الخلافة العثمانية .. حامية الدين والأمة
عبد المنعم إبراهيم الجميعي
اتخذت الدولة العثمانية من الدين الإسلامي غطاء لتوجهاتها السياسية لدرجة يمكن معها القول إن تاريخ آل عثمان، بما فيه من حسنات وسيئات، يعد في الواقع إحدى الحلقات الهامة من تاريخ المسلمين.
الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية
ونظراً لأن الوطنية حتى بدايات القرن الماضي كانت مرتبطة بالدين، فلم ينظر العرب إلى الدولة العثمانية في ذلك الوقت على أنها دولة مغتصبة أو مستعمرة لبلادهم كما يتردد ذلك لدى بعض الباحثين في الوقت الحالي، خاصة وأن العاطفة الدينية الإسلامية كانت أكثر تأثيراً في نفوس رعايا الدولة من العاطفة القومية.
وبهذه الواجهة الشرعية فرض الأتراك أنفسهم على العرب، واعتبرهم العرب أصحاب أياد بيضاء في رفع شأن الإسلام في أوربا ونشره في العديد من البلدان، لدرجة أن الأفراح والزينات كانت تقام في العديد من العواصم الإسلامية عقب كل انتصار يحرزه العثمانيون، وكان المسلمون في شتى البلدان يعتبرون السلطان العثماني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم [1]، والأب الروحي للمسلمين الذي يجب عليهم طاعته، ويرون المحافظة على الدولة العثمانية ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله.
ونتيجة لذلك، أطلق السكان العرب على القوات العثمانية المرابطة في بلادهم اسم الحامية العثمانية، ولم يطلقوا عليها جيش الاحتلال العثماني؛ كما أن أحد المفكرين المسلمين وهو الشيخ محمد عبده وصفها بأنها الحافظة لسلطان الدين، وأن المحافظة عليها يعد ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله [2].
وفي ظل هذا الشعور، وجهت الدولة العثمانية سياستها، فنظر العثمانيون إلى أنفسهم على أنهم مسلمون قبل كل شيء، لدرجة أن قال عنهم المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي إنهم اهتموا "بإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع"، وإلى جانب ذلك، نظرت أوربا إلى توسعاتهم على أنها فتوح إسلامية [3].
وحتى تتضح الصورة، ينبغي أن نقسم أدوار الحكم العثماني إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة القوة وهي المرحلة التي شيد فيها العثمانيون دولتهم في ظل روح الجهاد الديني التي كانت غالبة عليهم والتي مكنتهم من فرض سيطرتهم على مناطق كبيرة في آسيا وأوربا وأفريقيا؛ ومرحلة الضعف التي تميزت بالتخبط السياسي وبالهزائم العسكرية المتلاحقة والتي استمرت حتى سقوط الخلافة.
العثمانيون والجهاد الديني
أما في المرحلة الأولى، فقد كان ولاء الدولة العثمانية يتجه ناحية الدين الإسلامي شكلاً ومظهراً، فاهتم السلاطين بإضفاء الألقاب الدينية بجانب أسمائهم مثل لقب حامي حمى الحرمين الشريفين، ولقب خليفة، كما حرصوا على تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً صارماً (مثل قانون نامه الذي وضعه السلطان سليمان القانوني) وأخضعوا رعاياهم غير المسلمين لنظام الملل (أي التصنيف على أساس الدين).
وكان الدين والدولة عندهم أمراً واحداً، والقرآن والسنة هما المصدران الأصيلان لسياستهم، وكان الطابع الديني الإسلامي بمثابة السمة الواضحة في تشريعات الدولة وفتوحاتها. ويؤكد ذلك "قانون نامه" الذي وضعه السلطان سليمان القانوني، والذي التزم بمبادئ الشريعة الإسلامية.
كما يؤكده ما كان للهيئة الإسلامية من مركز مرموق، فكان يطلق على رئيسها المفتي أو مفتي إستانبول، ثم أطلق عليه شيخ الإسلام، وكان المفتي يصدر فتوى تجيز الحرب التي خاضتها الدولة دفاعاً أو هجوماً وعقداً للصلح، ومن هنا فتح العثمانيون باسم الإسلام العديد من الأمصار التي لم تطأها قدم مسلم من قبل [4].
العثمانيون والفتوحات الإسلامية
فباسم الإسلام واصل عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية جهوده في نشر الإسلام في مناطق الثغور، وواصل عمليات الجهاد الإسلامي المنظم ضد الكيانات المسيحية المجاورة له، وباسم الإسلام تمكن مراد الأول ثالث أمراء آل عثمان من دخول البلقان، وتحقيق العديد من الانتصارات التي توجت بفتح مدينة أدرنة سنة 1361م، وهزيمة القوى النصرانية ونقل العاصمة من بروسه إلى أدرنة التي عمرت بالمساجد والمدارس، وأصبحت نقطة انطلاق لمواصلة الفتوحات الإسلامية في أوربا [5].
