قصة موسى والرجل الصالح
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾
[الكهف: 60 - 82].
إنَّ هذه القصة مِن أكثر القصص التي وردت بها العديد من المعاني التربوية المتعلقة بعملية التعلم والتعليم، والتي يمكن تصنيفها كما يلي:
أولًا: خصائص المتعلم في هذه القصة:
هناك مجموعة من الخصائص التي يتَّصف بها المتعلِّم في هذه القصة، نوردها كما يلي:1
- رغبة المتعلم وإصراره ودافعيته الذاتية للتعلم:
فقد ظهر هذا جليًّا في قول موسى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]،
فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي يقضيه في الوصول، وهو يعبِّر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله: ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60].
لقد بدأت القصة بهذا القول؛ لأهميته القصوى في عملية التعلُّم، الذي بدونه يفقد التعلُّم أهمَّ خصائصه الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها، فالإنسان وُلد ليكون حرًّا، وقد أُعطي الحرية مِن الله ليفعل أو لا يفعل، على أنْ يتحمل مسؤولية فعله.
تعالوا بنا ننظر إلى الفطرة الإنسانية في الواقع الحياتي للإنسان في المواقف التالية:
• إذا شاهد "طفل يحبو" جهاز تليفون محمول أمامه؛ ماذا سيفعل؟ بالطبع سيأخذه ويقلِّب فيه، ومِن ثمَّ سيُسرع أحد الكبار
(الوالد، أو الوالدة) ويمنعه من ذلك، وقد يُعنِّفه على ذلك.
• هل سمعْتَ حوار طفل أصبح قادرًا على التحدث؟ ما الأسئلة التي يطرحها على والديه؟ ألم تسمعه يسأل ويقول:
"ما هذا؟ وليه؟ وعشان إيه؟..."؛ مَن عَلَّمَه هذه الأسئلة؟
• ألم تشاهد الطفل يصر على الخروج خارج المنزل كلما هَمَّ أحد الكبار بالخروج مِن المنزل؟كل هذه الأفعال فِطْريَّةٌ مِن داخل هذا الطفل، فهو باحث عن العلم في ذاته، ولديه الرغبة والإصرار على التعلُّم بالفطرة التي فطره الله عليها.هذه الفطرة التي تتناسب مع مهمة هذا المخلوق، فهو الخليفة في الأرض، والمكلَّف بعمارتها بالعِلم.
ألم تقرأ أول ما نزل من القرآن؟ قول الله عز وجل:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، فهذا الإنسان مكلَّف بالبحث في كل ما خلقه الله وتعلُّم أسراره.
إنه التناغم الدقيق بين التكاليف والفطرة لهذا الإنسان، فسبحان الله الذي أتقن كلَّ شيءٍ خلقَه.
ولكنْ هل هذا المبدأ يتوفر في تعليم أطفالنا في منازلنا ومدارسنا؟إنَّ عدم توفُّر هذا المبدأ في التعليم هو أكبر عامل هدم للإنسان وللمجتمع وللأمة، إنَّ تسرُّب الطلاب مِن المدارس لَأكبَر دليل على عدم توفُّر هذا المبدأ الهام، إنَّ الهمَّ الأكبر الآن لكل المسؤولين عن التعليم هو إجبار الطلاب على الحضور إلى المدرسة وأخذ الغياب وفصْل المتغيِّبين، وما لجانُ المتابعة على مستوى المدرسة ثم الإدارة ثم المديرية ثم الوزارة إلا شاهد على ذلك، لقد عدنا إلى نظام التفتيش والقهر وكأنها عبودية.لم تعد المدرسة محبَّبةً وجاذبةً للمتعلم، بل مصدر قلق وتوتر له، كما أنَّ نظام الامتحانات الإجبارية يسبب هاجس خوف وتوتُّر للمتعلم وللأسرة كلِّها، وما نظام امتحانات الثانوية العامة الذي تجيَّش له الأموال والإمكانات والمعلمون والمسؤولون، إلَّا مصدر إزعاج وتوتُّر كل الأفراد.
وفي النهاية، ما هو الناتج التعليمي نتيجة فقدان هذا المبدأ؟ إنه تدنِّي مستوى التعليم عن باقي الأمم، وتخلُّفنا بالتالي في كل مستويات الحياة.
