جريمة مزرعة هنتر كافيك
تقع مزرعة (هنتركافيك) في قرية جروبرن التي تبعد عن ميونخ ٧٠ كيلو متر، أي حوالي مسافة ساعة بالسيارة، و كانت هذه المزرعة ومبانيها معزولة في الغابة حيث تبعد مسافة كيلومتر عن القرية، وتعود ملكية هذه المزرعة إلى عائلة غروبر التي تشمل الأب أندرياس، زوجته سيسيليا، وابنته الأرملة فيكتوريا و حفيديه سيسيليا ٧ سنوات و جوزيف سنتان .
الأقاويل والشائعات
كانت عائلة غروبر غنية جدا و أفرادها منعزلين و مقلين في التعاطي مع الآخرين و لا يحضر احد منهم الشعائر الدينية باستثناء الابنة فيكتوريا التي كانت تحضر للكنيسة باستمرار و تغني في الجوقة الخاصة بها ، و كان الآخرون يشعرون بأنها لطيفة المعشر. و كأي مجتمع في العالم حيث لا يتوقف الناس عن تداول حياة الآخرين و أمورهم الخاصة بما فيها من حقائق وأكاذيب، فإن جيران عائلة غروبر كانوا يقولون إن الأب اندرياس لم يكن ودودا تجاه الآخرين وكان شخصا وحيدا حيث لم يكن له أصدقاء من أهل القرية وقيل عنه انه كان ساديا يقوم بضرب زوجته بشكل مستمر ، وكان متعسفا جداً في معاملة أبناءه الذين لم يبقى منهم على قيد الحياة إلا ابنته فيكتوريا، لكن أقاويل الجيران لم تتوقف عند هذا الحد فقد كانت هناك شكوك تدور حول أبوته لحفيده جوزيف ابن ابنته فيكتوريا وبأنه على علاقة محرمة معها و كان يرفض أن تتزوج بأي رجل آخر لأنه كان يعشقها و أراد أن يبقيها تحت سيطرته .
الغموض يبدأ مع خادمة العائلة
كان لدى العائلة خادمة تدعى ماريا عملت على رعاية شئون العائلة و الاهتمام بالمنزل منذ وقت طويل، لكن في احد الأيام ظهر على ماريا الاضطراب الشديد و فاجأت العائلة بأنها تريد الرحيل فورا و بأسرع وقت قائلةً بأنها لا تريد البقاء في هذا المنزل دقيقة واحدة، و عندما سألوها عن السبب أخبرتهم بأنها أصبحت منذ مدة تسمع أصوات غريبة أحيانا داخل المنزل و أحيانا أخرى تأتي من خارج المنزل، كذلك أخبرتهم بأنها تسمع صوت خطوات أقدام في العلية، ماريا كانت تظن أن البيت مسكون بالأشباح مما أرعبها وجعلها تخشى البقاء في المنزل لحظة واحدة، وعند رحيلها وقفت عند الباب تودع السيد أندرياس فلاحظ أن وجهها كان شاحباً من شدة الرعب؛ وقف السيد أندرياس صامتا يفكر فيما أصابها، فأخبرته أنها يجب أن تمضي قبل حلول الظلام وأخذت حقيبتها ورحلت و السيد أندرياس واقف ينظر إليها وهي تتجه إلى الطريق الترابي و تختفي في الضباب .
وعندما سأل الجيران عائلة غروبر عن حقيقة مزاعم الخادمة ردوا بأن المرأة المسكينة تعاني من اضطراب عقلي.
الزائر الغامض
في احد الليالي أواسط شهر مارس من عام ١٩٢٢، بعد رحيل الخادمة بستة أشهر هبت عاصفة ثلجية شديدة و بعد أن هدأت العاصف خرج أندرياس لتفقد ممتلكاته ليرى أن كان حصل لها أية أضرار، لكنه لاحظ أن هناك آثار أقدام حديثة انطبعت بعمق على الثلج فقام بتتبعها ليجد أنها تتجه إلى منزله من الجهة الخلفية و تتوقف فجأة على بعد أمتار من المنزل . أندرياس حاول معرفة من أين أتت الأقدام ، فقام بتتبعها إلى أن وصل إلى داخل الغابة التي تحيط بمزرعته حيث تتوقف هناك، وكأن هناك احد ما كان واقفاً يراقب المنزل، فشعر برعشة رعب تسري في جسده، وعاد مسرعا إلى منزله ليتفقد ممتلكاته خشية أن يكون هناك متطفل يختبئ فيها، بحث في أرجاء المنزل وفي الحظيرة و كذلك في سقيفة الأدوات، لكنه لم يجد أي احد أو أي آثار أقدام حول ممتلكاته وكأن صاحب هذه الآثار اختفى أو تبخر، احتار أندرياس و ظل يفكر في هذه الآثار و تذكر كلام الخادمة عن الأشياء الغريبة التي قالت أنها تحدث في منزله و أنه مسكون بالأشباح ، لكنه طرد هذه الأفكار من رأسه و انتظر قليلا و لما لم يحدث شيء ذهب للنوم.
