بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه من القصص الصحيحة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
روى الإمام مسلم في صحيحه (3005) عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال:
(كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلامٍ أعلمه السحر.
فجاءوه بغلامٍ نجيب يعلمه السحر، فكان الغلام إذا سلك إلى الساحر مر بصومعة راهب، فمال إليه يوماً فسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا ذهب إلى الساحر متأخراً ضربه، وإذا رجع إلى أهله ضربوه،
فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر.
وفي أحد الأيام خرجت دابة عظيمة حبست الناس، فأرسل الساحر الغلام إليها ليقتلها، فأمسك الغلام بحجر،
وقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.
ورماها بحجرٍ فقتلها.
فرجع الغلام إلى الراهبِ -وقد انتشرت الواقعة- فدخل عليه فقال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.
وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وكان جليس الملك قد عمي، فلما سمع أن الغلام يشفي الناس من سائر الأدواء ذهب إليه بهدايا عظيمة،
وقال له: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
فآمن جليس الملك بالله عز وجل؛ فرد الله عليه بصره.
فدخل الجليس الأعمى -سابقاً- على الملك بلا قائد يقوده وقد رجع إليه بصره، فقال الملك له: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي.
قال: أولك ربّ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.
فما زال يعذبه حتى دل على الغلام، فلما جاء الغلام، قال له الملك: أي بني! قد صار من أمرك ما أرى: تبرئ الأكمه والأبرص، وتداوي الناس من سائر الأدواء! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى.
فما زال يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك؟ فقال: لا.
فجيء بالمنشار فوضع في مفرق رأسه ونشروه نصفين حتى سقط شقاه،
ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك؟ فأبى؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه ونشروه حتى سقط شقاه.
وجيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؟ قال: لا.
فنادى الملك جماعةً من جنوده، وقال: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن رجع وإلا فألقوه من على الجبل،
فأخذوه، فلما كانوا على قمة الجبل قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت.
فارتجف بهم الجبل فسقطوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
فأرسل طائفةً أخرى من جنوده، وقال لهم: خذوه في قرقور -القرقور: نوعٌ من السفن- وتوسطوا به لجة البحر، فإن رجع وإلا لججوا به أي: أغرقوه.
فلما توسطوا به البحر، قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به.
فقال له: وما ذاك؟ قال: أن تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على هذه الخشبة،
وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الملك الناس في صعيدٍ واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام من بين السهام،
وصوب السهم إلى صدره، فصاح: باسم الله رب الغلام.
فخرج السهم حيث أشار الغلام، فوقع في صدغه فمات.
فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.
فقال رفقاء السوء للملك: قد وقع -والله- ما كنت تحذر، كنت تخشى أن يؤمن الناس فآمنوا.
قال: فماذا نفعل؟ قالوا: خدّ الأخاديد على أفواه السكك، -أضرم فيها النار- ثم اعرض الناس على هذه النار،
فمن آمن برب الغلام فاطرحه فيها، فجيء بالناس، وعرضوا على هذه النيران، فمن آمن برب الغلام ألقوه فيها،
حتى جاء الدور على أم كانت ترضع ولدها، فأول ما فعلوا أخذوا الولد فقذفوه في النار، ثم كأن الأم تقاعست أو خافت، فسمعت صوت ولدها من الأخدود يقول لها: يا أماه! اصبري فإنك على الحق).
البلاء سنة من سنن الله:
الابتلاء سنة الأولين والآخرين، لا ينجو منه كافرٌ ولا مؤمن،
ويصدق ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد رسم مربعاً على الأرض،
ثم مد من داخل المربع خطاً طويلاً تجاوز المربع،
وحول هذا الخط -داخل المربع- رسم خطوطاً قصيرة على جانبي هذا الخط الطويل،
ثم قال عليه الصلاة والسلام -وأشار إلى المربع-: (هذا أجل ابن آدم محيط به -لا يفلت أبداً، احتواء من كل الجهات- ثم أشار إلى الخط الطويل الذي خرج من المربع وقال: وهذا أمله -أمله يحتاج إلى أضعاف عمره-
ثم أشار إلى الخطوط القصيرة حول هذا المربع فقال: وهذه الأعراض هي المصائب التي تحيط بالعبد في حياته، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) معنى هذا الكلام أنه لابد من الابتلاء.
فالذي يفر من الله ورسوله خشية أن يبتلى، نقول له: ستبتلى، ولكن بشكل آخر، إما بامرأةٍ ناشز، أو بولدٍ يضيع، أو بمالٍ وضيع، أو بمصنع يحترق، أو بظالم يظلمك.