2- أدب المتعلم مع معلمه:لقد ظهر تأدُّب موسى مع العبد الصالح جليًّا في عدة مواقف في هذه القصة، منها قوله:
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66].
بهذا الأدب الجمِّ بدأ موسى؛ يستفهِم ولا يجزِم، ويَطلب العلم الراشد مِن العبد الصالح العالم.
وفي موقف ثانٍ: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، وهنا تظهر طاعة موسى للعبد الصالح بهذه الكلمات التي تعبر عن استمرارية الطاعة:
﴿ سَتَجِدُنِي ﴾ [الكهف: 69]، وعزمه على الطاعة: ﴿ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، ويقرن ذلك بمشيئة الله والصبر على ذلك: ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69]، فما أروعها من كلمات معبرة.وفي موقف آخر يقول:
﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 73]، وهنا يعتذر موسى بنسيانه، ويطلب إلى الرجل الصالح أنْ يقبلَ عذره ولا يُرهقه بالمراجعة والتذكير.هل هذا الأدب موجود في طلاب العلم الآن؟! حدِّث ولا حرج!
3- استعانة المتعلِّم بالله وعزمه على الصبر والطاعة في تعلمه، وتقديمه مشيئة الله:
لقد جاء موسى يتعلم العلم طاعةً لربه وعبادةً له، لا لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ فنيَّتُه لله، وقد تَبين ذلك مِن أول القصة في قوله لفتاه: ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]، كما أنه يستعين بالله ويصبر على مشاق التعلُّم، وقد تبين هذا في قوله للعبد الصالح: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69].
ثانيًا: خصائص المعلم في هذه القصة:
يتضح من القصة مجموعةٌ من الخصائص التي يتصف بها المعلم، ومنها:
1- أنْ يكون المعلم عابدًا لله، وعنده رحمةٌ مِن الله، وفَتح الله عليه بعلمه:
وهذا يظهر جليًّا في قول الله عز وجل: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾[الكهف: 65].لقد وصف الله العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى ليتعلم منه بثلاث خصال:
أولها: أنْ يكون عابدًا لله.
وثانيها: أنْ يكون لديه رحمة من الله.
وثالثها: أنْ يكون الله قد فتح عليه بعلمه.ولكنْ قبل أن نُفصِّل في هذه الخصال الثلاث للمعلم، انظروا معي في التعبيرات الآتية في الآية الكريمة: ﴿ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الكهف: 65]، و﴿ مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الكهف: 65]، و﴿ مِنْ لَدُنَّا ﴾ [الكهف: 65]، ألم تشاهدوا أنَّ كل هذه الخصال نابعةٌ من الله؟ يا ألله! إنَّ هذا المعلِّم ربانيٌّ في خصائصه، فكيف يكون عمله؟!
هل هذا متوفر في المعلمين الآن أم أنَّ التعليم صار مهنة من لا مهنة له؟!
(أ) أنْ يكون المعلم عابدًا لله:
فالمعلم العابد لله ينطلق تعليمُه لتلاميذه مِن عبادته لله، وليس انتظارًا للأجر المادي من أحد، وحتى إنْ كان هناك أجر يتقاضاه من أي جهة، فابتغاؤه الأصلي هو ما عند الله من أجر ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: 29]، وبالتالي لن نحتاج إلى لجان متابعة من هنا أو هناك؛ لأن المعلم ينطلق في التدريس مِن كونه عبادة لله ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
(ب) أنْ يكون المعلم عنده رحمة من الله:
إن في تقديم الرحمة على العلم في الآية دليلًا على أنَّها مِن أخصِّ صفات المعلم، وهذا بعينه ما بدا واضحًا في بقية أحداث القصة في الآيات التي جاءت بعد ذلك، وكيف عامل العبدُ الصالحُ موسى عليه السلام، وكيف صبر على أسئلته التي أثارها رغم تعهُّداته.
وإنَّ أكبر دليل على هذه الخاصية الضرورية في المعلم، هو ما وصف به ربُّ العزة رسولَه الكريم الذي بعثه معلِّمًا للعالمين في قوله:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]،
وقوله عز وجل: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
انظر إلى تجسيد الصحابي الجليل معاوية بن الحكَم السُّلَمِيِّ رضي الله عنه لهذه الرحمة في التعليم، وذلك حين يصف سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؛ فيقول: بَيْنَما أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي القَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي؛ لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ:
((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: ((فَلَا تَأْتِهِمْ))،
قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: ((ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ))؛ [مسلم].