وباسم الإسلام، استولى الجيش العثماني على العديد من مدن شرق أوربا، ومن أبرزها صوفيا عاصمة بلغاريا التي تم الاستيلاء عليها في عام 787هـ/ 1385م، وباسم الإسلام، استمرت الفتوحات العثمانية في البلقان وتساقطت مدنها أمام ضربات العثمانيين، ووصل العثمانيون إلى المورة وأخضعوها لحكمهم وأصبحت معظم بلاد البلقان تحت الحكم العثماني [6].
وباسم الإسلام، فتح محمد الثاني القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ/ 1453م، مصداقاً للحديث الشريف: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"، وهو ذلك الفتح الذي يعد نقطة تحول فاصلة ليس فقط في تاريخ العثمانيين، بل في تاريخ الصراع بين النصرانية والإسلام.
فبعد هذا الفتح المبين، أمر محمد الفاتح أن يؤذن فيها، واتجه إلى القبلة وصلى؛ كما حول كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد وأطلق على القسطنطينية اسماً إسلامياً جديداً هو إسلامبول، بمعنى عاصمة الإسلام، وبنى محمد الفاتح مسجداً كبيراً يحمل اسمه، كما بنى عشرة مساجد أخرى [7]، ألحق بها مدارس للتعليم ومستشفيات للفقراء. ولم تتوقف جهود الفاتح على ذلك، بل استطاع القضاء على الإمارات المسيحية في الأناضول وتحويل آسيا الصغرى كلها إلى مناطق عثمانية.
وباسم الإسلام، شرع محمد الفاتح ينفذ مشروعاً خطيراً وهو الاستيلاء على روما مقر البابوية، مقسماً على أن يقدم الطعام بيده إلى حصانه وهو واقف على مذبح الكنيسة البابوية في روما، مما أزعج العالم المسيحي كله الذي لم يتنفس الصعداء إلا بعد وفاة هذا القائد المسلم في عام 886هـ/ 1481م.
وباسم الإسلام، تعددت مظاهر الطابع الإسلامي في السياسة العامة للدولة العثمانية بدءاً بالمراسيم التي كانت تتخذ عند تقليد السلاطين العثمانيين عرش السلطنة، حيث كان السلطان الجديد يتسلم عرش السلطنة في موكب رسمي يتجه إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري، ويتسلم في جو ديني سيف الجد الأكبر للسلاطين العثمانيين السلطان عثمان الأول.
وباسم الإسلام، تردد في القوانين العامة التي أصدرها السلاطين، وفي مراسيم التنظيمات العثمانية ما يؤكد حرص الدولة على الظهور بمظهر المدافع عن الشريعة الإسلامية والمتبني لأحكامها.
وباسم الإسلام، استولى السلطان سليمان القانوني على بلجراد ورودس وبودابست ووصلت قواته إلى فيينا آخر نقطة وصل إليها العثمانيون في فتوحاتهم بأوربا. وباسم الإسلام، قدم السلطان العثماني بايزيد الثاني (1480 - 1511م) المعاونة للسلطان المملوكي قانصوه الغوري بعد تحطيم أسطوله في موقعة ديو البحرية، فأمده بالأسلحة والأخشاب اللازمة لبناء أسطول جديد، وتجهيز حملة أخرى لمواجهة البرتغاليين استنقاذاً للأماكن الإسلامية المقدسة؛ كما انضم إلى الأسطول المملوكي بعض البحارة والضباط من الأسطول العثماني للوقوف معاً ضد البرتغاليين [8].
العثمانيون ومواجهة البرتغاليين
وباسم الإسلام، أوقفت الدولة العثمانية المخطط الصليبي الذي كان يستهدف دخول البرتغاليين البحر الأحمر، والاستيلاء على جدة، والزحف على مكة المكرمة لهدم الكعبة المشرفة، ثم مواصلة الزحف منها على المدينة المنورة لنبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ومواصلة الزحف إلى تبوك وصولاً إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
فقامت الدولة العثمانية بوضع خطة جديدة تمثلت في اتخاذ الموانئ اليمنية -خصوصاً عدن- خط دفاع لمهاجمة المراكز البرتغالية في الهند، والدفاع عن سواحل البحر الأحمر؛ كما استطاعت دحر الأسطول البرتغالي بالقرب من جدة عام 923هـ، وتحطيم كل المحاولات التي بذلها البرتغاليون لتكوين جبهة مسيحية، وذلك بالتحالف مع الأحباش ضد القوى الإسلامية في البحر الأحمر وشرقي أفريقية.
وباسم الإسلام، قامت الدولة العثمانية بتوحيد أقطار العالم الإسلامي في إطار سياسي واحد، وتأليف جبهة إسلامية واحدة بعد أن كانت كيانات متنافرة، وتكاد تكون متباعدة بين بعضها منذ أن تلاشت الوحدة الإسلامية نتيجة ضعف الخلافة وسقوطها في عام 656هـ على يد التتار [9]، وأصبحت رابطة الدين هي الرابطة الأساسية فيما بين البلاد العربية بمن جهة وبينها وبين الدولة العثمانية من جهة أخرى.
