دور حاسم
وليس ثمة شك في أن هذه التجربة كانت بالغة الأهمية للمسلمين, الذين اكتسبوا, ليس الخبرة فحسب, بل القوة المعنوية في مواجهة أنظمة عريقة, وإلحاق الهزيمة بجيوشها المتفوقة عددا وسلاحا, مما سيكون له تأثير واضح على مسار حركة الفتوح في المنطقة. وإذ افتقد المسلمون أبا بكر بعيد المعركة, فقد استمرت هذه الحركة متوهجة مع خليفته, الذي استبدل بخالد, أبا عبيدة أميرا لجيوش المسلمين في الشام, ولكن دون إعفاء الأول من دوره العسكري الذي بقي فاعلا ومؤثرا في القرارات الحاسمة.
وكانت دمشق حينذاك, الهدف المباشر للمسلمين بعد انتصارهم في معركة (مرج الصفر) التي مهّدت الطريق إليها (14هـ/635م), فحاصروها من جهات عدة, حيث أقام أبو عبيدة معسكره على باب الجابية, وخالد على الباب الشرقي, ويزيد على الباب الصغير, وشرحبيل على باب الفراديس, وسرعان ما تمّ الاستيلاء على باب الجابية بعد قتال شديد, والتقى أبو عبيدة خالدا في (البريص) في ضاحية المدينة. وقد روى البلاذري, مشيرا في هذا السياق إلى الثقة المطلقة والتنسيق التام بين أبي عبيدة وخالد أثناء الحصار, إذ عقد الثاني صلحا مع الأسقف الذي فتح له الباب الشرقي, فلقي ذلك طعنا من المسلمين, مالبث أن بدّده أبوعبيدة بأن (أجاز صلحه وأمضاه).
ولكن دمشق, وقد انهارت مقاومتها, رأت قيادة المسلمين التوغّل شمالا وغربا, لمنع البيزنطيين من إعادة تنظيم قواتهم وشنّ حرب جديدة في الشام. ففي الوقت الذي سار يزيد بن أبي سفيان, فاتحا مدن الساحل الشمالي (ساحل دمشق) وشرحبيل بن حسنة فاتحا مدن الساحل الجنوبي (ساحل الأردن), سار أبو عبيدة إلى حمص, عبر بعلبك, حيث عقد صلحا معهما, وتابع طريقه إلى حماة, ثم انعطف غربا إلى جبله وطرطوس وصولا إلى اللاذقية, فيما كان خالد يفرض سيطرته على المدن الداخلية حتى حلب التي خضعت بدورها للمسلمين. ولم يبق خارج السيطرة في الشام سوى أنطاكية التي شهدت حينذاك ما توقّعه أبو عبيدة, حشدا كبيرا للقوات البيزنطية تأهبت لدحر المسلمين من الشام.
وفي ضوء هذا التحول في الموقف العسكري, أدرك أبو عبيدة خطورة المواجهة, لاسيما أن المسلمين المنتشرين على جبهات عدة من الشام, كان يصعب تعبئتهم على نحو من السرعة لإيقاف الزحف البيزنطي. فاتخذ قراره بالانسحاب. متيحاً الفرصة أمام قواته لإعادة تنظيم أنفسهم واعتماد الخطة الملائمة بالتشاور مع قادته. وفي خضم هذه التداعيات يتراءى لنا أبو عبيدة, فيما يتعدى أمير الجيوش ونائب الخليفة في الشام, إلى القائد السياسي اللمّاح, والمعبّر عن مشروع الإسلام ورسالته وقيمه, ولعل عهود الصلح التي أجراها مع المدن المفتوحة, ما يؤكد على هذا النهج المفعم بروح الإسلام للصحابي الكبير, فقد جاء في نص المعاهدة مع بعلبك, أن أهلها آمنون (على أنفسهم داخل المدينة وخارجها... وأموالهم وكنائسهم ودورهم), وللروم أن يسيروا إلى حيث شاءوا, ومن أسلم منهم فله ما لنا وعليه ما علينا, ولتجارهم أن يسافروا (إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها) حسب رواية البلاذري.
تعليق