إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الجزاء من جنس العمل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الجزاء من جنس العمل

    الجزاء من جنس العمل

    د. مثنى النعيمي



    أقاصيص قصيرة جدًّا






    الحمدُ لله، والصلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحْبه ومَن تبِع هداه، وبعدُ:فهذه مجموعةٌ مِنَ المواقف التي تعرَّضتُ لها في حياتي، نظَمتُها في سلسلة من الأقاصيص القصيرة إلى حدٍّ ما، مُضيفًا إليها دروسًا وعِبرًا، جُمِعت من بطون الكتب، ومما وقَفتُ عليه من ثِقات المواقع الإلكترونية المعروفة بالطَّرح القيِّم والتأصيل الصحيح، عسى الله أن ينفَع بها القارئ الكريم، والبقية ستأتي تِباعًا - إن شاء الله.نسأل الله لنا ولكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل ما كتَبناه حُجَّة لنا لا علينا، وأن ينفعنا بما كتبْنا، إنه ولِيُّ ذلك والقادر عليه.(1)

    الجزاء من جنس العمل

    ما زِلتُ أذكُر ذلك اليوم، كنتُ بانتظار أخ وصديق حبيب، فخرجتُ إلى الشارع أنتظِر مَقدِمه، ووقَعت أمامي أحداث هذه القصة:
    البداية كانت بمَقدِم مجموعةٍ من الشباب، جلَسوا على قارِعة الطريق، وكل منهم يحكي عن بطولاته المُخزية والمشينة، فقال أحدهم:
    هل تعرِفون فلانة؟!
    هي صديقتي، وأتَّصِل عليها وتتَّصل عليَّ مرات عديدة في الليل والنَّهار عبر الجوال، وبدأ كل منهم بالحديث عن أمور مُشابِهةٍ، وبعد فترة أنهى الشبابُ حديثَهم، ثم ترَكوا المكان ورحلوا.
    بعدها بدقائق جاءت مجموعة أخرى من الشباب، جلَس أحدُهم في نفْس مكان صاحبنا الأوَّل، وقال أحدهم مُتسائلاً:
    هل هذا فلان؟
    نعم، إنَّه هو، هل تعلمون أن شقيقتَه هي صديقتي، وأنا وهي على اتِّصال في الليل والنهار عبر الجوال؟
    !
    قلتُ: سبحان الله، حقًّا "الجزاء من جِنس العمل"، وعليهم تنطَبِق القصة "دقَّة بدقة ولو زدت لزاد السقا".
    نعم، "دقة بدقة ولو زِدتَ لزاد السَّقا"، تلك القصةُ التي كثيرًا ما تردَّدتْ على مسامِعنا لنأخذ منها العِبر والدروس، كان يحكيها لنا الأهلُ في البيت، والشيخُ في الجامع.
    هذه القصة وردتْ في كثيرٍ من الكتب، وقد وقَفتُ عليها في كتاب "عدالة السماء"؛ للواء الركن محمود شيت خطاب - رحمه الله - وقد سرَدها بأسلوب قَصصي رائع.
    وإليك القصة:
    كان تاجرًا كبيرًا، وكانتْ تِجارته بين العراق وسوريا، يَبيع الحبوب في سوريا، ويستورِد منها الصابون والأقمشة، وكان رجلاً مُستقيمًا في خُلُقه، يظهر عليه التديُّن، يُزكِّي ماله، ويُغدِق على الفقراء مما أفاء الله به عليه من خير، وكان يقضي حاجات الناس، لا يكاد يردُّ سائلاً، وكان يقول: "زكاة المال من المال، وزكاة الجاه قضاء الحاجات"، وكان يعود مرضى محلته، ويتفقَّدهم كل يوم تقريبًا، وكان يصلِّي العشاء في مسجد صغير قُرب داره، فلا يتخلَّف عن الصلاة أحدٌ مِن جيرانه إلا ويسأل عنه، فإذا كان مريضًا عادَهُ، وإذا كان مُحتاجًا إلى المال أعطاه من ماله، وإذا كان مُسافرًا خلَفه في عياله، وكان له ولدٌ وابنةٌ واحدة بلَغا عمرَ الشباب.