العثمانيون وبلاد الحجاز
وباسم الإسلام، اهتمت الدولة العثمانية بأمور الحجاز، وكان من أبرز مظاهر ذلك اهتمامها بالأماكن الإسلامية المقدسة، إذ به قبلة المسلمين، مهبط الرسالة ومنزل الوحي، وملتقى قلوب المسلمين، فقد أمر السلطان سليم الأول بوضع ثلث ما كان يجبى من مصر للإنفاق على خدمة الحرمين الشريفين؛ كما أضاف لهذه المهمة أيضاً خراج اليونان، مما جعل من بلاد الحجاز مركزاً دينياً مرموقاً؛.
كذلك أولت الدولة العثمانية قوافل الحج والإشراف عليها، وتيسير الحج أمام الراغبين فيه، اهتماماً خاصاً: فاهتمت بالطرق، وحفرت الآبار بمحاذاة طرق الحج، وأقامت المخافر، وكانت تشرف على قواعد الحج الرئيسة التي كانت تخرج من كافة أنحاء الدولة في مواعيد محددة.
وباسم الإسلام، تدخلت الدولة العثمانية لنجدة أهالي الخليج العربي الذين طلبوا منها المعاونة في عام 857هـ/ 1550م لمواجهة الخطر البرتغالي على بلادهم، فبعث السلطان سليمان القانوني بحملات منظمة من السويس إلى الخليج العربي لمعاونة إخوانه في الإسلام، وسار على نهجه بقية السلاطين من بني عثمان حتى عام 989هـ/ 1581م، واستطاعت هذه الحملات أن تنزل العديد من الهزائم بالبرتغاليين.
وباسم الإسلام، وقفت الدولة العثمانية ضد الأطماع البرتغالية وحالت دون تحقيقها في أرض الإسلام، وذلك بعد أن عجز المماليك وغيرهم من الوقوف أمام تهديدات البرتغاليين، خصوصاً بعد معركة ديو البحرية (1509م)، فقامت بإغلاق البحر الأحمر في وجه السفن النصرانية، ولم يسمح لها بتسيير سفنها في القسم الشمالي من البحر الأحمر، أو بالإبحار في هذا البحر فيما وراء ثغر المخا جنوبي الحديدة في اليمن.
وكانت ذريعتها في ذلك أن أهم الأماكن الإسلامية في العالم على الإطلاق تقع في الحجاز، ويطل ساحل هذا الإقليم على البحر الأحمر؛ لذلك يجب ألا تبحر منه غير السفن الإسلامية، وظلت الدولة العثمانية متمسكة بذلك الموقف حتى أواخر القرن الثامن عشر. ومعنى ذلك أن الدولة العثمانية قدمت أعظم خدمة للإسلام، حيث وقفت في وجه الزحف الصليبي البرتغالي للبحر الأحمر والأماكن الإسلامية المقدسة، وكانت الملجأ للعالم الإسلامي وقت الملمَّات [10].
العثمانيون وشمال إفريقيا
وباسم الإسلام، تقدم العثمانيون لمساعدة عرب شمالي أفريقية في الصراع الصليبي مع الإسبان والبرتغاليين الذين حاولوا احتلال هذه الأقاليم وتحويلها إلى المسيحية، فأعلن السلطان سليم الدعوة إلى الجهاد في شمالي أفريقية، وأمر بتكوين كتائب المجاهدين حتى استقرت الأمور للإسلام والمسلمين هناك.
وباسم الإسلام، ساندت الدولة العثمانية أهالي طرابلس في مقاومة الخطر الصليبي على بلادهم، بعد أن أرسلوا إلى السلطان سليمان القانوني يلتمسون منه التدخل لإنقاذهم لتحرير بلادهم من الإسبان الذين استولوا عليها وفرسان القديس يوحنا الذين استهدفوا تغيير الوجه الإسلامي لبلادهم، وقد أرسل السلطان سليمان قواته للمحافظة على هذه البلاد العربية الإسلامية حتى استقرت الأمور هناك [11].
وباسم الإسلام، قام العثمانيون بملاحقة فرسان القديس يوحنا وطردهم من رودس ثم من ليبيا عام 1551م، وكذلك قاموا بكسر شوكة الإسبان في حوض البحر المتوسط الغربي، وباسم الإسلام، وقفت الدولة العثمانية أمام زحف الصفويين الشيعة الذين تمكنوا من الاستيلاء على العراق، ونشر المذهب الشيعي في الأناضول، وراحوا يحملون الناس قسراً على الدخول في مذهبهم، ولا يترددون في إفناء مدن بأسرها، والقضاء على العلماء والأعلام زرافات ووحداناً حين يرفضون الاستجابة لدعوتهم، ويتمسكون بالمذهب السُّنِّيّ.