ولعلنا نلحظ بوضوح في هذا الموقف أنَّ رحمةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تمرَّ هكذا دون أنْ يَلتفت إليها معاوية رضي الله عنه أو ينتبه إليها، لقد علَّق عليها، وذكر أنَّها من أجلِّ صفات المعلِّم وأحسنها، ثم لعلَّنا نلحظ أيضًا أنَّ هذه الرحمة هي التي شَجعت معاوية على أنْ يتقدم بأسئلة أخرى ليستفيد ويستزيد، ولو كان أسلوب المعلِّم غليظًا، لامتنع السائل؛ خشيةَ التعرُّض للغلظة أو القسوة.
وما أروع رحمةَ معلم العالمين محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
((دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِين،َ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ))؛ (البخاري ومسلم).
كثيرًا ما يضع المعلِّم حواجز كثيرة بينه وبين عموم المتعلمين إذا لم يكن متصفًا بهذا الخلق العظيم:
خلق الرحمة، فالناس عادةً تَنفر مِن الإنسان غليظ الطباع، قاسي المشاعر؛ ولذلك قد يحوي عقلُ المعلم علمًا هائلًا لكنه لا يستطيع أنْ يُفيد المتعلمين به؛ لأنَّ قلبه ما حوى رحمةً ولا شفقة!وإنَّ العجب بعد ذلك أنْ تجد بعض المعلمين والعلماء يستعملون هذه الغلظة في معاملتهم مع المتعلمين أو في دعوتهم، الأمر الذي ينفِّر المتعلمين أو الناس منهم، ويصدُّهم عن دعوتهم، فضلًا عن الاقتداء بهم.وقد حدث هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال:
"جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا!
قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ:
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الحَاجَةِ))؛ [البخاري].
إنَّ الرحمة التي في قلب المعلم، والتي على ضوئها تأتي أفعالُه وأعماله - تكون أدعى لقَبول تعليمه والانتفاعِ به.. وتنتقل هذه الرحمة بدورها إلى تلاميذه، ويكون أثرُها بالغَ الأهمية في المجتمع بصفة عامَّة؛ إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزَع من شيء إلا شانه.
وإنَّ مِثل ذلك الخُلق يتطلبه المعلِّم في كل مكان وكل مجال، فيتطلبه الأب في البيت، والمدرس في المدرسة، والأستاذ في الجامعة، والطبيب في المستشفى أو العيادة، ويتطلبه بصفة خاصة الداعيةُ والمربي في كل أحواله ومقاماته.لذلك؛ على المعلم أنْ يتعلَّم الرحمة تمامًا كما يتعلَّم العلم، ويباشر هذه الرحمة مع متعلِّميه تمامًا كما يباشر تجاربه وقواعده وأصوله العلمية.
(ج) أنْ يكون المعلم قد فتح الله عليه بعلمه:وهذه هي الخاصية الثالثة التي خَصَّ الله بها المعلِّم في الآية الكريمة:
﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65].
إنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، فلا بد أنْ يكون معلم العلم عالمًا بما يُعلِّمه، وماهرًا في تعليمه للآخرين، وكان هذا العبد الصالح - الذي ذهب إليه موسى عليه السلام ليتعلم منه - قد زَوَّده الله بالعلم، حيث قيل:
إنَّه جانب مِن العلم اللَّدُنِّي بالغيب أطلَعَه الله عليه.كما يتضح من خلال القصة أنَّ هذا الرجل الصالح كان ماهرًا في طريقة تدريسه، وعالمًا بمبادئ التعليم والتعلُّم، حيث مارسها عمليًّا مع موسى عليه السلام، كما سيأتي تناوله فيما بعد، وذكر له البعض منها؛ مثل:
﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68].
2- صبر المعلم على تلميذه وتكرار النصح والإرشاد له:
بعد اعتراض موسى عليه السلام على العبد الصالح بقوله:
﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ [الكهف: 71]،
لم يعنِّفه العبد الصالح على قوله، بل ذكَّرَه في صبر ولطف بقوله:
﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 72] وقَبِل عذرَه.
