قصتنا اليوم غريبة ، غير معقولة ، لولا أن تم توثيقها بالأوراق الرسمية والصور لقلت بأنها ضرب من ضروب الخيال . هي أشبه ما تكون بسيناريو فيلم مرعب عن بلدة نائية معزولة تفشى فيها وباء غامض فتحول سكانها بالتدريج إلى موتى أحياء (زومبي) يقتلون ويأكلون بعضهم البعض بصورة مخيفة ومقززة ، مع فارق أن البلدة التي سنحدثكم عنها لم تشهد إراقة دماء ، بل تم القتل فيها بصورة لطيفة ونظيفة على يد نسوة متشحات بالسواد باحثات عن الحرية والعشق بلا قيود ! دعونا لا نطيل الكلام ، ولنجمع خيوط قصتنا واحدا بعد الآخر ...
قبل قرن من الزمان كانت أوربا غارقة في الفوضى وعلى شفا حرب مدمرة ، عانى الناس الأمرين من الاضطرابات السياسية والاقتصادية ، وانعكس أثر ذلك جليا على الحياة الاجتماعية ، كان تأثيره سلبيا على المدى القصير ، تمثل في ازدياد الفقر والعنف ، لكنه أفرز واقعا جديدا على المدى البعيد خصوصا فيما يتعلق بالحريات ، لم تعد القيود والاعتبارات القديمة مقبولة ، وهذا هو لب المسألة حينما نفكر بعناية في الأسباب التي تقف وراء الأحداث الرهيبة التي جرت في بلدة ناجيريف الواقعة على بعد ستون ميلا إلى الجنوب من العاصمة المجرية بودابست (هنغاريا) .
لسنوات طويلة احتارت السلطات المجرية في السبب وراء نسبة الوفيات المرتفعة في تلك البلدة الصغيرة التي تمتد أكواخها الحقيرة فوق شريط أخضر من الأرض محاذي لنهر تيسا ، كانت البلدة تمتلك أعلى نسبة وفيات في البلاد ، لم يكن الأمر منطقيا البتة ، خصوصا حين نعلم بأن معظم تلك الوفيات كانت في صفوف الرجال ... لماذا يموت هؤلاء ولا تموت النساء ؟ .. هذا هو السؤال الذي أعيى المحققين وأثار حيرتهم .
وللإجابة على هذا السؤال علينا أولا إلقاء نظرة خاطفة على وضع المرأة في تلك الأصقاع ، ففي مطلع القرن العشرين لم تكن المرأة الأوربية تحظى بمعظم الحقوق التي ترفل بها اليوم . الوضع في الأرياف خصوصا كان مزريا ، كانت سلطة الرجل وقوانينه هي الحاكم المطلق ، وكان يجري الاتفاق على تزويج الفتيات من قبل عائلاتهن من دون الالتفات كثيرا لرأيهن ورغباتهن ، مما أدى لوجود زيجات فاشلة كثيرة ، وزاد الطين بله تعذر الطلاق في ظل القوانين التي لم تكن تبيحه آنذاك . لذا لم يكن أمام المرأة سوى أن تتعايش مع واقعها وتتحمل زوجها مهما كان سيئا .
نعيم الحرب !
الأمور تبدلت مع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، إذ تم سوق الرجال بالجملة إلى جبهات القتال ، خلت البيوت والطرقات من الأزواج والإخوة والأبناء ووجدت النساء أنفسهن أمام واقع جديد تلاشت فيه سلطة الرجل وأصبحت كلمة حواء هي العليا . بلدة ناجيريف لم تكن استثناءا ، سيق رجالها أيضا إلى الجبهة .
كان على النساء الآن أن يقمن بجميع الأعمال التي دأب الرجال على القيام بها ، كالزراعة والعناية بالحيوانات وجمع الحطب وحتى أعمال النجارة والترميم والبناء ، لكن شقائهن لم يدم طويلا ، إذ جاءهن العون من حيث لا يحسبن ، فخلال الحرب شيدت الحكومة معسكرا لإيواء الأسرى بالقرب من البلدة ، معظم أولئك الأسرى كانوا من الجنود الروس ، ولم يكونوا يخضعون لحراسة مشددة ، لم يكن هناك خوف من هربهم ، إلى أين سيفرون ؟ .. لم تعد لديهم دولة أصلا ، فالثورة البلشفية أطاحت بدولتهم القيصرية ، وبلادهم غارقة في الفوضى . وبما أن الدولة المجرية كانت تعاني ضائقة مالية بسبب الحرب ، لذلك تم سوق هؤلاء الأسرى إلى البلدات القريبة من المعسكر للقيام بأعمال السخرة مقابل بعض الطعام .
بالنسبة لنساء غاب عنهن رجالهن لسنوات طويلة كان إغراء هؤلاء الشباب الشقر ذوي القامة الطويلة والعيون الزرقاء أمرا تصعب مقاومته . في الحقيقة نساء ناجيريف كن أشبه بأرض أصابها الجفاف لسنوات ، كن متحفزات عاطفيا وجنسيا ، وقد وجدن ضالتهن في هؤلاء الغرباء المتفجرين فحولة .. يا أهلا بالمطر ! .
فجأة أصبح الرجال متوفرون بكثرة ، كان بإمكان أي امرأة أن تحضا بعشيق ، لم يعد الأمر موجبا للخجل ، بل صار مدعاة للفخر والمباهاة ، كأنما هناك مسابقة لجمع أكبر عدد من العشاق . السيدة أونلا مثلا ، تلك الأرملة المحترمة التي قاربت الخمسين ، أصبح لديها ثلاث عشاق! .. أما باولا ، الزوجة المطيعة والأم لأربعة أطفال ، فاتخذت عشيقين أصبحا يعيشان معها في مزرعتها ... باختصار كل امرأة باحثة عن الحب حصلت على رجل وأكثر .
والآن تخيل الوضع عزيزي القارئ وتمعن في سخرية الأقدار .. الرجال يحاربون في جبهات القتال ، ينزفون دما لحماية الأرض والعرض ، بينما نسائهم يضاجعن العدو في بيوتهم وفوق أسرتهم .. يالها من معركة خاسرة ! ..
لكن الحروب لا تدوم إلى الأبد . ففي عام 1918 وضعت الحرب العالمية أوزارها أخيرا بهزيمة دول المركز ، وعاد ملايين الجنود إلى بيوتهم ، بعضهم لم ير أهله لسنوات . كان رجال ناجيريف من ضمن العائدين ، وليتهم لم يعودوا ...
هل جربت عزيزي القارئ أن تتوق إلى شيء بشدة ، تفكر فيه ليل نهار ، تعد الدقائق واللحظات للوصول إليه ، لكن حين تطاله يدك أخيرا يتبين بأنه لم يكن يستحق كل ذلك التفكير والانتظار .. هل جربت طعم الخيبة ، مرارة الغدر ، ألم الخيانة ، هل وقفت في منتصف طريق خالي في يوم مغبر تضرب كفا على كف غير مصدق ما يجري عليك من ظلم .. كل هذا جرى على رجال ناجيريف ، عادوا يحدوهم الشوق لحياتهم القديمة ، لكن أين هي تلك الحياة ؟ .. تبخرت ، لم يعد لها وجود ، ولم يعد بالإمكان العودة بعقارب الساعة إلى الوراء . اللوم لا يقع كله على النساء ، لكن مجريات الأحداث قادت إلى ذلك ، فحين تعطي شخصا ما حريته كاملة يصعب أن تسلبها منه مرة أخرى . ومن هنا بدأت المشاكل ، النساء رفضن العودة إلى الأيام الخوالي ، تمردن على القيود القديمة ، حتى أن البعض منهن رفضن التخلي عن العشيق ، وبالمقابل أصبح الرجال أكثر عنفا ، صاروا كوحوش ثائرة جريحة ، يعاقرون الخمر ليل نهار لعلهم ينسون هذا الواقع البائس اللعين .
بصراحة شديدة ، الكثير من نساء ناجيريف لم يردن عودة رجالهن أبدا ، تمنين لو طال أمد الحرب إلى ما لا نهاية ، لو أن رجالهن قضوا هناك في تلك الخنادق الدامية . أما الآن وقد عادوا ، فقد أصبح العيش معهم مستحيلا ، ويجب البحث عن حلول للتخلص منهم مجددا .
القابلة الطيبة
لا أحد يعرف تحديدا من أين أتت السيدة جوليا فازيكاس ، ليس هناك الكثير ليقال عن ماضيها المجهول ، لكن المعلوم هو أنها سكنت بلدة ناجيريف في وقت ما من عام 1911 . كانت قد ترملت حديثا ، ولم يطل الوقت حتى تزوجت مجددا بأحد رجال البلدة وانتقلت للسكن في كوخه . كانت في منتصف العمر ، ترتدي ثيابا داكنة . لم تكن ذات جمال ، ملامحها جامدة لا تنم عن أي شعور أو عاطفة ، لكن نظراتها الحادة الثاقبة تعطي انطباعا بقوة الإرادة وثبات العزيمة .