في نفس الليلة استيقظ أندرياس من نومه على وقع خطوات أقدام تأتي من العلية فأيقظ زوجته بسرعة و ذهبت ليحضر بندقيته ثم صعد إلى العلية و بحث فيها لكنه لم يجد شيئا فعاد إلى النوم و هو يشعر بشيء من الحيرة.
في صباح اليوم التالي لهذه الحادثة ذهب أندرياس ليرى إن كان هناك المزيد من آثار الأقدام حول ممتلكاته لكنه لم يجد شيئا وعندما عاد إلى منزله أثار استغرابه وجود صحيفة غير مألوفة في شرفة منزله فقام بسؤال أفراد عائلته عنها لكن كلهم قالوا بأن هذه أول مرة يرون فيها هذه الصحيفة و أنهم لا يعلمون من أحضرها أو من وضعها هناك.
في الثلاثين من مارس أي بعد عدة أيام من حادثة آثار الأقدام كان أندرياس يتحدث مع احد جيرانه و يسأله إن كان قد رأى أو سمع أي شيء غريب، فأخبره الجار بأنه لم يلاحظ أي شيء من ذلك و أن الأمور تسير بشكل طبيعي.
عندما عاد إلى المنزل ذهب يبحث عن مفاتيح منزله في درج المكتب لكنه وجد أن مفاتيح المنزل قد اختفت ولاحظ أندرياس أثناء بحثه عنها أن هناك آثار خدوش على قفل الباب الخاص بسقيفة الأدوات وكأن احد ما حاول خلع القفل لكنه لم يستطع ذلك.
في اليوم التالي لهذه الأحداث الغريبة حضرت الخادمة الجديدة والتي كانت تدعى ماريا بوم غارتنر وذلك بعد مضي ستة أشهر على رحيل الخادمة السابقة .. وسوف يكون أول يوم لها في العمل هو آخر يوم لها في الحياة.
اختفاء عائلة غروبر
مرت عدة أيام لم ير فيها الجيران أي فرد من عائلة غروبر، كانت الابنة فيكتوريا هي الفرد الوحيد من العائلة الذي يحضر للكنيسة باستمرار و كانت تغني في الجوقة الموسيقية ، لكنها اختفت و هي التي كان معروفا عنها تقديرها واهتمامها بالحضور والالتزام بالغناء مع الجوقة. كذلك الطفلة سيسيليا تغيبت عن المدرسة لعدة أيام، وكان موظف البريد يعود بالبريد الخاص بالعائلة إلى مكتب البريد كل يوم لعدم وجود من يستلمه منه. كل ذلك أثار تساؤلات في نفوس أهل القرية عن سبب اختفاء عائلة غروبر.
وفي الرابع من ابريل قرر أهل القرية تكوين مجموعة للبحث عن العائلة و معرفة ماذا يمكن أن يكون قد حدث لهم ، فتوجهوا للمزرعة ونادوا على أصحابها لكن لم يجبهم احد ، فقرروا التحقق من الخارج قبل الدخول للمنزل ، وكان الوضع في الخارج هادئا بشكل مريب.
الفاجعة
حينما لم يجدوا شيئا في الخارج قرروا أن يبحثوا داخل المنزل ، وبدئوا بحثهم من الحظيرة ، وعندما فتحوا الباب صعقوا بالمشهد المروع الذي رأوه أمامهم، وجدوا أندرياس و زوجته و فيكتوريا والطفلة سيسيليا غارقين في دماءهم و جثثهم مكومة إحداها فوق الأخرى، لم يكن الطفل جوزيف أو الخادمة الجديدة من ضمن الضحايا فذهبوا للبحث عنهم والتأكد من سلامتهم ، فتوجهوا إلى داخل المنزل وصعدوا للطابق العلوي حيث غرف النوم فوجدوا جوزيف مقتولا في سريره الكائن في غرفة أمه و كذلك وجدوا الخادمة مقتولة في غرفتها وكلاهما كان نائما حينما تم قتلهما.
التحقيقات
حضرت شرطة ميونخ للتحقيق في الجريمة بقيادة المحقق جورج رينغروبر و فريقه المساعد، أظهرت التحقيقات انه تم استدراج الضحايا واحداً تلو الآخر إلى الحظيرة بطريقة ما، و تظن الشرطة أن الجريمة حدثت قبيل الذهاب إلى النوم، لأن كل الضحايا كانوا مرتدين ملابس النوم ما عدا فيكتوريا و ابنتها سيسيليا اللتان كانتا ترتديان ملابسهما العادية و هذا أوحى للشرطة بأنهما كانتا أول من تم استدراجهن إلى الحظيرة.
