(1)
ثورات الميديين بعد سقوط إمبراطوريتهم
خلال حُكم الملِك الأخميني (كورش) الذي أسقط الإمبراطورية الميدية وأسّس المملكة الأخمينية، لم يقم الميديون بِثورات ضد حُكمه لإستعادة السلطة الميدية. تعود أسباب إحجام الميديين عن القيام بالثورات ضد الأخمينيين الى أن (كورش) عاش وترعرع في كنف الشعب الميدي وتشبّع بالثقافة الميدية وكان قائداً عسكرياً كبيراً في الجيش الميدي، حيث كانت أُمه إبنة أستياگ، الذي كان آخر ملِك ميدي، لذلك كان في الحقيقة ملِكاً ميدياً وليس فارسياً، فكان الكثير من ملوك المنطقة ينظرون إليه كملِك ميدي، على سبيل المثال، كانت ملِكة (ماساگيتاي) تُخاطبه في مراسلاتها بِلقب "ملِك الميديين". لهذا السبب، بعد إنهيار الإمبراطورية الميدية وظهور الدولة الأخمينية وإستلام الحُكم من قِبل (داريوس)، أبقى (كورش) القادة الميديين المدنيين والعسكريين، الذين كانوا في السلطة خلال عهد الإمبراطورية الميدية، في مناصبهم في إدارة الدولة الأخمينية و في قيادة جيشها، وبذلك أشرك الميديين في حُكم البلاد.
في سنة 530 قبل الميلاد، تمّ قتل الملِك الأخميني (كورش) خلال الحرب التي نشبت بين الأخمينيين وشعب (ماساگيتاي) التوراني في آسيا الوسطى. بعد مقتل (كورش) خلّفه في العرش إبنه (قمبيز الثاني)، الذي خلال حُكمه، إزدادت هيمنة الفرس على الحُكم، حيث أنه بعد إستلامه الحُكم بدأ (قمبيز) بإبعاد الميديين تدريجياً عن إدارة شؤون البلاد وإحلال الفرس محلهم.
يُروى بأن (قمبيز) رأى في الحلم أن شخصاً كان إسمه (سميرديس) أصبح ملِكاً للأخمينيين بدلاً منه. كان ل(قمبيز) أخ بهذا الإسم ولذلك أثناء قيام (قمبيز) بِحملة عسكرية لغزو مصر في سنة 525 قبل الميلاد، أمر (قمبيز) قائد جيشه (بركساسبيس) بالعودة إلى بلاد فارس والقيام بقتل أخيه (سميرديس) ودفنه سراً ليتخلص منه للإحتفاظ بِعرشه.
ثورة (گاؤوماتا Gaumata) سنة 522 قبل الميلاد
بعد هيمنة الفرس على حُكم الدولة الأخمينية وتراجع الدور الميدي في المشاركة في الحكم، أدرك الميديون بأنهم فقدوا سلطتهم وأصبحوا تابعين للفرس ولذلك بدأوا ينتهزون فرصة سانحة لإسترداد حُكمهم. أثناء غياب (قمبيز) عن البلاد، حيث كان يقود حملة عسكرية لِغزو مصر، إنتهز كل من الكاهن الميدي (پيرتزيثيس) الذي كان رئيس ديوان القصر الملكي الأخميني و أخيه (سميرديس Smerdis) الذي كان يُدعى أيضاً (گاؤوماتا)، فرصة غياب (قمبيز) عن البلاد للإستيلاء على الحكم وإستعادة السلطة الميدية من الفرس. كان (پيرتزيثيس) هو مُخطط الثورة الميدية لإستعادة الحكم الميدي من الفرس. كما مرّ، كان ل(قمبيز) أخ إسمه (سميرديس) والذي دبّر (قمبيز) قتله بسبب الحلم الذي رآه في المنام. كان (گاؤوماتا) يشبه في الشكل (سميرديس) المقتول. كان الفرس يسيطرون على جميع مفاصل الجيش الأخميني، لذلك فكّر (پيرتزيثيس) بإيجاد وسيلة ناجحة للسيطرة على الحكم، فقام بِدهاء بإستغلال مقتل (سميرديس) الأخميني من قِبل أخيه (قمبيز)، فإتفق مع أخيه (گاؤوماتا) على إعلان الأخير بأنه (سميرديس) أخ (قمبيز) ويُنصّب نفسه ملِكاً على العرش الأخميني، وبذلك جعل (گاؤوماتا) نفسه ملِكاً على البلاد وأصدر بياناً بعد إستيلائه على الحكم. يتحدث (هيرودوت) عن هذا البيان قائلاً:
"وأرسل بياناً لجميع القوات في أنحاء فارس ومصر كافّة، مفاده أن عليهم في المستقبل تنفيذ الأوامر الصادرة عن (سميرديس)، وليس عن قمبيز".