وكان من نتيجة ذلك قيام السلطان العثماني سليم الأول بغزو فارس والالتقاء مع الصفويين بوادي جالديران في أواخر عام 920هـ/ 1514م في معركة رهيبة استطاع فيها العثمانيون هزيمة الصفويين في جالديران ودخول عاصمتهم تبريز في 14 من رجب 920هـ وضم ولايتي ديار بكر وكردستان إلى بلاده والاستيلاء على خزائن الشاه، والقضاء على المد الشيعي في الأناضول والعمل على انحساره في العراق.
وبذلك استطاع العثمانيون حماية المذهب السني من خطر الزحف الشيعي الذي كان الشاه إسماعيل الصفوي يأمل في نشره في كافة أنحاء المشرق العربي والقضاء على المذهب السني. ولم يكتف العثمانيون بذلك، بل خاضوا العديد من المعارك مع الفرس دفاعاً عن العراق الذي كان الفرس يتطلعون إليه دائماً، ويرغبون في صبغته بالصبغة الشيعية ولو بحد السيف.
وبالرغم من أن ذلك كلفهم العديد من الرجال والعتاد، فقد تمكنوا من حصر المذهب الشيعي في فارس، ولم يسمحوا بتسربه إلى البلدان العربية الواقعة تحت سيطرتهم، وبذلك ظهر سلاطين الدولة العثمانية أمام العالم الإسلامي بمظهر المدافع عن الشريعة الإسلامية، والحماة التقليديين للمذهب السني. وباسم الإسلام، عدَّ الأتراك أنفسهم حراساً لدولة الإسلام، وقد دفعهم ذلك إلى الاحتفاظ بحاميات في الأقاليم العربية التابعة لهم [12].
وباسم الإسلام، أصدرت الدولة العثمانية بعد فتحها لمصر فرماناً بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء على أساس أنها تضم الوادي المقدس طوى الذي كلم فيه الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام، فقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال أيضاً: {جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]. وسار سلاطين الدولة العثمانية على هذا المنوال حتى جاء الإنجليز وسيطروا على مصر في عام 1882م، فتغيرت الأوضاع هناك.
وباسم الإسلام، استولى العثمانيون على قسم كبير من الحبشة (1529م – 1542م) في المعركة التي دارت رحاها بينهم وبين القوات البرتغالية، والتي قاتلت فيها القوات العثمانية إلى جانب المسلمين، بينما قاتل البرتغاليون إلى جانب الأحباش، وقد خرجت الحبشة من القتال وقد أصابها الدمار ونقص سكانها [13].
وباسم الإسلام، قام السلطان عبد الحميد الثاني بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية، خصوصاً وأن مبعث ولاء المسلمين للدولة العثمانية كان دينياً، حيث كانوا مكلفين شرعاً بطاعة السلطان باعتباره الخليفة والأب الروحي للمسلمين، ونائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا.
ومن هنا رأى السلطان عبد الحميد الثاني استخدام هذا الولاء في حماية البلدان الإسلامية من الأخطار التي تحيط بها، وإنقاذها من حالة التفسخ والركود الذي تغلغل بين أفرادها. فدعا إلى جامعة إسلامية تجمع بين المسلمين مهما اختلفت لغاتهم وبلادهم.
وباسم الإسلام، قام السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء سكة حديد الحجاز التي تصل دمشق بالمدينة المنورة، وبذلك شهدت الأراضي الإسلامية المقدسة لأول مرة في التاريخ خطّاً حديدياً، يخدم حجيج بيت الله الحرام، ويوفر لهم الأمن والسرعة والراحة بعد أن كانوا يستخدمون قوافل الجمال ويتعرضون للعديد من المخاطر، فكان ذلك أعظم هدية قدمها السلطان عبد الحميد للمسلمين [14].
وباسم الإسلام، وقف السلطان عبد الحميد الثاني ضد استيطان اليهود في فلسطين. فعندما عرض عليه هرتزل حل أزمته المالية نظير السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين، رفض طلبه وحسم الموقف معه بقوله: "إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي. لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم".
ولإحساس السلطان عبد الحميد بعدم توقف الضغوط اليهودية عليه، بدأ يهتم بالأوضاع الإدارية في بيت المقدس، فجعلها متصرفية تابعة للباب العالي مباشرة بعد أن كانت تابعة لباشا دمشق؛ كما عين محمد شريف رؤوف باشا المشهور بشدته متصرفاً على القدس. ويضاف إلى ذلك أن الدولة العثمانية حافظت على تقاليد الخلافة السابقة في اعتمادها على القرآن مصدراً للتشريع، وإن كانت تحيد عن بنوده في بعض الأحيان [15].
كل ذلك جعل العالم الإسلامي ينظر إلى أعمال العثمانيين على أنها مفخرة للإسلام والمسلمين، وأن زعامتهم للعالم الإسلامي أدّت إلى إعلاء شأن الشريعة الإسلامية وإعلاء شأن المسلمين.