وعندما كرر موسى ذلك مرة أخرى عند قَتْلِه الطفل بقوله: ﴿ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]، مرةً أخرى يردُّه العبدُ الصالح إلى شَرْطِهِ الذي شَرَطَ، ووَعْدِه الذي وَعَدَ، ويُذكِّره بما قال له أول مرة، دون أي تعنيف أو ضجر: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 75].
ثالثًا: مبادئ تخص طريقة التدريس:
هناك مجموعة من المبادئ التي ترتبط بطريقة التدريس، وردت كما يلي:
1- أنْ يتفق المعلم مع تلميذه على بروتوكول التعامل معًا مِن البداية:
من المبادئ الحديثة في عملية التعلُّم والتعليم أنْ يتفق المعلم مع المتعلمين على كيفية التعامل معًا، وهذا ما فعله العبد الصالح مع موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 70].
2- معايشة المتعلِّم مُعَلِّمَه في طلبه للعلم:أظهرت لنا هذه القصة كيف لازم موسى عليه السلام العبدَ الصالح ليتعلم منه، وقد طلب منه هذه الصحبة: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66].
لقد كان هذا المبدأ مطبَّقًا في عصور الإسلام المزدهرة، وكان هذا مِن أسباب نجاح العملية التعليمية وتقدُّم الأمة، بل إنَّ هذا كان مطبَّقًا في التعليم الأزهري منذ فترة، لقد غاب هذا المبدأ عن تعليمنا، وأصبح هناك فاصل كبير بين المعلم والتلميذ.
3- معرفة المتعلم الهدف من موضوع التعلم:
لقد حدد العبد الصالح لموسى عليه السلام الهدف من التجربة منذ البداية، وهو:
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 67، 68]؛
أي: إنك لن تستطيع الصبر على التعلم لعدم معرفتك لموضوع التعلم الذي سأقوم به، كما ذَكَّره به في كل موقف تعليمي قام به، كما ختم به لقاءهما، وهذا سيتم توضيحه في البند التالي.
4- استخدام المنهج التجريبي الواقعي في الحياة في عملية التعلم والتعليم:
حيث فَرَض العبدُ الصالح الفرْضَ التعليمي لموسى عليه السلام، وهو:
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 67، 68]، وافتَرَض موسى عليه السلام عكس ذلك: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، ثم طَلب العبدُ الصالح مِن موسى عليه السلام ألَّا يسأله حتى نهاية التجربة، وأَحْكَمَ ضبطَ التجربة، ولم يجب عليه في أثناء التجربة:
﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 70]، بل حذره مِرارًا وتَكرارًا ألَّا يسأل، مُذكِّرًا بفَرْضِه للتجربة: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 72]، ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 75]، ويعود موسى إلى نفسه، ويجد أنه خالف عن وعده مرتين، ونَسي ما تَعهَّد به بعد التذكير والتفكير، فيندفع ويقطع على نفسه الطريق، ويجعلها آخِرَ فرصة أمامه: ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾ [الكهف: 76]،
وبالفعل، لم يصبر موسى عليه السلام، ويقرر العبد الصالح نهايةَ التجربة، ويُثْبت صحة فرض العبد الصالح:
﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾[الكهف: 78].
وبعد أنْ فَسَّر له أسباب أعماله كلها، يعود أخيرًا ويؤكد له صحة الفرض الذي فرضه من البداية، ويقول له:
﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾[الكهف: 82].
إنَّ المنهج العلمي التجريبي مِن أكثر المناهج إقناعًا في البحث العلمي الحديث، والذي أخَذ به الغربُ حديثًا بعد طول جهل في العصور الوسطى، وكان سببًا في تقدمه وامتلاكه وسائلَ التحكم في الحياة؛ فمراكز الأبحاث العلمية عندهم تَنتشر في كل جامعاتهم وشركاتهم، كما أخذوا به في العلوم الإنسانية منذ عقود قليلة، أمَّا القرآنُ الكريمُ، فقد أشار إليه في هذه القصة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، أمَّا نحن في عالمنا العربي والإسلامي، فقد أَهمَلْنا هذا المنهج رغم وجوده في كتابنا الكريم.
أ. د. فؤاد محمد موسى
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾
[الكهف: 60 - 82].
