إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: تكلمنا في السابق عن الاعتقادات الجاهلية التي خالفها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الشرع ببترها وبيان ضلالها وبطلانها، ومن ذلك وهي الاعتقاد في أفعال السحرة والكهان والعرافين على أنها من كرامات من الله جل في علاه، وأن لهم المكانة عند الله جل في علاه.وبقي لنا في هذه المسألة الشائكة التي انتشرت انتشاراً عظيماً في هذه الأوقات الكلام على سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهل سحر النبي أم لم يسحر؟ لا سيما وأن بعض أهل السنة والجماعة بل من المحدثين الذين أتقنوا علم الحديث قد ردوا هذا الحديث، وسأبين من الذي مال إلى رد هذا الحديث من المحدثين.ثم النقطة الثانية وهي: علاج السحر، يعالج السحر بالسحر وهي النشرة، سنفصله الآن بإذن الله.وسنتكلم أولاً على المسألة المهمة وهي: مسألة هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يسحر؟ ولو دققنا النظر سنراها متفرعة عن أصل أصلناه سابقاً، وهو: هل للسحر تأثير حقيقي أم لا؟ وقد بينا بأن العلماء اختلفوا في هذا على قولين: الأحناف يرون عدم التأثير، ويرون أن السحر لا حقيقة له، وهذا مخالف للواقع ولظاهر الآيات والأحاديث، وجمهور أهل العلم على أن للسحر حقيقة مؤثرة قال الله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، فهم يضرون لكن بإذن الله جل في علاه.فالسحر له حقيقة مؤثرة، فهل تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر؟ سأتكلم عن عدة نقاط في سحر النبي صلى الله عليه وسلم:أولاً: إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر أثراً ونظراً.ثانياً: سأبين الشبه التي يعترض بها المعترضون على سحر النبي صلى الله عليه وسلم.ثالثاً: كيفية الرد على أهل البدع وشبههم التي ألقوها علينا لرد الحديث الذي في الصحاح.
إثبات أن النبي سُحر من قبل لبيد اليهودي
لقد ثبت سحر النبي صلى الله عليه وسلم أثراً ونظراً، فأما من جهة الآثار: فالأحاديث التي أسانيدها كالشمس تؤكد ذلك، ففي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم (أن لبيد بن الأعصم اليهودي -عليه من الله ما يستحق- سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وألقى السحر في بئر ثروان)، وهذا الحديث صحيح بل هو في أعلى درجات الصحة. وفي بعض الروايات: (أن ملكين جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام الأول عند رأسه والآخر عند رجله، فقال أحدهم: ما بال الرجل؟ قال الآخر: مطبوب -يعني مسحور-، قال: من سحره أو طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم)، ثم ذكروا كيف شفاء النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الآثار تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، ولذلك قالت عائشة: (كان يخيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي أهله ولا يأتيهم، وأنه فعل الشيء ولم يكن فعله)، وهذه الشبهة هي التي تعلق بها المفترون كما سنبين، والغرض المقصود هو أنه قد صحت الأخبار على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر وابتلي بالسحر بإذن الله جل في علاه.إن العقل السديد لا بد أن يوافق هذا ولا يمكن أن يرده، ولا غرو ولا عجب أن النبي صلى الله عليه وسلم يسحر ويبتلى بهذا البلاء العظيم، والعقل يقبله؛ لأن رسول الله خلق من ماء مهين، ولذلك قال: (ولدت من نكاح وليس من سفاح) بأبي هو وأمي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وإذا قلت بأنه بشر فهي مقدمة لها نتيجة لا أحد يعترض عليها.وقد وجد أناس يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور، وهذا أول حديث لهم، وأسانيده مهلهلة فهو حديث موضوع، وهذا الحديث فيه مسحة صوفية، وهو مثل حديث: (أن الله أحيا أم النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام)، وكلامهم هذا باطل، فليس عندهم دليل ثابت، وأما نحن فعندنا الأدلة الواضحة الجلية التي تثبت لنا أنه خلق من ماء مهين، وعندنا قاعدة وهي: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
الأدلة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم
أما أدلة الأثر على بشرية رسول الله فهي كالتالي: لقد أمر الله رسوله أن يقول بصريح العبارة أنه بشر فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110]، فهل أمره أن يقول قل: إنما أنا ملك؟ حاش لله، وأيضاً قال الله تعالى وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، (من قبلك) يعني: من مثلك، وأيضاً قال الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ثم قال وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [الأنبياء:8]، أي: هم بشر يأكلون كما يأكل البشر، فليس لهم الخلد، وقول الله تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]. فكل هذه الأدلة تثبت بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأصرح هذه الأدلة أن الله أمره أن يقول قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110]، وأيضاً لما قالوا وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ*وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:8-9]، يعني: لا يمكن أن يكون هناك ملك بين البشر يدعوهم إلى الله، فمن حكمة الله أن يرسل إليهم بشراً مثلهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر؛ لقول الله جل في علاه السابق، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح وليس من سفاح).إذاً: فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر فإنه يعتريه ما يعتري البشر ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، فإن رسول الله ينسى كما ينسى البشر، ويحتاج إلى الطعام لأنه بشر، ويحتاج إلى النوم لأنه بشر، ويحتاج إلى الجماع لأنه بشر، وتصيبه البلايا والرزايا بل قد يتعرض للقتل لأنه بشر، والبشر يقع عليهم السحر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر فيقع عليه السحر، ومن خالف هذه الحقيقة فليأتنا بالدليل؟ لأننا لا يمكن أن ننحيه من البشرية فهو يعتريه ما يعتري البشر، فهذه أدلة الأثر والنظر، والعقل لا يرد أن يسحر النبي؛ لأنه من البشر، وهذا من البلايا والرزايا، فهو -أي السحر- من الأمراض كالأوجاع والصداع والحمى والألم والسم الذي أكله النبي صلى الله عليه وسلم، فطالما أن هذه تعتري البشر، فهي تعتري أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: فقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وقد دل على ذلك الأثر والنظر، فنحن نعتقد أن رسول الله سحر من لبيد بن الأعصم عليه من الله ما يستحق، وبعد أن سحره لبيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أنه أتى أهله -أي: وطئ أهله- ولم يأت أهله، ويرى أنه قد فعل الشيء ولم يفعل هذا الشيء، لكن العقول الخربة لم تستطع أن تقبل ذلك، وقالوا: إن هذا يقدح في رسالته، وهذا الاعتراض اعترض به أهل البدع والضلالة كالمعتزلة، ثم قالوا: حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم باطل لأمرين اثنين:الأمر الأول: هو أننا لو قلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر فقد قدحنا في رسالته ونبوته؛ لأن الله جل وعلا كتب في كتابه أنه عصم رسوله، وإذا كان لبيد بن الأعصم الكافر يسلط على رسول الله إذا فهو غير معصوم، ولو قلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم كذبنا القرآن؛ لقول الله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
الأمر الثاني: قالوا: إذا فتحنا هذا الباب وقلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر إذاً فكل حديث يأتينا فسنقول عنه ليس من النبي وإنما من تسليط الجن عليه، فلعل الجني غلب على عقل النبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه هذا الكلام، ففتحنا الباب لكل أحد ليطعن ويرد حديث النبي.هذا قول أهل البدعة والضلالة من المعتزلة وبعض المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، وأما المتصدي لهؤلاء الأشرار المبتدعة الذين يردون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا مبرر ولا داعي، -والذي أعلمه- أن الفضائيات قاطبة تكلمت على هذه المسألة وردوا الحديث بدون علم وقالوا: لا يصح أن نقول سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكروا هذه الشبه. فأقول: نحن أثبتنا بالأثر والنظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر؛ لأنه من البشر، ويعتريه ما يعتري البشر، فالشبهة الأولى التي قالوها: بأن الله عصم نبيه ولو قلتم بأنه سحر فليس بمعصوم، وهذا قدح تام وصريح وظاهر في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا لهم: لا، بل هذا فيه دلالة على جهلكم وضعف نظركم وعدم التمييز بين المتشابه، وأنتم قد أُدخل عليكم من باب العصمة؛ لأنكم لم تفهموا العصمة فهماً دقيقاً لفهم العلماء الأسلاف الأكارم الأماجد.