أهل الدنيا ليسوا بمأمنٍ من البلاء، بل هم أكثر الناس بلاءً، فلماذا تفر من الله ورسوله، فالابتلاء من أجل الله ودينه فيه شرفٌ لك، وهذه سنةُ الأنبياء والمرسلين.
وهذا الحديث يبين لنا الفتنة التي تلمّ بالعبد في العقيدة.
فهذا الغلام الذي أيقظ مملكةً بأكملها، ما ظن أنه سيناط به هذا التكليف العظيم.
كذلك نقول لك: لا تحتقر نفسك، إنك لا تدري ما يُكتب لك بأمنيتك،
سل أي عالم كبير جليل هل كنت في أي مرحلةٍ من حياتك تظن أنك ستصل إلى هذه المكانة؟ سيقول لك: لا.
سواءً كان الإمام البخاري، أو الإمام أحمد، أو الإمام الشافعي.
ولذلك فإن مواليد العلماء فيها خلاف، لكن وفياتهم لا؛ لأنه يوم ولد كان كملايين المواليد، لا يعرفون، هل سيكون أحدهم عالماً أم قاطع طريق،
ولكن عندما يموت يسجل تاريخ وفاته؛ لأنه لم يمت إلا وقد ملأ الدنيا علماً.
فأنت لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، فلا تحتقر نفسك، لعل الله عز وجل يغير الأمة بك وأنت لا تدري،
المهم: أن تفعل كما أمرك الله عز وجل وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
هذا الغلام الذي حول الله عز وجل به هذه المملكة، غلام صغير، والساحر كان في ذلك الزمان كالمخابرات في هذا الزمان، وكان الملك يستخدمه في تسيير دفة الأمور بلا أسباب، فعندما تقع مشكلة كان يستخدم الساحر، مثلما فعل الملك مع الغلام عندما خرجت دابةٌ عظيمة اعترضت الناس.
قال الساحر عندما كبر: أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلم السحر، فائتوني بغلام نجيب.
فبحثوا له عن هذا الغلام وجاءوا به، فكان يعلمه السحر، وبينما كان الغلام ذاهباً إلى الساحر مر بصومعة الراهب،
وكان الرهبان إذ ذاك على الإسلام كما ورد في رواية الترمذي، وهذه القصة تدلك على أنها حدثت بعد عيسى عليه السلام؛ لأن هذه الرهبانية إنما ابتدعها النصارى.
ظهور الحق بقتل الدابة
وفي إحدى الأيام خرجت دابة -في رواية الترمذي أنها كانت أسداً- فحبست الناس، فأرسل الساحر الغلام ليقتل هذه الدابة،
فأخذ الغلام حجراً وقال: اليوم أعلم أمر الراهبِ أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال:
اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.
فقدم أمر الراهب على الساحر، وهذا يدل على الحب الذي كان يكنه للراهب؛ لأنه كان يمكن أن يقول: اللهم إن كان أمر الساحر أشر وأبغض إليك فاقتل هذه الدابة، لذلك قدم الراهب في الذكر؛ لأنه الأحب إليه، أراد أن يرى آية حتى يستريح، فأظهر الله عز وجل هذا الآية.
ولذلك نحن نقول: كل آية أنجاك الله عز وجل بها من مصيبة خذها مثالاً وقس عليها، وحسّن ظنك بربك،
فإذا أنجاك من ورطة ثم وقعت في ورطةٍ أخرى، فقل: كما أنجاني في الأولى ينجيني في هذه؛
لأن هذا أدعى لاستقرارك على طريق الحق.
كان هناك رجل قد سجن، وهذا الرجل كنا جميعاً نظن أنه صار في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وسجن سجناً مخصوصاً، وجعلوا عليه عميداً مخصوصاً يمنع دخول أي شيء إليه، وكان هذا الرجل أحد الدعاة الكبار،
فيشاء الله عز وجل أن يكون هذا العميد المختار يحب هذا الداعية جداً، فكان كل يوم يترك له دجاجة مشوية.
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
فهذا الغلام يريد أن يرى آية من الآيات حتى تثبت إيمانه، وأن هذا الرجل على الحق فلا يحيد.
فلما رمى هذا الأسد بالحجر قتله، فظهر له بجلاء أن الراهب على الحق.
دعاء الغلام لجليس الملك وشفاؤه بإذن الله:
بدأ صيت الغلام ينتشر ويعرفه الناس، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من شر الأدواء،
فسمع به جليسٌ للملك، وكان من أصدقائه وأحبابه، لكنه عمي، فلما سمع أن الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من العمى؛ جمع له هدايا عظيمة،
وقال للغلام: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، أي: إن رددت علي بصري فجميع الهدايا لك.