السيدة فازيكاس نالت شعبية جارفة بين نساء البلدة ، كانت قابلة خبيرة ، لكن خدماتها لم تقتصر على التوليد ، بل كانت أشبه بطبيبة نسائية ، لذا أطلقوا عليها أسم "الست الحكيمة" . جزء كبير من شعبيتها يعود لكون بلدة ناجيريف تفتقر إلى وجود طبي ، لا مستوصف ولا حتى عيادة طبيب ، شأنها شأن معظم البلدات الريفية المهملة والمنسية من قبل الحكومة .
يقال أيضا بأن السيدة فازيكاس كانت ضليعة بالسحر ، وخبيرة بالسموم . كما تضمنت قائمة خدماتها إجهاض النساء ، وهو عمل أزدهر كثيرا زمن الحرب لكثرة النسوة الراغبات في التخلص من الأجنة الناتجة عن علاقاتهن الغرامية خارج أطار الزواج . طبعا الإجهاض كان يعد جريمة آنذاك ، وبسببه ألقي القبض على السيدة فازيكاس أكثر من عشر مرات على مدى خمسة عشر عاما . لكن لحسن حظها كان القضاة آنذاك متعاطفين مع قضايا المرأة لذلك كانوا يفرجون عنها في كل مرة من دون أية عقوبة .
كانت السيدة فازيكاس طيبة ومتعاطفة جدا مع قضايا ومشاكل بنات جنسها ، لكن حين يتعلق الأمر بالرجال ، خصوصا الأزواج ، فكانت لديها حكمة شهيرة تقول : "الزوج الطيب هو الزوج الميت .. لأنه لا يفتح فمه أبدا " ! .
في عام 1913 مات زوج السيدة فازيكاس أثر وعكة صحية مفاجئة تاركا لزوجته كوخه وأرضه . وكان للسيدة فازيكاس صديقة ومعاونة تدعى سوزي أولاه ، وتعرف بين السكان بأسم الخالة سوزي ، مات زوجها هي الأخرى بصورة مفاجئة فورثت عنه أمواله . كان موت الزوجين في وقت متقارب مثيرا للريبة ، لكنه مر مرور الكرام ، خصوصا وأن الرجل المسئول عن إصدار وثائق الوفاة في البلدة كان من أقارب السيدة فازيكاس ، وكان بارعا جدا في تأليف أسباب مقنعة لموت الناس . وكانت الجثث ترسل مباشرة إلى مقبرة البلدة لعدم وجود مستشفى يقوم بالتشريح وتشخيص أسباب الوفاة .
القوارير السحرية
مشاكل بلدة ناجيريف بدأت تتصاعد منذ عودة رجالها من جبهات القتال ، تمرد النساء على القيود القديمة أدى لزيادة العنف الأسري . والكثير من أولئك النسوة المعنفات كن على استعداد لفعل أي شيء للتخلص من جبروت الأزواج والعودة مجددا إلى أحضان العشاق . وهنا جاء دور السيدة فازيكاس ، إذ كان لديها دواء مجرب كفيل بحل جميع المشاكل الزوجية إلى الأبد ! .
- " تفضلي ماريا .. امسكي بهذه القارورة " .. قالت السيدة فازيكاس لضيفتها الشابة ذات العيون الدامعة وهي تناولها قنينة صغيرة ذات لون بني غامق .
- " ماذا أفعل بهذه القارورة ؟ " .. تساءلت ماريا وهي تقلب القنينة بين أصابعها كأنما تريد أن تستشف محتواها .
- " ضعي بضعة قطرات منها في طعام جورج .. وسينتهي الأمر .. ستتخلصين من جميع مشاكلك دفعة واحدة " .. ردت السيدة فازيكاس بنبرة قوية واثقة .
- " هل تقصدين أن ... أووه ... لا يا ألهي .. لا أظنك تقصدين ذلك حقا ! " .. ردت الضيفة الشابة وقد ارتسمت على وجهها إمارات الدهشة ممزوجة بشيء من الخوف .
- " ولم لا ؟ " .. قالت السيدة فازيكاس ثم أردفت بشيء من الحدة : "لقد ضربكِ اليوم ، وكذلك يفعل كل يوم ، أنتِ بنفسكِ قلتِ بأن الحياة معه أصبحت مستحيلة ، وأنكِ موقنة من أنه سينتهي بكِ الأمر جثة هامدة على يديه في أحد الأيام ، فلماذا تنتظرين حتى يرسلكِ هو إلى القبر ، بادري أنتِ وأرسليه إلى حتفه ، زوجكِ الوغد لا يستحق الحياة " .
وبالفعل لم تمر سوى أسابيع قليلة على هذا الحديث حتى كان جورج المسكين يقبع في التابوت في طريقه إلى الجبانة القديمة ، خلف التابوت مباشرة كانت تمشي ماريا وهي تلطم الخدود وتشق الجيوب حزنا وكمدا على رحيل العزيز الغالي ! .. ومن وراءها سارت السيدة فازيكاس والخالة سوزي مع بضع أرامل أخريات منكسات الرؤوس ومتشحات بالسواد . كان موكبا غريبا بحق ، فيه القليل من الحزن والكثير من التمثيل ، ينطبق عليه المثل القائل : " يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" .
قوارير السيدة فازيكاس سرعان ما وجدت طريقها لمنازل أخرى في بلدة ناجيريف ، وكذلك لبعض المنازل في مدينة تيساكورت المجاورة . وبالتدريج أصبح مشهد التوابيت السائرة نحو الجبانة منظرا مألوفا . فما بين عامي 1914 – 1929 أرسلت تلك القوارير السحرية أكثر من ثلاثمائة شخص إلى مثواهم الأخير .
أشرطة قتل الذباب
رغم تعاطف السيدة فازيكاس مع مشاكل بنات جنسها ، إلا أنها لم تكن توزع قاروراتها مجانا ، كان سعر الواحدة يقارب العشرين دولارا ، وهو ليس مبلغا قليلا بحساب تلك الأيام . تلك القوارير لم تكن تحتوي على سائل سحري كما زعمت السيدة فازيكاس لزبائنها ، محتوى الزجاجة لم يكن في الواقع سوى سم الزرنيخ المستخلص من شرائط قتل الذباب اللاصقة . وأظنك عزيزي القارئ شاهدت مثل تلك الشرائط سابقا ، فهي تعلق داخل البيوت والمحال التجارية للتخلص من الذباب ، فيها مادة لاصقة يعلق فيها الذباب فيموت . في أيامنا هذه لا يضعون فيها الزرنيخ ، لكنهم كانوا يفعلون في الماضي . وبطريقة ما توصلت السيدة فازيكاس إلى استخلاص ذلك الزرنيخ عن طريق نقع الشرائط بالماء ، كانت طريقة ساذجة وبسيطة ورخيصة ، كل ما على السيدة فازيكاس فعله هو أن تضع جزءا صغيرا من الشريط السام في قارورة مليئة بالماء ثم تتركها لتتخمر فتتحول إلى سم زعاف . كانت السيدة فازيكاس تحتفظ بالعشرات من هذه القوارير في قبو منزلها .
أما طريقة استعمال السائل السحري فكانت بسيطة جدا . السيدة فازيكاس وزبائنها كانوا يتجنبون تسميم ضحاياهم مرة واحدة لئلا يفتضح أمرهم ، كانوا يستعملون طريقة الجرعات . في بادئ الأمر يضعون كمية صغيرة من السم في طعام الضحية لكي يكون أثره بطيئا فلا يثير الشكوك ، يستمرون بذلك حتى تظهر أعراض التسمم ، وهي أعراض يصعب تمييزها لكونها شبيهة بأعراض الكثير من الأمراض ، خصوصا المعوية منها .. كالألم في المعدة ، والإسهال ، والقيء ، والدوخة والصداع .
بعد ظهور الأعراض الأولية تعمد القاتلة إلى التمويه عن طريق الظهور بمظهر الحريص الخائف على سلامة ضحيتها ، فتتطوع للذهاب إلى المدينة المجاورة لشراء دواء من الصيدلية ، وهنا تبدأ المرحلة الثانية من التسميم ، حيث تبدأ القاتلة بدس كمية صغيرة من السم مع كل جرعة دواء ، وهكذا فأن الدواء الذي يفترض به معالجة المريض يصبح هو أداة القتل الرئيسية ، ويستمر هذا الحال لعدة أسابيع حتى يصل الضحية إلى مرحلة الغيبوبة ويلفظ أنفاسه .
