ناداني جدي رحمه الله ذات ليلة وقال : يا عبدالرحمن ألا تحب سماع قصة هذه الليلة قبل أن تنام ؟
فأجبت بلا تردد : بلى يا جدي ، فقصصك مثيرة وجملية .
فقال : اجلس فهذه الليلة سأقص عليك قصة عجيبة حدثت قبل سنوات لعلها في عام 1331هـ ، تعرف يا صغيري أننا قبائل شمال الجزيرة كثيرا ما ندخل للشام طلبا للأمطار فالمطر قليل عندنا ومنابع الماء شحيحة في الجزيرة ، وفي سفرة من الأسفار وبعد أن أطعمنا الإبل والغنم ، وأخذنا قسطنا من الراحة ، دخلت قرية من تلك القرى أرى أسواقها فأبتاع ما احتاجه ، فإذا برجل يصرخ بأعلى صوته : يا أيها الناس إن نادية .. (قال جدي نسيت هل قال : بنت بدر أو بدير) نعم كان صوته عالٍ وهو يقول : إن ناديه محسوبة على قريتنا وهي تدعو إلى الفسق والفجور ، وتستحق التعزير ، وأقله طردها من بلادنا .. أيها الناس إنها أفسدت بناتنا وأخواتنا .. ألا عاقل ينتفض لله وغيرة على دين الله ..
أيها الناس لو كانت عاهرة فقط لكان أمرها أيسر ، ولكنها داعية عهر وزنا وفجور ...
وطال كلام الشيخ الوقور .. والناس يسمعون كلامه وهم يحوقلون ويسترجعون ، وسمعت أحد الباعة يقول : كان الله في عون الشيخ !!.
فذهبت له وسألته عن الخبر ، فقال : أنت لست من هذه القرية ؟
فقلت : لا
فقال : أجلس أحدثك ، ولا ترفع صوتك كثيرا !.
وبدأ يقول : منذ سنوات قليلة صار مختار القرية رجل ضعيف الإدراك تحكمه زوجته وبناته ، وحوله جملة من الرجال سيئ السمعة من المفسدين ، لصوص سرّاق ، وينشرون الفجور بين الناس ، ومن جملتهم الفاجرة العاهرة التي تكلم عنها قاضينا !
فقلت : ذلك الرجل هو القاضي ؟!!!
قال : أخفض صوتك .. نعم قاضيا الرجل الصالح الغيور ، بشير بن طرفة ، يعرفه القاصي والداني ، جميل الخلق حسن المعشر كريم اليد ...
قلت: واعجبا قاضي ولا يقدر على من نعتها بالعاهرة؟!!
قال : نعم .. فهي محمية .. سكت البائع قليلا وهو يتابع بعينه رجل يمشي في السوق .. ثم قال: جاء الفاسق سبع بن فهدان !!!
فقلت : من هذا ؟
قال : سترى
فإذا بالرجل الذي نعته بالفاسق يعتلي صخرة ثم يقول : ايها الناس .. لا تسمعوا لهذا القاضي .. فنادية امرأة فاضلة عفيفة شريفة كما تعرفون .. ولها حق المقام في بلادنا كأي مواطنة أخرى ، بل لها حق مقاضاة هذا القاضي المتطرف .. أيها الناس ..
وبدأ يثني على المرأة ويذم القاضي .. ويؤجج الناس على قاضيهم
قال البائع : ألا يستحي هذا الخبيث من كلامه ، وكيف يحامي عن هذه الفويرة الفاجرة والله يقول : (ولا تكن للخائنين خصيما) .. لكنه الخسة والدناءة وحب الدنيا عياذا بالله
فقلت له: كيف حب الدنيا ؟
فقال : أكيد أنه طمع بمبلغ من هذه الـ ... ، أو أن رجال المختار حركوا هذا الدمية ليحامي عنها !
قلت : فقريتكم صارت بهذا السوء ، يهان فيها القاضي ، وتحترم هذه الفاجرة ؟؟!!
قال : نعم أيها الغريب .. بلادنا التي كانت مقصد الناس لطلب العلم ، وطلب الرزق ، ولكن صارت الآن وكرا للفجرة والفسّاق ، وعلا صوت العاهرات على صوت الشريفات .. ، بل علا على كل صوت !
بلادي يا سيدي صارت لعبة بيد زمرة خسيسة أشبه الفئران ، دمروا كل جميل وحرقوا كل فضيلة ...وبات الناس في شر حال ...، وبات الناس في شر حال ...
قال جدي : وتكلم البائع بكلام طويل كثير نسيت أكثره
سكت جدي دقائق ثم قال : يا عبدالرحمن ، لقد نسيت اسم تلك المرأة جيدا هل هو نادية أو ندى أو شيء من ذلك ، ولكن المهم أنه قد بلغني بعد تلك القصة بزمن أنها استحوذت على عدد كبير من بنات القرية ، وصارت ملجأ لكل من أرادت الهروب من أهلها ، لقد كانت تحرض البنات على أن يكن خليلات وأخدان، وفشى في أهل القرية الخنى ، ولو سمعوا صوت القاضي بشير ـ رحمه الله ـ وطردوها من قريتهم لما صارت تلك حالهم ، فقد صاروا مضرب المثل ، وصارت ديارهم ديار سوء .
قال جدي ـ رحمه الله ورضي عنه ـ : يا عبدالرحمن إن التاريخ يعيد نفسه ، قد تتغير الأسماء ولكن تتكرر الحوادث ، فإن رأيت في بلد من البلدان مثل تلك الحادثة فاقصص عليهم خبر القاضي وكيف حذرهم من هذه الفويسقة ، وما حدث لهم بعد ذلك من البلاء والنكبات والفقر ونقمة الله لما تركوا كلامه ولم يعتبروا بتحذيره ، فالعاقل من الناس من يعتبر ...
رحم الله جدي فكـأنه ينظر للمستقبل ، وصدق من قال :إن التأريخ يعيد نفسه ، فمن نظر في بلاد السند والهند سيرى تكرر مثل تلك الحادثة .
والله غالب على أمره ولكن كثير من الناس لا يعلمون .
عبدالرحمن بن محمد بن علي الهرفي
الداعية بمركز الدعوة بالمنطقة الشرقية
غرة ذي القعدة 1431هـ
صيد الفوائد