سمير النفس وأنيس المحبين
إن الحبَّ قيمة إنسانية عظيمة، تجمعنا ولا تفرِّقنا، ورياضٌ يقطف منها الجميع زهراتٍ فائحةً لحياة فُضْلَى وأنقى، وسراج القلوب المنيرة بمعاني الصدق والفضيلة، ونبض خافق بالمشاعر المتدفِّقة، وفيض من العطاء العَذْب الرَّقراق يسري إلى القلوب الصادقة، ويتدفَّق في مجاريها الصافية، وينقشُ على بساطها زخرفة الفن الإنساني العريق الذي يتفوَّق على زخرفة الفن اليدوي؛ لأنه إنتاج شجرة الوِجدان الوارفةِ بنبضاتها الشادية، وإنتاج قطارة الحـبِّ الندية التي ترطِّب تجاعيد الحياة، وترتق تشققاتها الكالحة، فتنتشي الأرواح، وترشفُ من عناقيد الفرح المحلَّى بالشهد، وتتغذَّى من الرطب المدلى من عذْق القلب، ومن نخلته الغضَّة المثمرة، فتتطهر الأجساد من أنجاسها وأكدارها.
وحين يدرك الإنسان قيمة هذه المعاني، يتذوَّق تلك اللذائذ من الحب الخالص، تتمثَّلُه الجوارح في إقبالها على العبادة بخشوعٍ وإنابة، وفي ارتباطها الوثيقِ بقِبلة واحدة، واتجاه واحد: في الركوع السجود، والتلبية والتكبير، وفي خضوعها الكامل في الفروض والأركان، والدعاء في مواطن الاستجابة، بكل خَلَجات الأنفاس والنبضات، ونبرات الصوت، وقطرات الدم؛ ليخلد هذا الإنسان وجوده الحقيقي الذي عرف من خلاله قِبلته وطريقه وغاياته، فاستقامَ واهتدى، وتحلَّل من أدران آثامه وذنوبه، فخرج للدنيا مختلفًا عن عهوده الأولى.
إنه ميلاد جديد، وتاريخ مجيد، ينقشُ آثارَ وجوده في الذاكرة، وله انبعاثٌ وظهور مختلف في كل الفصول؛ ليظلَّ ذاك الحبُّ هو الشهدَ الذي يُحلِّي الألسنَ، فتجلجل بالذكر والدعاء، وهو سقاء الأرواح، وزهرة الحياة النضرة في أبهى صورها، وأصفى معانيها.
وله رسائل ينثرها عبيرًا في حدائق المحبِّين الأصفياء، تلون القلوبَ بألوان الورد، فتزهر النبضات في عرقها الضيِّق، وتصدح أغاريد الحب بموَّال الحنين والشوق، فترتقي المشاعر غيمات الفرح، وتستحم بهُطُولها، فتكتب الكلمات تاريخها، ولها في كلِّ فصل قصةٌ ترسم أحداثها على تشقُّقات الزمن، وتجاعيد العمر، وعند محطات العبور، فتتحرَّك الأنفاس، وتمدُّ طريقًا يصلُها بتباشيرِ الآمال، ويبلغها مرسى الأحلامِ؛ لتَزُفَّ إلى الأرواح فرحةَ اللقاء، وتُزيِّن محيَّا الطفولة والشباب بالبسمات، حاملةً أريجَ الذكريات الجميلة، ورائحة الحبر المراق على رسائل هؤلاء المحبِّين الأصفياء.
1 - الحبُّ إحساس فريد:
مهما كانت الأسباب التي تجعلك قريبًا من بعض الأشخاص فتَألَفُهم ويألفونك، وتجد فرحتك وانبساطك في حضرتهم، وسعادتك في وجودهم، وانشراحك في مجالستهم، والأنس بحديثهم، إلا أن المعنى المشتركَ بينك وبينهم هو الحبُّ الخالص، وهذا الحبُّ لا يحتاج إلى مبرِّرات، ولا أدلة تخاطب العقل، وترضي المنطق، ولا يحتاج إلى فلسفةٍ مُعقَّدة، أو قياسات رياضيَّة أو رقميَّة، أو حسابات مادِّيَّة، ولا يسير وَفْقَ نظام صارمٍ يلتزم بشروط وضوابط تنتظم في دائرة التقاليد والأعراف الاجتماعية والثقافية... بل هو إحساس فريد، ونبضٌ خافق ومتناغم مع وجدان صاحبه، يتدفَّق مع صبيب دمه، ويمتزجُ امتزاج روحه بجسده، وتغريد يشدو على أوتار قلبِه أجملَ الألحان وأشجاها، ويجذب صاحبَه حتى يتملكه حرًّا بلا قيود، ويسكن بداخله، ويحتوي أركانه وزواياه، ويسعُ مساحاته الرَّحْبة بكل أجزائه وتفاصيله، وأسراره ودفائن نفسه.