فبدأ الغلام يدعو إلى الله عز وجل، قال: إني لا أشفي أحداً ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
هنا وقفة مهمة، وأولى الناس بالالتفات إليها الدعاة إلى الله عز وجل:
راقب كلام الغلام ! ولاحظ دقته في التعبير!
قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به -لم يقل: شفيتك- دعوته فشفاك.
فهذا رجلٌ أمين على دعوته، لا يسعى لمجد شخصي، ولا يأكل بدينه دنيا.
فالغلام عليه الدعاء فقط، وبعد ذلك ليس له أي دخل في الموضوع،
وهذا من الأمانة في سبيل الدعوة، فإنك إذا لاحظت أو رأيت أن أناساً غلو فيك ينبغي أن تردهم؛ حتى لا ينسبوا إليك ما لا يجوز لك،
فإن النصارى كفروا بسبب الغلو، وكل غلو نهايته إلى الكفر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفض هذا الغلو.
ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال:
(بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب، فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يسقينا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء وهو على المنبر)
وهذا هو الذي يجوز للخطيب، فلا يجوز له أن يرفع كلتا يديه؛ إنما يرفع أصبعه بالتوحيد.
أما رفع اليدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه، أنه رأى أحد خلفاء بني أمية على المنبر يرفع يديه على المنبر ويدعو فقال:
(قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أبداً، إنما كان يشير).
فأنت إذا كنت تخطب على المنبر وتريد أن تدعو، فعليك أن تشير بأصبعك السبابة فقط.
قال أنس رضي الله عنه: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.
قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -صافية- فما إن دعا حتى تكاثر الغمام، وما نزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة).
وفي الجمعة التالية والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب، جاءه الأعرابي فوقف على الباب، وقال: (يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يحبس عنا الماء.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، -هذا الشاهد من الحديث: (أشهد أني عبد)، ليس لي دخل في الموضوع، أنا لم أصنع شيئاً- اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الضراب والآكام ومنابت الشجر) .
وعندما كسفت الشمس في موت إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كُسفت الشمس لموت إبراهيم؛ فأزعجه ذلك؛ لأنه أمينٌ على الوحي ولأنه بُعث ليعلم الناس دين الله ويعلقهم برب العالمين
فعندها أمر أن ينادى: الصلاة جامعة.
واجتمع الناس فقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن إذا رأيتم ذلك فعليكم بالصلاة).
والداعية إلى الله عز وجل همه أن يربط الناس بالله لا بشخصه؛ فلذلك لابد أن يكون دقيقاً في ألفاظه، يذكر ما يفعله وينخلع مما لا يقدر عليه.
قال جليس الملك: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني.
قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى؛ فإن آمنت به دعوته فشفاك -إذاً عمله الدعاء فقط-.
أما الباقي فكله لله تبارك وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام وهو يعرّف رب العالمين للناس، فقال:
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].
فذكر ضمير الرفع المنفصل: (هو) في ثلاثة مواضع، وأخلى الموضع الرابع منه: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] لم يقل: (هو)،
والقضية المرتبطة التي يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى ذكر فيها ضمير الرفع هو: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} لأنك ربما قلت: كنت ضالاً جاهلاً، وكنت غير ملتزم فهداني فلان.
فالهداية يشترك فيها العبد والرب تبارك وتعالى، مع التباين بين هداية العبد وإرشاده، وهداية الرب التي هي استقامة على طريق الإسلام فعلاً.
فهي من العبد: الدلالة والبيان، وهي من الله: التوفيق إلى طريق الهداية حقاً،
وقد أثبت الله الهداية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مرة ونفاها عنه أخرى،
قال { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى:52]، فأثبتها له،
وفي الآية الأخرى نفاها عنه فقال: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص:56]،
إذاً: الهداية الأولى : هي هداية الدلالة والبيان،
والهداية التي نفاها الله عنه : توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية حقاً.
فلما التبس هذا المعنى للهداية التي هي مشتركة بين العبد وبين ربه؛ احتاج إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الهداية الحقة ليست لأحد، إنما هي لله وحده،
فأكدها بهذا الضمير: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ، كأنه قال: فهو يهديني لا غيره،
من الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني.
نحن نقول: إن الله تبارك وتعالى يخلق فيك الشبع بسبب الطعام، لا أن كل طعام يشبع، فلربما أن الإنسان يأكل ولا يشبع،
ويشرب ويحتاج إلى تناول الماء، فلو كان امتلاء المعدة النعمة بالماء والطعام دافعاً للجوع لما جاع آكل ولما ظمئ شارب،
وهذا ليس معناه نفي الأسباب نفسها لا ،
الله عز وجل هو الذي يخلق الري في الشراب، ويخلق الشبع في الطعام.
