمهم لكلام ربهم وقيامهم وصلاتهم، حتى على مستوى الأسرة يتنافس الأفراد فيما بينهم على التسابق على ختم القرآن كما هو ظاهر في أكثر البيوت ولله الحمد، ومن حكمة الله أن جعل شعب الإيمان متعددة حتى تناسب الفروق الفردية بين الناس.
وليست ميادين الأعمال الصالحة وتعددها خاصة في رمضان بل الحياة الدنيا كلها مجال للتنافس والتسابق في الخيرات، لكنها في رمضان بشكل مكثف وظاهر.
الفائدة الرابعة عشر:
في العمل الواحد في رمضان يختلف الناس ففي قوله صلى الله عليه وسلم "من قام رمضان إيماناً واحتساباً"، ومعلوم أن الإيمان يختلف زيادة ونقصاً في قلوب الناس، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف في أعمال القلوب وقوتها وضعفها، فكلما كان القلب أمكن في الأعمال القلبية علت مرتبة صيامه وقيامه.
وتعليق الأجر بالإيمان والنية يجعل الشخص يحرص أشد الحرص على كمال الإيمان والنية في قلبه حتى يعظم له الأجر.
الفائدة الخامسة عشرة:
في رمضان تجتمع أركان الإيمان الثلاثة:
أ ـ قول القلب : وهو التصديق به والإيمان الإجمالي بالصيام، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث "من صام رمضان إيماناً".
ب ـ عمل القلب : وهو الاحتساب المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم "احتساباً".
ج- عمل الجوارح : ويكون ذلك بصيام الجوارح عن المفطرات الحسية والمعنوية.
ولأجل ذلك أصبح ركناً من أركان الإسلام الخمسة كما ثبت في السنة النبوية.
الفائدة السادسة عشرة:
يتبين من خلال الأحاديث التي فيها مشروعية الصيام منزلة الفرائض من النوافـل، فأحب الأعمال إلى الله الفرائض وأعلاها أركان الإسلام، ويظهر هذا من خلال ما يلي:
قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما سأل عن الصيام قال: وصيام رمضان، قال: هل عليّ غيره؟قال: لا إلا أن تطوّع".
فمن كمال الفرائض أن الاقتصار عليها يجزئ وتبرأ به ذمة الشخص، ومن كمالها كذلك أن النوافل لا تُقبل ما لم تُؤدّ الفروض، فما عذر من حرص على النوافل والمستحبات وتهاون وفرّط في أركان الإسلام.
الفائدة السابعة عشرة:
شفقة النبي ورحمته لأمته، فقد قام ليلة من رمضان، يصلي فصلى بصلاته ناس ثم صلى في الليلة الثانية والثالثة، فلما كانت الرابعة لم يخرج إليهم وقال: إني خشيت أن تُفرض عليكم.
فصلى الله عليه وسلم، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، فإذا قام المسلم تذكر غيابه صلى الله عليه وسلم تلك الليلة عن القيام مع حرص الصحابة -رضي الله عنهم- كل ذلك شفقة بهذه الأمة، وهذا يورث محبته ومحبة سنته والتمسك بها، والشفقة والرحمة بأمته.
الفائدة الثامنة عشرة:
في رمضان تربية على عبادة قيام الليل وهي تجمع عدة فضائل:
أ- قراءة القرآن.
ب- كونها في الثلث الأخير من الليل.
ج- قراءة الليل أشد وطئاً وأقوم قيلاً.
هـ- نور في الوجه.
د- أقرب لاستجابة الدعاء.
فمن استمر عليها وداومها أدرك قدرها وسرها، ونظراً لمشقتها شرعت جماعة في رمضان ليكون أسهل على القيام بها والتعاون لأجلها.