إنَّ هذه القصة مِن أكثر القصص التي وردت بها العديد من المعاني التربوية المتعلقة بعملية التعلم والتعليم، والتي يمكن تصنيفها كما يلي:
أولًا: خصائص المتعلم في هذه القصة:
هناك مجموعة من الخصائص التي يتَّصف بها المتعلِّم في هذه القصة، نوردها كما يلي:1
- رغبة المتعلم وإصراره ودافعيته الذاتية للتعلم:
فقد ظهر هذا جليًّا في قول موسى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]،
فهو يعلن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي يقضيه في الوصول، وهو يعبِّر عن هذا التصميم بما حكاه القرآن من قوله: ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60].
لقد بدأت القصة بهذا القول؛ لأهميته القصوى في عملية التعلُّم، الذي بدونه يفقد التعلُّم أهمَّ خصائصه الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها، فالإنسان وُلد ليكون حرًّا، وقد أُعطي الحرية مِن الله ليفعل أو لا يفعل، على أنْ يتحمل مسؤولية فعله.
تعالوا بنا ننظر إلى الفطرة الإنسانية في الواقع الحياتي للإنسان في المواقف التالية:
• إذا شاهد "طفل يحبو" جهاز تليفون محمول أمامه؛ ماذا سيفعل؟ بالطبع سيأخذه ويقلِّب فيه، ومِن ثمَّ سيُسرع أحد الكبار
(الوالد، أو الوالدة) ويمنعه من ذلك، وقد يُعنِّفه على ذلك.
• هل سمعْتَ حوار طفل أصبح قادرًا على التحدث؟ ما الأسئلة التي يطرحها على والديه؟ ألم تسمعه يسأل ويقول:
"ما هذا؟ وليه؟ وعشان إيه؟..."؛ مَن عَلَّمَه هذه الأسئلة؟
• ألم تشاهد الطفل يصر على الخروج خارج المنزل كلما هَمَّ أحد الكبار بالخروج مِن المنزل؟كل هذه الأفعال فِطْريَّةٌ مِن داخل هذا الطفل، فهو باحث عن العلم في ذاته، ولديه الرغبة والإصرار على التعلُّم بالفطرة التي فطره الله عليها.هذه الفطرة التي تتناسب مع مهمة هذا المخلوق، فهو الخليفة في الأرض، والمكلَّف بعمارتها بالعِلم.
ألم تقرأ أول ما نزل من القرآن؟ قول الله عز وجل:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، فهذا الإنسان مكلَّف بالبحث في كل ما خلقه الله وتعلُّم أسراره.
إنه التناغم الدقيق بين التكاليف والفطرة لهذا الإنسان، فسبحان الله الذي أتقن كلَّ شيءٍ خلقَه.
ولكنْ هل هذا المبدأ يتوفر في تعليم أطفالنا في منازلنا ومدارسنا؟إنَّ عدم توفُّر هذا المبدأ في التعليم هو أكبر عامل هدم للإنسان وللمجتمع وللأمة، إنَّ تسرُّب الطلاب مِن المدارس لَأكبَر دليل على عدم توفُّر هذا المبدأ الهام، إنَّ الهمَّ الأكبر الآن لكل المسؤولين عن التعليم هو إجبار الطلاب على الحضور إلى المدرسة وأخذ الغياب وفصْل المتغيِّبين، وما لجانُ المتابعة على مستوى المدرسة ثم الإدارة ثم المديرية ثم الوزارة إلا شاهد على ذلك، لقد عدنا إلى نظام التفتيش والقهر وكأنها عبودية.لم تعد المدرسة محبَّبةً وجاذبةً للمتعلم، بل مصدر قلق وتوتر له، كما أنَّ نظام الامتحانات الإجبارية يسبب هاجس خوف وتوتُّر للمتعلم وللأسرة كلِّها، وما نظام امتحانات الثانوية العامة الذي تجيَّش له الأموال والإمكانات والمعلمون والمسؤولون، إلَّا مصدر إزعاج وتوتُّر كل الأفراد.
وفي النهاية، ما هو الناتج التعليمي نتيجة فقدان هذا المبدأ؟ إنه تدنِّي مستوى التعليم عن باقي الأمم، وتخلُّفنا بالتالي في كل مستويات الحياة.