يقول: إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} هو الذي يشبعني،
كما في الصحيحين:
أن رجلاً كافراً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقني يا محمد.
فحلب له لبن شاه، فشرب، ثم قال: اسقني، حتى شرب سبع مرات، ثم أسلم بعد ذلك،
وجاء في إحدى المرات فقال: اسقني يا رسول الله؟ فحلب له لبن شاة، فشربها وحمد الله،
فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
فلما التبس هذا الأمر أكّده إبراهيم عليه السلام بضمير الرفع، وأن الذي يشبع هو الله، ليس مجرد أنك تناولت الطعام.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
(وما رميت -أي: وما أصبت- إذ رميت -لما أرسلت السهم- ولكن الله رمى).
ثم قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} انظر إلى الأدب!
نسب المرض لنفسه؛ وأنه هو الذي أمرض نفسه،
وكان مقتضى الكلام أن يقول: (وإذا أمرضني فهو يشفين)؛ لكن تأدباً لم ينسب المرض إلى الله،
كما قال العبد الصالح: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فنسب هذا إلى نفسه،
ولما ذكر التفضل قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82].
نحن نتعلم طريقة عرض الأنبياء للدعوة إلى الله في كتاب الله عز وجل، لتعريف الناس بصفات الله تبارك وتعالى،
فنتعلم الدقة في سلامة الألفاظ.
وكان إبراهيم عليه السلام دقيقاً في كلامه حين قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} .
كثير من الناس يقول: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني شفاني.
وبعض المرضى إذا قال للطبيب: هل يوجد أمل؟ فقال له: نعم، يوجد أمل،
اعتمد كلامه وكأنه كلام رب العالمين، وإذا قال له: إنك ستموت، أو ليس هناك أمل، فإنه يستعد للموت.
أحد إخواننا ذهب إلى الطبيب فأخطأ الطبيب في التشخيص وقال له: أنت مصاب بالقلب.
فخرج يمشي ورجلاه ترتعدان، حتى أنه ما استطاع أن ينزل من السلم، انظر صعد ضد الجاذبية وكان في قمة النشاط، والآن هو ينزل فما استطاع حتى أسندوه.
ثم ذهب إلى طبيب متخصص فقال له: من الذي أعطاك هذا التشخيص؟ قال: الدكتور فلان.
قال: ما رأيك أن قلبك أقوى من قلبه! يقول: والله نزلت أجري على السلم.
كثير من الناس يظن أن الطبيب هو الذي رفع العلة، ويقولون: هذا الطبيب ماهر، وهذا الطبيب ممتاز،
وقد ذهبت إلى كثير من الأطباء فما وجدت طبيباً كهذا.
حسناً: لما هذا الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها، فما تفسيرك لهذا الموضوع؟!
أكيد الخلط، فلما وقع هذا الخلط أراد إبراهيم عليه السلام أن يبين أن الذي يرفع الداء هو الله،
فلذلك أثبته بهذا الضمير: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} .
ولما جاءت القضية الرابعة التي لا خلاف بين الناس فيها، ولا تحتاج إلا تأكيد، وهي قضية الموت والإحياء؛ لأن هذه مسألة لا يجادل فيها أحد، ولذلك ما أكدها، هكذا فليكن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.
-يُتبع إن شاء الله-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه من القصص الصحيحة التي قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
روى الإمام مسلم في صحيحه (3005) عن صهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال:
(كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: ائتني بغلامٍ أعلمه السحر.
فجاءوه بغلامٍ نجيب يعلمه السحر، فكان الغلام إذا سلك إلى الساحر مر بصومعة راهب، فمال إليه يوماً فسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا ذهب إلى الساحر متأخراً ضربه، وإذا رجع إلى أهله ضربوه،
فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا ضربك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا ضربك أهلك فقل: حبسني الساحر.
وفي أحد الأيام خرجت دابة عظيمة حبست الناس، فأرسل الساحر الغلام إليها ليقتلها، فأمسك الغلام بحجر،
وقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.
ورماها بحجرٍ فقتلها.
فرجع الغلام إلى الراهبِ -وقد انتشرت الواقعة- فدخل عليه فقال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليّ.
وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، وكان جليس الملك قد عمي، فلما سمع أن الغلام يشفي الناس من سائر الأدواء ذهب إليه بهدايا عظيمة،
وقال له: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
فآمن جليس الملك بالله عز وجل؛ فرد الله عليه بصره.
