بئس حامل القرآن أنا إذاً
كان يوم اليمامة في حرب بني حنيفة -قوم مسيلمة الكذاب- من أشد أيام حروب الردة، وكان للقراء حملة القرآن فيه المواقف المشهودة، وكان القائد الأعلى سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه يختار منهم من يعطيه على قسم من الجيش الراية، وحامل الراية لا تسقط من يده حتى يسقط ميتا، ولا تؤخذ منه حتى تؤخذ روحه فى دونها.
وكانت راية المهاجرين مع عبد الله بن حفص بن غانم القرشي، فثبت معها حتى قُتل، فأعطيت الراية لسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه فقال لهم: ما أعلمني لأي شيء أعطيتمونيها؟ قلتم صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات؟ قالوا: أجل فانظر كيف تكون؟ أتخشى علينا من نفسك شيئا؟ قال: بئس حامل القرآن أنا إذاً.
تناول سالم الراية وهو يرى تناولها عهدا بينه وبين الله والمسلمين أن لا يفر حتى يصرع دونها، فصدق ما عاهد الله عليه وجرى على سنة حملة القرآن إخوانه من قبله، فأمسكها بيمينه حتى قطعت يمينه، فأخذها بيساره حتى قطعت يساره فاعتنقها حتى صرع.
فسأل أصحابه وهو صريع: ما فعل أبو حذيفة؟ يعني مولاه، فقالوا: قتل، فقال: أضجعوني بجنبه. فجمعهما بطن الأرض شهيدين كما عاشا على ظهرها على الإسلام والهجرة والنصرة مجتمعين رضي الله عنهما.
العبرة:
القرآن راية الإسلام، فحامل القرآن حامل راية الإسلام، فلذلك كان يتقدم حملته لحمل الرايات تحت بارقة السيوف، يجودون بأنفسهم، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ففي جميع مواطن البلاء، والشدة ومواقف الفزع والمحنة، هم أهل المتقدم إلى الأمام.
هؤلاء هم حملة القرآن الذين حملوه حمل فهم وعلم وعمل، فاعتزوا به وأعزوا به الإسلام، فأعزهم الله.
وخلفت من بعدهم خلوف اتخذوه حرفة وتجارة، وجاءوا بقراءته على الأموات بوجوه من البشاعة والمهانة والحقارة، فأذلوا أنفسهم وأذلُّوا اسم حامل القرآن بقبيح أعمالهم، فأذلهم الله.
على أن الله -ولله الحمد- لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة، ومستجيب لداعي الله في سلوك المحجة، فقد أخذ كثير من حملة القرآن يعرفون قيمة ما حملوا، وينهضون بما حمِّلوا، ويعملون لعز الإسلام ورفع راية القرآن، راية الحق والعدل والأخوة والإحسان لبني الإنسان.
أيدهم الله، وأنقذ بهم الإنسانية، ومد بهم رواق السلام.
عبد الحميد بن باديس