فيظل يُردِّد مع أنفاسه:
معك يحلو الكلام ويزهر في حدائق المحبِّين، وتختال الحروف والكلمات على أوراق الورد، وتتذوَّق من قطارة الروح رحيقًا يمد وصلها بالنبض، ففي محرابِك يجودُ اللسان بنثرٍ من شَذاك، ويشدو كروان الروحِ بأغرودةِ الصباح.
2 - الحبُّ ليس اختيارًا يَحكمُه العقل:
الحبُّ ليس اختيارًا أو قرارًا تصدره الفصول والدساتيرُ وَفْقَ شروطٍ وقوانين وأحكام إلزاميَّة، بل هو يُولَدُ على فطرته النقيَّة، يتمثَّل طبيعته الخالصة في وجوهِ الأطفال، وتقاسيمهم الفتيَّة، وفي أحلامهم الناعمةِ كأحلام الرُّعاة، لا كأحلامِ الحضر المُتْرفين؛ لأنها تظهر وتختفي خلف أستار التسالي الجميلة، والرغبات الساذجة، والآمال المعلَّقة على ما أسدل بينهم وبين الدُّمَى والألعاب التي لم تبلغها أيديهم الصغيرة، وما حجب عن أبصارهم من صور يخالونها من بعيدٍ بحجم القمر، يترقَّبون ظهوره ليخطفوا منه نظرةَ حُسْنٍ وبهاء تساوي كلَّ السعادة، في ذاكرة لم تتَّسِع بعدُ لمساحة الأحلام والآمال العريضة، وفي قلوب لم تنمُ فيها الرغبات الشامخة شموخَ الجبال العالية، ولم تقترب منها المطامع العظيمة، فيكفيهم أن يستقبلوا النهار بغِبطة، ولا شيء يشغلُهم غير انبساطهم بأشيائهم القليلة والرخيصة في عيون الكبار، ولا شيءَ يثقل كاهلَهم إلا حقائبهم المدرسية، بما تحويه من كتب، وكُنَّاشات، ودفاتر، وأقلام، ويكفيهم أن يستقبلوا الليلَ باطمئنان ونفس راضيةٍ، فتسكن أجسادهم إلى الراحة بعد التعب، وتبدأ فصول الحَكايا ترويها لهم الجدَّات، وبين كل حكايةٍ وحكاية يخيِّم صمت طويل، تتحرَّك بين أسفاره تراتيل التسبيح والذكر، على شفاه ملأَتْها تجاعيد الزمن، فرسمت على حُمْرتها الذَّابلة ابتسامة رزينة لا تَسطَع إلا ويعتريها الكسوفُ؛ لتنبئ عن تلك الحكمة التي صقلتها الأيام، فجعلتها أنفذ بصيرة، وأدقَّ فطنة، وأصفى ذهنًا كالمرآة المصقولة؛ تبصر في لَمَعانِها وصفائها أدقَّ التفاصيل الخفيَّة، وأحلى حديث يجذب إليه آذان أولئك الأطفال المنعمين في إصغائهم، وعيونهم يشعُّ منها بريق الذكاء الوقَّاد، والفطنة التي لم يبلغها البؤس والشقاء، فتخبو وتنطفئ نفوسهم الوادعة الهادئة، ويظل هكذا حالهم؛ يتقلبون بين مسرَّات الحب الصافي، والفرح الغامر، فتنشرح قلوبهم بالبشر والسرور...وهذا الحبُّ لا يَكبَرُ ولا يشيخ كما تشيخ الوجوه وتترهل، وليس فيه اعوجاج أو التواء، أو انحراف عن الجادَّة، بل يطول امتدادُه ومقامه في القلوب، كما يطول سريانُه اللَّطيف مع النَّسَمات والعبير، والأنفاس في الشهيق والزفير، حين تَتَّصِلُ الصُّحْبة والرفقة بالوفاء والوداد والأنس، ويشد وثاقه بسارية الشموخ والاعتزاز، لا الجموح والجنوح إلى نكوث العهد، وإخلاف الوعد.