    وفي يوم مِنَ الأيام سأل ولدَه الوحيد أن يُسافِر إلى سوريا بتِجارته قائلاً له:

    "لقد كبرتُ يا ولدي، فلا أقوى على السَّفر، وقد أصبحتَ رجلاً والحمد لله، فسافِر على بركة الله مع قافلة الحبوب إلى حلب، فبِع ما معك، واشترِ بها صابونًا وقماشًا ثم عُد إلينا، وأوصيكَ بتقوى الله، وأطلب منك أن تُحافِظ على شرَف أختِك".
    وكان ذلك قبل الحرب العالمية الأُولى، يوم لم يكن حينذئذٍ قطاراتٌ ولا سياراتٌ.
    وسافَر الشابُّ بتجارة أبيه من مرحلة إلى مرحلة، يسهَر على إدارة القافلة، ويحرِص على حماية ماله، ويقوم على رجاله، وفي حلب الشَّهْباء، باع حبوبه، واشترى بثمنِها مِن صابونها المتميِّز، وقماشها الفاخر، ثم تجهَّز للعودة إلى إدراجه؛ الموصل الحدباء.وفي يوم من الأيام قبيل عودته مِن حلب، رأى شابَّة جميلة تخطر بغلالة من اللاذ[1]،في طريقٍ مُقفِرٍ بعد غروب الشمس، فراودتْه نفْسه الأمَّارة بالسوء على تقبيلها، وسَرعان ما اختطَف منها قُبلة ثم هرب على وجهه، وهربت الفتاة، وما كاد يستقرُّ به المقام في مستقرِّه إلا وأخذ يؤنِّب نفْسه، وندِم على فعلته - ولات حين مَندَم.
    وكتَم أمره عن أصحابه، ولم يبحْ بسرِّه لأحد، وبعد أيام عاد إلى بلده وكان والده يُطِل منها على حوش الدار، حين طرَق البابَ السَّقا، فهرعت ابنته إلى الباب تفتحه، وحمَل السقاء قربته وصبَّها في الحب[2]،وأخت الفتى تنتظِره على الباب لتُغلِقه بعد مغادرة السقاء الدار، وعاد السقاء بقربته الفارغة، فلما مَرَّ بالفتاة قبَّلها، ثم هرب لا يلوي على شيء.
    ولَمح أبوها من نافذة غرفته ما حدَث، فردَّد من صميم قلبه:
    (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، ولم يقل الأب شيئًا، ولم تقُل الفتاةُ شيئًا.
    وعاد السقا في اليوم الثاني إلى دار الرجل كالمُعتاد، وكان مُطأطئ الرأس خجَلاً، وفتحتْ له الفتاة الباب، ولكنه لَم يعُد إلى فعلته مرة أخرى.
    لقد كان هذا السقاء يزوِّد الدار بالماء منذ سنين طويلة، كما كان يزوِّد المحلة كلها بالماء، ولم يكنْ في يوم من الأيام موضِعَ ريبة، ولم يحدُث له أن نظَر إلى محارم الناس نظرةَ سوء، وكان في العِقد الخامس من عمره، وقد ولَّى عنه عهد الشباب، وما قد يَصحبه من تهوُّر وطيش وغرور، وقدِم الفتى إلى الموصِل، موفور الصحة، وافِر المال، ولم يفرَح والده بالصحة وبالمال، لم يسأل ولده عن تِجارته ولا عن سفره، ولا عن أصحابه التُّجار في حلب.
    لقد سأل ولده أول ما سأله: ماذا فعلتَ منذ غادَرت الموصل إلى أن عُدت إليها؟
    وابتدأ الفتى يسرُد قصة تِجارته، فقاطَعه أبوه متسائلاً: (هل قبَّلت فتاة؟! ومتى وأين؟)، فسقط في يد الشاب[3]،ثم أنكر، واحْمَّر وجه الفتى وتلعثَم، وأطرَق برأسه إلى الأرض في صمتٍ مُطلَق كأنه صخرة من صخور الجبال، لا يتحرَّك ولا يَريم[4].
    ساد الصمت فترة قصيرة من عُمر الزمن، ولكنه كان كالدهر طولاً وعَرضًا.
    وأخيرًا، قال أبوه: لقد أوصيتُك أن تصونَ عِرض أُختك في سفرك، ولكنك لَم تفعل.
    وقصَّ عليه قصة أخته، وكيف قبَّلها السقاء، فلا بدَّ أنَّ هذه القُبلة بتلك وفاء لدَينٍ عليك، وانهار الفتى واعترَف بالحقيقة.
    وقال أبوه مُشفِقًا عليه وعلى أخته وعلى نفْسه:
    "إني لأعلم أنني لم أكشِف ذيلي في حرام، وكنتُ أصون عِرضي حين كنت أصون أعراض الناس، ولا أذكُر أن لي خيانةً في عِرض أو سقْطة مِن فاحشة، وأرجو ألا أكون مَدينًا لله بشيء من ذلك، وحين قبَّل السَّقاء أختك تيقَّنتُ أنك قبَّلت فتاة ما، فأدَّت أختك عنك دينكَ، لقد كانت "دقة بدقَّة، وإن زدتَ لزاد السقا"[5]!!
    الدروس المُستفادة مما تقدَّم:
    1- تجنُّب الجلوس في الطُّرقات إلا لحاجة ماسَّة أو لضرورة طارئة.
    2- مُراعاة حق الطريق التي بيَّنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
    ((إيَّاكم والجلوس في الطُّرقات))، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بدٌّ من مجالسنا؛ نتحدَّث فيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((أمَّا إذا أبيتُم، فأعطُوا الطريق حقَّه))،
    قالوا:وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟
    قال: ((غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر))[6] .
    فعليك أخي المبارَك غض البصر، وكف الأذى (المادي والمعنوي، والأهم من ذلك هو حفْظ اللسان؛ ففي حفْظ اللسان راحة الإنسان).
    3- إياك والتطاول على أعراض الناس؛ فهي ليست لُعبة بيدك، تقذِف هذه وتتَّهِم تلك بالباطل، واعلم أن لك أمًّا وأختًا، وسيكون لك زوجة وبنتٌ في المستقبل، فهل تقبل أن يتكلَّم عليها أحد بالسيئ البذيء؟!
    ورحِم الله القائل:

