التخاطر الحيواني
مارْسْ اسم كلب ألزاسي رائع، تعوّد القيام بدور «البطل» في سيرك كان هو أحد نجومه. وكان الروس الذين يكنّون حباً عميقاً للسيرك يعشقون مارْسْ الكلب البارع الذي يرقص ويَعُدّ. وهذا من أكثر إنجازاته إدهاشاً. اجتاز مارس طرق روسيا بصحبة فلاديمير ديروف، الجبّار ذي الشاربين الكبيرين، الذي مُنح لقب «مهرّج الشعب» ولقد عُرف ديروف بالانتقادات اللاذعة التي كان يوجّهها إلى الشخصيات البارزة، كما اشتهر برفضه استخدام السوط لترويض الحيوانات.
ذات مساء، قدّم مارس حفلة استثنائية أمام ألمع جمهور واجهه في حياته، يضمّ عدة علماء، وأعضاءً من المجمع العلمي الروسي، والاختصاصي الشهير في المسائل العصبية فلاديمير بكتاريف. وكان هدف الاختبار إثبات ما للكلاب من قدرة على فَهْم الخواطر عن بعد (تيليباتي).
عندما أصبح كل شيء جاهزاً، سلّم بكتاريف زميله ديروف مذكّرة تحتوي تعليمات، عليه أن يُبلغها الحيوانَ بواسطة التخاطر، فأخذ ديروف رأس الكلب بلطف بين يديه، وحدّق إلى عيني الحيوان بصمت وبدون حراك، ثم أسدل يديه. فلم يحدث أي شيء. كرّر ديروف تحديقه إلى عيني الكلب بإلحاح، فسحب مارس رأسه وركض إلى الغرفة المجاورة القائمة خلف المختبر. ولم يكن قد دخلها قبل ذلك الحين. في الغرفة كانت ثلاث طاولات مغطاة بخليط من الكتب والأوراق المكدّسة. فانتصب بقرب أول طاولة ووضع قائمتيه الأماميتين على حافتها كأنه يتفحّصها. ثم عاد إلى الوقوف على قوائمه الأربع ومشى إلى الطاولة الثانية وكرّر التفحّص. أخيراً اتّجه نحو الطاولة الثالثة، وبصورة منظورة اهتدى إلى الشيء الذي يبحث عنه. التقط دليل الهاتف بأسنانه وعاد إلى المختبر ليضعه في حضن ديروف. وكان مارس قد أُبلغ الرسالة بواسطة التخاطر، أي انتقال الخواطر عن بعد. وكان ديكتاريف بالفعل قد طلب إحضار دليل الهاتف. وإذا بكلب السيرك يثبت بطريقة حيويّة نظرية ديروف التي تقول بأن معظم أنواع الحيوانات تعرف غالباً فكر صاحبها بواسطة التخاطر.
دعا بكتاريف زميله ديروف لموافاته مع مارسْ وكلب صيد اسكتلندي اسمه نيكي والقيام ببعض الاختبارات. وكان أول من نظّم تجارب خاصة بالكلاب، مُلغياً كل الإشارات التي يمكن الإنسان أن ينقلها إلى الحيوان بوعي أو بدون وعي.
في ما بعد حين جرت جميع التجارب في مختبرات موسكو، كان ديروف غالباً ما ينتظر في غرفةٍ غير التي كان فيها مارس وتيكي. وبناءً على مجرّد تحريض فكري منه، قفز نيكي إلى وسط الغرفة، واعتلى كرسياً، ثم وقف على طاولة، وعاد بقطعة ورق طلب منه إحضارها.
ذات يوم قفز الكلب الصغير إلى قطعة من المفروشات ولامس بإحدى قوائمه لوحة معلقة على الحائط، تماماً كما طلب منه أن يفعل. وكان بكتاريف الوحيد الذي يعرف مجرى الاختبار، وأعطى الأمر الفكري المتعلّق به. وعلى رأي الباحثين السوفيات، ينجح الكلاب غالباً في تنفيذ التحريضات الفكرية التخاطرية حال صدورها عن دماغ الإنسان.
في موسكو، تعوّد بكتاريف أن يعصب عيني الوسيط، وأن يضعه خلف حاجز أو أن يُخرجه من الغرفة حالما يُصدر أمراً فكرياً، لتجنّب عمل أية إشارة أمام الكلب أثناء القيام بالاختبار. فالمراقب الذي يمكث مع الكلب لن يعرف تفاصيل الاختبار حتى ينتهي.
كانت اختبارات التخاطر التي أجريت على مارس وتيكي تقوم على جلب الأشياء أو إرسال عدد من العواءات. وبرز اسم مارس في الإعلانات عن السيرك باعتباره كلباً يعرف أن يعدّ. والاختبار التالي يبيّن هذه الميزة. كان مارس في حجرة من المختبر. وفي حجرة أخرى سلّم بكتاريف زميله ديروف ورقة. ففتحها هذا وقطّب حاجبيه. ثم كتب عبارة على الورقة وردّها إلى بكتاريف بعد أن ركّز فكره. في الغرفة الأولى. انتصب مارس بغتة ورفع رأسه وعوى سبع مرات. وكان على الورقة التي أعطاها بكتاريف زميله ديروف قد كتب الرقم سبعة.