تجدر الإشارة إلى أن استعمال الزرنيخ للتخلص من الغرماء والأعداء ليس أمرا جديدا ولا هو من اختراع السيدة فازيكاس ، فعلى مدى قرون طويلة كان الزرنيخ هو السم المفضل لدى النساء لما يتمتع به من خواص ، فهو عديم الطعم واللون والرائحة ، يمكن أضافته لطعام أو شراب الضحية بكل سهولة ومن دون أن يثير أي شكوك . هو في الواقع أمثل سلاح للمرأة ، فمعظم النساء لا يحبذن الطرق والأساليب الدموية العنيفة في القتل ، يفضلن الأسلوب الناعم الذي يتيح لهن التحكم والسيطرة في عواطفهن ، فمثلا يمكن للزوجة أن تسقي زوجها السم ثم تعتني به وتطعمه وتحضنه وتقبله ، يشكرها هو من صميم قلبه من دون أن يدري بأنها هي التي تقتله .
المشكلة الوحيدة في الزرنيخ هو أن أثره يبقى في الجسم طويلا ويمكن اكتشافه بسهولة عن طريق التشريح ، وهذه معلومة لم تكن السيدة فازيكاس تعلمها ، لكنها كانت محظوظة لعدم وجود مستشفى في البلدة ، وكذلك لوجود قريبها الذي كان عبقريا في إصدار وثائق الوفاة واختراع أسباب الموت ، فهذا مات بالسكتة ، وذاك مات بالأنفلونزا ، وثالث أصيب بالتهاب رئوي .. وهلم جرا .
القتل كهواية
سهولة استعمال الزرنيخ كان دوما عامل أغراء تصعب مقاومته ، ولهذا السبب بالتحديد واجهت العديد من القاتلات صعوبة في التوقف ، الأمر كالإدمان ، فهناك قاتلات قمن بتسميم عشرات الأشخاص بواسطة هذا السم الرهيب .
عدد النساء اللائي استعملن قوارير السيدة فازيكاس غير معلوم ، المؤكد أنه يفوق المئة بكثير ، وقد شكلن مع بعض ما يشبه النقابة أو الجمعية أطلقن عليها أسم "صناع الملائكة" . وهو لقب كان يطلق في أوروبا على الممرضات والحاضنات اللواتي يتولين مهمة رعاية الأطفال غير المرغوب فيهم مقابل المال . كان هؤلاء الأطفال يوضعون في منازل تعرف بأسم "مزارع الأطفال" ، وغالبا ما تتم معاملتهم بقسوة ويتعرضون للإهمال الشديد مما يؤدي لموت العديد منهم ، وأحيانا كانت مسئولة الدار تختصر عذاب أولئك الصغار فتقتلهم بنفسها خنقا أو تغرقهم في حوض الاستحمام ، ومن هنا جاءت تسمية صانعة الملائكة ، من باب التهكم ، فالمعروف أن أرواح الأطفال ، بحسب المعتقد الشعبي ، تصبح من الملائكة ، أو تطير مع الملائكة لبراءتها ونقاء سريرتها .
المدهش والمحير في قضية صناع ملائكة ناجيريف هو كيفية تواطأ هذا العدد الكبير من النساء على قتل الأبرياء لسنوات طويلة من دون أن يتم اكتشاف أمرهن ومن دون أن تشعر أي منهن بعذاب الضمير فتذهب للشرطة وتعترف . تذكروا بأننا نتحدث هنا عن بلدة صغيرة لا يتجاوز سكانها الثلاثة آلاف نسمة ، وباحتساب نسبة النساء المتزوجات فهذا يعني وجود امرأة من بين كل ستة نساء في البلدة هي قاتلة ! .. وهذه نسبة مهولة . والأدهى من ذلك هو أن العديد من أولئك النسوة لم يكتفين بقتل أزواجهن ، بل امتدت قائمة ضحاياهم لتشمل كل من يسبب لهن الإزعاج ، سواء من أفراد العائلة ، أو حتى من عشاقهن . والكثير منهن لم يلتزمن بقوانين المنظمة التي تقضي بعدم استعمال السم إلا في قتل الرجال .
السيدة ماريا كاردوس مثلا اعترفت بقتل زوجها وعشيقها وابنها . قالت بأنها جعلت أبنها ذو الثلاثة والعشرين ربيعا يغني لها قبل موته بدقائق معدودة ، تمايلت هي طربا على صوته العذب ، وفي منتصف الأغنية امسك المسكين بطنه ثم راح يتلوى من شدة الألم حتى فارق الحياة . ماريا لم تكن متأثرة أبدا حين تحدثت عن هذه الجريمة ، بالعكس كانت كأنما تستعيد ذكرى سعيدة ! .
أما ماريا فارجا فقد قتلت سبعة أفراد من عائلتها ، استغرقت بالضحك عندما تذكرت كيفية احتضار زوجها ، قالت بأنها اعتبرت قتله بمثابة هدية لنفسها بمناسبة أعياد الميلاد ! . وبعد ذلك بشهرين فقط قتلت والديها ، ثم اثنان من أشقائها ، ووالدة زوجها ، وبنت أخيها . فعلت كل ذلك طمعا في المال . ورثت كوخا جميلا عن ابنة أختها ، وحصلت على ثلاثة فدادين من الأرض من تركة والديها بعد أن أزاحت أشقائها ، كما ورثت مبلغا كبيرا من المال من والدة زوجها . المفارقة في قصة السيدة فارجا هو أن جيرانها وأقاربها قالوا بأنها كانت تبدي جزعا كبيرا عند مرض أفراد عائلتها ، كانت تعتني بهم بعيون دامعة وتسهر الليل على رعايتهم وراحتهم .
أما السيدة بولتيكا فقد قتلت زوجها وأطفالها الثلاثة بدم بارد ، دست لهم السم في الطعام ، فعلت ذلك من أجل أن تنفرد بعشيقها .
هناك أمثلة أخرى كثيرة ، أمثلة بشعة تشمئز منها النفوس أكثر حتى من رؤية مشاهد القتل الدموية . كيف بربكم تنبض تلك القلوب بكل ذاك الخبث والغدر ؟ .. أي أم تلك التي تقتل أطفالها ؟ .. أي بنت تلك التي تقتل أبويها ؟ .. كيف تواطأت بلدة كاملة على هذا الإجرام .. هذا ما يحيرني فعلا .
في قبضة العدالة
لسنوات كانت الشكوك تراود السلطات المجرية حول نسب الموت المرتفعة في بلدة ناجيريف ، لكنها لم تحرك ساكنا للتحقيق في الأمر . كانت الدولة مشغولة بالحرب وما جرته على البلد من ويلات واضطرابات . مما أتاح للسيدة فازيكاس ورفيقاتها الاستمرار في نهجهن الإجرامي لسنوات طويلة .
أما كيف تم اكتشاف الأمر أخيرا ، فهناك عدة روايات ..
يقال بأنه في شتاء عام 1929 طفت جثة رجل على ضفة نهر تيسا المار بمدينة كبيرة تقع إلى الشمال من بلدة ناجيريف ، أحد طلبة الطب المتدربين قام بتشريح الجثة واكتشف احتواءها على كمية كبيرة من الزرنيخ ، الطالب أبلغ السلطات التي بدأت تحقيقا سريعا في القضية أوصلها إلى اكتشاف هوية القتيل ، فهو من سكان ناجيريف ، ربما تعرض للتسميم من قبل زوجته وساعدها عشيقها في رميه بالنهر . هذا الاكتشاف عزز الشكوك في أن هناك أمرا مريبا يجري في ناجيريف ، مما دفع الشرطة لتكثيف تحقيقاتها والتي أدت بالنهاية إلى الإيقاع بمنظمة "صناع الملائكة" .
رواية أخرى تقول بأن إحدى نساء البلدة ، السيدة سابو ، كانت تعمل ممرضة وتم الإمساك بها متلبسة بدس السم لأحد مرضاها ، وباستجوابها اعترفت بأنها أخذت السم من صديقة لها في بلدتها ناجيريف ، وباستجواب تلك الصديقة اعترفت هي الأخرى بأنها أشترت السم من السيدة فازيكاس وبأنها استعملت السم في قتل أمها .
هناك رواية ثالثة تقول بأن الشرطة اكتشفت الأمر عن طريق رسالة وصلتها من مجهول ، هذه الرسالة كانت تحتوي على تفاصيل مهمة عن كل ما يجري في البلدة من جرائم .
على العموم ، أيا ما كانت الرواية الصحيحة ، فأن الإيقاع بعصابة الأرامل لم يكن أمرا سهلا ولم يخلو من مطاردات مثيرة بين الشرطة والقاتلات ، كان الأمر أشبه بلعبة القط والفار ، فالقاتلات لم يستسلمن لمصيرهن ، بل قمن بأمور تنم عن ذكاء وتدل على أنهن لسن مجرد فلاحات بسيطات ساذجات ، وربما لو كن متعلمات لتمكن من التملص من الجريمة .
