مخ في وعاء
تخيل أنك تعرضت لعملية جراحية، يقوم بها عالم شرير قرر أنه يفصل مخك عن جسمك و يخزنه فى وعاء طافي على سوائل مغذية لخلايا المخ وفيتامينات تحافظ على حيويته.
أطراف الخلايا العصبية فى مخك ستتصل بكمبيوتر عملاق Super Computer سَيَمِد المخ بموجات كهربائيه ونبضات الكترونية مشابهة للموجات الطبيعية اللتى يفرزها جهازك العصبي فى الاحوال الطبيعية. الكمبيوتر العملاق وظيفته تكوين عالم إفتراضى محاكى للواقع، سيوهم مخك اللذي فى الوعاء أن كل شئ طبيعى فى العالم الافترضى هذا كما الواقع بالظبط .. سيكون هناك بشر، طرق، مبانى، سماء، أرض، مشاعر، و أفكار! لكن في الحقيقة التجربة اللتى يعيشها مخك مجرد موجات ألكترونية الكمبيوتر يقوم بإرسالها عن طريق الاعصاب الموصوله به!
كابوس، كما أفلام الخيال العلمي .. مخك بدلا أن يكون فى جمجتك، سيكون طافيًا فوق سوائل فى وعاء فى معمل العالم الشرير، لكن كل مشاعرك، خبراتك، تجاربك حقيقية تمامًا كما لو أنك عشتها في الواقع فى حين أن اللذي انت تراه، تشعر به ، تشمه ، تفكر فيه هو مجرد وهمّ، مجرد محاكاة للواقع
ضع يدك على رأسك، أنظر لنفسك فى المرآة – السؤال: ياتُرى هل أنت فعلا ترى نفسك الآن ؟ ياتُرى هل مخك فعلا فى راسك؟ أو أنت مجرد “مخ فى وعاء”؟
بغض النظر عن أجابتك .. الاشكالية انك لاتستطيع أن تنفى أنك مجرد “مخ في وعاء” .. ليس هذا فقط ، بل المعضلة الاكبر أنك لوفعلا مجرد “مخ في وعاء” يعني أن كل الخبرات والمعارف اللتي انت اكتسبتها أو عرفتها عن العالم اللذي حولك ليست حقيقية! بمعنى آخر أنت فى الواقع لا تعرف أي شيئٍ على الاطلاق! كل المعرفة اللى كونتها خلال حياتك عن العالم الخارجي ليس لها أى قيمة أو فائدة لانها مجرد معلومات عن عالم افتراضي ليس له أى وجود إلا فى الكومبيوتر!
الـ “مخ في وعاء” مثال كلاسيكي قدمه الفيلسوف الامريكي ” هيلاري بوتنام” فى كتابة Reason, Truth, and History سنة 1981، لكن الفكرة جذورها أقدم من هذا. الفيلسوف الفرنسى “ديكارت” فى القرن ال 17 طرح قصة ” العبقري الشرير” وهو شخص بارع الذكاء وشديد القدرة .. وظّف كل قدراته وطاقاته لخداع ديكارت والسيطرة عليه، العبقرى الشرير خلق أوهام لخداع ديكارت مثل العالم الخارجي، الطبيعة، عقول أخرى ، حواس، حتى إحساس ديكارت بجسمه!
كان هدف ديكارت من القصة أنه يعيد بناء فكرة المعرفة البشرية على مبدأ الشك – أكيد سمعتم عن الشك الديكارتي .. ؟! – قام ديكارت بإلغاء أي معتقد، معرفة، أو ايمان فيه نسبة ولو ضئيله من الشك، وقام بالتركيز على فكرة أن الحواس البشرية تقدم لنا معلومات فى معظم الوقت غير دقيقة واحيانا غير صحيحة بالمرة عن الواقع المحيط بنا، وعليها طوّر ديكارت مبدأ الشك الديكارتى المعروف لكثير منا من خلال الجملة المشهورة Cogito ergo sum .. اللاتينية لـ ” أنا أفكر، أذن أنا موجود” .. فى تبسيط غير مخل ديكارت كان يحاول أن يقول لكل شئ أو شخص “الأنا” موجود طالما امكنه التفكير .. لكن لا يعني هذا أنه دائم الوجود، أو أنه بالضرورة بنى إنسان أو بشر بالصورة المتعارف عليها.
مبدأ ” الانا” هو احد المبادئ الاساسية فى الفلسفة الغربية الحديثة واللتي أسست علياه نظرية المعرفة الحديثة. فى حين انه من الممكن ان يكون هناك انواع أخرى من المعرفة سواء كانت خيالية، مختلفة، وليدة كذب، أو حتى خطأ .. مازالت فكرة الشك فى وجود الشخص لنفسه هى بذاتها وسيلة إثبات وجوده أو على الاقل وجود أفكاره .. ومازالت الاساس العملى للمعرفة!