في سنة (522 ق.م)، بينما كان (قمبيز) في سوريا، عائداً إلى فارس، وصلته نسخة من بيان إستيلاء (گاؤوماتا) على الحكم. بعد التأكد من مقتل أخيه (سميرديس) من خلال قيامه بالتحقيق مع قائد جيشه (بركساسبيس) الذي كان قد أوكل إليه مُهمّة قتل أخيه (سميرديس)، تأكد له بأن الأخوَين (پيرتزيثيس) و (گاؤوماتا) قد قاما بِثورة ضده، وأنهما يحكمان البلاد بإسم أخيه المقتول (سميرديس). إستشاط (قمبيز) غضباً من جراء الإنقلاب الميدي، فركِب حصانه للتوجّه إلى بلاد فارس للقضاء على الثائرَين الميدييَن، وحينما وثب على حصانه، سقط غمد سيفه، فإنكشف نصل السيف، فأُصيب بطعنة في فخذه، فمرِض نتيجة ذلك. بعد عشرين يوماً شعر (قمبيز) بدنوّ أجله، فأمر بحضور قادة الجيش الفارسي، وعند حضورهم خاطبهم قائلاً:
"يا رجال فارس، إن الظروف لَتفرِض عليّ أن أبوح لكم بما كنتُ قد بذلتُ قُصارى جهدي لإخفائه. ثم روى لهم الحلم الذي رآه في منامه، وقيامه بقتل أخيه (سميرديس) بسبب الحلم. إستطرد (قمبيز) في حديثه الى قادة جيشه، حيث أخبرهم بأن المجوسيَين يحكمانهم الآن ".
مضى (قمبيز) في حديثه للقادة الفرس قائلاً: " لزامٌ عليّ أن أبيّن لكم وأنا أَلفِظ أنفاسي الأخيرة، ما أرغب إليكم القيام به، فبإسم الآلهة التي تحرس أسرتنا الملكية أأمركم، وخاصةً الحاضرين منكم من الأخمينيين، ألاّ تَدَعوا الميديين يستردّون السلطة، فإذا حصلوا عليها عن طريق الغدر والخيانة، فاستردّوها بالسلاح نفسه، أما إذا استردّوها بالقوة فكونوا رجالاً، واستردّوها بالقوة. إذا قمتم بما آمركم به، فإني أدعو لكم بأن تغمركم الأرض بخيراتها، وأن تُرزَقوا بالأطفال، وتتكاثر قطعانكم، وأن تكونوا أحراراً مدى الدهر، أما إذا فشلتم في إسترداد السيادة، أو لم تقوموا بأيّة محاولة لإستردادها، فلتنزلْ لعنتي عليكم، وليكن مصيركم عكس ما أدعو لكم به الآن، وعِلاوة على ذلك فلتكن لِكلّ فارسي نهاية بائسة مثل نهايتي" .
بعد سماع وصية (قمبيز)، خيّم الحزن على القادة الفرس وأشفقوا على ملِكهم عندما رأوه وهو يبكي والدموع تنهمر من عينيه، فأخذوا يمزّقون ثيابهم ويبكون. توفي (قمبيز)، دون أن يترك وراءه ورثة له، حيث لم يكن له أبناء أو بنات يُخلفونه في الحكم.
دام حُكم (گاؤوماتا) سبعة أشهر، حيث قام خلال حكمه القصير بتحرير الشعوب المُضطهَدة التي كانت خاضعة للفرس وألغى الضرائب الباهظة عن كاهلها وأعفى أبناء المملكة من أداء الخدمة العسكرية، حيث يذكر (هيرودوت) بهذا الصدد ما يلي:
" خلال عهد المجوسي حصل رعاياه على منافع عظيمة، ولذلك أسف لموته جميع الآسيويين التابعين، باستثناء الفرس؛ إذ أنه بُعَيد اعتلائه العرش أعفى جميع الأمم الخاضعة له من الضرائب والخدمة العسكرية لِمدة ثلاث سنوات".