2- أدب المتعلم مع معلمه:لقد ظهر تأدُّب موسى مع العبد الصالح جليًّا في عدة مواقف في هذه القصة، منها قوله:
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66].
بهذا الأدب الجمِّ بدأ موسى؛ يستفهِم ولا يجزِم، ويَطلب العلم الراشد مِن العبد الصالح العالم.
وفي موقف ثانٍ: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، وهنا تظهر طاعة موسى للعبد الصالح بهذه الكلمات التي تعبر عن استمرارية الطاعة:
﴿ سَتَجِدُنِي ﴾ [الكهف: 69]، وعزمه على الطاعة: ﴿ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، ويقرن ذلك بمشيئة الله والصبر على ذلك: ﴿ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69]، فما أروعها من كلمات معبرة.وفي موقف آخر يقول:
﴿ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 73]، وهنا يعتذر موسى بنسيانه، ويطلب إلى الرجل الصالح أنْ يقبلَ عذره ولا يُرهقه بالمراجعة والتذكير.هل هذا الأدب موجود في طلاب العلم الآن؟! حدِّث ولا حرج!
3- استعانة المتعلِّم بالله وعزمه على الصبر والطاعة في تعلمه، وتقديمه مشيئة الله:
لقد جاء موسى يتعلم العلم طاعةً لربه وعبادةً له، لا لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ فنيَّتُه لله، وقد تَبين ذلك مِن أول القصة في قوله لفتاه: ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]، كما أنه يستعين بالله ويصبر على مشاق التعلُّم، وقد تبين هذا في قوله للعبد الصالح: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69].
ثانيًا: خصائص المعلم في هذه القصة:
يتضح من القصة مجموعةٌ من الخصائص التي يتصف بها المعلم، ومنها:
1- أنْ يكون المعلم عابدًا لله، وعنده رحمةٌ مِن الله، وفَتح الله عليه بعلمه:
وهذا يظهر جليًّا في قول الله عز وجل: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾[الكهف: 65].لقد وصف الله العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى ليتعلم منه بثلاث خصال:
أولها: أنْ يكون عابدًا لله.
وثانيها: أنْ يكون لديه رحمة من الله.
وثالثها: أنْ يكون الله قد فتح عليه بعلمه.ولكنْ قبل أن نُفصِّل في هذه الخصال الثلاث للمعلم، انظروا معي في التعبيرات الآتية في الآية الكريمة: ﴿ مِنْ عِبَادِنَا ﴾ [الكهف: 65]، و﴿ مِنْ عِنْدِنَا ﴾ [الكهف: 65]، و﴿ مِنْ لَدُنَّا ﴾ [الكهف: 65]، ألم تشاهدوا أنَّ كل هذه الخصال نابعةٌ من الله؟ يا ألله! إنَّ هذا المعلِّم ربانيٌّ في خصائصه، فكيف يكون عمله؟!
هل هذا متوفر في المعلمين الآن أم أنَّ التعليم صار مهنة من لا مهنة له؟!
(أ) أنْ يكون المعلم عابدًا لله:
فالمعلم العابد لله ينطلق تعليمُه لتلاميذه مِن عبادته لله، وليس انتظارًا للأجر المادي من أحد، وحتى إنْ كان هناك أجر يتقاضاه من أي جهة، فابتغاؤه الأصلي هو ما عند الله من أجر ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾ [هود: 29]، وبالتالي لن نحتاج إلى لجان متابعة من هنا أو هناك؛ لأن المعلم ينطلق في التدريس مِن كونه عبادة لله ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
(ب) أنْ يكون المعلم عنده رحمة من الله:
إن في تقديم الرحمة على العلم في الآية دليلًا على أنَّها مِن أخصِّ صفات المعلم، وهذا بعينه ما بدا واضحًا في بقية أحداث القصة في الآيات التي جاءت بعد ذلك، وكيف عامل العبدُ الصالحُ موسى عليه السلام، وكيف صبر على أسئلته التي أثارها رغم تعهُّداته.
وإنَّ أكبر دليل على هذه الخاصية الضرورية في المعلم، هو ما وصف به ربُّ العزة رسولَه الكريم الذي بعثه معلِّمًا للعالمين في قوله:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]،
وقوله عز وجل: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
انظر إلى تجسيد الصحابي الجليل معاوية بن الحكَم السُّلَمِيِّ رضي الله عنه لهذه الرحمة في التعليم، وذلك حين يصف سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؛ فيقول: بَيْنَما أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي القَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي؛ لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ:
((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ))، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ، قَالَ: ((فَلَا تَأْتِهِمْ))،
قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: ((ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ))؛ [مسلم].