    يا هاتِكًا حُرُمَ الرِّجالِ وقاطِعًا
    سُبُلَ المودَّة عِشتَ غيرَ مُكرَّمِ

    لوكنتَ حرًّا مِن سُلالة ماجدٍ
    ما كنتَ هتَّاكًا لِحُرْمة مُسْلِمِ

    مَن يَزنِ يُزنَ به ولو بِجِدارهِ
    إن كنتَ يا هذا لبيبًا فافَْهمِ

    مَنْ يَزْنِ في بيتٍ بألفَي درهمٍ
    فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبْعِ الدِّرْهَمِ

    وفي خِضَمِّ الحديث عن التطاول على الأعراض، لا بدَّ من أن نُعرِّج على الحديث عن خطورة الكلمة في حدِّ ذاتها، نعم، أيُّها المبارَك كل "كلمة" تتلفَّظ بها، أما علِمتَ أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد حذَّر من خطورة الكلمة في أحاديث عدة.
    ودعني أذكُر لك بعضًا منها:أ- عن معاذ بن جبل، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((قال له: ألا أدلُّك على أمْلَكِ ذلك كله،
    قال: قلتُ: يا رسول الله، قولك ألا أدلُّك على أمْلَك ذلك كله،
    قال: فأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى لسانه،
    قال: قلتُ: يا رسول الله، وإنَّا لنؤاخَذ بما نتكلَّم به، قال: ثكِلتك أمُّك معاذ، وهل يكُبُّ الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))،
    قال شعبة: وقال الحكم: وحدَّثني به ميمون بن أبي شبيب، وسمِعته منه منذ أربعين سنة[7].