تحرّكت النخب الفارسية بسرعة لتنفيذ وصية (قمبيز)، حيث قام سبعة منهم بتشكيل قيادة سرية وكان (دارا الأول) أبرز هؤلاء السبعة وأكثرهم شجاعة ودهاء، وهو الذي رسم خطّة الهجوم على الأخوَين الميدييَن في القصر الملكي. خلال إجتماعهم، تحمّس زعيم فارسي آخر كان إسمه (گوبرياس) لِخطة دارا، حيث خاطب الحاضرين قائلاً:
"يا أصحابي، هل تُتاح لنا فرصة أفضل مما لدينا الآن لإنقاذ العرش؟ إذا فشلنا فلنمتْ في المحاولة، أفحتمٌ على فارس أن يحكمها ميدي؛ ذلك المجوسي الذي قُطعت أذناه؟ ولن ينسى من كان منكم واقفاً بجانب قمبيز، وهو على فراش الموت، اللعنةَ التي أنزلها بالفرس إذا لم يقوموا بأي جهد لإنقاذ العرش، ... وأعتقد أن علينا الأخذ بنصيحة داريوس، وان ننهي الإجتماع، ولنذهب فوراً إلى القصر، ونهاجم المجوسيين"
شنّ الزعماء الفرس السبعة هجوماً مفاجئاً على القصر الملِكي، ولم يعترضهم حُرّاس القصر لِكونهم من كبار الزعماء الأخمينيين، إلّا أن خصيان القصر إستوقفوهم، ولكنهم أصروا على الدخول الى القصر الملِكي، حيث أخرجوا خناجرهم وبدأوا بِطعن الخصيان وقتلهم. عند حصول المعركة التي جرت عند بوابة القصر، أدرك الأخَوان (پيرتزيثيس) و (گاؤوماتا) أنهما مُستهدفان من قٍبل الفرس، فإستعدّا للتصدي للمهاجمين، وقاتلا المهاجمين السبعة، إلا أنه تمّ قتلهما خلال هذه المواجهة، حيث يقول هيرودوت:
"بعد أن تمّ قتل المجوسييَن، قطع المتآمرون رأسيهما، وخرجوا إلى الشارع وهم يصرخون، مُحدِثين ضجّة عظيمة، حاملين الرأسَين المقطوعين، ثم بدأوا بقتل كل مجوسي صادفوه في طريقهم، وسرعان ما أصبح الفرس الآخرون على أهبة الإستعداد لأن يحذوا حذوهم، بعد أن علِموا بالعمل البطولي الذي إضطلع به الحلفاء السبعة، والخدعة التي قام بها المجوسيان، فإستلّوا خناجرهم، وقتلوا كل مجوسي وقعت أنظارهم عليه، وكادوا يبيدون المجوس لولا حلول الظلام، فتوقفت المجزرة، وقد أصبح هذا اليوم يوماً مشهوداً في التقويم الفارسي، حيث يُقام إحتفال سنوي بإسم قتل المجوس، ولا يُسمح خلال ذلك اليوم لأيّ مجوسي بالظهور، فيبقون جميعاً في بيوتهم طوال اليوم، لا يبرحونها"
في المواجهة بين النخب الفارسية بقيادة (دارا الأول) من جهة، والأخوَين الميديين (پيرتزيثيس) و (گاؤوماتا) من جهة أخرى، كان يتم ذكر (الميديين) بإسم (مجوس)، وأنه بعد مقتل الأخوَين الميدييَن، إقتصر إنتقام الفرس على قتل (المجوس)، حيث يذكر ديورانت عن (گاؤوماتا) ما يلي:
"كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية، الدين الرسمي للدولة الفارسية "
من جهة أخرى، فأن (Young) يسرد قصة ثورة (گاؤوماتا)، حيث يذكر بأن (گاؤوماتا) أراد إسترجاع الحكم الميدي وأنه إستطاع خلال فترة قصيرة إسترجاع معظم المناطق التي كانت تحت الحكم الميدي وبذلك شكّلت ثورة (گاؤوماتا) تهديداّ خطيراً للحكم الفارسي الذي كان حكماً حديث العهد. أصبح الملك الأخميني (دارا الأول) قلقاً على حكمه، بالإضافة الى نفسه، إختار 6 رؤساء قبائل فارسية للتعاون معه في التصدي لثورة (گوماتا)، حيث قاموا بالهجوم على قوات (گاؤوماتا) وإستطاعوا قتله في إحدى القصورالميدية في اليوم الأول من الشهر الجديد سنة 522 قبل الميلاد.