أول خطوة اتخذتها المنظمة إزاء تحقيقات الشرطة تمثلت في التأكد من إدعاء السيدة فازيكاس في أن الزرنيخ لا يمكن اكتشافه أبدا ، فالشك بدأ يتسلل إلى قلوب الأرامل حول صحة هذا الكلام ، ولهذا أرسلن مبعوثا إلى العاصمة بودابست ، هذا المبعوث لم يكن سوى الخالة سوزي التي توجهت فور وصولها إلى إحدى الصيدليات وراحت تستفسر من الصيدلي حول الزرنيخ بحجة أن قريبة لها تعرضت للتسمم به ، وقد جاء رد الصيدلي على أسئلتها كالصاعقة على رأسها ، فالرجل أخبرها بأن الزرنيخ يمكن أن يبقى في الجسد لقرون ، لا بل لآلاف السنين ، حتى لو تحلل الجسد بصورة كاملة يمكن العثور على آثار الزرنيخ بسهولة في الأجزاء التي لا تتحلل كالشعر والأظافر .
كانت أخبارا سيئة تلك التي حملتها الخالة سوزي إلى البلدة ، الآن بدأ الخوف يتسلل فعلا إلى قلوب الأرامل ، لكنهن لم يفقدن الأمل . الخطوة التالية كانت تشكيل فرقة كاملة تتسلل إلى جبانة البلدة تحت جنح الظلام وتشرع بتبديل شواهد القبور ، يعني شاهد قبر الشخص المقتول بالسم يرفعوه ويضعوه على قبر رجل مات لأسباب طبيعية ، وشاهد الطفل الذي مات بالحمى يرفعوه ويضعوه فوق قبر طفل مات بالسم .. وهكذا دواليك .. لكن لسوء حظ الأرامل فأن الشرطة كانت قد وضعت بعض الحرس حول المقبرة ، وهؤلاء أطلقوا صفاراتهم فور أن أحسوا بوجود حركة مريبة . الأرامل استطعن الفرار لكنهن لم ينجزن مهمتهن بصورة كاملة ، إذ ظلت العديد من القبور على شواهدها الأصلية .
الشرطة بدورها لم تجلس ساكنة ، جاءت الأوامر بنبش قبور جميع الأشخاص الذين توفوا بين عامي 1911 – 1929 ، ولك أن تتخيل المنظر عزيزي القارئ ، فقد تحولت المقبرة إلى أشبه بساحة حرب ، عشرات الرجال يحملون المعاول ويحفرون ، ومئات القبور تحولت إلى خنادق تحيط بها أكوام التراب . ولم يطل الأمر حتى تم التأكد من وجود السم في عشرات الجثث .
الشرطة ألقت القبض على السيدة فازيكاس من اجل التحقيق معها ، وبالرغم من وجود أدلة تدينها فقد أطلقوا سراحها ، نصبوا لها فخا ، إذ حالما عادت إلى البلدة بدأت تدور على بيوت زبائنها واحدا واحدا تطلب منهم أن يتوقفوا عن استعمال السم فورا . ما لم تعلمه السيدة فازيكاس هو أن الشرطة كانت تراقبها خطوة بخطوة منذ أن أطلق سراحها ، وهكذا تمكن المحققون من معرفة أسم وعنوان جميع أعضاء المنظمة ، وصدرت أوامر إلقاء القبض بالجملة .
أكثر من مائة امرأة اعتقلت ، القليلات فقط اعترفن بجرائمهن ، لكنها كانت اعترافات كافية للإيقاع بالمنظمة ، وكفيلة أيضا بالتسبب في فضيحة مدوية هزت أركان المجتمع المجري . للأسف الشرطة لم تستطع أثبات الجرم إلا على 26 امرأة ، قدمن للمحاكمة ، وحكم على ثمان منهن بالإعدام ، وسبعة بالسجن المؤبد ، إما الباقيات فقد نلن أحكاما بالسجن لمدد متفاوتة . وإحكام الإعدام لم تنفذ إلا في اثنتان ، الخالة سوزي وشقيقتها ، أما الباقيات فقد تم تخفيف أحكامهن لاحقا إلى السجن المؤبد .
طيب ماذا عن السيدة فازيكاس ؟ ..
يقال بأنها كانت تراقب الشارع من نافذتها حينما لمحت رجال الشرطة قادمون إلى كوخها ، لم يكن هناك من سبيل للفرار ، قضي الأمر وحانت ساعة الحساب . كانت تعرف جيدا ما هو المصير الذي ينتظرها .. الإعدام لا محالة . لذا قررت اختصار المسافة والعناء ، مدت يدها نحو واحدة من تلك القوارير البنية الغامقة التي اعتادت تسويقها لسنوات على أنها الحل الأمثل للهروب من الواقع ، وقد حان دورها الآن لكي تهرب ، ارتشفت أخيرا من نفس الكأس الذي طالما سقته لضحاياها ، كابدت نفس الآلام ، أطلقت نفس الآهات ... ثم ما لبثت روحها الخبيثة أن غادرت إلى مأواها الأخير .. جهنم وبئس المصير .
لم يتأسف أحد على رحيل السيدة فازيكاس ، الأمر المؤسف الوحيد في موتها هو أنها أخذت معها إلى القبر أسرارا كثيرة كان يمكن أن تؤدي للإيقاع بالمزيد من المجرمات .
السيدة فازيكاس لم تكن الوحيدة التي انتحرت من بين أعضاء منظمة صناع الملائكة . فالسيدة بالين كورداش التي اعترفت بقتل زوجها والمساعدة في قتل أكثر من عشرين رجلا بالإضافة إلى بعض الأطفال الذين لم يرغب فيهم احد . انتحرت هي أيضا ، شنقت نفسها في زنزانتها .
الطريف في القضية ، هو أن بعض الأرامل أتين إلى مركز الشرطة خلال التحقيقات وطلبن بإصرار أن يتم نبش قبور أزواجهن وفحص رفاتهم . في الحقيقة هؤلاء الأرامل لم يكن مجرمات ، مات أزواجهن لأسباب طبيعية ، لكنهن أردن أثبات براءتهن بصورة رسمية لكي لا يفقدن الأمل في الزواج مجددا ، فالرجال صاروا يرتابون في جميع الأرامل ويفرون منهن فرار الصحيح من المجذوم .
يقال أيضا بأن رجال نارجيف أصبحوا يطيعون نسائهم ويخشونهن بشدة بعد افتضاح أمر الجرائم ، صاروا الأكثر لطفا ورقة من بين جميع رجال الأرض ، واستمروا على ذلك النهج حتى يومنا هذا .
التسمم بالزرنيخ
لا أخفيكم سرا بأني شعرت ببعض القشعريرة تسري في أوصالي وأنا أكتب هذا المقال ، وذلك لاعتقادي بأني تعرضت للتسمم بالزرنيخ في فترة من فترات حياتي . لا أظن طبعا بأن أحدا حاول قتلي فأنا لا أملك شيئا لكي أورثه للآخرين . لكن أثناء عملي في أحد المصانع قبل عشرين عاما ألمت بي أعراض شبيهة جدا بأعراض التسمم بالزرنيخ التي قرأت عنها أثناء بحثي في مصادر هذا المقال . كنت أشعر بمذاق معدني في فمي ، وأعاني من اضطراب المعدة والأمعاء مع قيء وخمول وصداع ، لازمني ذلك لفترة حتى أني تعرضت للإغماء مرة ونقلوني للمستشفى ، لكن الأطباء لم يعرفوا ما هي علتي . ولم تغادرني تلك الأعراض إلا بعد أن تركت العمل في ذلك المصنع . أظنني تعرضت للتسمم بالزرنيخ أو الزئبق .
اكتب هذا الكلام طبعا لتحذيركم من مخاطر التسمم بتلك المواد الخطرة ، فالتسمم بالزرنيخ ليس أمرا نادرا ، لا أعني طبعا بأن أحدا سيدس السم في طعامك ، مع أنه أمر وارد ، لكن الاحتمال الأكثر ترجيحا هو تعرضك لا سامح الله لبعض المنتجات الحاوية على تلك العناصر السامة . لهذا ومن باب الاحتياط وزيادة في الفائدة قررت أن اكتب لكم عن أعراض التسمم بالزرنيخ بحسب احد المواقع الطبية المعتبرة ، وهي كالآتي :
مذاق معدني في الفم - زيادة في إنتاج اللعاب - مشاكل في البلع - دم في البول - تشنج بالعضلات - تساقط الشعر - تقلصات وألم في المعدة - حركة لا إرادية في الأطراف - تعرق - رائحة نفس تشبه رائحة الثوم - قيء - إسهال .