نجح ديروف وحده في نقل خواطره إلى الحيوانات. وبذلك أحدث ثورة في الطرق الروسية التقليدية القديمة في حقل تدريب الحيوانات، هذه الطرق التي كانت جميعها سابقاً ترتكز على الخوف والعقاب البدني. فاستناداً إلى توصيات ديروف، لم يعد أحد يدفع الدببة إلى شبكة معدنية محمّاة جداً على النار لكي يجبرها على تعلّم الرقص، بل أضحت الدببة تتعلّم رقص الفالس وركوب الدراجة بسهولة أكثر من قبل، كما أثبت ديروف ذلك بمجرد معاملتها باللين وإعطائها قليلاًَ من العسل بعد كل بادرة، على سبيل التنشيط والتشجيع. فقد درّب ديروف أكثر من ألف وخمسمئة حيوان، بينها مَن لم يتقبل أي تدريب سابق كالثعلب مثلاً. وكانت شتّى الحيوانات، من الجَمَل إلى الديك والثعلب والجُرَذ والقِطّ، جميعها أبطال المسرحيات القصيرة المكتوبة لأجلها كي تمثّل على خشبة مسرح الحيوانات الذي أنشأه ديروف.
شكّ في أن إمكان التفاهم بين الحيوانات وديروف جعل هذا الأخير يدرك أن نوعاً من الحوار الصامت بدون أية إشارة أحياناً، إن صحّ التعبير، يقوم بين الإنسان والحيوان. وانطلق ديروف في سلسلة من الاختبارات تدور على التخاطر.
أجرى أكثر من عشرة آلاف اختبار تدور كلها حول جلب أشياء بواسطة الكلاب حسب أوامر تصدر بطريقة التخاطر أي انتقال الأفكار عن بُعْد.
وبعدما لاقت هذه الاختبارات نجاحاً باهراً وشهرة واسعة، انضمَّ الدكتور برنار كاجنسكي المهندس الإلكتروني السوفياتي، ورائد علم ما وراء النفس (بارابسيكولوجيا) إلى فريق ديروف. وفي كتابه المعنون «الاتصالات بالراديو الأحيائي» (راديو بيولوجيا)، روى كاجنْسْكي كيف تم أوّل لقاء بينه وبين ديروف.
«كنت أودّ أن أقوم أنا نفسي باختبار الإحساس بنقل الخواطر عن بعد. عندما رأيت ديروف أول مرة، قلت له: أريد أن أعرف ما هي انطباعاتك ومشاعرك عن تقبّل الرسائل بواسطة التخاطر.
هذا سهل جداً، قال ديروف، اجلس هنا ولا تتحرك.
وأدار لي ظهره، ثم كتب بعجلة عبارة على قطعة من الورق. ووضع الورقة على الطاولة بشكل لا تتسنّى قراءتها، وغطّاها بيده.
لم أشعر بأي إحساس غير طبيعي. لكني بدون وعي لمست ما وراء أذني بيدي اليمنى، وما كدت أُنزل ذراعي حتى أراني ديروف قطعة الورق، وكان مكتوباً عليها: «حكّ ما وراء أذنك».
فسألته، وأنا لا أصدّق: كيف فعلت ذلك؟
اكتفيت بأن أتخيّل تآكلاً في ما وراء أذنك، وأن أفتكر بأن عليك أن ترفع يدك اليمنى لكي تحكّه وترتاح. وأنت بماذا شعرت؟
أدرك كيف تم توارد الخواطر هذا بل شعرت برغبة في حكّ ما وراء أذني.
فارتسمت على ملامح ديروف علامات الفوز، وقال:
«الخارق حقاً في المسألة، هو تنفيذك الحركة التي تصوّرتها أنا في ذهني. كما لو كان ذلك نتيجة تفكيرك بالذات، وكما لو كنت تطيع داعياً ذاتياً معيّناً. فشعرت بهياج جلدك في المكان المقصود، وقامت يدك بالحركة اللازمة، أي حكّ الأذن في الجهة التي اخترتها أنا لك».
عام 1930، مات فلايمير ديروف المروّض الشهير، وأول رجل في عالم السيرك نال لقب «فنّان الاتحاد السوفياتي». وحتى اليوم، تتابع عملَه عدةُ مراكز في روسيا، وتتخصّص في درس وسائل الاتصالات التخاطرية.
حالة اخرى من التخاطر الحيواني : غادر السيد فالَمْبُوَا الذي يقود شاحنةً في إحدى مؤسسات شمال فرنسا، مدينته في أوائل عام 1971 ليذهب ويشتغل في وُرَش أخرى.
وكان قد ترك لأبناء عمّه كلبه الأمين بلاك بأسف شديد، نظراً إلى متانة الألفة بين الرجل والحيوان. لكن فالَمْبُوَا لم يستطع حقيقةً اصطحاب كلبه في تنقلاته المتواصلة.
بعد مرور ستة أشهر على هذا الفراق، كان السيد فالَمْبُوَا قد استقرّ في قرية شاتو رينار في جنوب فرنسا. فعلم أن كلباً أسود اللون، تسيطر عليه الكآبة، يهيم في شوارع القرية.
فما كان من بلاك إلّا أن طار من الفرح بلقاء صاحبه، بعد أن اجتاز أكثر من ألف كيلومتر على طرقات فرنسا ليجد من لم يقدر أن ينساه.
الأكثر غرابة هو أن بلاك سار قاصداً مكاناً معيّناً هو شاتو رينار الذي لم يسبق له أن ذهب إليه في ما مضى.
هنا لا يسعنا أن نعتبر ذلك حاسّة اتجاه، بل نوعاً من التوجيه التخاطري العجيب. انتقل من دماغ إلى نخاع إذ لا شك مطلقاً في أن السيد فالَمْبُوِا كان يفكّر غالباً برفيقه العزيز.
وبشكل لا سبيل إلى تفسيره وجّهت أفكارُه على الأرجح كلبَه بلاك عبر الأراضي الفرنسية، كما يوجّه برج المراقبة، بإرساله التعليمات إلى الطائرة، عملية هبوطها إلى الأرض.