فنحنُ لا نكبر حينَ يكون القلب صغيرًا كالبرعم، والحنين يمدُّ وصل الجذر بالمنبت، فتظل فصولنا حُبْلَى بأوراق من زمن الورد، ونقاط الربيع تلهثُ، والكلمات والحروف تتوق إلى ميلادٍ جديد يصل القلوبَ بصِلاتِ الفرح، فيسطَعُ النور الساري في الأعماق، ويمتد إلى أقصى مداه في القرب والبعد بلا انتهاء.
3 - الحب بين الدهشة والمواجهة:
الحب شعور إنساني، يبدأ بالدَّهْشة في مواجهة أمر حادثٍ، لم يعرف حاملُه طبيعته وأنماطه الذوقية والوجدانية إلا حين تَلْفَحُه رياح تأثيراته، فلا يستطيع منها فكاكًا.
وهذه الدهشة تتملك القلب عندما يواجه تحدِّيًا عسيرًا ومفاجِئًا؛ كتلك الدهشة التي تملَّكت رفاعة رافع الطهطاوي (ت 1290 هـ/1873م) حين عاش ذاك المنعطفَ الكبير، حينما سافر خارج مصر لأول مرة سنة (1242هـ /1826م) إلى فرنسا ضمن بعثة علميَّة أرسلها محمد على؛ لدراسة اللغات والعلوم الأوروبيَّة الحديثة، فأمام تلك الحضارة الغربية في تجلياتها، وفي استيعابها لمظاهر المَدنيَّة المتفتِّحة على النظام في الأكل والشرب، ومظاهر الحياة الغربية المتحررة من تلك التقاليد العربية الإسلامية، التي تجمعها روح الجماعة والروابط المتينة التي تؤلف بينهم، فتجدهم يأكلون من صحن واحد، لقيمات تتشابك فيها الأيدي بالأيدي، كما تتشابك القلوبُ بالقلوب، وتَتَّحِدُ الأرواح بالأرواح، ويضمُّها الحب والوئام، والمودة والرحمة، ومشاعر أخرى عميقة، لا يجدُها الأفراد في ذاك النظام الصارمِ، الذي يفصل الصُّحون وأكواب الماء النظيفة، ويُوزِّعُها بحسب أعداد الأفراد، ومجموعاتهم المتفرِّقة.
وهذه الدَّهْشة هي التي قادته كذلك إلى الشرود خارجَ سِربه، وساقت عيونه المتطفِّلة إلى اكتشاف كل ما هو جديد وغريب من مظاهر وأنماط العيش المختلفة عن واقعه وبيئته، ومشاهداته اليومية، من متاحف، ومعارض، ومكتبات عامة...وكذلك الدهشة في الحب تقود القلب إلى ما يهوى ويعشق، فيتجاوز العقل المتطلع للنظام والترتيب، وموافقة ما يناسب المَنْطقَ والإدراك، ويحقِّق الإقناع بالأدلة والشواهد، والتجارب والاستقراء.
بل تجدُ هذا القلب يقفزُ خلفَ أسواره وحصونِه، في محاولةِ امتلاك ما يأتي بعدَ الدهشة من تأثيرات، والدخول إلى ذاك العالم الجديد والغريب، الذي يحمل خطاه إلى مسالك تُخُومِه ورياضه، وتحصيل التطلع إلى جَنْيِ قطوفِه وثمارِه...
وخلال هذه المرحلة يَحُلُّ الاضطراب محلَّ الدهشة، فيخال المحبُّون أن تلك المشاعر التي تعتريهم هي فروع من شجرة الخلد، أو نبع الحياة الذي لا ينضب، وما أكثرَ تلك الرؤى والأخيلةَ في قلوب والهةٍ تنساق خلف التقليد والإعجاب، فتنفصل عن كل ما يشدُّها إلى الثبات على المبدأ، والتمييز بين الحق والباطل، والموازنة والتوسط بين إعمال العقل والانجذاب إلى تأثيرات القلب!