قام الطبيب الشرعي بفحص الضحايا و أكد أن القاتل عاجل الضحايا فور دخولهم إلى الحظيرة بضربة قوية و دقيقة جدا باستخدام أداة حادة تبين لاحقا أنها كانت معول، و اتضح من آثار الجراح أن الضحايا ماتوا على الفور من أول ضربة و هذا يشير إلى أن القاتل كان متمرسا في استخدام المعول، كما يشير ذلك إلى انه كان قوي البنية. ولاحظ المحققون انه كانت هناك آثار خنق على رقبة فيكتوريا لكنها لم تكن السبب في موتها، كذلك فإن الطفلة سيسيليا لم تمت مباشرة بل بقيت لفترة و هي حية و قامت خلالها بتقطيع خصلات كبيرة من شعرها.
استغرب المحققون من احد التفاصيل التي شاهدوها في مسارح الجريمة فقد لاحظوا أن القاتل قام بتغطية جميع الجثث بشكل أو بآخر، فالجثث الأربعة في الحظيرة تمت تغطيتها بشكل كامل بالقش أما جثة الخادمة ماريا بوم غارتنر فتمت تغطية جثتها بالبطانية و جثة جوزيف الصغير تمت تغطيتها بملابس أمه فيكتوريا.
القضية تزداد غرابة
تحليل الفحوصات الجنائية للضحايا أظهرت أن الجريمة وقعت في يوم الجمعة الواحد والثلاثين من مارس ١٩٢٢، لكن أثناء استجواب الشرطة للسكان المجاورين للمزرعة أفادوا جميعا بأنهم رأوا دخانا يظهر من المدخنة طوال عطلة نهاية الأسبوع مما يشير إلى أن احدهم كان في المنزل، كما وجدت الشرطة بقايا وجبة طعام تم تناولها حديثاً ، وبدا واضحا بأن شخص ما كان ينام على احد الأسرة قبيل وقت قصير من اكتشاف الجثث في الحظيرة ، و كأن القاتل كان يعتبر نفسه في منزله.
لاحظت الشرطة أيضا أن جميع المواشي كانت بصحة جيدة وأنه تم إطعامها مؤخراً و الاهتمام بها حتى وقت اكتشاف الجريمة بالرغم من مرور أسبوع على وفاة أصحاب المزرعة، ووجدوا كذلك أن كلب المزرعة تم تقييده بنفاذ صبر ، وعلى الرغم من انه كان مرعوبا جداً إلا انه لم يتم إيذاءه.
كل هذه التفاصيل زادت من حيرة الشرطة فمن قد يفعل ذلك؟ .. و لماذا؟ ..
التحريات والمشتبه بهم
احتمل التحريون أن يكون الدافع وراء هذه الجريمة هو السرقة، فعائلة غروبر كانت مشهورة بأنها غنية جداً، و كان من الشائع تواجد اللصوص و المشردون بكثرة في المنطقة و من المحتمل أن يكون احدهم قد سمع عن العائلة فتحين الفرصة المناسبة لمهاجمتهم و سرقة أموالهم. و ظهر خلال التحريات أن فيكتوريا قامت بإفراغ كامل حسابها في البنك قبل بضعة أسابيع من مقتلها و قامت بالتبرع للكنيسة بـ ٧٠٠ ورقة نقدية، لكن تعليل الجريمة بدافع السرقة تهاوى سريعا، فبالرغم من أن القاتل اخذ فعلا مبالغ مالية كانت موجودة في جيوب الضحايا إلا انه لم يسرق أيا من العملات الذهبية والمجوهرات التي يغص بها المنزل، فالقاتل كما اتضح بقى متجولا في المنزل لعدة أيام ينام ويتناول طعامه بجانب الجثث لغارقة في دماءها، فلو كان يهدف لسرقة المنزل لحصل على ما يريد لكن ذلك لم يكن غرضه من الجريمة كما يبدو.