الفائدة التاسعة عشرة:
رمضان يربي في النفس الإكثار من الأعمال الصالحة، فما من عمل إلاّ وهو مضاعف في رمضان لأضعاف كثيرة، فمن صلى مع الإمام حتى ينصرف يُكتب له قيام ليلة، وعمرة في رمضان كحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فطر صائما فله مثل أجره، والتسبيحة عن ألف تسبيحة في غيره كما قال الزهري.
فإذا تذكر ذلك المسلم حرص على الإكثار من الأعمال الصالحة والتزود منها خاصة إذا علم أن تكرر فرصة رمضان قادم هي من علم الغيب التي اختص الله بها؛ فيورثه ذلك اغتنام الأعمال الصالحة.
الفائدة العشرون:
رمضان يربي في النفس التكيف على التغير، فإذا جاء رمضان يحدث تغير حتى في العالم الغيبي فمثلاً:
أ ـ الجنة تتغير فتفتح أبوابها.
ب ـ النار تتغير فتغلق أبوابها.
ج- مردة الشياطين تتغير فتُصفد وتُسلسل
فيبقى بعد ذلك الإنسان المسلم المفترض أن يتغير إيماناً وسلوكا وعبادة وقلباً، فيتعلم حسن الأخلاق وحسن أداء العبادة والصبر والإحسان إلى الناس وخدمتهم والتمسك بالفرائض واتباعها بالنوافل، فيخرج رمضان، وقد تغير إيمانه وخلقه وصفاته وسلوكه.
الفائدة الحادية والعشرون:
تشريع رمضان لهذه الأمة فيه مدح لها وميزة وتشريف، حيث لم يكفلها الله بالحساب لمعرفة دخول الشهر وخروجه بل غاية المطلوب رؤية الهلال، فمتى رؤي الهلال صام الناس، وإلاّ أكملوا شعبان ثلاثين يوماً من دون تكلف وتعسف وتدقيق وحساب.
وهذه طريقة يعرفها حتى الأعرابي، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب".
أي ليس في ديننا تكلف فلا نكتب وندقق ونحسب متى نصوم؟ ومتى نفطر؟ بل الأمر يسير جداً فإذا رأينا الهلال صمنا، وإذا لم نره أكملنا شعبان.
فالحمد لله الذي شرف هذه الأمة حتى في أحكامها وتشريعها.
الفائدة الثانية والعشرون:
في رمضان تربية للأمة على الوحدة والاجتماع وعدم التفرق، فتصوم الأمة كلها إذا رأوا الهلال، ويفطروا جميعاً إذا غربت الشمس، كل ذلك ليتعود الناس رغم المسافات بينهم على الوحدة ويعرفوا ثمرتها وفائدتها.
حتى إذا انسلخ رمضان سعى الناس للوحدة في الكلمة والهم والهدف والغاية، وليست هذه الفائدة محصورة على الصيام بل جميع مظاهر التشريع خاصة أركان الإسلام تدل عليها وهي مقصد من مقاصد الشريعة.
الفائدة الثالثة والعشرون:
رمضان يربي الإنسان على التحكم بعواطفه، وتسييرها كما يريد الشرع لا كما تريد النفس؛ فالله منع الصائم من الأكل والشرب والشهوة لا تعذيباً له، بل ليتعلم كيف يترك الشيء لله رغم منازعة الهوى له، وحتى نعلم قدر هذه الفائدة، فإن منازعات الناس وخصوماتهم و حالات الطلاق والقتل و الاعتداء و الاختلاف والتفرق ما كان كل ذلك ليحدث لو قدر الشخص على التحكم بعاطفته ومحبته وبغضبه، وجعلها تحت حكم الشرع وليس النفس والهوى، فجاء الصيام ليعطي الإنسان درساً عمليا في هذا الجانب.
الفائدة الرابعة والعشرون:
رمضان يربي الناس على الاتباع وموافقة الشرع، ويؤيد هذا:
أ ـ لا يفطر الصائم إلاّ إذا أذن له الشرع وذلك بغروب الشمس.
ب ـ لا يمسك الصائم إلاّ إذا أذن له الشرع وذلك بأذان الفجر.