أقسام العصمة
العصمة تنقسم إلى قسمين: عصمة في الوحي وعصمة في الظاهر، فعصمة الوحي، أي: في الباطن في العقل والقلب، وعصمة الظاهر، أي: في الجوارح، والدليل على هذا التقسيم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة:67]، في سياق التبليغ، أذاً: فالسياق والسياق من المفسرات والمقيدات يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة:67]، فالله جل وعلا هنا أثبت العصمة في سياق التبليغ، وأما عصمة الجوارح، فإن الله جل وعلا لم يثبت هذه العصمة تصريحاً للرسول، قال الله تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فذكر أن الرسول قد يقتل كما قتل يحيى وزكريا، وفي هذا بيان من الله جل وعلا أنه لا يعصم رسوله من إيذاء البشر له، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كسرت رباعيته، وكاد يقتل صلى الله عليه وسلم، وأصابه من الآلام والشدة ما لا يعلمه إلا الله جل في علاه، ولذلك لما ضُرب وألقيت عليه الحجارة وسال الدم من وجهه الشريف قال: (رحمة الله على أخي موسى قد صبر أكثر مما صبرت) فهو يبين أنه صبر على الشدة التي أصابته من أعداء الله جل في علاه.إذاً: فالعصمة عصمتان: عصمة في التبليغ بالوحي، وهي عصمة باطنة في القلب والعقل، وهذه أثبتها الله ولا يمكن أن نردها؛ لأن الله قال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] في سياق التبليغ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]. وأما بالنسبة للعصمة للظاهر والجوارح فإن الله يسلط أعداءه على أوليائه، لحكمة عظيمة وهي زيادة ورفعة درجات هؤلاء الأخيار الأفذاذ، وعند هذا التقسيم تنجلي الشبهة وينتهي الأمر، فهم قالوا: هذا قدح في العصمة وكيف يسلط اليهودي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلنا: هل سلط على الوحي والقلب والتبليغ أم سلط على الجوارح؟ وهل كان النبي يقول القول الباطل أو يقول القول الذي لا يفقهه؟ الجواب: لا، فإن لبيد بن الأعصم سلط على رسول الله حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخيل أنه أتى الشيء ولم يأتيه، وهذه في البدن وليست في القلب ولا في الوحي.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: تكلمنا في السابق عن الاعتقادات الجاهلية التي خالفها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء الشرع ببترها وبيان ضلالها وبطلانها، ومن ذلك وهي الاعتقاد في أفعال السحرة والكهان والعرافين على أنها من كرامات من الله جل في علاه، وأن لهم المكانة عند الله جل في علاه.وبقي لنا في هذه المسألة الشائكة التي انتشرت انتشاراً عظيماً في هذه الأوقات الكلام على سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهل سحر النبي أم لم يسحر؟ لا سيما وأن بعض أهل السنة والجماعة بل من المحدثين الذين أتقنوا علم الحديث قد ردوا هذا الحديث، وسأبين من الذي مال إلى رد هذا الحديث من المحدثين.ثم النقطة الثانية وهي: علاج السحر، يعالج السحر بالسحر وهي النشرة، سنفصله الآن بإذن الله.وسنتكلم أولاً على المسألة المهمة وهي: مسألة هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يسحر؟ ولو دققنا النظر سنراها متفرعة عن أصل أصلناه سابقاً، وهو: هل للسحر تأثير حقيقي أم لا؟ وقد بينا بأن العلماء اختلفوا في هذا على قولين: الأحناف يرون عدم التأثير، ويرون أن السحر لا حقيقة له، وهذا مخالف للواقع ولظاهر الآيات والأحاديث، وجمهور أهل العلم على أن للسحر حقيقة مؤثرة قال الله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، فهم يضرون لكن بإذن الله جل في علاه.فالسحر له حقيقة مؤثرة، فهل تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر؟ سأتكلم عن عدة نقاط في سحر النبي صلى الله عليه وسلم:أولاً: إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر أثراً ونظراً.ثانياً: سأبين الشبه التي يعترض بها المعترضون على سحر النبي صلى الله عليه وسلم.ثالثاً: كيفية الرد على أهل البدع وشبههم التي ألقوها علينا لرد الحديث الذي في الصحاح.