    ب-
    عن بلال بن الحرث المُزَني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رِضوان الله، لا يظنُّ أن تبلُغ ما بلَغت، فيكتُب الله له بها رِضوانه إلى يوم يَلقاه، وإن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سَخَط الله لا يرى أن تبلُغ ما بلَغت، فيكتُب الله له بها سَخَطه إلى يوم يلقاه))؛ هذا حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ؛ أخرَجه الترمذي، وابن ماجه القزويني في كتابيهما[8].
    4- الجزاء من جِنس العمل: هي قاعدة أصوليَّة، احتوتْها كثيرٌ من كتُب الفقهاء الأصوليِّين، دعنا نتعرَّف وإياك على هذه القراءة بشكل موجَز، فتكرَّم بمواصلة القراءة مشكورًا مأجورًا.هذه القاعدةُ مُطرِدة شرعًا وقدَرًا؛ فإنَّ الله تعالى يُجازي العبد مِن جنس عمَله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كما فَطَر عباده على أن حُكْم الشيء حُكْم مثله، وحُكم النظير حكم نظيره.

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله -
    [9]: "فالحسنات والسيئات في كتاب الله يُراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يُراد بها النِّعم والمصائب، والجزاء من جنس العمل، فمَن عمِل خيرًا وحسناتٍ لقي خيرًا وحسنات، ومن عمِل شرًّا وسيئاتٍ لقي شرًّا وسيئات، كذلك مَن عمِل غَيًّا لقي غَيًّا، وترْك الصلاة غَيٌّ يَلقى صاحبُه غَيًّا؛ فلهذا قال الزمخشري: كل شرٍّ عند العرب غَيٌّ، وكل خير رَشاد؛ كما قيل: فمَنْ يلقَ خيرًا يحمَد الناسُ أمرَه، ومَن يَغوِ لا يَعْدَم على الغَيِّ لائمًا[10].

    قال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله -: "ولذلك كان الجزاء مُماثلاً للعمل من جنسه في الخير والشر، فمَن سَتَر مُسلمًا ستَره الله، ومن يسَّر على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفَّس عن مؤمنٍ كُرْبة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادمًا أقال الله عثرتَه يوم القيامة، ومن تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورتَه، ومن ضارَّ مسلمًا ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه، ومن خذَل مسلمًا في موضع يجب نصرتُه فيه خذَله الله في موضِع يجب نصرتُه فيه، ومَن سمَح سمَح الله له، والراحمون يرحَمهم الرحمن، وإنما يرحَم الله من عباده الرحماء، ومن أنفَق أنفَق الله عليه، ومن أوعى أوعى عليه، ومن عفا عن حقِّه عفا الله له عن حقِّه، ومن تجاوَز تجاوَز الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه"؛ [إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/214)].

    قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في كتاب القضاء الذي أرسَله إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -ومن تزيَّن بما ليس فيه شانَهُ الله).
    قال ابن القيم - رحمه الله - في تعليقه على هذا الكتاب: "فإنَّه أخفى عن الناس ما أظهَر الله خلافه، فأظهَر الله من عيوبِه ما أخفاه عنهم، جزاء من جِنس عمَله، [إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/160)].

    قال بعض السلف: إنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها.