عبد المنعم إبراهيم الجميعي
اتخذت الدولة العثمانية من الدين الإسلامي غطاء لتوجهاتها السياسية لدرجة يمكن معها القول إن تاريخ آل عثمان، بما فيه من حسنات وسيئات، يعد في الواقع إحدى الحلقات الهامة من تاريخ المسلمين.
الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية
ونظراً لأن الوطنية حتى بدايات القرن الماضي كانت مرتبطة بالدين، فلم ينظر العرب إلى الدولة العثمانية في ذلك الوقت على أنها دولة مغتصبة أو مستعمرة لبلادهم كما يتردد ذلك لدى بعض الباحثين في الوقت الحالي، خاصة وأن العاطفة الدينية الإسلامية كانت أكثر تأثيراً في نفوس رعايا الدولة من العاطفة القومية.
وبهذه الواجهة الشرعية فرض الأتراك أنفسهم على العرب، واعتبرهم العرب أصحاب أياد بيضاء في رفع شأن الإسلام في أوربا ونشره في العديد من البلدان، لدرجة أن الأفراح والزينات كانت تقام في العديد من العواصم الإسلامية عقب كل انتصار يحرزه العثمانيون، وكان المسلمون في شتى البلدان يعتبرون السلطان العثماني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم [1]، والأب الروحي للمسلمين الذي يجب عليهم طاعته، ويرون المحافظة على الدولة العثمانية ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله.
ونتيجة لذلك، أطلق السكان العرب على القوات العثمانية المرابطة في بلادهم اسم الحامية العثمانية، ولم يطلقوا عليها جيش الاحتلال العثماني؛ كما أن أحد المفكرين المسلمين وهو الشيخ محمد عبده وصفها بأنها الحافظة لسلطان الدين، وأن المحافظة عليها يعد ثالث العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله [2].
وفي ظل هذا الشعور، وجهت الدولة العثمانية سياستها، فنظر العثمانيون إلى أنفسهم على أنهم مسلمون قبل كل شيء، لدرجة أن قال عنهم المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي إنهم اهتموا "بإقامة الشعائر الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقائع بالقوانين والشرائع"، وإلى جانب ذلك، نظرت أوربا إلى توسعاتهم على أنها فتوح إسلامية [3].
وحتى تتضح الصورة، ينبغي أن نقسم أدوار الحكم العثماني إلى مرحلتين أساسيتين: مرحلة القوة وهي المرحلة التي شيد فيها العثمانيون دولتهم في ظل روح الجهاد الديني التي كانت غالبة عليهم والتي مكنتهم من فرض سيطرتهم على مناطق كبيرة في آسيا وأوربا وأفريقيا؛ ومرحلة الضعف التي تميزت بالتخبط السياسي وبالهزائم العسكرية المتلاحقة والتي استمرت حتى سقوط الخلافة.
العثمانيون والجهاد الديني
أما في المرحلة الأولى، فقد كان ولاء الدولة العثمانية يتجه ناحية الدين الإسلامي شكلاً ومظهراً، فاهتم السلاطين بإضفاء الألقاب الدينية بجانب أسمائهم مثل لقب حامي حمى الحرمين الشريفين، ولقب خليفة، كما حرصوا على تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً صارماً (مثل قانون نامه الذي وضعه السلطان سليمان القانوني) وأخضعوا رعاياهم غير المسلمين لنظام الملل (أي التصنيف على أساس الدين).
وكان الدين والدولة عندهم أمراً واحداً، والقرآن والسنة هما المصدران الأصيلان لسياستهم، وكان الطابع الديني الإسلامي بمثابة السمة الواضحة في تشريعات الدولة وفتوحاتها. ويؤكد ذلك "قانون نامه" الذي وضعه السلطان سليمان القانوني، والذي التزم بمبادئ الشريعة الإسلامية.
كما يؤكده ما كان للهيئة الإسلامية من مركز مرموق، فكان يطلق على رئيسها المفتي أو مفتي إستانبول، ثم أطلق عليه شيخ الإسلام، وكان المفتي يصدر فتوى تجيز الحرب التي خاضتها الدولة دفاعاً أو هجوماً وعقداً للصلح، ومن هنا فتح العثمانيون باسم الإسلام العديد من الأمصار التي لم تطأها قدم مسلم من قبل [4].
العثمانيون والفتوحات الإسلامية
فباسم الإسلام واصل عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية جهوده في نشر الإسلام في مناطق الثغور، وواصل عمليات الجهاد الإسلامي المنظم ضد الكيانات المسيحية المجاورة له، وباسم الإسلام تمكن مراد الأول ثالث أمراء آل عثمان من دخول البلقان، وتحقيق العديد من الانتصارات التي توجت بفتح مدينة أدرنة سنة 1361م، وهزيمة القوى النصرانية ونقل العاصمة من بروسه إلى أدرنة التي عمرت بالمساجد والمدارس، وأصبحت نقطة انطلاق لمواصلة الفتوحات الإسلامية في أوربا [5].
