السحر في الإعلام وخطره الداهم
لايشك عاقل في مدى تأثير أجهزة الإعلام المتنوعة في صياغة الفكر وتوجيه اهتمامات المتلقي على اختلاف الأعمار والطبقات ، وقد تحول الإعلام خلال القرون الماضية من وسائل بدائية تتطلب درجة من الحس الفني والفهم تُوجه - في الغالب - إلى الراشدين من أبناء الأمم إلى وسائل تستهدف جميع شرائح المجتمع - بلا استثناء - وتعمل على الإثارة الحسية وشد الانتباه وهو ما يتطلب أدنى مستوى من إعمال الفكر ، بل إن من الوسائل الإعلامية ما يكون تفاعليا ، يغيب المتلقي عن عالمه المحيط ويعيش في عالم من الخيال الذي لا يخلو في كثير من الأحيان من قوادح عقدية ومخالفات شرعية يتشربها تدريجيا دون أن يشعر . ومع انفتاح العالم وثورة الاتصالات لم يعد للحدود الجغرافية دور في تحديد الجهة المؤثرة في المجتمعات ، بل أصبح « التأثير للأقوى « ، و لا شك أن الأقوى إعلاميا وتقنيا في عصرنا الحاضر هو العالم الغربي .
أسعى من خلال هذه المحاضرة الإشارة إلى بعض الأخطار العقدية التي باتت تهدد حصون التوحيد ، وتشكك في ثوابت الدين عبر المرئي والمسموع والمقروء من وسائل الإعلام . إن هذه المحاضرة هي بمثابة النافذة التي أرجو أن تمُكِّن الشريحة الفاعلة في المجتمع الإسلامي من الاطلاع على بعض ما يعرض في تلك الوسائل فتتحقق بذلك الأهداف التالية :
العلم : فالعلم بالشر هو أول خطوة في التصدي له ، وقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ) ، وقال عمر رضي الله عنه : ( إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ) .
التوعية : وتكون على مستويين : على مستوى العلماء وطلاب العلم إذ لا بد من تواصلهم مع الواقع ومعرفة ما يتداوله العوام فيتركز خطابهم على ما يعم بلاؤه وتدعو إليه الحاجة . ثم على مستوى سائر أفراد المجتمع لتتكون لديهم الحصانة الفكرية الشرعية التي تسهم في تمحيص الوافد والمحافظة على حوزة الدين .
التغيير : وهو المقصود من العلم والتوعية ، ويكون على كل من ولاه من أمر المسلمين شيئا ، بدءا بأعلى مسئول في وزارة الإعلام وحتى الأم المربية في بيتها ومرورا بالتجار وأصحاب المنشآت ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته ] أخرجه البخاري ومسلم .
وهنا سؤال يطرح نفسه : لماذا لا يُكتفى بالتغيير ؟ فإذا كانت هذه المخالفات العقدية الخطيرة تُبث من خلال تلك الوسائل فلماذا تبقى متاحة ؟
إن التغيير - بلا شك - أمر مطلوب ، وهو واجب بقدر المستطاع ، ورغم تمكن بعض الأسر من إخلاء بيوتهم من الوسائل الهدامة ، أو ضبطها بما يتوافق مع الشرع إلا أن التغيير على المستوى العام قد يكون متعذرا في كثير من الأحيان ، وإن كانت المطالبة بمنع بيع أفلام الفديو والـ دي في دي أو حجب المواقع الإلكترونية المنحرفة وتشفير القنوات الفضائية المفسدة مطلب شرعي ومسئولية تتحملها أعلى مستويات المجتمع ، غير أنها تحتاج إلى إرادة وجهود جبارة ، كما يحتاج تفعيلها إلى مدة من الزمن ، بل قد يرى بعضهم أن ذلك متعذر في هذه المرحلة من عمر الأمة ، ولذا كان من اللازم تخفيف الشر بحسب الإمكان والبدء في التغيير بالأخطر فالأقل خطورة .