وحين يتجاوز الوِجدان مرحلة التقليد بعثراتها وانحرافاتها، وتموُّجاتها وسعارها الشديد في بداية نشوء تلك المشاعر وميلادها، يصير إلى مرحلة أخرى، تستقيم خلالها العواطفُ الجامحة على جادَّة الطريقة المُثْلَى، وتستوي على ساقها، ويشتدُّ عودُها، ويقوى ريحُها، ويهدأ جنوحُها وجموحُها، وتَنضَجُ ثِمارها، لتصل النفس إلى مرحلة أسمى وأرقى، هي مرحلةُ الإبداع والتحرُّر من التقليد، ويبدأ القلب والعقل يعملان معًا، ويتفاعلان في انسجام، بعيدًا عن حساسية الجانب الوجداني، والنزعات الذاتية الضيقة.
وهنا يتحوَّل الحبُّ من شعور وِجداني فردي لا يتجاوز العلاقة الثنائية، إلى شعورٍ يتحدَّى الأنا والآخر، وينشد غايات أسمى، تشملُ الحبَّ الذي يؤسس لبناء الأسرة الصالحة، التي ستكونُ نواةَ المجتمع الصالح، وبناء الجيل الصالح، الذي سيُقيم قواعدَ الحبِّ على أسس تحترم القيم والفضائل، والأصول والثوابت، وتحترم قبلَ كلِّ ذلك أحكامَ الدين والشريعة، ومقاصد الوجود التي تشمل الأفراد جميعًا، ضمن غايات الوجود الكبرى، التي تحافِظ على الشرف والمبدأ، كما تحافظُ على ممارسة الحريات الملتزمة بضوابطها، غير المتفلِّتة من عِقالها، ولا الشاردة وسط مزالقِ الدُّروب الوَعْرة، التي تسوق الإنسانية إلى مثواها الأخير.
4 - الحب بين التحدي والمقاومة لتغيير نظام الأشياء:
قد يتحوَّل الحبُّ عن غاياته؛ حين يدخل في قوالب شعرية، ذات طقوس معرفية مختلفة، لا تخشى الاقترابَ من الأفكار ولا المشاعر، ولا ممن يحملونها على اختلاف تلوُّناتها، وتوجهات مذاهبها وفلسفاتها، ولا تهابُ أن تدخل إلى قلب المعركة الفاصلة بين الماضي والحاضر، والحقِّ والباطل، أو أن تَلِج إلى قلب الصراع بين الرأي والرأي المخالف له ونقده، أو الاكتفاء بالثبات على التصور التقليدي، والمحافظة على التراث، أو إحداث ثورة تنتج قراءة جديدةً، منفتحة على ثقافة حديثة.
فنتفاجأ بصورة جديدة للحبِّ، لا ندري من أين انبعثت!
إلا أنها تحمل ما هو مخالف لتصوُّرنا الكلاسيكي في التعبير عن ذوات النفس، والحديث عن مواجد شخصية، فيصبح الحبُّ ذا معانٍ مرتبطة بنظم القصيدة، تحمل عُمق المَزْج بين "الإحساس" وبين "الفكر"، في اعتراف غير مباشر خارج منصَّة القضاء والمرافعات، وخارج تلك العَلاقة التي تربط بين الأصدقاء؛ لأنها تتلوَّن بتلك الألوان التي يحملها الناظم والشاعر داخل نسيج الروح والنفس والفكر، وما تتقاذَفُه من تجاذُبات معرفيَّة وثقافية وفلسفيَّة، وما يرفُّ له قلبُه وعقلُه من أفكار وأحاسيس، وخواطر ورؤًى، وما يتمثَّلُه شعرًا، وتمثُّل الشعر كما يتصوَّره الشاعر صلاح عبدالصبور هو: "اعترافٌ بمعنًى مكثَّف؛ ولأن تجربة الشاعر تجربة متعدِّدة الجوانب، ولدى كلِّ شاعر ما نسمِّيه بـ"مخزن"، هذا المخزنُ هو ما نُسمِّيه ذكرياته، وقراءاته، وأفكاره، وما عاينه، وكل ما مرَّ به في حياته، وهذا المَخْزن غير مرتَّب، ولكن ما يكاد الشاعرُ يَلتقِطُ مطلع القصيدةِ، ويبدأ في نظام قصيدتِه، حتى تتكوَّن حول هذا المطلع عشرات الأفكار والصور، كأن هناك إناء فيه مادَّة مشبعة، أو فوق مشبعة، مُذابة في ماء، فكأنك ألقيت في وسط هذا الإناء حبلًا تتجمَّع حولَه كلُّ هذه البلورات، متَّخِذة أشكالًا غريبة لامعة، ويأتي هذا من غنى الشاعر الداخلي، غِناه بالثقافة وبالتجربة، وبالإحساس وباللغة..."[1].
