( رايات النفاق )
للشيخ : { ناصر محمد الأحمد }
دور المنافقين في إسقاط الدولة العثمانية
لقد أثبت التاريخ يوماً بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات، وأن نكايتهم فيها، وجنايتهم عليها تزيد على كل الجنايات والنكايات، فالكفر الظاهر -على خطره وضرره- يعجز في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها، ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين، ويتسمى بأسماء المسلمين.
لقد كان للنفاق دور بارز في إسقاط الخلافة العباسية أيضاً، في حادثة من أبشع حوادث التاريخ، ذكرها بتفاصيلها وآلامها الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية ، ملخصها: أن المستعصم بالله محمد بن الظاهر كان هو الخليفة السابع والثلاثين من خلفاء بني العباس، وقد بويع بالخلافة عام (639)هـ بعد وفاة أخيه المستنصر بالله عبد الله بن الظاهر، وكان للمستعصم وزيراً يسمى: محمد بن محمد بن أبي طالب المشهور بـابن العلقمي، وكان منافقاً رافضياً خبيثاً استطاع بإظهاره الصلاح والتقوى التقرب إلى السلطان، حتى صار وزيراً للخليفة، وهذا هو شأن المنافقين في كل وقت، فإنهم يحرصون على مثل هذه المناصب ليحققوا من خلالها ما يريدون.
فكتب هذا المنافق كتاباً إلى هولاكو ملك التتار يبدي له استعداده بأنه بإمكانه أن يسلمه بغداد، وأن يزيل خلافة المسلمين إذا حضر بجيوشه إليها، وكان التتار قد هزموا في عهد المستنصر بالله، وقتل منهم خلق كثير، وكان هذا العلقمي يريد ويهدف إلى محو أهل السنة وإقامة دولة فاطمية رافضية مكانها، فكتب هولاكو لـابن العلقمي: بأن عساكر المسلمين على بغداد كثيرة، فإن كنت صادقاً فيما قلت لنا، وداخلاً تحت طاعتنا ففرق العسكر، فإذا عملت ذلك حضرنا.
فلما وصل كتاب هولاكو إلى الوزير ابن العلقمي دخل على المستعصم، وزين له بأن يسرح خمسة عشر ألف فارس من عسكره؛ لأنه لا داعي لهذا العدد الضخم الآن؛ لأن التتار قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتحميل الدولة رواتب هؤلاء العساكر.
ولثقة الحاكم بوزيره كما هي العادة استجاب الخليفة لرأيه، وأصدر قراراً عسكرياً بتسريح خمسة عشر ألف عسكري، فخرج ابن العلقمي ومعه الأمر، واستعرض الجيش، واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد ، وكل ملحقاتها الإدارية، وفرقهم في البلاد.
وبعد عدة أشهر زين هذا المنافق للخليفة مرة أخرى بأن يسرح أيضاً عشرين ألفاً، واستجاب الخليفة له، وأصدر أمراً بذلك، ففعل ابن العلقمي مثلما فعل بالمرة الأولى، وانتقى أفضل الفرسان فسرحهم، وكان هؤلاء الفرسان الذين قد انتقاهم بقوة مائتي ألف فارس، فأصبح عدد جيش بغداد لا يزيد على عشرة آلاف جندي، بعد أن كانوا نحو مائة ألف جندي.
ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو ، وقدم بجيشه إلى بغداد ، وأحس أهل بغداد بمداهمة جيش التتار لهم، فاجتمعوا، وتحالفوا وخرجوا إلى ظاهر المدينة، وقاتلوا بصبر وبسالة، حتى حلت الهزيمة بجيش التتار مرة أخرى، بل وتبعهم المسلمون وأسروا منهم، وعادوا مؤيدين منصورين ومعهم الأسرى ورءوس القتلى ونزلوا في خيامهم مطمئنين.
فأرسل المنافق الرافضي ابن العلقمي جماعة من أصحابه ليلاً فحبسوا مياه دجلة ، ففاض الماء على عساكر بغداد ، وهم نائمون في خيامهم، وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل، وغرقت خيولهم وأمتعتهم وعتادهم بالوحل، والناجي منهم من أدرك فرساً فركبه وخرج من معسكر الوحل، وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته ويدعوه أن يرجع بجيوشه، فقد هيأ له الأمر بما يحقق له ولجيوشه الظفر.