وباسم الإسلام، استولى الجيش العثماني على العديد من مدن شرق أوربا، ومن أبرزها صوفيا عاصمة بلغاريا التي تم الاستيلاء عليها في عام 787هـ/ 1385م، وباسم الإسلام، استمرت الفتوحات العثمانية في البلقان وتساقطت مدنها أمام ضربات العثمانيين، ووصل العثمانيون إلى المورة وأخضعوها لحكمهم وأصبحت معظم بلاد البلقان تحت الحكم العثماني [6].
وباسم الإسلام، فتح محمد الثاني القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ/ 1453م، مصداقاً للحديث الشريف: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش"، وهو ذلك الفتح الذي يعد نقطة تحول فاصلة ليس فقط في تاريخ العثمانيين، بل في تاريخ الصراع بين النصرانية والإسلام.
فبعد هذا الفتح المبين، أمر محمد الفاتح أن يؤذن فيها، واتجه إلى القبلة وصلى؛ كما حول كاتدرائية آيا صوفيا إلى مسجد وأطلق على القسطنطينية اسماً إسلامياً جديداً هو إسلامبول، بمعنى عاصمة الإسلام، وبنى محمد الفاتح مسجداً كبيراً يحمل اسمه، كما بنى عشرة مساجد أخرى [7]، ألحق بها مدارس للتعليم ومستشفيات للفقراء. ولم تتوقف جهود الفاتح على ذلك، بل استطاع القضاء على الإمارات المسيحية في الأناضول وتحويل آسيا الصغرى كلها إلى مناطق عثمانية.
وباسم الإسلام، شرع محمد الفاتح ينفذ مشروعاً خطيراً وهو الاستيلاء على روما مقر البابوية، مقسماً على أن يقدم الطعام بيده إلى حصانه وهو واقف على مذبح الكنيسة البابوية في روما، مما أزعج العالم المسيحي كله الذي لم يتنفس الصعداء إلا بعد وفاة هذا القائد المسلم في عام 886هـ/ 1481م.
وباسم الإسلام، تعددت مظاهر الطابع الإسلامي في السياسة العامة للدولة العثمانية بدءاً بالمراسيم التي كانت تتخذ عند تقليد السلاطين العثمانيين عرش السلطنة، حيث كان السلطان الجديد يتسلم عرش السلطنة في موكب رسمي يتجه إلى مسجد أبي أيوب الأنصاري، ويتسلم في جو ديني سيف الجد الأكبر للسلاطين العثمانيين السلطان عثمان الأول.
وباسم الإسلام، تردد في القوانين العامة التي أصدرها السلاطين، وفي مراسيم التنظيمات العثمانية ما يؤكد حرص الدولة على الظهور بمظهر المدافع عن الشريعة الإسلامية والمتبني لأحكامها.
وباسم الإسلام، استولى السلطان سليمان القانوني على بلجراد ورودس وبودابست ووصلت قواته إلى فيينا آخر نقطة وصل إليها العثمانيون في فتوحاتهم بأوربا. وباسم الإسلام، قدم السلطان العثماني بايزيد الثاني (1480 - 1511م) المعاونة للسلطان المملوكي قانصوه الغوري بعد تحطيم أسطوله في موقعة ديو البحرية، فأمده بالأسلحة والأخشاب اللازمة لبناء أسطول جديد، وتجهيز حملة أخرى لمواجهة البرتغاليين استنقاذاً للأماكن الإسلامية المقدسة؛ كما انضم إلى الأسطول المملوكي بعض البحارة والضباط من الأسطول العثماني للوقوف معاً ضد البرتغاليين [8].
العثمانيون ومواجهة البرتغاليين
وباسم الإسلام، أوقفت الدولة العثمانية المخطط الصليبي الذي كان يستهدف دخول البرتغاليين البحر الأحمر، والاستيلاء على جدة، والزحف على مكة المكرمة لهدم الكعبة المشرفة، ثم مواصلة الزحف منها على المدينة المنورة لنبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ومواصلة الزحف إلى تبوك وصولاً إلى بيت المقدس حيث المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
فقامت الدولة العثمانية بوضع خطة جديدة تمثلت في اتخاذ الموانئ اليمنية -خصوصاً عدن- خط دفاع لمهاجمة المراكز البرتغالية في الهند، والدفاع عن سواحل البحر الأحمر؛ كما استطاعت دحر الأسطول البرتغالي بالقرب من جدة عام 923هـ، وتحطيم كل المحاولات التي بذلها البرتغاليون لتكوين جبهة مسيحية، وذلك بالتحالف مع الأحباش ضد القوى الإسلامية في البحر الأحمر وشرقي أفريقية.
وباسم الإسلام، قامت الدولة العثمانية بتوحيد أقطار العالم الإسلامي في إطار سياسي واحد، وتأليف جبهة إسلامية واحدة بعد أن كانت كيانات متنافرة، وتكاد تكون متباعدة بين بعضها منذ أن تلاشت الوحدة الإسلامية نتيجة ضعف الخلافة وسقوطها في عام 656هـ على يد التتار [9]، وأصبحت رابطة الدين هي الرابطة الأساسية فيما بين البلاد العربية بمن جهة وبينها وبين الدولة العثمانية من جهة أخرى.