كما تحمل صورة الحب لدى الشاعر معاني تتحدَّى النمطيَّة في بثِّ الإدهاش والإعجاب، لتنقل بين تلوُّناتها وأشكالها المختلفة صدى تلك الروح الوثَّابة، وصوت الإنسان وهو يتحدَّث، ويحلم، ويفكِّر، وهو يستعمل اللغة كفنٍّ من فنون التعبير، وإضاءة تشرق على الحياة، التي يحتويها القلب والوِجدان كما العقل والإدراك لتقديم صياغة جديدة.
فكلُّ شاعرٍ وهو يكتب عن الحبِّ تجِدُه يبحثُ عن تلك الصياغةِ الجديدة، لتغييرِ نظام الأشياء من حولِه، وهنا تظهرُ شخصية الشاعر "نزار قبَّاني" كنموذجٍ للشاعر الذي طالما تغنَّى ونظم قصائدَه في دائرة المرأة، باعتبارها مصدرَ إلهامه، ووطنه الذي يحلم أن يحرِّره من كل القيود، وإن كان وطنًا حرًّا لم يستعمر، والأرض التي كان يجتثُّ منها جذور الهُوية الشرقيَّة والعربية والإسلامية؛ ليصنعَ لها هُويَّة مختلفة يستوردُها من الخارج، وكانت وسيلته ومبتغاه إلى غايته هي الكلمة، بعد أنْ فشِل أن يكون موسيقيًّا أو رسَّامًا، وقد ذكر ذلك وهو يتحدَّث عن نفسه، فقال: "لم يكن صوتي جميلًا، ولكن كل إنسان يتصوَّر أن صوته جميل، كنت أشعر ذاك الحين أنه يمكن التعبير بالموسيقا عن النفس الإنسانية، وحاولت بالفعل أن أتعلَّم الموسيقا، لكن ثبت لي أني سأكون موسيقيًّا فاشلًا، وأنا لا أقبل أنصافَ الحلول، فانتقلت إلى الرسم، غرقت في الألوان والأصبغة واللوحات، وكنت أرسم حتى حِيطان البيت، بعدَ عامين من الرسم بالألوان والأصباغ، بعدهما كنت في الخامس عشر من عمري، ثبت لي أن اللون أخرسُ؛ يعني:
ليس له لسان، مثلما الموسيقا يجب أن تتابعها بالإدراك النفسي، وليس باللَّمْس، عندئذٍ اكتشفت أن الكلمة هي مبتغاي، شعرت أن الكلمة هي الأقدر على أن تعبِّر عن عواطفنا؛ لأنها لغة الإنسان للإنسان، وهي لغة مباشرة، ليست لغةً محدودة، مثل الموسيقا أو الرسم، وهكذا انتقلت إلى الشعر..."[2].
لهذا نجدُه يُعبِّر بالكلمة شعرًا وهو يتغنَّى بالحب، ويعتبره نوعًا من التحدي والمواجهة، ونوعًا من النقد لما أسماه بالقوانين الجاهزة، والأفكار الحجرية، لإيصال صوت الحقيقة إلى الناس.ولكن أية حقيقة هذه التي كانت تغريه بأن يغامر بالشعر، ويثور ويصول ليغير نظام الأشياء من حوله؟!
إنه "الخروج عن المألوف"؛ لأن وظيفة الشاعر في تصوره الخاص، وفلسفته الثورية هي: "أن يكون قنبلةً موقوتة، توضع تحتَ سرير أهل الكهف، وتحت أسرَّة المتخلفين والانكشارية"[3].