ينقل (Cook) عن (هيرودوت) حول مقتل (گاؤوماتا) بأنه في كافة أنحاء آسيا أُقيمت المآتم والتعازي لِموت (گاؤوماتا)، بإستثناء سكان المنطقة الفارسية. إقامة التعازي على روح الملِك الميدي (گاؤوماتا) من قِبل سكان منطقة غربي آسيا قد يُبيّن بأن سكان هذه المنطقة كانوا يعتنقون الدين الميدي (الدين اليزداني) وكانت لهم ثقافة مشتركة مع الميديين وأن الفرس كانوا يعتنقون ديناً آخراً (الدين الزردشتي) ولم تربطهم صلات ثقافية مع سكان غربي آسيا. كما أن موالاة سكان غربي آسيا للملِك الميدي (گاؤوماتا) تُشير الى أنه بالإضافة الى إعلان نفسه ملِكاً لميديا، قد يكون ل(گاؤوماتا) سلطة دينية على سكان المنطقة. كما أن إقامة المآتم من قِبل سكان غربي آسيا بإستثناء الفرس، بسبب مقتل (گاؤوماتا) كانت تعود الى حُكمه العادل وإنصافه للشعوب غير الفارسية التي كانت مُضطهَدة من قِبل الحكم الأخميني. هدف الفرس من عمليات الإبادة التي قاموا بها ضد رجال الدين الميديين، كان إضعاف الميديين والتقليل من سلطتهم ومنعهم من العودة الى حُكم المنطقة كالسابق عندما كانت لهم إمبراطورية كبيرة وقوية تحكم المنطقة، بما فيها منطقة الفرس وإبقاء الحكام الميديين كملوك محليين، يحكمون ممالك صغيرة.
المصدر
الدكتور أحمد محمود الخليل (2011). مملكة ميديا.
يتبع
ثورات الميديين بعد سقوط إمبراطوريتهم
خلال حُكم الملِك الأخميني (كورش) الذي أسقط الإمبراطورية الميدية وأسّس المملكة الأخمينية، لم يقم الميديون بِثورات ضد حُكمه لإستعادة السلطة الميدية. تعود أسباب إحجام الميديين عن القيام بالثورات ضد الأخمينيين الى أن (كورش) عاش وترعرع في كنف الشعب الميدي وتشبّع بالثقافة الميدية وكان قائداً عسكرياً كبيراً في الجيش الميدي، حيث كانت أُمه إبنة أستياگ، الذي كان آخر ملِك ميدي، لذلك كان في الحقيقة ملِكاً ميدياً وليس فارسياً، فكان الكثير من ملوك المنطقة ينظرون إليه كملِك ميدي، على سبيل المثال، كانت ملِكة (ماساگيتاي) تُخاطبه في مراسلاتها بِلقب "ملِك الميديين". لهذا السبب، بعد إنهيار الإمبراطورية الميدية وظهور الدولة الأخمينية وإستلام الحُكم من قِبل (داريوس)، أبقى (كورش) القادة الميديين المدنيين والعسكريين، الذين كانوا في السلطة خلال عهد الإمبراطورية الميدية، في مناصبهم في إدارة الدولة الأخمينية و في قيادة جيشها، وبذلك أشرك الميديين في حُكم البلاد.
في سنة 530 قبل الميلاد، تمّ قتل الملِك الأخميني (كورش) خلال الحرب التي نشبت بين الأخمينيين وشعب (ماساگيتاي) التوراني في آسيا الوسطى. بعد مقتل (كورش) خلّفه في العرش إبنه (قمبيز الثاني)، الذي خلال حُكمه، إزدادت هيمنة الفرس على الحُكم، حيث أنه بعد إستلامه الحُكم بدأ (قمبيز) بإبعاد الميديين تدريجياً عن إدارة شؤون البلاد وإحلال الفرس محلهم.