العثمانيون وبلاد الحجاز
وباسم الإسلام، اهتمت الدولة العثمانية بأمور الحجاز، وكان من أبرز مظاهر ذلك اهتمامها بالأماكن الإسلامية المقدسة، إذ به قبلة المسلمين، مهبط الرسالة ومنزل الوحي، وملتقى قلوب المسلمين، فقد أمر السلطان سليم الأول بوضع ثلث ما كان يجبى من مصر للإنفاق على خدمة الحرمين الشريفين؛ كما أضاف لهذه المهمة أيضاً خراج اليونان، مما جعل من بلاد الحجاز مركزاً دينياً مرموقاً؛.
كذلك أولت الدولة العثمانية قوافل الحج والإشراف عليها، وتيسير الحج أمام الراغبين فيه، اهتماماً خاصاً: فاهتمت بالطرق، وحفرت الآبار بمحاذاة طرق الحج، وأقامت المخافر، وكانت تشرف على قواعد الحج الرئيسة التي كانت تخرج من كافة أنحاء الدولة في مواعيد محددة.
وباسم الإسلام، تدخلت الدولة العثمانية لنجدة أهالي الخليج العربي الذين طلبوا منها المعاونة في عام 857هـ/ 1550م لمواجهة الخطر البرتغالي على بلادهم، فبعث السلطان سليمان القانوني بحملات منظمة من السويس إلى الخليج العربي لمعاونة إخوانه في الإسلام، وسار على نهجه بقية السلاطين من بني عثمان حتى عام 989هـ/ 1581م، واستطاعت هذه الحملات أن تنزل العديد من الهزائم بالبرتغاليين.
وباسم الإسلام، وقفت الدولة العثمانية ضد الأطماع البرتغالية وحالت دون تحقيقها في أرض الإسلام، وذلك بعد أن عجز المماليك وغيرهم من الوقوف أمام تهديدات البرتغاليين، خصوصاً بعد معركة ديو البحرية (1509م)، فقامت بإغلاق البحر الأحمر في وجه السفن النصرانية، ولم يسمح لها بتسيير سفنها في القسم الشمالي من البحر الأحمر، أو بالإبحار في هذا البحر فيما وراء ثغر المخا جنوبي الحديدة في اليمن.
وكانت ذريعتها في ذلك أن أهم الأماكن الإسلامية في العالم على الإطلاق تقع في الحجاز، ويطل ساحل هذا الإقليم على البحر الأحمر؛ لذلك يجب ألا تبحر منه غير السفن الإسلامية، وظلت الدولة العثمانية متمسكة بذلك الموقف حتى أواخر القرن الثامن عشر. ومعنى ذلك أن الدولة العثمانية قدمت أعظم خدمة للإسلام، حيث وقفت في وجه الزحف الصليبي البرتغالي للبحر الأحمر والأماكن الإسلامية المقدسة، وكانت الملجأ للعالم الإسلامي وقت الملمَّات [10].
العثمانيون وشمال إفريقيا
وباسم الإسلام، تقدم العثمانيون لمساعدة عرب شمالي أفريقية في الصراع الصليبي مع الإسبان والبرتغاليين الذين حاولوا احتلال هذه الأقاليم وتحويلها إلى المسيحية، فأعلن السلطان سليم الدعوة إلى الجهاد في شمالي أفريقية، وأمر بتكوين كتائب المجاهدين حتى استقرت الأمور للإسلام والمسلمين هناك.
وباسم الإسلام، ساندت الدولة العثمانية أهالي طرابلس في مقاومة الخطر الصليبي على بلادهم، بعد أن أرسلوا إلى السلطان سليمان القانوني يلتمسون منه التدخل لإنقاذهم لتحرير بلادهم من الإسبان الذين استولوا عليها وفرسان القديس يوحنا الذين استهدفوا تغيير الوجه الإسلامي لبلادهم، وقد أرسل السلطان سليمان قواته للمحافظة على هذه البلاد العربية الإسلامية حتى استقرت الأمور هناك [11].
وباسم الإسلام، قام العثمانيون بملاحقة فرسان القديس يوحنا وطردهم من رودس ثم من ليبيا عام 1551م، وكذلك قاموا بكسر شوكة الإسبان في حوض البحر المتوسط الغربي، وباسم الإسلام، وقفت الدولة العثمانية أمام زحف الصفويين الشيعة الذين تمكنوا من الاستيلاء على العراق، ونشر المذهب الشيعي في الأناضول، وراحوا يحملون الناس قسراً على الدخول في مذهبهم، ولا يترددون في إفناء مدن بأسرها، والقضاء على العلماء والأعلام زرافات ووحداناً حين يرفضون الاستجابة لدعوتهم، ويتمسكون بالمذهب السُّنِّيّ.