أما بحسب موقع منظمة الصحة العالمية فأن الأعراض الفورية للتسمم بالزرنيخ هي التالية :
" التقيؤ وآلام في البطن والإصابة بالإسهال، يلي ذلك شعور بالخدر ووخز في الأطراف وتشنج العضلات ، والموت في الحالات القصوى " .
قبل قرن من الزمان كانت أوربا غارقة في الفوضى وعلى شفا حرب مدمرة ، عانى الناس الأمرين من الاضطرابات السياسية والاقتصادية ، وانعكس أثر ذلك جليا على الحياة الاجتماعية ، كان تأثيره سلبيا على المدى القصير ، تمثل في ازدياد الفقر والعنف ، لكنه أفرز واقعا جديدا على المدى البعيد خصوصا فيما يتعلق بالحريات ، لم تعد القيود والاعتبارات القديمة مقبولة ، وهذا هو لب المسألة حينما نفكر بعناية في الأسباب التي تقف وراء الأحداث الرهيبة التي جرت في بلدة ناجيريف الواقعة على بعد ستون ميلا إلى الجنوب من العاصمة المجرية بودابست (هنغاريا) .
لسنوات طويلة احتارت السلطات المجرية في السبب وراء نسبة الوفيات المرتفعة في تلك البلدة الصغيرة التي تمتد أكواخها الحقيرة فوق شريط أخضر من الأرض محاذي لنهر تيسا ، كانت البلدة تمتلك أعلى نسبة وفيات في البلاد ، لم يكن الأمر منطقيا البتة ، خصوصا حين نعلم بأن معظم تلك الوفيات كانت في صفوف الرجال ... لماذا يموت هؤلاء ولا تموت النساء ؟ .. هذا هو السؤال الذي أعيى المحققين وأثار حيرتهم .
وللإجابة على هذا السؤال علينا أولا إلقاء نظرة خاطفة على وضع المرأة في تلك الأصقاع ، ففي مطلع القرن العشرين لم تكن المرأة الأوربية تحظى بمعظم الحقوق التي ترفل بها اليوم . الوضع في الأرياف خصوصا كان مزريا ، كانت سلطة الرجل وقوانينه هي الحاكم المطلق ، وكان يجري الاتفاق على تزويج الفتيات من قبل عائلاتهن من دون الالتفات كثيرا لرأيهن ورغباتهن ، مما أدى لوجود زيجات فاشلة كثيرة ، وزاد الطين بله تعذر الطلاق في ظل القوانين التي لم تكن تبيحه آنذاك . لذا لم يكن أمام المرأة سوى أن تتعايش مع واقعها وتتحمل زوجها مهما كان سيئا .
نعيم الحرب !
الأمور تبدلت مع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، إذ تم سوق الرجال بالجملة إلى جبهات القتال ، خلت البيوت والطرقات من الأزواج والإخوة والأبناء ووجدت النساء أنفسهن أمام واقع جديد تلاشت فيه سلطة الرجل وأصبحت كلمة حواء هي العليا . بلدة ناجيريف لم تكن استثناءا ، سيق رجالها أيضا إلى الجبهة .
كان على النساء الآن أن يقمن بجميع الأعمال التي دأب الرجال على القيام بها ، كالزراعة والعناية بالحيوانات وجمع الحطب وحتى أعمال النجارة والترميم والبناء ، لكن شقائهن لم يدم طويلا ، إذ جاءهن العون من حيث لا يحسبن ، فخلال الحرب شيدت الحكومة معسكرا لإيواء الأسرى بالقرب من البلدة ، معظم أولئك الأسرى كانوا من الجنود الروس ، ولم يكونوا يخضعون لحراسة مشددة ، لم يكن هناك خوف من هربهم ، إلى أين سيفرون ؟ .. لم تعد لديهم دولة أصلا ، فالثورة البلشفية أطاحت بدولتهم القيصرية ، وبلادهم غارقة في الفوضى . وبما أن الدولة المجرية كانت تعاني ضائقة مالية بسبب الحرب ، لذلك تم سوق هؤلاء الأسرى إلى البلدات القريبة من المعسكر للقيام بأعمال السخرة مقابل بعض الطعام .
بالنسبة لنساء غاب عنهن رجالهن لسنوات طويلة كان إغراء هؤلاء الشباب الشقر ذوي القامة الطويلة والعيون الزرقاء أمرا تصعب مقاومته . في الحقيقة نساء ناجيريف كن أشبه بأرض أصابها الجفاف لسنوات ، كن متحفزات عاطفيا وجنسيا ، وقد وجدن ضالتهن في هؤلاء الغرباء المتفجرين فحولة .. يا أهلا بالمطر ! .
فجأة أصبح الرجال متوفرون بكثرة ، كان بإمكان أي امرأة أن تحضا بعشيق ، لم يعد الأمر موجبا للخجل ، بل صار مدعاة للفخر والمباهاة ، كأنما هناك مسابقة لجمع أكبر عدد من العشاق . السيدة أونلا مثلا ، تلك الأرملة المحترمة التي قاربت الخمسين ، أصبح لديها ثلاث عشاق! .. أما باولا ، الزوجة المطيعة والأم لأربعة أطفال ، فاتخذت عشيقين أصبحا يعيشان معها في مزرعتها ... باختصار كل امرأة باحثة عن الحب حصلت على رجل وأكثر .
والآن تخيل الوضع عزيزي القارئ وتمعن في سخرية الأقدار .. الرجال يحاربون في جبهات القتال ، ينزفون دما لحماية الأرض والعرض ، بينما نسائهم يضاجعن العدو في بيوتهم وفوق أسرتهم .. يالها من معركة خاسرة ! ..
لكن الحروب لا تدوم إلى الأبد . ففي عام 1918 وضعت الحرب العالمية أوزارها أخيرا بهزيمة دول المركز ، وعاد ملايين الجنود إلى بيوتهم ، بعضهم لم ير أهله لسنوات . كان رجال ناجيريف من ضمن العائدين ، وليتهم لم يعودوا ...
هل جربت عزيزي القارئ أن تتوق إلى شيء بشدة ، تفكر فيه ليل نهار ، تعد الدقائق واللحظات للوصول إليه ، لكن حين تطاله يدك أخيرا يتبين بأنه لم يكن يستحق كل ذلك التفكير والانتظار .. هل جربت طعم الخيبة ، مرارة الغدر ، ألم الخيانة ، هل وقفت في منتصف طريق خالي في يوم مغبر تضرب كفا على كف غير مصدق ما يجري عليك من ظلم .. كل هذا جرى على رجال ناجيريف ، عادوا يحدوهم الشوق لحياتهم القديمة ، لكن أين هي تلك الحياة ؟ .. تبخرت ، لم يعد لها وجود ، ولم يعد بالإمكان العودة بعقارب الساعة إلى الوراء . اللوم لا يقع كله على النساء ، لكن مجريات الأحداث قادت إلى ذلك ، فحين تعطي شخصا ما حريته كاملة يصعب أن تسلبها منه مرة أخرى . ومن هنا بدأت المشاكل ، النساء رفضن العودة إلى الأيام الخوالي ، تمردن على القيود القديمة ، حتى أن البعض منهن رفضن التخلي عن العشيق ، وبالمقابل أصبح الرجال أكثر عنفا ، صاروا كوحوش ثائرة جريحة ، يعاقرون الخمر ليل نهار لعلهم ينسون هذا الواقع البائس اللعين .
بصراحة شديدة ، الكثير من نساء ناجيريف لم يردن عودة رجالهن أبدا ، تمنين لو طال أمد الحرب إلى ما لا نهاية ، لو أن رجالهن قضوا هناك في تلك الخنادق الدامية . أما الآن وقد عادوا ، فقد أصبح العيش معهم مستحيلا ، ويجب البحث عن حلول للتخلص منهم مجددا .
القابلة الطيبة
لا أحد يعرف تحديدا من أين أتت السيدة جوليا فازيكاس ، ليس هناك الكثير ليقال عن ماضيها المجهول ، لكن المعلوم هو أنها سكنت بلدة ناجيريف في وقت ما من عام 1911 . كانت قد ترملت حديثا ، ولم يطل الوقت حتى تزوجت مجددا بأحد رجال البلدة وانتقلت للسكن في كوخه . كانت في منتصف العمر ، ترتدي ثيابا داكنة . لم تكن ذات جمال ، ملامحها جامدة لا تنم عن أي شعور أو عاطفة ، لكن نظراتها الحادة الثاقبة تعطي انطباعا بقوة الإرادة وثبات العزيمة .
