فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب
إن العلماء الأولين ألفوا في فنون متعددة، وأن من سعة علمهم وكثرة اطلاعهم كتبوا في مواضيع قد يراها غيرهم ضيقة.!
حتى حدا بأحدهم أن يؤلف كتاباً اسمه (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب).
ولأن المصادقة أو الأخوة الخاصة تقتضي أن يطّلع المرء على أشياء ممن يؤاخي كأن يقول كلمة،أو يتصرف تصرفا،أو فعل فعل ما, و معنى الأخوة الخاصة إلا أن تكون مؤتمنا على ما رأيت، أن تكون مؤتمنا على ما سمعت، وإلا فيكون كل واحد يتحرز ممن يخالطه، فليس ثَم إذن إخوان صدق، ولا إخوان يحفظون المرء في حضوره، وفي غيبته، مما حَدَا ببعض الناس لما رأى الزمن -زمنه- لما رأى زمنه خلا من هذا الصديق، وهذا المحب الذي يحفظ عِرضه، ويكون وفيًّا معه، هداه أن ألف كتابا وسماه (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) لأنه وجد الكلب إذا أحسن إليه من ربَّاه، فإنه يكون وفيا له، حتى يبذل دمه لأجل من أحسن إليه، فقال تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، لأن كثيرين يخونون؛ يخالط مخالطة خاصة، ويطّلع على أشياء خاصة، ثم ما يلبث أن يبُثَّها، وأن يذكر العيوب التي رأى، وأن يفضحه بأشياء، لو كان ذاك يعلم أنه سيخبر عنه لعدّه عدوا، ولم يعدّه حبيبا موافيا، لهذا من حق أخيك عليك أن تحفظ عرضه بالسكوت عن ذكر عيوبه، سواء بمحضر الناس في حضرته، أو في غيبته من باب أولى، فإن حق المسلم على المسلم أن يحفظ العرض فكيف إذا كان ذلك خاصا.
وقد أحببت ان اشارك به هنا لما رأيت فيه من الفائدة والواقع المعاش مما يسرد المؤلف لقصص في وفاء الكلاب لأصحابها يقارن بينها وبين بعض الأصدقاء غير الوفيين،، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا الكتاب ألفه محمد بن خلف بن المرزبان المتوفى سنة 309 هجرية.
وهو من منشورات الجمل عام 2003م تحقيق ودراسة د. ركس سميث، ود. محمد عبد الحليم، قال المحققان عنه (إنه لم تذكر كتب السيرة سنة ولادته بالضبط وإن كانت قد اتفقت على سنة وفاته 309 ه، ويبدو أن كاتبنا مثل أفراد آخرين من العائلة المشهورة عرف عادة باسم ابن المرزبان، ومعناها باللغة الفارسية الحاكم على حدود منطقة أو مقاطعة، وله كتب غير هذا الكتاب منها ذم الثقلاء) و(كتاب الشعر والشعراء) وكتاب (من غدر وخان) وقد ألف أيضاً في المواضيع الجدية مثل: (الحاوي في علوم القرآن، في سبعة وعشرين جزءاً) انتهى ما قاله المحققان.
وقد ذكر المؤلف ابن المرزبان سبب تأليف كتابه هذا فقال:
وسألتني أعزّك الله تعالى، أن أجمع لك، ما جاء في فضل الكلب على شرار الإخوان، ومحمود خصاله في السر والإعلان، فقد جمعت ما فيه كفاية وبيان,, ولست أشك أنك أعزك الله عارف بخبر عبدالله بن هلال الكوفي الحميري المجذوم صاحب الخاتم، وخبره مع جاره، لما سأله ان يكتب كتاباً إلى ابليس لعنه الله في حاجة له.
فإن كان العقل يدفع ذلك الخبر، فهو مثل حسن، يعرف في الناس، فكتب إليه الكتاب، وأكده غاية التأكيد، ومضى وأوصل الكتاب إلى ابليس، فقرأه وقبله ووضعه على عينه، وقال: السمع والطاعة، لأبي محمد فما حاجتك؟
قال: لي جار مكرم لي، شديد الميل إليّ، تفوق علي وعلى أولادي، إن كانت لي حاجة قضاها، أو احتجت إلى قرض أقرضني واسعفني، وان غبت خلفني في أهلي وولدي، يبرهم بكل ما يجد إليه السبيل، من غير أن يناله منا عوض أو شكر,.
وابليس كلّما سمع منه يقول: هذا حسن، وهذا جميل، وهذا جيد، فلما فرغ من وصفه قال إبليس: فما تحب أن أفعل به؟
قال: أريد أن تزيل عنه نعمته، وتفقره فقد غاظني أمره، وكثرة ماله، وبقاؤه وطول سلامته.