بل إنه "الخروج على القانون"، إنما على أي قانون هو خارج؟
الجواب عن هذا السؤال يظهر من خلال عرض تأملاته الخاصة، حين يتحدث عن شعره فيقول: "لا شعرَ حقيقيٌّ إلا في الخروج على القانون، والقانون الذي أخرج عليه هو القانون البالي، القانون الخطأ، القانون الذي يحاول أن يُبقيَ الإنسان العربي واحدًا من أهل الكهف، مستسلمًا للغيبوبة، وهذا يرفضه الشعر..."[4].
وأكثر من ذلك أنها "ثورة تغيير" تسعى إلى أن تحدث تحوُّلات كثيرة، وتنتج تأثيرات في المنطقة العربية، ومهما وجدت من مقاومة أو مواجهة من طرف من أسماهم بـ"أهل الكهف"، أو معارضة من أولئك الذين لا يريدون للحياة العربية أن تتطور، فلا بدَّ من تحقيق التغيير المنشود، ومواصلة الكفاح في منطقة عربية، كان يرى أن لها قوانينَها الجاهزة، ولها طقوسها واحتفالاتها؛ لأن الشعر من وجهة نظره هو: "صراع وتحدٍّ"[5].
وهذا يعني بالنسبة له: "أن كلَّ كلمة مكتوبة لا بدَّ أن تصل، ولا بد أن تشعل حرائق، ولا بد أن تغيِّر التركيب الأساسي للإنسان العربي"[6].
لأنه في اعتقاده "لا جدوى للشعر بدون تغيير للنظام العام، بما في ذلك حرق كلِّ الأوثان، واقتلاع الخرافات من جذورها، وفضح التمثيلية الزائفة، وفضح الممثلين..."[7].
وبالتالي فالشاعر "نزار قباني" كان على خلاف مع غيره ممن كانوا يقولون: "إن الثورة يجب أن تبدأ اقتصادية، أو اجتماعية..."، فكان يرى: "أن الثورةَ ينبغي أن تبدأ بتحريرنا لأنفسنا ولأجسادنا..."[8].
وهنا تتحوَّل الثورة من تغيير النظام العام إلى ثورة للتحرُّر من الدين والتقاليد والأعراف الاجتماعية، ومنظومة القيم والأخلاق، والانسلاخ عن الأصول والثوابت، واتَّخذ المرأةَ هي البطلةَ التي ستؤجِّج مشاعر القصيدة، وتبعث إلهام الفكرة، وتحرك مخاض القلم، وعاصفة الحب؛ لأنه كان ينظر إلى المجتمع العربي على أنه مجتمع متخلِّف في مرحلته، وبالتالي لا يمكنُ أن يتقدَّم ولا أن ينهض، ولا أن يتحرَّر إلا إذا تحرَّرت المرأة، بل هو يفتخرُ لأنه استطاع أن يعبِّر عما يختلج في ذاتها، وتولى ترجمة عواطفها، وترجمة ما تريد أن تقولَه، ولأنه طرَح أوراقها بقوَّة وشجاعة على المائدة.وهكذا سخَّر شعره ليُحرِّر المرأة، وصار يرى نفسه هو المسؤول عن إنقاذها، وهو من سيخلع عنها القيود والأغلال، وأكَّد على ذلك في غير مناسبة فقال:
"مضَتْ عصور على المرأة وهي محبوسة في زجاجة، ومختوم عليها بالشمع الأحمر؛ يعني: ممنوعة من الكلام، ومن التصرف، وهكذا حاولت في شعري أن أنقذها من هذه الورطة، ومن هذه الزنزانة الانفرادية؛ فأنا أعتقد أن المرأة مخلوق يُعادِلُنا ذهنًا وعقلًا، وأحاسيس وشعورًا..."[9].
ولم يكتفِ بذلك، بل صار حجمُ المرأة يَكبَرُ بالنسبة له، حتى صارت "بحجم الوطن"، وهي الغاية التي يطمح إلى أن يصل إليها كما الشعر كان هو غايته، ومن خلالها كان يتحدَّث عن الحب بكل ألوانه، وعن مختلف القضايا، دون أن يجرد المرأة من تلك "القداسة" إلى حدِّ الإفراط في التعري، والانسلاخ عن كل ما يحفظ للحب عِفَّته وطهارته، ويحصن المرأة من التحرر الساقط، الذي لم يكن إلا ثورة لنشر الفوضى، وانحرافًا عن تطبيق النظام، ومخالفة الطبيعة والفطرة والهُوية.