السيدة فازيكاس نالت شعبية جارفة بين نساء البلدة ، كانت قابلة خبيرة ، لكن خدماتها لم تقتصر على التوليد ، بل كانت أشبه بطبيبة نسائية ، لذا أطلقوا عليها أسم "الست الحكيمة" . جزء كبير من شعبيتها يعود لكون بلدة ناجيريف تفتقر إلى وجود طبي ، لا مستوصف ولا حتى عيادة طبيب ، شأنها شأن معظم البلدات الريفية المهملة والمنسية من قبل الحكومة .
يقال أيضا بأن السيدة فازيكاس كانت ضليعة بالسحر ، وخبيرة بالسموم . كما تضمنت قائمة خدماتها إجهاض النساء ، وهو عمل أزدهر كثيرا زمن الحرب لكثرة النسوة الراغبات في التخلص من الأجنة الناتجة عن علاقاتهن الغرامية خارج أطار الزواج . طبعا الإجهاض كان يعد جريمة آنذاك ، وبسببه ألقي القبض على السيدة فازيكاس أكثر من عشر مرات على مدى خمسة عشر عاما . لكن لحسن حظها كان القضاة آنذاك متعاطفين مع قضايا المرأة لذلك كانوا يفرجون عنها في كل مرة من دون أية عقوبة .
كانت السيدة فازيكاس طيبة ومتعاطفة جدا مع قضايا ومشاكل بنات جنسها ، لكن حين يتعلق الأمر بالرجال ، خصوصا الأزواج ، فكانت لديها حكمة شهيرة تقول : "الزوج الطيب هو الزوج الميت .. لأنه لا يفتح فمه أبدا " ! .
في عام 1913 مات زوج السيدة فازيكاس أثر وعكة صحية مفاجئة تاركا لزوجته كوخه وأرضه . وكان للسيدة فازيكاس صديقة ومعاونة تدعى سوزي أولاه ، وتعرف بين السكان بأسم الخالة سوزي ، مات زوجها هي الأخرى بصورة مفاجئة فورثت عنه أمواله . كان موت الزوجين في وقت متقارب مثيرا للريبة ، لكنه مر مرور الكرام ، خصوصا وأن الرجل المسئول عن إصدار وثائق الوفاة في البلدة كان من أقارب السيدة فازيكاس ، وكان بارعا جدا في تأليف أسباب مقنعة لموت الناس . وكانت الجثث ترسل مباشرة إلى مقبرة البلدة لعدم وجود مستشفى يقوم بالتشريح وتشخيص أسباب الوفاة .
القوارير السحرية
مشاكل بلدة ناجيريف بدأت تتصاعد منذ عودة رجالها من جبهات القتال ، تمرد النساء على القيود القديمة أدى لزيادة العنف الأسري . والكثير من أولئك النسوة المعنفات كن على استعداد لفعل أي شيء للتخلص من جبروت الأزواج والعودة مجددا إلى أحضان العشاق . وهنا جاء دور السيدة فازيكاس ، إذ كان لديها دواء مجرب كفيل بحل جميع المشاكل الزوجية إلى الأبد ! .
- " تفضلي ماريا .. امسكي بهذه القارورة " .. قالت السيدة فازيكاس لضيفتها الشابة ذات العيون الدامعة وهي تناولها قنينة صغيرة ذات لون بني غامق .
- " ماذا أفعل بهذه القارورة ؟ " .. تساءلت ماريا وهي تقلب القنينة بين أصابعها كأنما تريد أن تستشف محتواها .
- " ضعي بضعة قطرات منها في طعام جورج .. وسينتهي الأمر .. ستتخلصين من جميع مشاكلك دفعة واحدة " .. ردت السيدة فازيكاس بنبرة قوية واثقة .
- " هل تقصدين أن ... أووه ... لا يا ألهي .. لا أظنك تقصدين ذلك حقا ! " .. ردت الضيفة الشابة وقد ارتسمت على وجهها إمارات الدهشة ممزوجة بشيء من الخوف .
- " ولم لا ؟ " .. قالت السيدة فازيكاس ثم أردفت بشيء من الحدة : "لقد ضربكِ اليوم ، وكذلك يفعل كل يوم ، أنتِ بنفسكِ قلتِ بأن الحياة معه أصبحت مستحيلة ، وأنكِ موقنة من أنه سينتهي بكِ الأمر جثة هامدة على يديه في أحد الأيام ، فلماذا تنتظرين حتى يرسلكِ هو إلى القبر ، بادري أنتِ وأرسليه إلى حتفه ، زوجكِ الوغد لا يستحق الحياة " .
وبالفعل لم تمر سوى أسابيع قليلة على هذا الحديث حتى كان جورج المسكين يقبع في التابوت في طريقه إلى الجبانة القديمة ، خلف التابوت مباشرة كانت تمشي ماريا وهي تلطم الخدود وتشق الجيوب حزنا وكمدا على رحيل العزيز الغالي ! .. ومن وراءها سارت السيدة فازيكاس والخالة سوزي مع بضع أرامل أخريات منكسات الرؤوس ومتشحات بالسواد . كان موكبا غريبا بحق ، فيه القليل من الحزن والكثير من التمثيل ، ينطبق عليه المثل القائل : " يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" .
قوارير السيدة فازيكاس سرعان ما وجدت طريقها لمنازل أخرى في بلدة ناجيريف ، وكذلك لبعض المنازل في مدينة تيساكورت المجاورة . وبالتدريج أصبح مشهد التوابيت السائرة نحو الجبانة منظرا مألوفا . فما بين عامي 1914 – 1929 أرسلت تلك القوارير السحرية أكثر من ثلاثمائة شخص إلى مثواهم الأخير .
أشرطة قتل الذباب
رغم تعاطف السيدة فازيكاس مع مشاكل بنات جنسها ، إلا أنها لم تكن توزع قاروراتها مجانا ، كان سعر الواحدة يقارب العشرين دولارا ، وهو ليس مبلغا قليلا بحساب تلك الأيام . تلك القوارير لم تكن تحتوي على سائل سحري كما زعمت السيدة فازيكاس لزبائنها ، محتوى الزجاجة لم يكن في الواقع سوى سم الزرنيخ المستخلص من شرائط قتل الذباب اللاصقة . وأظنك عزيزي القارئ شاهدت مثل تلك الشرائط سابقا ، فهي تعلق داخل البيوت والمحال التجارية للتخلص من الذباب ، فيها مادة لاصقة يعلق فيها الذباب فيموت . في أيامنا هذه لا يضعون فيها الزرنيخ ، لكنهم كانوا يفعلون في الماضي . وبطريقة ما توصلت السيدة فازيكاس إلى استخلاص ذلك الزرنيخ عن طريق نقع الشرائط بالماء ، كانت طريقة ساذجة وبسيطة ورخيصة ، كل ما على السيدة فازيكاس فعله هو أن تضع جزءا صغيرا من الشريط السام في قارورة مليئة بالماء ثم تتركها لتتخمر فتتحول إلى سم زعاف . كانت السيدة فازيكاس تحتفظ بالعشرات من هذه القوارير في قبو منزلها .
أما طريقة استعمال السائل السحري فكانت بسيطة جدا . السيدة فازيكاس وزبائنها كانوا يتجنبون تسميم ضحاياهم مرة واحدة لئلا يفتضح أمرهم ، كانوا يستعملون طريقة الجرعات . في بادئ الأمر يضعون كمية صغيرة من السم في طعام الضحية لكي يكون أثره بطيئا فلا يثير الشكوك ، يستمرون بذلك حتى تظهر أعراض التسمم ، وهي أعراض يصعب تمييزها لكونها شبيهة بأعراض الكثير من الأمراض ، خصوصا المعوية منها .. كالألم في المعدة ، والإسهال ، والقيء ، والدوخة والصداع .
بعد ظهور الأعراض الأولية تعمد القاتلة إلى التمويه عن طريق الظهور بمظهر الحريص الخائف على سلامة ضحيتها ، فتتطوع للذهاب إلى المدينة المجاورة لشراء دواء من الصيدلية ، وهنا تبدأ المرحلة الثانية من التسميم ، حيث تبدأ القاتلة بدس كمية صغيرة من السم مع كل جرعة دواء ، وهكذا فأن الدواء الذي يفترض به معالجة المريض يصبح هو أداة القتل الرئيسية ، ويستمر هذا الحال لعدة أسابيع حتى يصل الضحية إلى مرحلة الغيبوبة ويلفظ أنفاسه .