ج- يمتنع الصائم عن المباحات امتثالاً لأمر الشرع.
فيتربى الناس على تتبع أوامره والتقيد بها وتنفيذها على حدود ما رسمه لنا، ويعني هذا سلامة أفعالنا من البدع والانحراف وضمان ذلك، فإنه من المتقرر أن الله أكمل لنا الشرع من جميع جوانبه وأحكامه وآدابه.
الفائدة الخامسة والعشرون:
رمضان يربي الناس على عدم الزيادة أو النقص مما حدده الشرع لهم، فقد حدد الشرع رمضان بشهر واحد، وذلك لا يجوز الزيادة عليه، فحرم صوم العيد، وحرم على الصحيح التقدم على رمضان بيوم أو يومين ما لم يكن عادة، وكذلك الإفطار حدده بغروب الشمس، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا الفطر إلا أن تشتبك النجوم ".
الفائدة السادسة والعشرون:
في رمضان يظهر أثر العبادة على الناس سواء في حياتهم أو أخلاقهم أو سلوكياتهم فتنعدم المخاصمات وتقل المشاجرات على مستوى المجتمع وحتى الأسرة الواحدة بل الحياة الزوجية أيضاً، وهذا ثابت بالاستقراء وما ذلك ـ والله أعلم ـ إلاّ لأن القيام والصيام والصلاة والأعمال الصالحة أثرت في حياة الناس فرزقوا الطمأنينة والسكينة والوقار، ويدل هذا على أنه من وسائل إصلاح المجتمعات نشر الوعي الديني عندهم وربطهم بالله سبحانه، وإذا تقرر عند السلف أنه ما من سنة تندرس إلاّ ويخرج بدلها بدعة، فمن لازم القول أنه ما من فساد اجتماعي وأخلاقي إلاّ بسب معصية الله سبحانه، نسأله التوبة والعفو والمغفرة.
الفائدة السابعة والعشرون:
رمضان وفضائله تعوّد الصائم على حفظ الوقت من الضياع، وهذا من مقاصد الشرع العظيمة، ففي رمضان يحرص المؤمن على استغلال وقته بالطاعات ويحذر من الملهيات والمعاصي، وفي ذلك تربية له على اغتنام عمره بما ينفعه عند الله، ولو كان حرصنا على أوقاتنا كما نكون في رمضان لتبدلت أحوالنا، والله المستعان.
الفائدة الثامنة والعشرون:
رمضان يربي المسلم على حسن الأخلاق لقول صلى الله عليه وسلم: "فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: أني صائم".
فعلّمه الصيام كيف يمنع نفسه عن الغضب وآثاره المرة؟ وأن يترفع عن البطش والسفه ومماراة الجاهلين، ومعاندة المستكبرين، وفاحش الأقوال، وسيئ الأفعال، فليس القصد من قوله "إني صائم" الرياء، وأن يخبر الناس، وإنما القصد أن يبين للطرف المقابل الذي ينتظر الرد أنه متلبس بعبادة تمنعه عن السفه والغلط، ويحتمل أن يكون المراد تذكير نفسه بأن عبادتي وصيامي ترفعني عن أفعالك وجهلك.
وفي ذلك أيضا إخماد نار الفتنة فإن كل معتد إذا لم يلق استجابة ومقابلة ستنطفئ ناره كما هو معروف من أحوال الناس، وبهذا يكون الشرع حفظ الطرفين المتخاصمين:
الأول: بأمره بالترفع عن أفعال الجاهلين.
والثاني: بقطع جميع ردود الأفعال عنه، فلا تجد ناره من يزيدها اشتعالاً.
الفائدة التاسعة والعشرون:
من صام فإنه يتربى على حفظ اللسان عن فاحش الكلام، ومن حفظ لسانه سلمت له أعماله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أصبح أحدكم صائماً فلا يرفث و لا يصخب".