فعاد هولاكو بجيوشه وعسكر حول بغداد ، ولما أصبح الصباح دخل جيش التتار بغداد ، ووضعوا السيف في أهلها، وجعلوا يقتلون الناس كباراً، شيوخاً وأطفالاً، ودخلوا على الخليفة فاحتملوه هو وولده وأحضروهما إلى ملك التتار هولاكو ، فأخرجهما إلى ظاهر بغداد ، ثم وضعها في خيمة صغيرة، ثم أمر عسكره بقتلهما ضرباً بالأرجل، فوضعوا الخليفة في كيس وقتلوه رفساً، ثم دخل التتار دار الخلافة، فسلبوا ما فيها، وصاروا يقتلون كل من يشاهدون من أهل مدينة بغداد ، حتى بلغ القتلى ألفي ألف نفس -أي: مليوني قتيل- واستمر التتار أربعين يوماً وهم يقتلون في الناس فما تركوا أحداً.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: بأن القتل استمر أربعين يوماً في بغداد ، فصارت بعد الأربعين خاوية على عروشها ليس فيها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنهم التلال، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسبب ذلك الوباء الشديد حتى تعدى وسرى الهواء إلى بلاد الشام ، فمات خلقٌ كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الوباء والفناء، والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي بالأمان في بغداد خرج عدد من الناس ممن قد اختبأ تحت الأرض ليسلم من القتل، وبعضهم حفر المقابر ودخل فيها، فلما نودي بالأمان خرج من تحت الأرض ومن المقابر أناس كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، فلما خرج هؤلاء أصابهم الوباء المنتشر بسبب تلوث الهواء فماتوا على الفور، قال ابن كثير : وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، وبمقتل المستعصم بالله انتهت الخلافة في بغداد ، وسقطت الدولة بفعل هذا المنافق.
واستدعى هولاكو ابن العلقمي لكي يكافئه فحضر بين يديه، و هولاكو رجلٌ ذكي يعلم خطورة هذا الصنف من البشر، والذي خان غيره قد يخونه، فقال له: لو أعطيناك كل ما نملك ما نرجو منك خيراً، وأنت مخالف لملتنا، فإنك لم تحسن لأهل ملتك فما نرى إلا أن نقتلك، ثم أمر بقتله فقتل شر قتلة.
هكذا النفاق يقوض أركان الدول إذا لم ينتبه له، وهذه إحدى حيل المنافقين في التخريب والإفساد، وهي إدخال العدو إلى داخل البلاد المسلمة، والتمكين له بالعبث داخل المجتمع المسلم حتى ينهار ذلك المجتمع أو تسقط تلك الدولة، وإدخال العدو للبلد قد يكون حسياً كما فعل ابن العلقمي وذلك بإدخاله مباشرةً بقضه وقضيضه ليمارس هو الإفساد والقتل مباشرة، والقضاء على المسلمين بسرعة، أو يكون معنوياً، فيكون القتل بطيئاً، وذلك بإدخال فكره، وثقافته، وترويجها بين الناس، ونشرها عن طريق الطريق الخامس وهم المنافقون، والشهوانيون، والعلمانيون، فيقوم هؤلاء بتهيئة الجو، وخلخلة الثوابت والأسس حتى يتحلل المجتمع تدريجياً، ويتمكن العدو مما يريد بطريقة غير مباشرة لعب فيها النفاق دوراً بارزاً وكبيراً.
إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة؛ لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح وهو غاية الجهل والإفساد، لذلك حذر كتاب ربنا عز وجل من النفاق، وصفات المنافقين في آياتٍ كثيرة، فكان الحديث عن النفاق والمنافقين في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة: ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم.
ومما يوجب مزيد الحذر منهم أنهم كثيرون، منتشرون في بقاع الأرض، قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى: كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض، فلا خلت بقاع الأرض منهم؛ لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات، وتتعطل بهم أسباب المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات، سمع حذيفة رضي الله عنه رجلاً يقول: [اللهم أهلك المنافقين، فقال: يا بن أخي! لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك] ولا يعني ذلك تعميم الحكم بالنفاق على الأكثرية والأغلبية، فإن النفاق شعب وأنواع، كما أن الكفر شعب وأنواع، والمعاصي بريد الكفر، فكذا من كان متهماً بنفاق فهم على أنواع متعددة، كما وضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله: " ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق ".
لقد أثبت التاريخ يوماً بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات، وأن نكايتهم فيها، وجنايتهم عليها تزيد على كل الجنايات والنكايات، فالكفر الظاهر -على خطره وضرره- يعجز في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها، ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين، ويتسمى بأسماء المسلمين.
تعليق