فصرخ ابليس صرخة، لم يسمع مثلها منه قط، فاجتمع إليه عفاريته وجنده، وقالوا له: ما الخبر؟ يا سيدهم ومولاهم, فقال لهم: هل تعلمون ان الله عز وجل، خلق خلقاً هو شر مني؟ قالوا: لا, قال إبليس: فانظروا إلى صاحب هذا الكتاب القائم بين يدي، فهو شر مني.
ولو فتشت في دهرنا هذا لوجدت مثل صاحب الكتاب كثيراً، ممن نعاشرهم، إذا لقيك رحب بك، وإذا غبت عنه أسرف في الغيبة، وتلقاك بوجه المحبة، ويضمر لك الغش والمسبة,, وقد حلمت ما جاء في الغيبة، قال صلى الله عليه وسلم: إياكم والغيبة، فإنها شر من الزنا، إن الرجل ليزني ويتوب، فيتوب الله عليه، وصاحب الغيبة لا يغفرها الله، حتى يغفرها صاحبها (ص 45 48).
ثم ذكر أقوالاً يذكر أنها آثار والله أعلم بصحتها في وفاء الكلب.
الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبه تستعين
أنبأ الفقيه أبو موسى عيسى بن أبي عيسى القابسي قال أنبأ القاضي أبو القاسم علي ابن المحسن بن علي التنوخي قراءةً عليه قال حدثنا أبو عمر محمد بن العباس ابن محمد ابن زكريا ابن حيوية الخراز ولفظه علينا في يوم الأربعاء الحادي عشر من رجب سنة إحدى وثمانين وثلثمائة أن أبا بكر محمد ابن خلف بن الرزبان أخبرهم قال ذكرت أعزّك الله زماننا هذا وفساد مودة أهله وخسَّة أخلاقهم ولُؤم طباعهم وأن أبعد الناس سَفراً من كان سفره في طلب أخٍ صالحٍِ ومن حاول صاحبا يأمن زلته ويدوم اغتباطه كان كصاحب الطريق الحيران الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلا ازداد من غايته بُعداً فالأمر كما وصفتُ.بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبه تستعين
وقد يروى عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال كان الناس ورقا لا شوك فيه فصاروا شوكاً لا ورق فيه وقال بعضهم كنا نخاف على الإخوان كثرةَ المواعيد وشدة الاعتذار أن يخلطوا مواعيدهم بالكذب واعتذارهمبالتزيُّد فذهب اليوم من يعتذر بالخير ومات من كان يعتذرُ من الذنب.
قال لبيد كامل:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجربِ
وأخبرنا أبو العباس المبرِّد قال حدثني بعض مشايخنا قال كنت عند بشر بن الحارث يوماً فرأيته مغموما ما تكلّم حنى غربت الشمس ثم رفع رأسه وقال كامل:
ذهب الرجل المُقتدى بفعالِهم ... والمُنكرونَ لكلِّ أمرٍ مُنكرِ
وبقيت في خلفه يزيِّن بعضُهم ... بعضاً ليدفع معورعن مُعوِرِ
وأنشدنا لغيره كامل:
ذهب الذين إذا رأوني مُقبلا ... سُرُّوا وقالوا مرحباً بالمُقبلِ
وبَقِي الذين إذا رأوني مُقبلا ... عبسوا وقالوا ليته لم يُقبِلِ
وقال آخر خفيف:
ذهب الناس واستقلوا وصرنا ... خلَفاً في أراذلِ النسناسِ
في أناسٍ تراهمُ العين ناساً ... فإذا خبِّروا فليسوا بناسِ
وقال آخر خفيف:
ذهب الملحُ من كثير من النا ... سِ ومات الذين كانوا مِلاحا
وبَقِي الأَسمجونَ من كل صنفٍٍ ... ليت ذا الموت منهم قد أراحا
وقال آخر كامل:
ذهب الذين إذا مرضت تجهَّلوا ... وإذا جهلت عليهمُ لم يَجهلوا
وإذا أصبتُ غنيمةً فرحوا بها ... وإذا بخِلتُ عليهمُ لم يبخَلوا
وأنشدني أبو عبد الله السدوسي كامل:
ذهب الذين هم الغياث المُسبَلُ ... وبقِي الذين هم العذاب المُنزلُ
وتقطَّعت أرحامُ أهل زماننا ... فكأنَّما خُلِقت لئلا توصَلُ
الناس مشتبهونَ من كشَّفتَهُ ... مِنهمْ كشفتَ عن الذي لا يحمل
ويظنُّ أنَّ له بكثرةِ مالهِ ... فضلا عليك وغيرُهُ المتفضِّلُ
يتبع...
تعليق