ولعلنا نلحظ بوضوح في هذا الموقف أنَّ رحمةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تمرَّ هكذا دون أنْ يَلتفت إليها معاوية رضي الله عنه أو ينتبه إليها، لقد علَّق عليها، وذكر أنَّها من أجلِّ صفات المعلِّم وأحسنها، ثم لعلَّنا نلحظ أيضًا أنَّ هذه الرحمة هي التي شَجعت معاوية على أنْ يتقدم بأسئلة أخرى ليستفيد ويستزيد، ولو كان أسلوب المعلِّم غليظًا، لامتنع السائل؛ خشيةَ التعرُّض للغلظة أو القسوة.
وما أروع رحمةَ معلم العالمين محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
((دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِين،َ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ))؛ (البخاري ومسلم).
كثيرًا ما يضع المعلِّم حواجز كثيرة بينه وبين عموم المتعلمين إذا لم يكن متصفًا بهذا الخلق العظيم:
خلق الرحمة، فالناس عادةً تَنفر مِن الإنسان غليظ الطباع، قاسي المشاعر؛ ولذلك قد يحوي عقلُ المعلم علمًا هائلًا لكنه لا يستطيع أنْ يُفيد المتعلمين به؛ لأنَّ قلبه ما حوى رحمةً ولا شفقة!وإنَّ العجب بعد ذلك أنْ تجد بعض المعلمين والعلماء يستعملون هذه الغلظة في معاملتهم مع المتعلمين أو في دعوتهم، الأمر الذي ينفِّر المتعلمين أو الناس منهم، ويصدُّهم عن دعوتهم، فضلًا عن الاقتداء بهم.وقد حدث هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال:
"جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا!
قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ:
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَالضَّعِيفَ، وَذَا الحَاجَةِ))؛ [البخاري].
إنَّ الرحمة التي في قلب المعلم، والتي على ضوئها تأتي أفعالُه وأعماله - تكون أدعى لقَبول تعليمه والانتفاعِ به.. وتنتقل هذه الرحمة بدورها إلى تلاميذه، ويكون أثرُها بالغَ الأهمية في المجتمع بصفة عامَّة؛ إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزَع من شيء إلا شانه.
وإنَّ مِثل ذلك الخُلق يتطلبه المعلِّم في كل مكان وكل مجال، فيتطلبه الأب في البيت، والمدرس في المدرسة، والأستاذ في الجامعة، والطبيب في المستشفى أو العيادة، ويتطلبه بصفة خاصة الداعيةُ والمربي في كل أحواله ومقاماته.لذلك؛ على المعلم أنْ يتعلَّم الرحمة تمامًا كما يتعلَّم العلم، ويباشر هذه الرحمة مع متعلِّميه تمامًا كما يباشر تجاربه وقواعده وأصوله العلمية.
(ج) أنْ يكون المعلم قد فتح الله عليه بعلمه:وهذه هي الخاصية الثالثة التي خَصَّ الله بها المعلِّم في الآية الكريمة:
﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65].
إنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، فلا بد أنْ يكون معلم العلم عالمًا بما يُعلِّمه، وماهرًا في تعليمه للآخرين، وكان هذا العبد الصالح - الذي ذهب إليه موسى عليه السلام ليتعلم منه - قد زَوَّده الله بالعلم، حيث قيل:
إنَّه جانب مِن العلم اللَّدُنِّي بالغيب أطلَعَه الله عليه.كما يتضح من خلال القصة أنَّ هذا الرجل الصالح كان ماهرًا في طريقة تدريسه، وعالمًا بمبادئ التعليم والتعلُّم، حيث مارسها عمليًّا مع موسى عليه السلام، كما سيأتي تناوله فيما بعد، وذكر له البعض منها؛ مثل:
﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68].
2- صبر المعلم على تلميذه وتكرار النصح والإرشاد له:
بعد اعتراض موسى عليه السلام على العبد الصالح بقوله:
﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ [الكهف: 71]،
لم يعنِّفه العبد الصالح على قوله، بل ذكَّرَه في صبر ولطف بقوله:
﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 72] وقَبِل عذرَه.