والرفث والصخب: هو فاحش الكلام الذي لا يليق بالمؤمن المتقي لربه سبحانه.
الفائدة الثلاثون:
في رمضان يتربى المسلم على البكاء من خشية الله، والخشوع له وحده، ولقد حث " النبي صلى الله عليه وسلم على البكاء في حال سماع القرآن، فإن لم يبكِ فليتباكَ". رواه ابن ماجه.
وهذا تربية للمسلم على الخشوع لله والخشية له، وذلك من أعظم أعمال القلوب.
الفائدة الحادية والثلاثون:
في رمضان وأحكامه تظهر سماحة الشريعة الإسلامية وفضل دين الإسلام، ويؤيد هذا:
أ ـ من نسي فأكل أو شرب فلا شيء عليه.
ب ـ وقت الإمساك قليل بالنسبة لباقي الوقت.
ج- رمضان شهر واحد بالنسبة لبقية السنة.
د- المسافر له الفطر.
هـ - كل من أحتاج للفطر أفطر ولا إثم عليه.
وهذا يؤكد أن رمضان لم يُشرع لتعذيب النفس بل لمقاصد عظيمة، ويؤكد كمال هذا الدين العظيم وأنه خير الأديان وختامها.
الفائدة الثانية والثلاثون:
أجمع أهل العلم على أن الصبيان يُؤمرون بالصيام ليتعودوا، وهذا تربية لهم من وجهين:
أ ـ تربية لهم على تعوّد العبادة.
ب ـ تربية لهم على حمل المسؤولية، وأن عليهم ما على الكبار وأنهم جزء من المجتمع.
الفائدة الثالثة والثلاثون:
الصيام يربي الإنسان على الصبر بنوعيه:
أ- الصبر على الطاعة.
ب- الصبر عن المعصية.
فيتعلم المسلم الصبر على طاعته لله من أداء للواجبات والمستحبات من صيام وصلاة وغيرهما، وبالمقابل يتعلم الصبر عن المحرمات والمكروهات من المفطرات وسائر المحرمات، ولو نازعته نفسه ودعاه هواه.
الفائدة الرابعة والثلاثون:
الصيام يجمع روح التآلف بين أفراد المجتمع المسلم، فتجدهم يصلون جماعة، ويسن تفطير بعضهم لبعض، ويطعم أغنياؤهم فقراءهم، وهذا له أكبر الأثر على تعاونهم وإزالة البغضاء بينهم وتوادهم وتحابهم وتعاطفهم، وإذا كانت بعض المبادئ العصرية اليوم تربي على الوحدة فالإسلام يربي أفراده على التراحم والتعاطف زيادة على ذلك، وهذا لا يُدرك بقانون مادي بل بدين سماوي.
الفائدة الخامسة والثلاثون:
يزرع في نفوس الأغنياء الشعور بأهل الفقر والحاجة، ومعرفة ما يقاسونه من ألم الجوع وحر العطش، فيشعر الجميع بآلام الجميع، ويحسونه من أنفسهم، وهو ما نستفيده من الصيام، فيكون ذلك مراعاة للإنفاق والعطف عليهم والالتفات لهم.
الفائدة السادسة والثلاثون:
رمضان يربي في نفس المسلم الانتصار بمعناه العظيم، فيتعلم المسلم الانتصار على شهوة الأكل، والبطن والفرج ووسائلها من نظر وتفكير، وهذا أول خطوة في طريق الانتصار والمجاهدة.
الفائدة السابعة والثلاثون:
بالصيام يتعلم المسلم كيف يقهر نفسه وهواه؛ لأن طاعة النفس والهوى أساس المعاصي و الذنوب، فما عُصي الله إلاّ بطاعة الهوى، فجاء رمضان ليدرب المسلم على ترك ما تهواه نفسه وتنازعه عليه، وعلى أن يقهر نفسه، فيذوق حلاوة ذلك، فنفس الصائم تشتهي الطعام بمقتضى الفطرة، ويزين له الشيطان شهوته، وقد يضع له الحيل لذلك، فيأتيه إيمانه فيقهر شهوته ومنازعته، ويحول بينه وبين حرمات الله، فعند ذلك يقود زمام نفسه حيث يريد الله، ولا تقوده نفسه حيث يريد الشيطان.