تجدر الإشارة إلى أن استعمال الزرنيخ للتخلص من الغرماء والأعداء ليس أمرا جديدا ولا هو من اختراع السيدة فازيكاس ، فعلى مدى قرون طويلة كان الزرنيخ هو السم المفضل لدى النساء لما يتمتع به من خواص ، فهو عديم الطعم واللون والرائحة ، يمكن أضافته لطعام أو شراب الضحية بكل سهولة ومن دون أن يثير أي شكوك . هو في الواقع أمثل سلاح للمرأة ، فمعظم النساء لا يحبذن الطرق والأساليب الدموية العنيفة في القتل ، يفضلن الأسلوب الناعم الذي يتيح لهن التحكم والسيطرة في عواطفهن ، فمثلا يمكن للزوجة أن تسقي زوجها السم ثم تعتني به وتطعمه وتحضنه وتقبله ، يشكرها هو من صميم قلبه من دون أن يدري بأنها هي التي تقتله .
المشكلة الوحيدة في الزرنيخ هو أن أثره يبقى في الجسم طويلا ويمكن اكتشافه بسهولة عن طريق التشريح ، وهذه معلومة لم تكن السيدة فازيكاس تعلمها ، لكنها كانت محظوظة لعدم وجود مستشفى في البلدة ، وكذلك لوجود قريبها الذي كان عبقريا في إصدار وثائق الوفاة واختراع أسباب الموت ، فهذا مات بالسكتة ، وذاك مات بالأنفلونزا ، وثالث أصيب بالتهاب رئوي .. وهلم جرا .
القتل كهواية
سهولة استعمال الزرنيخ كان دوما عامل أغراء تصعب مقاومته ، ولهذا السبب بالتحديد واجهت العديد من القاتلات صعوبة في التوقف ، الأمر كالإدمان ، فهناك قاتلات قمن بتسميم عشرات الأشخاص بواسطة هذا السم الرهيب .
عدد النساء اللائي استعملن قوارير السيدة فازيكاس غير معلوم ، المؤكد أنه يفوق المئة بكثير ، وقد شكلن مع بعض ما يشبه النقابة أو الجمعية أطلقن عليها أسم "صناع الملائكة" . وهو لقب كان يطلق في أوروبا على الممرضات والحاضنات اللواتي يتولين مهمة رعاية الأطفال غير المرغوب فيهم مقابل المال . كان هؤلاء الأطفال يوضعون في منازل تعرف بأسم "مزارع الأطفال" ، وغالبا ما تتم معاملتهم بقسوة ويتعرضون للإهمال الشديد مما يؤدي لموت العديد منهم ، وأحيانا كانت مسئولة الدار تختصر عذاب أولئك الصغار فتقتلهم بنفسها خنقا أو تغرقهم في حوض الاستحمام ، ومن هنا جاءت تسمية صانعة الملائكة ، من باب التهكم ، فالمعروف أن أرواح الأطفال ، بحسب المعتقد الشعبي ، تصبح من الملائكة ، أو تطير مع الملائكة لبراءتها ونقاء سريرتها .
المدهش والمحير في قضية صناع ملائكة ناجيريف هو كيفية تواطأ هذا العدد الكبير من النساء على قتل الأبرياء لسنوات طويلة من دون أن يتم اكتشاف أمرهن ومن دون أن تشعر أي منهن بعذاب الضمير فتذهب للشرطة وتعترف . تذكروا بأننا نتحدث هنا عن بلدة صغيرة لا يتجاوز سكانها الثلاثة آلاف نسمة ، وباحتساب نسبة النساء المتزوجات فهذا يعني وجود امرأة من بين كل ستة نساء في البلدة هي قاتلة ! .. وهذه نسبة مهولة . والأدهى من ذلك هو أن العديد من أولئك النسوة لم يكتفين بقتل أزواجهن ، بل امتدت قائمة ضحاياهم لتشمل كل من يسبب لهن الإزعاج ، سواء من أفراد العائلة ، أو حتى من عشاقهن . والكثير منهن لم يلتزمن بقوانين المنظمة التي تقضي بعدم استعمال السم إلا في قتل الرجال .
السيدة ماريا كاردوس مثلا اعترفت بقتل زوجها وعشيقها وابنها . قالت بأنها جعلت أبنها ذو الثلاثة والعشرين ربيعا يغني لها قبل موته بدقائق معدودة ، تمايلت هي طربا على صوته العذب ، وفي منتصف الأغنية امسك المسكين بطنه ثم راح يتلوى من شدة الألم حتى فارق الحياة . ماريا لم تكن متأثرة أبدا حين تحدثت عن هذه الجريمة ، بالعكس كانت كأنما تستعيد ذكرى سعيدة ! .
أما ماريا فارجا فقد قتلت سبعة أفراد من عائلتها ، استغرقت بالضحك عندما تذكرت كيفية احتضار زوجها ، قالت بأنها اعتبرت قتله بمثابة هدية لنفسها بمناسبة أعياد الميلاد ! . وبعد ذلك بشهرين فقط قتلت والديها ، ثم اثنان من أشقائها ، ووالدة زوجها ، وبنت أخيها . فعلت كل ذلك طمعا في المال . ورثت كوخا جميلا عن ابنة أختها ، وحصلت على ثلاثة فدادين من الأرض من تركة والديها بعد أن أزاحت أشقائها ، كما ورثت مبلغا كبيرا من المال من والدة زوجها . المفارقة في قصة السيدة فارجا هو أن جيرانها وأقاربها قالوا بأنها كانت تبدي جزعا كبيرا عند مرض أفراد عائلتها ، كانت تعتني بهم بعيون دامعة وتسهر الليل على رعايتهم وراحتهم .
أما السيدة بولتيكا فقد قتلت زوجها وأطفالها الثلاثة بدم بارد ، دست لهم السم في الطعام ، فعلت ذلك من أجل أن تنفرد بعشيقها .
هناك أمثلة أخرى كثيرة ، أمثلة بشعة تشمئز منها النفوس أكثر حتى من رؤية مشاهد القتل الدموية . كيف بربكم تنبض تلك القلوب بكل ذاك الخبث والغدر ؟ .. أي أم تلك التي تقتل أطفالها ؟ .. أي بنت تلك التي تقتل أبويها ؟ .. كيف تواطأت بلدة كاملة على هذا الإجرام .. هذا ما يحيرني فعلا .
في قبضة العدالة
لسنوات كانت الشكوك تراود السلطات المجرية حول نسب الموت المرتفعة في بلدة ناجيريف ، لكنها لم تحرك ساكنا للتحقيق في الأمر . كانت الدولة مشغولة بالحرب وما جرته على البلد من ويلات واضطرابات . مما أتاح للسيدة فازيكاس ورفيقاتها الاستمرار في نهجهن الإجرامي لسنوات طويلة .
أما كيف تم اكتشاف الأمر أخيرا ، فهناك عدة روايات ..
يقال بأنه في شتاء عام 1929 طفت جثة رجل على ضفة نهر تيسا المار بمدينة كبيرة تقع إلى الشمال من بلدة ناجيريف ، أحد طلبة الطب المتدربين قام بتشريح الجثة واكتشف احتواءها على كمية كبيرة من الزرنيخ ، الطالب أبلغ السلطات التي بدأت تحقيقا سريعا في القضية أوصلها إلى اكتشاف هوية القتيل ، فهو من سكان ناجيريف ، ربما تعرض للتسميم من قبل زوجته وساعدها عشيقها في رميه بالنهر . هذا الاكتشاف عزز الشكوك في أن هناك أمرا مريبا يجري في ناجيريف ، مما دفع الشرطة لتكثيف تحقيقاتها والتي أدت بالنهاية إلى الإيقاع بمنظمة "صناع الملائكة" .
رواية أخرى تقول بأن إحدى نساء البلدة ، السيدة سابو ، كانت تعمل ممرضة وتم الإمساك بها متلبسة بدس السم لأحد مرضاها ، وباستجوابها اعترفت بأنها أخذت السم من صديقة لها في بلدتها ناجيريف ، وباستجواب تلك الصديقة اعترفت هي الأخرى بأنها أشترت السم من السيدة فازيكاس وبأنها استعملت السم في قتل أمها .
هناك رواية ثالثة تقول بأن الشرطة اكتشفت الأمر عن طريق رسالة وصلتها من مجهول ، هذه الرسالة كانت تحتوي على تفاصيل مهمة عن كل ما يجري في البلدة من جرائم .
على العموم ، أيا ما كانت الرواية الصحيحة ، فأن الإيقاع بعصابة الأرامل لم يكن أمرا سهلا ولم يخلو من مطاردات مثيرة بين الشرطة والقاتلات ، كان الأمر أشبه بلعبة القط والفار ، فالقاتلات لم يستسلمن لمصيرهن ، بل قمن بأمور تنم عن ذكاء وتدل على أنهن لسن مجرد فلاحات بسيطات ساذجات ، وربما لو كن متعلمات لتمكن من التملص من الجريمة .