وكان من نتيجة ذلك قيام السلطان العثماني سليم الأول بغزو فارس والالتقاء مع الصفويين بوادي جالديران في أواخر عام 920هـ/ 1514م في معركة رهيبة استطاع فيها العثمانيون هزيمة الصفويين في جالديران ودخول عاصمتهم تبريز في 14 من رجب 920هـ وضم ولايتي ديار بكر وكردستان إلى بلاده والاستيلاء على خزائن الشاه، والقضاء على المد الشيعي في الأناضول والعمل على انحساره في العراق.
وبذلك استطاع العثمانيون حماية المذهب السني من خطر الزحف الشيعي الذي كان الشاه إسماعيل الصفوي يأمل في نشره في كافة أنحاء المشرق العربي والقضاء على المذهب السني. ولم يكتف العثمانيون بذلك، بل خاضوا العديد من المعارك مع الفرس دفاعاً عن العراق الذي كان الفرس يتطلعون إليه دائماً، ويرغبون في صبغته بالصبغة الشيعية ولو بحد السيف.
وبالرغم من أن ذلك كلفهم العديد من الرجال والعتاد، فقد تمكنوا من حصر المذهب الشيعي في فارس، ولم يسمحوا بتسربه إلى البلدان العربية الواقعة تحت سيطرتهم، وبذلك ظهر سلاطين الدولة العثمانية أمام العالم الإسلامي بمظهر المدافع عن الشريعة الإسلامية، والحماة التقليديين للمذهب السني. وباسم الإسلام، عدَّ الأتراك أنفسهم حراساً لدولة الإسلام، وقد دفعهم ذلك إلى الاحتفاظ بحاميات في الأقاليم العربية التابعة لهم [12].
وباسم الإسلام، أصدرت الدولة العثمانية بعد فتحها لمصر فرماناً بمنع اليهود من الهجرة إلى سيناء على أساس أنها تضم الوادي المقدس طوى الذي كلم فيه الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام، فقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال أيضاً: {جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]. وسار سلاطين الدولة العثمانية على هذا المنوال حتى جاء الإنجليز وسيطروا على مصر في عام 1882م، فتغيرت الأوضاع هناك.
وباسم الإسلام، استولى العثمانيون على قسم كبير من الحبشة (1529م – 1542م) في المعركة التي دارت رحاها بينهم وبين القوات البرتغالية، والتي قاتلت فيها القوات العثمانية إلى جانب المسلمين، بينما قاتل البرتغاليون إلى جانب الأحباش، وقد خرجت الحبشة من القتال وقد أصابها الدمار ونقص سكانها [13].
وباسم الإسلام، قام السلطان عبد الحميد الثاني بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية، خصوصاً وأن مبعث ولاء المسلمين للدولة العثمانية كان دينياً، حيث كانوا مكلفين شرعاً بطاعة السلطان باعتباره الخليفة والأب الروحي للمسلمين، ونائب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا.
ومن هنا رأى السلطان عبد الحميد الثاني استخدام هذا الولاء في حماية البلدان الإسلامية من الأخطار التي تحيط بها، وإنقاذها من حالة التفسخ والركود الذي تغلغل بين أفرادها. فدعا إلى جامعة إسلامية تجمع بين المسلمين مهما اختلفت لغاتهم وبلادهم.
وباسم الإسلام، قام السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء سكة حديد الحجاز التي تصل دمشق بالمدينة المنورة، وبذلك شهدت الأراضي الإسلامية المقدسة لأول مرة في التاريخ خطّاً حديدياً، يخدم حجيج بيت الله الحرام، ويوفر لهم الأمن والسرعة والراحة بعد أن كانوا يستخدمون قوافل الجمال ويتعرضون للعديد من المخاطر، فكان ذلك أعظم هدية قدمها السلطان عبد الحميد للمسلمين [14].
وباسم الإسلام، وقف السلطان عبد الحميد الثاني ضد استيطان اليهود في فلسطين. فعندما عرض عليه هرتزل حل أزمته المالية نظير السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين، رفض طلبه وحسم الموقف معه بقوله: "إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض؛ فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي. لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم".
ولإحساس السلطان عبد الحميد بعدم توقف الضغوط اليهودية عليه، بدأ يهتم بالأوضاع الإدارية في بيت المقدس، فجعلها متصرفية تابعة للباب العالي مباشرة بعد أن كانت تابعة لباشا دمشق؛ كما عين محمد شريف رؤوف باشا المشهور بشدته متصرفاً على القدس. ويضاف إلى ذلك أن الدولة العثمانية حافظت على تقاليد الخلافة السابقة في اعتمادها على القرآن مصدراً للتشريع، وإن كانت تحيد عن بنوده في بعض الأحيان [15].
كل ذلك جعل العالم الإسلامي ينظر إلى أعمال العثمانيين على أنها مفخرة للإسلام والمسلمين، وأن زعامتهم للعالم الإسلامي أدّت إلى إعلاء شأن الشريعة الإسلامية وإعلاء شأن المسلمين.
تعليق