الشك: غالبا نقول على شخص ما أنه “شكاك” لانه يرفض أن يصدق المعتقدات الشائعة بين الناس لمجرد انها شائعة، أو حتى لانه مجرد شخص يشك فى الناس أو الافكار بشكل عام. فى المضمون هذا فكرة الشك ممكن أن تكون شئ صحي لتأكيد أو أختبار الافكار و المعتقدات الشائعة .. الحالة الذهنية هذه عموما جهاز امان للعقل البشري لتصحيح ونقد الافكار، المشكلة عندما يكون الشك غير مبرر باسباب منطقية .. ويصبح الشخص شكاك فى كل شئ. بغض النظر عن ان هذا شئ جميل أو لا .. المعنى العام هذا لفكرة الشك مختلف عن المعنى الفلسفي.
فلاسفة الشك Sceptic لا يدّعون الشك فى كل شئ أو عدم معرفة أي شئ، و إلا فإنهم سيناقضون أنفسهم ، فلو عرفنا اننا لا نعرف اي شي .. يعني ذلك أننا عرفنا على الاقل شئ واحد! لكن فلاسفة الشك يبحثون فى ادعاء المعرفة. كل واحد فينا يعتقد انه يعرف الكثير من الأشياء ، لكن يا تري هل كل واحد فينا يستطيع أن يدعم المعرفة هذه بالحجة والمنطق؟ وحتى تكون الحجة أو المنطق هذه مقنعه يجب أن تكون هناك أرضية مشتركة نتفق عليها كلنا. المعرفة عن العالم والواقع المحيط بنا مكتسبة عن طريق حواسنا البشرية و فى بعض الاحيان مدعومة بالمنطق، لكن أليست الحواس البشرية هذه عرضه للخطأ؟ كيف يمكننا أن نتأكد اننا لسنا تحت تأثير هلوسة أو حتي حلم؟ .. لوكان عقلنا يستطيع أن يخدعنا من خلال الاحلام و لا نستطيع أن نفرق بين الواقع و الخيال، كيف نستطيع أن نجزم ان المعرفة هذه مكتسبة من خلال الواقع وليس من الاحلام؟!
إبستمولوجي Epistemology أو “فلسفة المعرفة” فرع من فروع الفلسفة يركز على نظرية المعرفة .. ما الذي نعرفه ؟ و كيف نصل للمعرفة ؟ والشروط والقواعد المفروض أن نطبقها على اي شئ قبل أن نعتبره جزء من المعرفة؟ .
ممكن أن تكون فكرة الـ “مخ في وعاء” أو “عبقرى ديكارت الشرير” افكار غريبة أو صعبة الهضم .. دعوني أعطيكم مثال أقرب للغة العصر .. قبل فترة ليست بالبعيده طرح الفيلسوف “نيك بوسترم” جدلية أن البشر مجرد عقول أفتراضيه تعبش في محاكه أو ” كمبيوتر سيميولاشن” – بالتأكيد رأيتم ثلاثية فيلم ماتريكس – لو لم تروها! تخيّلوا معي أنه فى المستقبل من المحتمل جدا بل من المأكَد ” من سرعة تطور العلم والتكنولوجيا” أن البشرية ستتوصل لمستوى من التقدم العلمى والتكنولوجي سيمكنها من تخليق نظم وبرامج كمبيوتر معقدة جدا تُحاكي قدرات العقل البشري و عوالم أفتراضية Virtual Reality للعقول الافتراضية هذه حتى تتفاعل فيها.. ومع التطور الكبير اللذي يحدث كل يوم فى عمر وقُدرة مصادر الطاقة لن نحتاج لمصادر طاقة كبيرة لتشغيل البرامج والعوالم الافتراضية هذه ، كذلك لن نحتاج لمساحات تخزينية كبيرة لهذه البرامج مع التضاعف الخرافى لأوساط التخزين الالكترونية وسرعتها. وليس من المستبعد ابدا أن جهاز كمبيوتر محمول سيكون قادرًا على حمل مئات الاف ..أو حتى ملايين من العقول الافتراضية هذه، أي يعنى ذلك بنظرية الاحتمالات أن أعداد العقول الافتراضية ستتجاوز أعداد عقولنا البيولوجية بلايين المرات!
الفروق بين العقل الافتراضي والعقل البيولوجي ستكون شبه منعدمه مع تقدم الوقت. – وبالتأكيد الاثنين ، العقل الافتراضي والعقل البيولوجي سيعتقدون انهم ليسوا في كمبيوتر سيميولاشين، ( محاكاة واقع ) ، لكن العقل الافتراضي مُخطئ لانه غير مدرك لحقيقته.
السؤال اللذي يطرح نفسه الآن: من قال اننا لسنا عقول افتراضية فى كمبيوتر سيميولاشين؟! يمكن أننا نُصدّق أننا عقول بيولوجية وليس افتراضية لان كل شئ حولنا متقن الصنع والتكوين، يمكن لأن تجربتنا البشرية واقعية لأبعد الحدود، لكن يمكن أن هذا جزء من جودة البرنامج اللذي نحن فيه! او يمكن لأن بداخلنا ايمان ورغبه أننا نكون جزء من واقع.
لكن أليس البرنامج اللذي نحن فيه هو واقعنا! ياتري هل أنت “مخ في وعاء” ؟ “….
عقل أفتراضى فى كمبيوتر سيمولاشن”؟
فكر مرة أخرى .
عقل أفتراضى فى كمبيوتر سيمولاشن”؟
فكر مرة أخرى .