ومعلوم أن ألزم ما يجب حفظه هو التوحيد إذ لا ينفع مع انتفائه عمل ، دون إغفال الاستقامة في السلوك وحفظ الجوارح والعمل على الذب عنهما معا .
السحر في اللغة:
هو كل ما خفي ولطف سببه (لسان العرب 6 / 189 - ابن منظر ، و القاموس المحيط 519 - الفيروزآبادي ) .
أما في الاصطلاح فإن للسحر إطلاقان :
السحر الحقيقي: وقد عرفه ابن قدامه رحمه الله بأنه : « عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه ، ليعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له ، وله حقيقة فمنه ما يقتل ، وما يمرض ، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه ، وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يحبب بين اثنين » ( المغني 10 / 104 - ابن قدامة) .
السحر المجازي: وهو ما يسميه بعضهم الشعوذة أو الشعبذة . قال في القاموس المحيط : « الشعوذة خِفّـة في اليد، وأخذ كالسحر ، يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين » (القاموس المحيط 427 - الفيروزآبادي ) وهو عبارة عن حيل وتمويهات وخداع يشبه خارق العادة وليس كذلك على الحقيقة ، ويكون بالاعتماد على الخواص الطبيعية لبعض المواد ( التي يجهلها عامة الناس) ويسمى السحر التمويهي ، أو على خفة اليد والخدع البصرية ويسمى السحر الرياضي .
أما القسم الأول ( السحر الحقيقي ) فقد ذهب جمهور العلماء إلى كفر فاعله سواء أتى بمكفر أو لم يأت ، حيث اعتبروا مجرد فعله للسحر كفر مخرج من الملة ( فتح الباري 10 / 225 - ابن حجر ):
لقوله تبارك وتعالى :
[ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ] إلى قوله : [ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ] ( البقرة : 102 )،
وهو من أكبر الكبائر والموبقات بإجماع الأمة .
وأما القسم الثاني فقد تتابعت أقوال المتقدمين والمعاصرين على منعه ، لما فيه من التلبيس والخداع واستمراء الناس لما يشبه خوارق العادات ، حتى أنه لو عرض عليهم السحر الحقيقي لقبلوه ولم يجد عندهم نكيرا ( وقد وصل الأمر ببعض المشعوذين إلى ادعاء محاكاة معجزات الأنبياء ! حيث قام ساحران من المملكة المتحدة ( باري و ستوارت ) بتقديم برنامج بعنوان : سحر عيسى ، وآخر بعنوان : خدع من الإنجيل . ).
قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في معرض الحديث عن هذا النوع : « .. ولا يجوز للمسلم أن يحضر هذا الدجل و الشعوذة أو يصدق بها ، بل يجـب إنكار ذلك ويجب على ولاة المسلمين منعه و التنكيل بمن يفعله و لو سمي لعبا و فنّاً فالأسماء لا تغير الحقائق و لا تبيح الحرام » ( كتاب الدعوة ( 6 ) 42 - صالح الفوزان ) .
فحكم الشرع ظاهر في تحريم السحر بجميع أنواعه ، ولم يلتفت الشارع إلى نية الساحر أو المسحور له في تقرير الحكم ، إذ السحر كله خبيث ، ولا وجود للسحر الطيب في المنظور الإسلامي .
ولكن هذه الثوابت - التي تربى عليها أبناء هذه البلاد منذ نعومة أظفارهم - أخذت تتزعزع مع الهجوم الإعلامي الشرس المصبوغ بصبغة « العصر الجديد».
لقد لعب السحر دورا بارزا في وسائل الإعلام الترفيهية في العالم الغربي منذ زمن طويل ، ولكن توظيفه في الإعلام قد تدرج فيما يمكن تحديده بثلاث مراحل تتفاوت في الخطورة والتأثير.
وهي وإن كانت تتداخل في بعض الأحيان من الناحية الزمانية ، إلا أنها تمثل توجهات متمايزة يحمل كل منها طابعا خاصا .
يتبع..
تعليق