إثبات أن النبي سُحر من قبل لبيد اليهودي
لقد ثبت سحر النبي صلى الله عليه وسلم أثراً ونظراً، فأما من جهة الآثار: فالأحاديث التي أسانيدها كالشمس تؤكد ذلك، ففي الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم (أن لبيد بن الأعصم اليهودي -عليه من الله ما يستحق- سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وألقى السحر في بئر ثروان)، وهذا الحديث صحيح بل هو في أعلى درجات الصحة. وفي بعض الروايات: (أن ملكين جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام الأول عند رأسه والآخر عند رجله، فقال أحدهم: ما بال الرجل؟ قال الآخر: مطبوب -يعني مسحور-، قال: من سحره أو طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم)، ثم ذكروا كيف شفاء النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه الآثار تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، ولذلك قالت عائشة: (كان يخيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي أهله ولا يأتيهم، وأنه فعل الشيء ولم يكن فعله)، وهذه الشبهة هي التي تعلق بها المفترون كما سنبين، والغرض المقصود هو أنه قد صحت الأخبار على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سحر وابتلي بالسحر بإذن الله جل في علاه.إن العقل السديد لا بد أن يوافق هذا ولا يمكن أن يرده، ولا غرو ولا عجب أن النبي صلى الله عليه وسلم يسحر ويبتلى بهذا البلاء العظيم، والعقل يقبله؛ لأن رسول الله خلق من ماء مهين، ولذلك قال: (ولدت من نكاح وليس من سفاح) بأبي هو وأمي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وإذا قلت بأنه بشر فهي مقدمة لها نتيجة لا أحد يعترض عليها.وقد وجد أناس يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور، وهذا أول حديث لهم، وأسانيده مهلهلة فهو حديث موضوع، وهذا الحديث فيه مسحة صوفية، وهو مثل حديث: (أن الله أحيا أم النبي صلى الله عليه وسلم فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام)، وكلامهم هذا باطل، فليس عندهم دليل ثابت، وأما نحن فعندنا الأدلة الواضحة الجلية التي تثبت لنا أنه خلق من ماء مهين، وعندنا قاعدة وهي: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
الأدلة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم
أما أدلة الأثر على بشرية رسول الله فهي كالتالي: لقد أمر الله رسوله أن يقول بصريح العبارة أنه بشر فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110]، فهل أمره أن يقول قل: إنما أنا ملك؟ حاش لله، وأيضاً قال الله تعالى وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، (من قبلك) يعني: من مثلك، وأيضاً قال الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ثم قال وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [الأنبياء:8]، أي: هم بشر يأكلون كما يأكل البشر، فليس لهم الخلد، وقول الله تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]. فكل هذه الأدلة تثبت بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأصرح هذه الأدلة أن الله أمره أن يقول قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف:110]، وأيضاً لما قالوا وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ*وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:8-9]، يعني: لا يمكن أن يكون هناك ملك بين البشر يدعوهم إلى الله، فمن حكمة الله أن يرسل إليهم بشراً مثلهم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر؛ لقول الله جل في علاه السابق، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح وليس من سفاح).إذاً: فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر فإنه يعتريه ما يعتري البشر ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، فإن رسول الله ينسى كما ينسى البشر، ويحتاج إلى الطعام لأنه بشر، ويحتاج إلى النوم لأنه بشر، ويحتاج إلى الجماع لأنه بشر، وتصيبه البلايا والرزايا بل قد يتعرض للقتل لأنه بشر، والبشر يقع عليهم السحر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر فيقع عليه السحر، ومن خالف هذه الحقيقة فليأتنا بالدليل؟ لأننا لا يمكن أن ننحيه من البشرية فهو يعتريه ما يعتري البشر، فهذه أدلة الأثر والنظر، والعقل لا يرد أن يسحر النبي؛ لأنه من البشر، وهذا من البلايا والرزايا، فهو -أي السحر- من الأمراض كالأوجاع والصداع والحمى والألم والسم الذي أكله النبي صلى الله عليه وسلم، فطالما أن هذه تعتري البشر، فهي تعتري أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم.إذاً: فقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وقد دل على ذلك الأثر والنظر، فنحن نعتقد أن رسول الله سحر من لبيد بن الأعصم عليه من الله ما يستحق، وبعد أن سحره لبيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أنه أتى أهله -أي: وطئ أهله- ولم يأت أهله، ويرى أنه قد فعل الشيء ولم يفعل هذا الشيء، لكن العقول الخربة لم تستطع أن تقبل ذلك، وقالوا: إن هذا يقدح في رسالته، وهذا الاعتراض اعترض به أهل البدع والضلالة كالمعتزلة، ثم قالوا: حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم باطل لأمرين اثنين:الأمر الأول: هو أننا لو قلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر فقد قدحنا في رسالته ونبوته؛ لأن الله جل وعلا كتب في كتابه أنه عصم رسوله، وإذا كان لبيد بن الأعصم الكافر يسلط على رسول الله إذا فهو غير معصوم، ولو قلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم كذبنا القرآن؛ لقول الله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
الأمر الثاني: قالوا: إذا فتحنا هذا الباب وقلنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر إذاً فكل حديث يأتينا فسنقول عنه ليس من النبي وإنما من تسليط الجن عليه، فلعل الجني غلب على عقل النبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه هذا الكلام، ففتحنا الباب لكل أحد ليطعن ويرد حديث النبي.هذا قول أهل البدعة والضلالة من المعتزلة وبعض المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، وأما المتصدي لهؤلاء الأشرار المبتدعة الذين يردون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بلا مبرر ولا داعي، -والذي أعلمه- أن الفضائيات قاطبة تكلمت على هذه المسألة وردوا الحديث بدون علم وقالوا: لا يصح أن نقول سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكروا هذه الشبه. فأقول: نحن أثبتنا بالأثر والنظر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر؛ لأنه من البشر، ويعتريه ما يعتري البشر، فالشبهة الأولى التي قالوها: بأن الله عصم نبيه ولو قلتم بأنه سحر فليس بمعصوم، وهذا قدح تام وصريح وظاهر في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا لهم: لا، بل هذا فيه دلالة على جهلكم وضعف نظركم وعدم التمييز بين المتشابه، وأنتم قد أُدخل عليكم من باب العصمة؛ لأنكم لم تفهموا العصمة فهماً دقيقاً لفهم العلماء الأسلاف الأكارم الأماجد.
أقسام العصمة
العصمة تنقسم إلى قسمين: عصمة في الوحي وعصمة في الظاهر، فعصمة الوحي، أي: في الباطن في العقل والقلب، وعصمة الظاهر، أي: في الجوارح، والدليل على هذا التقسيم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ [المائدة:67]، في سياق التبليغ، أذاً: فالسياق والسياق من المفسرات والمقيدات يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة:67]، فالله جل وعلا هنا أثبت العصمة في سياق التبليغ، وأما عصمة الجوارح، فإن الله جل وعلا لم يثبت هذه العصمة تصريحاً للرسول، قال الله تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فذكر أن الرسول قد يقتل كما قتل يحيى وزكريا، وفي هذا بيان من الله جل وعلا أنه لا يعصم رسوله من إيذاء البشر له، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد كسرت رباعيته، وكاد يقتل صلى الله عليه وسلم، وأصابه من الآلام والشدة ما لا يعلمه إلا الله جل في علاه، ولذلك لما ضُرب وألقيت عليه الحجارة وسال الدم من وجهه الشريف قال: (رحمة الله على أخي موسى قد صبر أكثر مما صبرت) فهو يبين أنه صبر على الشدة التي أصابته من أعداء الله جل في علاه.إذاً: فالعصمة عصمتان: عصمة في التبليغ بالوحي، وهي عصمة باطنة في القلب والعقل، وهذه أثبتها الله ولا يمكن أن نردها؛ لأن الله قال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] في سياق التبليغ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]. وأما بالنسبة للعصمة للظاهر والجوارح فإن الله يسلط أعداءه على أوليائه، لحكمة عظيمة وهي زيادة ورفعة درجات هؤلاء الأخيار الأفذاذ، وعند هذا التقسيم تنجلي الشبهة وينتهي الأمر، فهم قالوا: هذا قدح في العصمة وكيف يسلط اليهودي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلنا: هل سلط على الوحي والقلب والتبليغ أم سلط على الجوارح؟ وهل كان النبي يقول القول الباطل أو يقول القول الذي لا يفقهه؟ الجواب: لا، فإن لبيد بن الأعصم سلط على رسول الله حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخيل أنه أتى الشيء ولم يأتيه، وهذه في البدن وليست في القلب ولا في الوحي.
تعليق