وعندما كرر موسى ذلك مرة أخرى عند قَتْلِه الطفل بقوله: ﴿ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]، مرةً أخرى يردُّه العبدُ الصالح إلى شَرْطِهِ الذي شَرَطَ، ووَعْدِه الذي وَعَدَ، ويُذكِّره بما قال له أول مرة، دون أي تعنيف أو ضجر: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 75].
ثالثًا: مبادئ تخص طريقة التدريس:
هناك مجموعة من المبادئ التي ترتبط بطريقة التدريس، وردت كما يلي:
1- أنْ يتفق المعلم مع تلميذه على بروتوكول التعامل معًا مِن البداية:
من المبادئ الحديثة في عملية التعلُّم والتعليم أنْ يتفق المعلم مع المتعلمين على كيفية التعامل معًا، وهذا ما فعله العبد الصالح مع موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 70].
2- معايشة المتعلِّم مُعَلِّمَه في طلبه للعلم:أظهرت لنا هذه القصة كيف لازم موسى عليه السلام العبدَ الصالح ليتعلم منه، وقد طلب منه هذه الصحبة: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66].
لقد كان هذا المبدأ مطبَّقًا في عصور الإسلام المزدهرة، وكان هذا مِن أسباب نجاح العملية التعليمية وتقدُّم الأمة، بل إنَّ هذا كان مطبَّقًا في التعليم الأزهري منذ فترة، لقد غاب هذا المبدأ عن تعليمنا، وأصبح هناك فاصل كبير بين المعلم والتلميذ.
3- معرفة المتعلم الهدف من موضوع التعلم:
لقد حدد العبد الصالح لموسى عليه السلام الهدف من التجربة منذ البداية، وهو:
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 67، 68]؛
أي: إنك لن تستطيع الصبر على التعلم لعدم معرفتك لموضوع التعلم الذي سأقوم به، كما ذَكَّره به في كل موقف تعليمي قام به، كما ختم به لقاءهما، وهذا سيتم توضيحه في البند التالي.
4- استخدام المنهج التجريبي الواقعي في الحياة في عملية التعلم والتعليم:
حيث فَرَض العبدُ الصالح الفرْضَ التعليمي لموسى عليه السلام، وهو:
﴿ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 67، 68]، وافتَرَض موسى عليه السلام عكس ذلك: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69]، ثم طَلب العبدُ الصالح مِن موسى عليه السلام ألَّا يسأله حتى نهاية التجربة، وأَحْكَمَ ضبطَ التجربة، ولم يجب عليه في أثناء التجربة:
﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 70]، بل حذره مِرارًا وتَكرارًا ألَّا يسأل، مُذكِّرًا بفَرْضِه للتجربة: ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 72]، ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 75]، ويعود موسى إلى نفسه، ويجد أنه خالف عن وعده مرتين، ونَسي ما تَعهَّد به بعد التذكير والتفكير، فيندفع ويقطع على نفسه الطريق، ويجعلها آخِرَ فرصة أمامه: ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾ [الكهف: 76]،
وبالفعل، لم يصبر موسى عليه السلام، ويقرر العبد الصالح نهايةَ التجربة، ويُثْبت صحة فرض العبد الصالح:
﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾[الكهف: 78].
وبعد أنْ فَسَّر له أسباب أعماله كلها، يعود أخيرًا ويؤكد له صحة الفرض الذي فرضه من البداية، ويقول له:
﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾[الكهف: 82].
إنَّ المنهج العلمي التجريبي مِن أكثر المناهج إقناعًا في البحث العلمي الحديث، والذي أخَذ به الغربُ حديثًا بعد طول جهل في العصور الوسطى، وكان سببًا في تقدمه وامتلاكه وسائلَ التحكم في الحياة؛ فمراكز الأبحاث العلمية عندهم تَنتشر في كل جامعاتهم وشركاتهم، كما أخذوا به في العلوم الإنسانية منذ عقود قليلة، أمَّا القرآنُ الكريمُ، فقد أشار إليه في هذه القصة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، أمَّا نحن في عالمنا العربي والإسلامي، فقد أَهمَلْنا هذا المنهج رغم وجوده في كتابنا الكريم.
أ. د. فؤاد محمد موسى