يُروى بأن (قمبيز) رأى في الحلم أن شخصاً كان إسمه (سميرديس) أصبح ملِكاً للأخمينيين بدلاً منه. كان ل(قمبيز) أخ بهذا الإسم ولذلك أثناء قيام (قمبيز) بِحملة عسكرية لغزو مصر في سنة 525 قبل الميلاد، أمر (قمبيز) قائد جيشه (بركساسبيس) بالعودة إلى بلاد فارس والقيام بقتل أخيه (سميرديس) ودفنه سراً ليتخلص منه للإحتفاظ بِعرشه.
ثورة (گاؤوماتا Gaumata) سنة 522 قبل الميلاد
بعد هيمنة الفرس على حُكم الدولة الأخمينية وتراجع الدور الميدي في المشاركة في الحكم، أدرك الميديون بأنهم فقدوا سلطتهم وأصبحوا تابعين للفرس ولذلك بدأوا ينتهزون فرصة سانحة لإسترداد حُكمهم. أثناء غياب (قمبيز) عن البلاد، حيث كان يقود حملة عسكرية لِغزو مصر، إنتهز كل من الكاهن الميدي (پيرتزيثيس) الذي كان رئيس ديوان القصر الملكي الأخميني و أخيه (سميرديس Smerdis) الذي كان يُدعى أيضاً (گاؤوماتا)، فرصة غياب (قمبيز) عن البلاد للإستيلاء على الحكم وإستعادة السلطة الميدية من الفرس. كان (پيرتزيثيس) هو مُخطط الثورة الميدية لإستعادة الحكم الميدي من الفرس. كما مرّ، كان ل(قمبيز) أخ إسمه (سميرديس) والذي دبّر (قمبيز) قتله بسبب الحلم الذي رآه في المنام. كان (گاؤوماتا) يشبه في الشكل (سميرديس) المقتول. كان الفرس يسيطرون على جميع مفاصل الجيش الأخميني، لذلك فكّر (پيرتزيثيس) بإيجاد وسيلة ناجحة للسيطرة على الحكم، فقام بِدهاء بإستغلال مقتل (سميرديس) الأخميني من قِبل أخيه (قمبيز)، فإتفق مع أخيه (گاؤوماتا) على إعلان الأخير بأنه (سميرديس) أخ (قمبيز) ويُنصّب نفسه ملِكاً على العرش الأخميني، وبذلك جعل (گاؤوماتا) نفسه ملِكاً على البلاد وأصدر بياناً بعد إستيلائه على الحكم. يتحدث (هيرودوت) عن هذا البيان قائلاً:
"وأرسل بياناً لجميع القوات في أنحاء فارس ومصر كافّة، مفاده أن عليهم في المستقبل تنفيذ الأوامر الصادرة عن (سميرديس)، وليس عن قمبيز".
في سنة (522 ق.م)، بينما كان (قمبيز) في سوريا، عائداً إلى فارس، وصلته نسخة من بيان إستيلاء (گاؤوماتا) على الحكم. بعد التأكد من مقتل أخيه (سميرديس) من خلال قيامه بالتحقيق مع قائد جيشه (بركساسبيس) الذي كان قد أوكل إليه مُهمّة قتل أخيه (سميرديس)، تأكد له بأن الأخوَين (پيرتزيثيس) و (گاؤوماتا) قد قاما بِثورة ضده، وأنهما يحكمان البلاد بإسم أخيه المقتول (سميرديس). إستشاط (قمبيز) غضباً من جراء الإنقلاب الميدي، فركِب حصانه للتوجّه إلى بلاد فارس للقضاء على الثائرَين الميدييَن، وحينما وثب على حصانه، سقط غمد سيفه، فإنكشف نصل السيف، فأُصيب بطعنة في فخذه، فمرِض نتيجة ذلك. بعد عشرين يوماً شعر (قمبيز) بدنوّ أجله، فأمر بحضور قادة الجيش الفارسي، وعند حضورهم خاطبهم قائلاً:
"يا رجال فارس، إن الظروف لَتفرِض عليّ أن أبوح لكم بما كنتُ قد بذلتُ قُصارى جهدي لإخفائه. ثم روى لهم الحلم الذي رآه في منامه، وقيامه بقتل أخيه (سميرديس) بسبب الحلم. إستطرد (قمبيز) في حديثه الى قادة جيشه، حيث أخبرهم بأن المجوسيَين يحكمانهم الآن ".