الفائدة الثامنة والثلاثون:
الصيام يكسر شهوة البطن و الفرج، ويعود المسلم على أن الصبر على الجوع أهون من أكل الحرام، وأكثر ما يدخل الناس النار البطن والفرج.
الفائدة التاسعة والثلاثون:
في رمضان إثبات لحكمة المولى سبحانه وتعالى الذي يخلق ما يشاء ويختار، فقد خلق شهور السنة، واختار واصطفى رمضان، فالحمد لله على علمه و حكمته، والحمد لله الذي فضّل نبينا على الأنبياء، وكتابنا على سائر الكتب، وديننا على جميع الأديان، وبناء عليه فأمتنا أفضل الأمم.
الفائدة الأربعون:
رمضان مدرسة ليتعلم الناس فيها نفع الغير، وتقديم المساعدة لهم و الإحسان عليهم، ففي رمضان تكثر مشاريع الإفطار والصدقات والهدايا والهبات، ويتسابق الناس في البذل والعطاء، وهذا درس عملي ميداني للنفع، مما هو مقصود للشرع؛ فإن الشرع يسعى أن يتعاون المؤمنون فيما بينهم، ويخدم بعضهم بعضاً، والمجتمع الإسلامي اليوم أحوج ما يكون لأن يتدرب أفراده على ذلك.
الفائدة الحادية والأربعون:
رمضان يربي الأمة على عبادة الدعاء؛ فالصائم دعوته لا تُردّ، ويُسن في الوتر الدعاء، وورد عن بعض السلف الدعاء عنــد ختـــم القرآن؛ فهــذا له أثر في بث رسالة الدعــاء في الأمة، وتعلم فنونــه وأوقاتــه وآدابـه لحاجــة المسلـم والمجتمع الإسلامي له.
الفائدة الثانية والأربعون:
رمضان يربي في النفس الخلوة مع الله؛ فالاعتكاف من سنن رمضان، وخلاصته التفرغ لعبادة الله والخلوة به، ومن خلا بربه واستأنس به صح إيمانه، وأورثه ذلك المحاسبة.
فيتربى المؤمن على الخلوة بالله والأنس به واستغلال أوقات الخلوات بالعبادات والطاعات.
الفائدة الثالثة والأربعون:
رمضان يربي الناس على عبادة الصيام، فمن صام رمضان سهل عليه إتباعه بست من شوال والاثنين والخميس وعرفة وعاشوراء وشهر الله المحرم، وهكذا لا يزال المسلم يستمر على عبادة الصيام حتى يُدعى من باب الريان بإذن الله.
الفائدة الرابعة والأربعون:
رمضان يربي في النفس التعلق بمولاها والرجوع إليه والالتجاء إليه وحده؛ فيدعو المسلم ربه، وربه يغفر له ويستجيب، فمن يغفر الذنوب إلاّ الله؟ فمن عرف ذلك وأدركه زاد تعلّقه بربه.
والتعلّق بالله أساس العقيدة، فمن تعلق به صرف له نذره وخوفه وعبادته وذبحه ودعاءه وجميع أموره.
الفائدة الخامسة والأربعون:
رمضان شهر تنتصر فيه الأمة بكاملها على ألدّ أعدائها عدو الله والمؤمنين إبليس، ففي رمضان:
1- تُصفّد الشياطين.
2- يُعان الإنسان على فعل الخيرات.
3- يضيق على مجرى الشيطان من الإنسان في العروق.
4 ـ رمضان إلى رمضان يكفر الله به السيئات التي كانت من وسوسته فيضيع جهده هباء منثوراً.