قامت الشرطة بالتحقيق مع مئات المشتبه بهم من اللصوص و المشردين و المسافرين و العمال المتنقلين، و كان احد أهم المشتبه بهم هو السيد لورنز شيلتنبور، الذي كان على علاقة غرامية بفكتوريا لمدة من الزمن ويُعتقد أن جوزيف الصغير جاء نتيجة لتلك العلاقة . وعلم المحققون أن فيكتوريا كانت تنوي رفع قضية نفقة على لورنز بحجة انه والد الطفل، و ربما يكون ذلك السبب والدافع الذي أثار حنقه ليرتكب جريمته، وعندما سألته الشرطة عن هذه الحقائق قال أن جوزيف ليس ابنه بل ابن فيكتوريا من والدها أندرياس، فالجميع يعلم أنهما كانا على علاقة محرمة. وضعت الشرطة احتمال آخر هو أن تكون هذه الجريمة عاطفية ارتكبها لورنز بسبب معرفته بالعلاقة بين فيكتوريا و أبيها، و من الأسباب التي جعلت الشرطة تشك في لورنز هي أقوال الشهود عنه، فلورنز كان احد الأعضاء الذين شاركوا في البحث عن عائلة غروبر و لما رآه كلب العائلة الذي كان مقيدا جن جنونه و بدأ بالنباح بانفعال حاد، و قال احد الشهود بأن لورنز لم يظهر أية رد فعل عند رؤيته للمجني عليهم و قام برفع الجثث التي كانت مكومة فوق بعضها بدون أن يتأثر من المنظر و من دون أن ينتظر الشرطة لتقوم بذلك، و كان تبريره للشرطة عندما سألته عن هذا الأمر بأنه كان يبحث عن ابنه جوزيف، كذلك قال الشهود بأنه أثناء البحث عن جثة جوزيف و الخادمة كان لورنز يسير في المنزل و هو مدركٌ تماماً لطريقه مما يوحي بأنه كان يعرف المنزل جيدا. لكن برغم ذلك لم تستطع الشرطة أن تجد دليلا حقيقيا يربطه بالجريمة فقامت بإطلاق سراحه كغيره من مئات المشتبه بهم الذين لم تستطع إثبات الجريمة على أي منهم.
كان احد الاحتمالات هو أن يكون القاتل هو زوج فيكتوريا السابق كارل غابرييل الذي قيل انه قُتل أثناء كمين في الحرب العالمية الأولى، لكن لم يرى احد جثته و ليس هناك دليل على انه مات، و ربما يكون زيف موته ليتخلص من فيكتوريا، فقد يكون أراد العودة إليها وعندما اكتشف علاقتها بوالدها و بلورنز قرر الانتقام منها ومن عائلتها.
بالنهاية .. وبرغم التحقيقات المكثفة .. لم تجد الشرطة أية أدلة تربط أي شخص بالجريمة، و لإجراء لمزيد من التحليل الجنائي قامت الشرطة بإرسال رؤوس جميع الضحايا إلى مختبراتها في ميونخ و لم تتم إعادتها لدفنها مع جثث أصحابها و تم فقدانها إلى الأبد خلال الحرب العالمية الثانية.
جدير بالذكر أنه كان هناك احتمال آخر حول طبيعة الجريمة ودوافعها ، هذا الاحتمال تداوله من قبل الناس ويقوم على أساس الاعتقاد بأن من ارتكب الجريمة لم يكن بشريا وإنما شبحا يسكن المنزل، وهذا يفسر الآثار الغريبة التي وجدها أندرياس على الثلج و وجود الصحيفة الغريبة في شرفة المنزل و أصوات خطوات الأقدام في العلية والرعب الشديد الذي أعترى الخادمة السابقة للعائلة .
بعد عام واحد على وقوع الجريمة قام الجيران بهدم المزرعة بجميع ما فيها و سووها بالتراب، كانوا مستاءين من وجود هذا المكان المشئوم بالقرب منهم ، وقاموا ببناء نصب تذكاري مكان المنزل .
أعيد فتح القضية مرتين في الأعوام ١٩٩٦ و ٢٠٠٧ . أحد التحقيقات الحديثة قام بها طلاب في أكاديمية الشرطة ولقد توصلوا إلى مشتبه به كانت الأدلة تدينه إلى حد كبير، لكن مراعاة لمشاعر أقارب هذا المشتبه به الذي توفى منذ زمن طويل قرر الطلاب عدم الكشف عن أسمه ، عدا عن ذلك لم يتم الوصول إلى أي دليل ، خصوصا مع ضياع الأدلة و تقادم الزمن و وفاة الكثير من المشتبه بهم و الشهود.
تبقى هذه القضية واحدة من أكثر القضايا غموضا في التاريخ الألماني والتي أثيرت حولها العديد من التساؤلات .. كيف استطاع القاتل أن يدخل و يخرج من البيت بسهولة؟ و كيف استطاع الاختباء في المنزل دون أن يجده احد؟ ولماذا اختار هذه المزرعة وأصحابها بالذات دونا عن المنازل والمزارع الأخرى في القرية ؟ .. تبقى هذه الأسئلة بدون أجوبة و مازالت هذه القضية محل للنقاش وما زالت تؤلف عنها الكتب إلى يومنا هذا.