    أمثلة على القاعدة من القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة:
    1- أشار القرآن الكريم إلى "قاعدة الجزاء من جِنس العمل" في أكثر من مائة موضِع، نذكُر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:أ- قوله تعالى: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26].
    ب-
    قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

    ج-
    قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124- 126]، قال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
    "هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جُوزي من جنس عمله، فإنه لما أعرَض عن الذِّكر الذي بعَث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعُمِيت عنه بصيرته، أعمى الله بصرَه يوم القيامة، وترَكه في العذاب كما ترَك الذكر في الدنيا، فجازاه على عَمى بصره في الآخرة وعلى ترْكه العذاب[11].
    2- ومن السنة النبوية: حدَّثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قالوا: حدَّثنا إسماعيل - وهو ابن جعفر - عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلى عليَّ واحدة، صلَّى الله عليه عشرًا))[12].
    قال ابن القيم - رحمه الله مُعلِّقًا على الحديث: (وهذا موافِق للقاعدة المستقرَّة في الشريعة أن الجزاء من جِنس العمل، فصلاة الله على المصلِّي على رسوله جزاء لصلاته هو عليه، ومعلوم أن صلاة العبد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة الله عليه من جِنسها، وإنما هي ثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإرادة من الله أن يُعلي ذِكره، ويَزيده تعظيمًا وتشريفًا، والجزاء من جِنس العمل، فمن أثنى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزاه الله من جنس عمَله بأن يُثني عليه، ويَزيد تشريفه وتكريمه، فصحَّ ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكَلته له ومناسبته له"[13].

    أمثلة من واقع الحياة:

    1- نبي الله ابراهيم - عليه السلام -:
    من الأمثلة العمليَّة التي تدلُّ على تحقُّق هذه القاعد: ما كان مع الخليل إبراهيم - عليه السلام - ذلك الرجل الذي قام بدين الله - عز وجل - خير قيامٍ، فقدَّم بدنه للنيران، وطعامه للضِّيفان، وولده للقُربان، فإنه لما صبَر على البلاء في ذات الله - عز وجل - وألقاه قومه في النار، كان جزاؤه من جِنس عمله؛ ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].
    ولما سلِم قلبه من الشرك والغِل والأحقاد؛ كان جزاؤه من جِنس عمله؛ ﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 109].
    ولما هاجَر وترَك أهله وقرابته ووطنه، أسكَنه الله الأرض المبارَكة، ووهَب له من الولد ما تَقَر به؛ ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ﴾ [الأنبياء: 71، 72].
    ولمَّا صبَر الخليل - عليه السلام - على تجريده من ثِيابه على يد الكفار؛ كان جزاؤه من جنس عمله، فإن ((أول مَن يُكسى من الخلائق يوم القيامة إبراهيم))؛ كما أخبَر النبي - صلى الله عليه وسلَّم؛ فعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
    ((يحشَر الناس يوم القيامة عُراة غُرْلاً، وأوَّل الخلائق يكسَى إبراهيم - عليه السلام - ثم قرأ: ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾ [الأنبياء: 104]))[14].
    قال القرطبي في التَّذكِرة: "فيه فضيلةٌ عظيمة لإبراهيم - عليه السلام - وخصوصية له، كما خَصَّ موسى - عليه السلام - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يَجِده مُتعلِّقًا بساق العرش، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوَّل مَن تنشقُّ عنه الأرض، ولم يلزَم من هذا أن يكون أفضل منه، قال:
    وتكلَّم العلماء في حكاية تقديم إبراهيم - عليه السلام - في الكِسوة، فروي أنه لم يكن في الأوَّلين والآخرين لله - عز وجل - عبدٌ أخوف من إبراهيم - عليه السلام - فتعجَّل له كِسوته؛ أمانًا له ليطمئن قلبه؛ ويحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أوَّل من أمَر بلبس السراويل إذا صلى؛ مبالغةً في السِّتر، وحِفظًا لفرْجه أنْ يَمَس مُصلاه، ففعَل ما أمِر به؛ فيُجزى بذلك أن يكون أوَّل مَن يُستر يوم القيامة، ويحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جرَّدوه، ونزَعوا عنه ثيابه على أعين الناس، كما يُفعل بمن يُراد قتْله، وكان ما أصابه من ذلك في ذات الله تعالى، فلما صبَر واحتسَب، وتوكَّل على الله؛ رفَع الله تعالى عنه شرَّ النار في الدنيا والآخرة، وجزاه بذلك العُري أن جعله أول من يدفَع عنه العُري يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وهذا أحسنها[15].
    2- أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها:
    زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أحسَنت صُحبته، وواسَته بنفسها ومالها، وكانت من السابقين إلى الإسلام؛ فقد جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له: ((بشِّر خديجة ببيت في الجنة من قَصَبٍ، لا صخَب فيه ولا نَصَب)).
    والقَصَب: هو اللؤلؤ، فبيتُها في الجنة من قصب؛ نظرًا لما كان لها من قَصب السَّبق إلى الإسلام، ثم هو بيتٌ لا صخب فيه ولا نصَب؛ ذلك أنها لم تتلكَّأ في إجابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما لم تُحوجه إلى كلام كثير أو رفع صوت، فكان جزاؤها من جنس عملها - رضي الله عنها وأرضاها.
    3- معذِّبة زِنِّيرَة:أما زِنِّيرَة - رضي الله عنها - فقد كانتْ أَمَةً لدى واحدة من نساء قريش، شرَح الله صدر زِنِّيرَة للإسلام؛ فآمنتْ وشهِدت شهادة الحق، فكانتْ سيِّدتها تعذِّبها، وتأمر الجواري أن يَضرِبن زِنِّيرَة على رأسها، ففعلنَ حتى ذهب بصرُ زِنِّيرَة!
    وكانت إذا عطشتْ وطلبت الماء، قُلن لها مُتهكِّمات: الماء أمامك فابحثي عنه، فكانت تتعثَّر، ولما طال عليها العذاب قالت لها سيدتها: إن كان ما تؤمِنين به حقًّا فادعيه يرُد عليك بصرك، فدعتْ ربَّها، فردَّ عليها بصرها، أما سيدتها التي كانت تعذِّبها، فقد لاقتْ شيئًا من جزائها في الدنيا، فإنها أُصيبت بوجعٍ شديد في الرأس، وكان لا يهدأ إلا إذا ضُرِبتْ على رأسها، فظلَّ الجواري يضربْنها على رأسها؛ كي يهدأ الوَجَع حتى ذهَب بصرها، والجزاءُ من جنس العمل!
    فائدة: ورد في تفسير القرطبي في سورة الأحقاف الآية 11، قوله تعالى:
    ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 11]،
    إن هذه الآية الكريمة اختلِف في سبب نزولها على ستة أقوال، من بينها قصة زِنِّيرَة الروميَّة آنِفة الذِّكر[16]،
    ولهذا قال من قال من السَّلف: إن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها.

    نعم، أيها المبارك:
    مَن خاف على عقِبه وعقِب عقبه، فليتقِ الله، ومَن تعقَّب عورات الناس، تعقَّب الله عورتَه، ومن تعقَّب عورته فضَحَه الله ولو كان في جوف رحِم؛ عن سعيد بن عبدالله بن جريج، عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخُل الإيمان قلبه، لا تَغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتهم؛ فإنه من اتَّبع عوراتهم يتَّبع الله عورته، ومَن يتَّبع الله عورته يفضحه في بيته))[17].
    ومن كان يحرِص على عِرضه، فليحرصْ على أعراض الناس، ومن أراد أن يهتك عِرضه، فليهتِك أعراض الناس، فلذة ساعة غُصَّة إلى قيام الساعة، وكل دين لا بدَّ له مِن وفاء، ودَين الأعراض وفاؤه بالأعراض.والذين يفرَحون باللَّذة الحرام قليلاً، سيبكون على ما جنَتْ أيديهم كثيرًا في حقِّ أعراضهم، والذين يَخونون حُرمات الناس، يخونون حُرماتهم أولاً، ولكنهم غافِلون عن أمْرهم؛ لأنهم آخر من يعلم.
    ولو علِموا الحقَّ لتَواروا عن البشر خجَلاً وعارًا؛ ﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14]، وإنه أعدَل العادلين؛ ﴿ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الروم: 9].
    هذا ما أقتضى التنبيه عليه والإشارة إليه، فإن أصبتُ فبتوفيقٍ من الله وفضْله، وإن أخطأتُ فمن نفسي والشيطان، ألْهَمنا الله وإياكم والمسلمين سبيلَ الرشاد، ونفَع بكم البلاد والعباد.والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