5 - الحب ارتقاء وفضيلة:
الحب يسمو بأخلاقك، ويرتقي بأفكارك ولغتك ومنطق لسانك، وهو مخاضٌ عسير يخرجُك من رَحِم الحياة الضيِّقة إلى حياة فُضْلَى برَحابتها واتِّساعها، فيظهر أفضل ما تحمله بداخلك من مشاعر وأفكار، وخواطر وأحلام، وذكريات واختيارات ذوقيَّة وتعبيرية، وكلما كان حبُّك عظيمًا سيسع القلوب بلا سدود، وسيرحل بك خارج الأسوار وخارج الحدود، وتسافر روحك إلى أبعد مكان لا تحملُك إليه خُطاك البطيئة، ويتحرر عقلك فيسع الأفكار العظيمة، ولا يأخذك الخُيَلاء فيسلبك لبَّك الرشيد، وينحرف رأيك السديد، وترتقي مراتب المجد بأسباب الطلب، ويزدان تفكيرك بتحصيل العلوم والمعارف، فتتعلم كيف تفكِّر قبل أن تتكلَّم، وكيف تكتب وتناقش، وتحلِّل وتُعلِّق، وتختار وتُقرِّر، ومتى توافق وتعترض، وتتعلم ألَّا تتعجَّل في إصدار أحكامك بلا إقامة الحجج الباهرة، والأدلة الراجحة.
فالحبُّ والعلم لا يُوهَبُ إلا لمن رفع مقامه، وسما به في العلياء، وملكَه بحقِّه، وأنصف في وُدِّه، وبذل له أنفس أوقاته، وسلك به طريق التعقُّل والتفكر والمشاهدة والتحقيق، ووضع يده البيضاء على ما بين العقل والحس والوِجدان من الحكم والحدود، وجمع بين الروح والمادة، والعلم والعمل، برباط وثيق الوشائج، يشد عضدها، ويصلها برسالته النبيلة في الحياة بفضل قوة الدين، والتدين الصحيح، والروح العلمية الوثَّابة.
وفي الختام:
إننا لا نلتقي في الحياة عبثًا، ولا لمجردِ إشباع الرَّغبات والنزوات الجامحة، أو لتلبية المطامع التي تسكن أرواحنا؛ بل لأجل تلك الحقيقة التي تمتلك مشاعرنا، وخواطرنا، وتفكيرنا بالكامل، وتصنعُ بداخلنا انجذابًا فريدًا تجاه بعض الأشخاص، ممن امتلكوا من القيم والفضائل بكَدْحِهم في الحياة، وجهادهم وصبرهم على الشدائد والمِحَن، واحتفاظهم بطبائعهم، وصفاتهم الإنسانية، وفطرتهم النقية، ومن ارتقوا بالحبِّ الخالص الصادق مقامات أعلى وأشرف منزلة؛ فتحرروا من التوغُّل في ملذَّات الدنيا، والإقبال على شهواتها، والانهماك في طلبِها وطَرْق أبوابِها.
وتلك الحقيقة ندركُها لحظة اللقاء قدرًا حتميًّا يؤلف بين الأرواح التي تجسد أجمل معانيها، وتوقد مشاعلها النورانية، لتجلب إليها مزيدًا من القلوب اختيارًا ورغَبًا في وجودها في الحياة السعيدة...
د. صفية الودغيري
[1] آخر حوار مع صلاح عبدالصبور، أجرى الحوار: حسان عطوان، أكتوبر 1981م: في ظل الذاكرة، حوارات ونصوص من أرشيف "الدوحة"، العدد 100، فبراير 2016م: ص: 228 - 229.
[2] نزار قباني يتحدث في يوليو 1976م: في ظل الذاكرة، حوارات ونصوص من أرشيف "الدوحة" العدد 100، فبراير 2016م: ص: 38.
[3] نزار قباني يتحدث في يوليو 1976م: ص: 35.
[4] نزار قباني يتحدث في يوليو 1976م: ص: 36.
[5] نزار قباني يتحدث في يوليو 1976م: ص: 36.
[6] نزار قباني يتحدث في يوليو 1976م: ص: 36.
[7] نزار قباني يتحدَّث في يوليو 1976م: ص: 36.
[8] نزار قباني يتحدث في يوليو 1976م: ص: 39.
[9] نزار قباني يتحدث في يوليو 1976م: ص: 40.