أول خطوة اتخذتها المنظمة إزاء تحقيقات الشرطة تمثلت في التأكد من إدعاء السيدة فازيكاس في أن الزرنيخ لا يمكن اكتشافه أبدا ، فالشك بدأ يتسلل إلى قلوب الأرامل حول صحة هذا الكلام ، ولهذا أرسلن مبعوثا إلى العاصمة بودابست ، هذا المبعوث لم يكن سوى الخالة سوزي التي توجهت فور وصولها إلى إحدى الصيدليات وراحت تستفسر من الصيدلي حول الزرنيخ بحجة أن قريبة لها تعرضت للتسمم به ، وقد جاء رد الصيدلي على أسئلتها كالصاعقة على رأسها ، فالرجل أخبرها بأن الزرنيخ يمكن أن يبقى في الجسد لقرون ، لا بل لآلاف السنين ، حتى لو تحلل الجسد بصورة كاملة يمكن العثور على آثار الزرنيخ بسهولة في الأجزاء التي لا تتحلل كالشعر والأظافر .
كانت أخبارا سيئة تلك التي حملتها الخالة سوزي إلى البلدة ، الآن بدأ الخوف يتسلل فعلا إلى قلوب الأرامل ، لكنهن لم يفقدن الأمل . الخطوة التالية كانت تشكيل فرقة كاملة تتسلل إلى جبانة البلدة تحت جنح الظلام وتشرع بتبديل شواهد القبور ، يعني شاهد قبر الشخص المقتول بالسم يرفعوه ويضعوه على قبر رجل مات لأسباب طبيعية ، وشاهد الطفل الذي مات بالحمى يرفعوه ويضعوه فوق قبر طفل مات بالسم .. وهكذا دواليك .. لكن لسوء حظ الأرامل فأن الشرطة كانت قد وضعت بعض الحرس حول المقبرة ، وهؤلاء أطلقوا صفاراتهم فور أن أحسوا بوجود حركة مريبة . الأرامل استطعن الفرار لكنهن لم ينجزن مهمتهن بصورة كاملة ، إذ ظلت العديد من القبور على شواهدها الأصلية .
الشرطة بدورها لم تجلس ساكنة ، جاءت الأوامر بنبش قبور جميع الأشخاص الذين توفوا بين عامي 1911 – 1929 ، ولك أن تتخيل المنظر عزيزي القارئ ، فقد تحولت المقبرة إلى أشبه بساحة حرب ، عشرات الرجال يحملون المعاول ويحفرون ، ومئات القبور تحولت إلى خنادق تحيط بها أكوام التراب . ولم يطل الأمر حتى تم التأكد من وجود السم في عشرات الجثث .
الشرطة ألقت القبض على السيدة فازيكاس من اجل التحقيق معها ، وبالرغم من وجود أدلة تدينها فقد أطلقوا سراحها ، نصبوا لها فخا ، إذ حالما عادت إلى البلدة بدأت تدور على بيوت زبائنها واحدا واحدا تطلب منهم أن يتوقفوا عن استعمال السم فورا . ما لم تعلمه السيدة فازيكاس هو أن الشرطة كانت تراقبها خطوة بخطوة منذ أن أطلق سراحها ، وهكذا تمكن المحققون من معرفة أسم وعنوان جميع أعضاء المنظمة ، وصدرت أوامر إلقاء القبض بالجملة .
أكثر من مائة امرأة اعتقلت ، القليلات فقط اعترفن بجرائمهن ، لكنها كانت اعترافات كافية للإيقاع بالمنظمة ، وكفيلة أيضا بالتسبب في فضيحة مدوية هزت أركان المجتمع المجري . للأسف الشرطة لم تستطع أثبات الجرم إلا على 26 امرأة ، قدمن للمحاكمة ، وحكم على ثمان منهن بالإعدام ، وسبعة بالسجن المؤبد ، إما الباقيات فقد نلن أحكاما بالسجن لمدد متفاوتة . وإحكام الإعدام لم تنفذ إلا في اثنتان ، الخالة سوزي وشقيقتها ، أما الباقيات فقد تم تخفيف أحكامهن لاحقا إلى السجن المؤبد .
طيب ماذا عن السيدة فازيكاس ؟ ..
يقال بأنها كانت تراقب الشارع من نافذتها حينما لمحت رجال الشرطة قادمون إلى كوخها ، لم يكن هناك من سبيل للفرار ، قضي الأمر وحانت ساعة الحساب . كانت تعرف جيدا ما هو المصير الذي ينتظرها .. الإعدام لا محالة . لذا قررت اختصار المسافة والعناء ، مدت يدها نحو واحدة من تلك القوارير البنية الغامقة التي اعتادت تسويقها لسنوات على أنها الحل الأمثل للهروب من الواقع ، وقد حان دورها الآن لكي تهرب ، ارتشفت أخيرا من نفس الكأس الذي طالما سقته لضحاياها ، كابدت نفس الآلام ، أطلقت نفس الآهات ... ثم ما لبثت روحها الخبيثة أن غادرت إلى مأواها الأخير .. جهنم وبئس المصير .
لم يتأسف أحد على رحيل السيدة فازيكاس ، الأمر المؤسف الوحيد في موتها هو أنها أخذت معها إلى القبر أسرارا كثيرة كان يمكن أن تؤدي للإيقاع بالمزيد من المجرمات .
السيدة فازيكاس لم تكن الوحيدة التي انتحرت من بين أعضاء منظمة صناع الملائكة . فالسيدة بالين كورداش التي اعترفت بقتل زوجها والمساعدة في قتل أكثر من عشرين رجلا بالإضافة إلى بعض الأطفال الذين لم يرغب فيهم احد . انتحرت هي أيضا ، شنقت نفسها في زنزانتها .
الطريف في القضية ، هو أن بعض الأرامل أتين إلى مركز الشرطة خلال التحقيقات وطلبن بإصرار أن يتم نبش قبور أزواجهن وفحص رفاتهم . في الحقيقة هؤلاء الأرامل لم يكن مجرمات ، مات أزواجهن لأسباب طبيعية ، لكنهن أردن أثبات براءتهن بصورة رسمية لكي لا يفقدن الأمل في الزواج مجددا ، فالرجال صاروا يرتابون في جميع الأرامل ويفرون منهن فرار الصحيح من المجذوم .
يقال أيضا بأن رجال نارجيف أصبحوا يطيعون نسائهم ويخشونهن بشدة بعد افتضاح أمر الجرائم ، صاروا الأكثر لطفا ورقة من بين جميع رجال الأرض ، واستمروا على ذلك النهج حتى يومنا هذا .
التسمم بالزرنيخ
لا أخفيكم سرا بأني شعرت ببعض القشعريرة تسري في أوصالي وأنا أكتب هذا المقال ، وذلك لاعتقادي بأني تعرضت للتسمم بالزرنيخ في فترة من فترات حياتي . لا أظن طبعا بأن أحدا حاول قتلي فأنا لا أملك شيئا لكي أورثه للآخرين . لكن أثناء عملي في أحد المصانع قبل عشرين عاما ألمت بي أعراض شبيهة جدا بأعراض التسمم بالزرنيخ التي قرأت عنها أثناء بحثي في مصادر هذا المقال . كنت أشعر بمذاق معدني في فمي ، وأعاني من اضطراب المعدة والأمعاء مع قيء وخمول وصداع ، لازمني ذلك لفترة حتى أني تعرضت للإغماء مرة ونقلوني للمستشفى ، لكن الأطباء لم يعرفوا ما هي علتي . ولم تغادرني تلك الأعراض إلا بعد أن تركت العمل في ذلك المصنع . أظنني تعرضت للتسمم بالزرنيخ أو الزئبق .
اكتب هذا الكلام طبعا لتحذيركم من مخاطر التسمم بتلك المواد الخطرة ، فالتسمم بالزرنيخ ليس أمرا نادرا ، لا أعني طبعا بأن أحدا سيدس السم في طعامك ، مع أنه أمر وارد ، لكن الاحتمال الأكثر ترجيحا هو تعرضك لا سامح الله لبعض المنتجات الحاوية على تلك العناصر السامة . لهذا ومن باب الاحتياط وزيادة في الفائدة قررت أن اكتب لكم عن أعراض التسمم بالزرنيخ بحسب احد المواقع الطبية المعتبرة ، وهي كالآتي :
مذاق معدني في الفم - زيادة في إنتاج اللعاب - مشاكل في البلع - دم في البول - تشنج بالعضلات - تساقط الشعر - تقلصات وألم في المعدة - حركة لا إرادية في الأطراف - تعرق - رائحة نفس تشبه رائحة الثوم - قيء - إسهال .
أما بحسب موقع منظمة الصحة العالمية فأن الأعراض الفورية للتسمم بالزرنيخ هي التالية :
" التقيؤ وآلام في البطن والإصابة بالإسهال، يلي ذلك شعور بالخدر ووخز في الأطراف وتشنج العضلات ، والموت في الحالات القصوى " .