    كُتُب رائعة في هذا المجال:
    الجزاء من جنس العمل؛ للعفَّاني. أهم المراجع: 1- عدالة السماء، (قصص واقعيَّة هادِفة)؛ تأليف اللواء الركن محمود شيت خطَّاب - رحمه الله تعالى - دار وحي القلم، الطبعة الثانية، 2006. 2- بلوغ الأمل في تقرير قاعدة: "الجزاء من جنس العمل"، محمد شومان بن أحمد الرملي. 3- القواعد الفقهيَّة المستخرَجة من كتاب إعلام الموقِّعين للعلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - تقديم فضيلة الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله تعالى - ط. دار ابن القيم ودار ابن عفان. 4- موقع إسلام ويب.


    [1] ثياب حرير حُمر تُنسج بالصين، واحدتها لاذة، ويقول العامة: لاسة.

    [2] حب الماء: وعاء الماء؛ كالزير والجرة، جمعه: أحباب وحببة، وحباب.

    [3] سقط في يده: ندِم وتحيَّر، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ﴾ [الأعراف: 149].

    [4] لا يَريم: لا يبرح.

    [5] عدالة السماء، (قصص واقعية هادفة)؛ تأليف اللواء الركن محمود شيت خطاب - رحمه الله تعالى - دار وحي القلم، الطبعة الثانية، 2006، ص 41.
    [6] الأدب المفرد؛ البخاري، باب مجالِس الصُّعُدات، حديث رقم 1132، والحديث مرفوع.
    [7] مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأَدَب، فِي كَفِّ اللِّسان، حديث رقم(25908)والحديث مرفوع.

    [8] النصيحة للراعي والرعيَّة للتبريزي، باب ذكْر ما يُسخِط الرب من القول في مجالِسهم والتلفُّظ، رقْم الحديث (86)، والحديث مرفوع.

    [9] بلوغ الأمل في تقرير قاعِدة "الجزاء من جنس العمل"، باب عامٌّ في جزاء الحسنات والسيئات وجزاء ترْك الصلاة واتِّباع الشهوات، ص (8)، المكتبة الشاملة.
    [10] مجموع الفتاوى (10/570).

    [11] مفتاح دار السعادة، ص (49).

    [12] صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري،كتاب الصَّلاة،باب الصلاة على النَّبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث (621)، والحديث مرفوع.
    [13] جَلاء الأفهام، ص (87- 88).

    [14] سُنن النَّسائي،كتاب الجنائز،البعث، حديث رقم (2082).

    [15] القرطبي، كتاب التذكرة، ص (115).

    [16] موسوعة التفسير وعلوم القرآن، من موقع إسلام ويب.

    [17] سُنن أبي داود،كِتاب الأدَب،باب في الغِيبَة، رقم الحديث (4239)، والحديث مرفوع.
    من عاش عمراً طويلاً له الخبرة و الحكمة في الحياة، فالحياة ما هي إلا مسرح و الجميع ممثلون فيها ، و كلٌ يلعب دوراً في سيرها، لذلك للكل بصمة خاصّة به يضعها لكي يفيد بهاالآخرين.
يعمل...
X