مضى (قمبيز) في حديثه للقادة الفرس قائلاً: " لزامٌ عليّ أن أبيّن لكم وأنا أَلفِظ أنفاسي الأخيرة، ما أرغب إليكم القيام به، فبإسم الآلهة التي تحرس أسرتنا الملكية أأمركم، وخاصةً الحاضرين منكم من الأخمينيين، ألاّ تَدَعوا الميديين يستردّون السلطة، فإذا حصلوا عليها عن طريق الغدر والخيانة، فاستردّوها بالسلاح نفسه، أما إذا استردّوها بالقوة فكونوا رجالاً، واستردّوها بالقوة. إذا قمتم بما آمركم به، فإني أدعو لكم بأن تغمركم الأرض بخيراتها، وأن تُرزَقوا بالأطفال، وتتكاثر قطعانكم، وأن تكونوا أحراراً مدى الدهر، أما إذا فشلتم في إسترداد السيادة، أو لم تقوموا بأيّة محاولة لإستردادها، فلتنزلْ لعنتي عليكم، وليكن مصيركم عكس ما أدعو لكم به الآن، وعِلاوة على ذلك فلتكن لِكلّ فارسي نهاية بائسة مثل نهايتي" .
بعد سماع وصية (قمبيز)، خيّم الحزن على القادة الفرس وأشفقوا على ملِكهم عندما رأوه وهو يبكي والدموع تنهمر من عينيه، فأخذوا يمزّقون ثيابهم ويبكون. توفي (قمبيز)، دون أن يترك وراءه ورثة له، حيث لم يكن له أبناء أو بنات يُخلفونه في الحكم.
دام حُكم (گاؤوماتا) سبعة أشهر، حيث قام خلال حكمه القصير بتحرير الشعوب المُضطهَدة التي كانت خاضعة للفرس وألغى الضرائب الباهظة عن كاهلها وأعفى أبناء المملكة من أداء الخدمة العسكرية، حيث يذكر (هيرودوت) بهذا الصدد ما يلي:
" خلال عهد المجوسي حصل رعاياه على منافع عظيمة، ولذلك أسف لموته جميع الآسيويين التابعين، باستثناء الفرس؛ إذ أنه بُعَيد اعتلائه العرش أعفى جميع الأمم الخاضعة له من الضرائب والخدمة العسكرية لِمدة ثلاث سنوات".
تحرّكت النخب الفارسية بسرعة لتنفيذ وصية (قمبيز)، حيث قام سبعة منهم بتشكيل قيادة سرية وكان (دارا الأول) أبرز هؤلاء السبعة وأكثرهم شجاعة ودهاء، وهو الذي رسم خطّة الهجوم على الأخوَين الميدييَن في القصر الملكي. خلال إجتماعهم، تحمّس زعيم فارسي آخر كان إسمه (گوبرياس) لِخطة دارا، حيث خاطب الحاضرين قائلاً:
"يا أصحابي، هل تُتاح لنا فرصة أفضل مما لدينا الآن لإنقاذ العرش؟ إذا فشلنا فلنمتْ في المحاولة، أفحتمٌ على فارس أن يحكمها ميدي؛ ذلك المجوسي الذي قُطعت أذناه؟ ولن ينسى من كان منكم واقفاً بجانب قمبيز، وهو على فراش الموت، اللعنةَ التي أنزلها بالفرس إذا لم يقوموا بأي جهد لإنقاذ العرش، ... وأعتقد أن علينا الأخذ بنصيحة داريوس، وان ننهي الإجتماع، ولنذهب فوراً إلى القصر، ونهاجم المجوسيين"
شنّ الزعماء الفرس السبعة هجوماً مفاجئاً على القصر الملِكي، ولم يعترضهم حُرّاس القصر لِكونهم من كبار الزعماء الأخمينيين، إلّا أن خصيان القصر إستوقفوهم، ولكنهم أصروا على الدخول الى القصر الملِكي، حيث أخرجوا خناجرهم وبدأوا بِطعن الخصيان وقتلهم. عند حصول المعركة التي جرت عند بوابة القصر، أدرك الأخَوان (پيرتزيثيس) و (گاؤوماتا) أنهما مُستهدفان من قٍبل الفرس، فإستعدّا للتصدي للمهاجمين، وقاتلا المهاجمين السبعة، إلا أنه تمّ قتلهما خلال هذه المواجهة، حيث يقول هيرودوت:
"بعد أن تمّ قتل المجوسييَن، قطع المتآمرون رأسيهما، وخرجوا إلى الشارع وهم يصرخون، مُحدِثين ضجّة عظيمة، حاملين الرأسَين المقطوعين، ثم بدأوا بقتل كل مجوسي صادفوه في طريقهم، وسرعان ما أصبح الفرس الآخرون على أهبة الإستعداد لأن يحذوا حذوهم، بعد أن علِموا بالعمل البطولي الذي إضطلع به الحلفاء السبعة، والخدعة التي قام بها المجوسيان، فإستلّوا خناجرهم، وقتلوا كل مجوسي وقعت أنظارهم عليه، وكادوا يبيدون المجوس لولا حلول الظلام، فتوقفت المجزرة، وقد أصبح هذا اليوم يوماً مشهوداً في التقويم الفارسي، حيث يُقام إحتفال سنوي بإسم قتل المجوس، ولا يُسمح خلال ذلك اليوم لأيّ مجوسي بالظهور، فيبقون جميعاً في بيوتهم طوال اليوم، لا يبرحونها"
في المواجهة بين النخب الفارسية بقيادة (دارا الأول) من جهة، والأخوَين الميديين (پيرتزيثيس) و (گاؤوماتا) من جهة أخرى، كان يتم ذكر (الميديين) بإسم (مجوس)، وأنه بعد مقتل الأخوَين الميدييَن، إقتصر إنتقام الفرس على قتل (المجوس)، حيث يذكر ديورانت عن (گاؤوماتا) ما يلي:
"كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية، الدين الرسمي للدولة الفارسية "
من جهة أخرى، فأن (Young) يسرد قصة ثورة (گاؤوماتا)، حيث يذكر بأن (گاؤوماتا) أراد إسترجاع الحكم الميدي وأنه إستطاع خلال فترة قصيرة إسترجاع معظم المناطق التي كانت تحت الحكم الميدي وبذلك شكّلت ثورة (گاؤوماتا) تهديداّ خطيراً للحكم الفارسي الذي كان حكماً حديث العهد. أصبح الملك الأخميني (دارا الأول) قلقاً على حكمه، بالإضافة الى نفسه، إختار 6 رؤساء قبائل فارسية للتعاون معه في التصدي لثورة (گوماتا)، حيث قاموا بالهجوم على قوات (گاؤوماتا) وإستطاعوا قتله في إحدى القصورالميدية في اليوم الأول من الشهر الجديد سنة 522 قبل الميلاد.
ينقل (Cook) عن (هيرودوت) حول مقتل (گاؤوماتا) بأنه في كافة أنحاء آسيا أُقيمت المآتم والتعازي لِموت (گاؤوماتا)، بإستثناء سكان المنطقة الفارسية. إقامة التعازي على روح الملِك الميدي (گاؤوماتا) من قِبل سكان منطقة غربي آسيا قد يُبيّن بأن سكان هذه المنطقة كانوا يعتنقون الدين الميدي (الدين اليزداني) وكانت لهم ثقافة مشتركة مع الميديين وأن الفرس كانوا يعتنقون ديناً آخراً (الدين الزردشتي) ولم تربطهم صلات ثقافية مع سكان غربي آسيا. كما أن موالاة سكان غربي آسيا للملِك الميدي (گاؤوماتا) تُشير الى أنه بالإضافة الى إعلان نفسه ملِكاً لميديا، قد يكون ل(گاؤوماتا) سلطة دينية على سكان المنطقة. كما أن إقامة المآتم من قِبل سكان غربي آسيا بإستثناء الفرس، بسبب مقتل (گاؤوماتا) كانت تعود الى حُكمه العادل وإنصافه للشعوب غير الفارسية التي كانت مُضطهَدة من قِبل الحكم الأخميني. هدف الفرس من عمليات الإبادة التي قاموا بها ضد رجال الدين الميديين، كان إضعاف الميديين والتقليل من سلطتهم ومنعهم من العودة الى حُكم المنطقة كالسابق عندما كانت لهم إمبراطورية كبيرة وقوية تحكم المنطقة، بما فيها منطقة الفرس وإبقاء الحكام الميديين كملوك محليين، يحكمون ممالك صغيرة.
المصدر
الدكتور أحمد محمود الخليل (2011). مملكة ميديا.
يتبع
تعليق