وبهذا يعود الأمل للمؤمن وللأمة في قرب الله منهم، وتأييده لهم، وضعف عدوهم وهوانه على الله، فتصح عزائمهم، وتقوى هممهم على فعل الخيرات، ولا تكون الذنوب وانتصار الشيطان عليهم يوماً من الأيام محبطاً لهم، ومقنطاً من رحمة الله.
الفائدة السادسة والأربعون:
للصيام آثار صحية، يعرفها أهل التخصص، ويحس بها عموم المسلمين، ويكفي أن أذكر بعض المراجع:
1 ـ من الأسرار الطبية للصيام للدكتور/ أحمد عبد الرؤوف هاشم.
2 ـ رمضان والطب للدكتور/ أحمد عبد الرؤوف هاشم.
3 ـ أصول الطب الشرعي وعلم السموم للدكتور/ محمد أحمد سليمان.
الفائدة السابعة والأربعون:
رمضان يربي في نفس المسلم إحسان الظن بربه، فمن تأمل أحاديث فضائل رمضان أحس بقرب المغفرة، ودنوّ الرحمة وسهولة إدراكها، وحسن الظن من مسائل العقيدة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بربه".
وحسن الظن بالله يجعل المسلم يعمل بيقين وثبات، متفائلاً بدعوته ومستقبله، لا يجعل من الأوهام عقبات بينه وبين الخير، ولا يلتفت لخذلان المخذلين، فتح الله له الأمل وأمره بالتعلق به وحده، فلا يرده وهم، ولا يوقفه ظن من الظنون.
الفائدة الثامنة والأربعون:
رمضان يكسر الكبر في القلوب، فمن افتخر بعبادته، واغتر بأعماله جاءه رمضان ليخبره أن هناك من ينافسه على فعل الخيرات، بل ويسبقه، فترى الأعداد الهائلة تصف أقدامها في الجوامع والمساجد، فيستصغر الإنسان نفسه أمام تلك الأعداد، فإذا سمع بكاء الباكين ولم تدمع عينه أيقن أن لله عباداً لا يملكون أعينهم إذا سمعوا كلام ربهم، فيرثي حاله، فإذا ختم القرآن مرة فليعلم أن هناك من ختمه ستين مرة، فأين هذا من هذا؟
ولا يزال المؤمن حي القلب ينظر لغيره بعين الإكبار والتقدير والاحترام، ويرجع لنفسه فينظر لها بحقيقة أمرها مما هي فيه من التهاون والتفريط، وهذا من مقاصد الشرع.
الفائدة التاسعة والأربعون:
يربي الصيام في الإنسان أعمال السر والحرص عليها، فالصيام عبادة في حقيقتها سرية، فيتعود المسلم على أعمال السر والمحافظة عليها، ولا يستغني المسلم عن الأعمال السرية التي لا يطّلع عليها إلاّ الله سبحانه وتعالى، فإنها تزيد الإخلاص وبرهان حقيقة الإيمان، وكان السلف يقولون: "ليكن بينك وبين الله خبيئة".
الفائدة الخمسون:
الصيام يربي في المسلم مراقبة الذات، بأن يكون عليه رقيب من قبل نفسه فينشأ بعد ذلك بينه وبين حدود الله وقاية، وهذا يجعله يترقى في منازل الإيمان، إلى أن يصل للإحسان بأن يعبد الله كأنه يراه، فإذا كان له مراقب من نفسه صار أبعد ما يكون عن انتهاك حرمات الله.
وتربية النفس على مراقبة ذاتها يجعل هناك حصانة تقوى مع الأيام، وتزداد قوة فإذا عرضت عليه المعاصي سهل عليه مجاهدتها، بل يستلذ تركها خوفاً وحياء من الله.
وهذا مرتبط باسم الله "العليم والسميع واللطيف والخبير"، وغالب الأسماء الحسنى والصفات العلا تربي المؤمن على مراقبته لذاته لاطلاع الله عليه.
------------
يُتبع
تعليق