فدخل الجليس الأعمى -سابقاً- على الملك بلا قائد يقوده وقد رجع إليه بصره، فقال الملك له: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربّي.
قال: أولك ربّ غيري؟ قال: الله ربي وربك ورب العالمين.
فما زال يعذبه حتى دل على الغلام، فلما جاء الغلام، قال له الملك: أي بني! قد صار من أمرك ما أرى: تبرئ الأكمه والأبرص، وتداوي الناس من سائر الأدواء! فقال الغلام: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى.
فما زال يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك؟ فقال: لا.
فجيء بالمنشار فوضع في مفرق رأسه ونشروه نصفين حتى سقط شقاه،
ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك؟ فأبى؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه ونشروه حتى سقط شقاه.
وجيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؟ قال: لا.
فنادى الملك جماعةً من جنوده، وقال: خذوه إلى قمة أعلى جبل، فإن رجع وإلا فألقوه من على الجبل،
فأخذوه، فلما كانوا على قمة الجبل قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت.
فارتجف بهم الجبل فسقطوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
فأرسل طائفةً أخرى من جنوده، وقال لهم: خذوه في قرقور -القرقور: نوعٌ من السفن- وتوسطوا به لجة البحر، فإن رجع وإلا لججوا به أي: أغرقوه.
فلما توسطوا به البحر، قال الغلام: رب! اكفنيهم بما شئت، فانكفأ بهم القارب فغرقوا ورجع هو.
فلما رآه الملك قال: ويحك! أين أصحابك؟ قال: كفانيهم الله بما شاء.
ثم قال الغلام للملك: اعلم أنك لن تقتلني إلا أن تفعل ما آمرك به.
فقال له: وما ذاك؟ قال: أن تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على هذه الخشبة،
وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني.
فجمع الملك الناس في صعيدٍ واحد، وأخذ سهماً من كنانة الغلام من بين السهام،
وصوب السهم إلى صدره، فصاح: باسم الله رب الغلام.
فخرج السهم حيث أشار الغلام، فوقع في صدغه فمات.
فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.
فقال رفقاء السوء للملك: قد وقع -والله- ما كنت تحذر، كنت تخشى أن يؤمن الناس فآمنوا.
قال: فماذا نفعل؟ قالوا: خدّ الأخاديد على أفواه السكك، -أضرم فيها النار- ثم اعرض الناس على هذه النار،
فمن آمن برب الغلام فاطرحه فيها، فجيء بالناس، وعرضوا على هذه النيران، فمن آمن برب الغلام ألقوه فيها،
حتى جاء الدور على أم كانت ترضع ولدها، فأول ما فعلوا أخذوا الولد فقذفوه في النار، ثم كأن الأم تقاعست أو خافت، فسمعت صوت ولدها من الأخدود يقول لها: يا أماه! اصبري فإنك على الحق).
البلاء سنة من سنن الله:
الابتلاء سنة الأولين والآخرين، لا ينجو منه كافرٌ ولا مؤمن،
ويصدق ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد رسم مربعاً على الأرض،
ثم مد من داخل المربع خطاً طويلاً تجاوز المربع،
وحول هذا الخط -داخل المربع- رسم خطوطاً قصيرة على جانبي هذا الخط الطويل،
ثم قال عليه الصلاة والسلام -وأشار إلى المربع-: (هذا أجل ابن آدم محيط به -لا يفلت أبداً، احتواء من كل الجهات- ثم أشار إلى الخط الطويل الذي خرج من المربع وقال: وهذا أمله -أمله يحتاج إلى أضعاف عمره-
ثم أشار إلى الخطوط القصيرة حول هذا المربع فقال: وهذه الأعراض هي المصائب التي تحيط بالعبد في حياته، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) معنى هذا الكلام أنه لابد من الابتلاء.
فالذي يفر من الله ورسوله خشية أن يبتلى، نقول له: ستبتلى، ولكن بشكل آخر، إما بامرأةٍ ناشز، أو بولدٍ يضيع، أو بمالٍ وضيع، أو بمصنع يحترق، أو بظالم يظلمك.
أهل الدنيا ليسوا بمأمنٍ من البلاء، بل هم أكثر الناس بلاءً، فلماذا تفر من الله ورسوله، فالابتلاء من أجل الله ودينه فيه شرفٌ لك، وهذه سنةُ الأنبياء والمرسلين.
وهذا الحديث يبين لنا الفتنة التي تلمّ بالعبد في العقيدة.
فهذا الغلام الذي أيقظ مملكةً بأكملها، ما ظن أنه سيناط به هذا التكليف العظيم.
كذلك نقول لك: لا تحتقر نفسك، إنك لا تدري ما يُكتب لك بأمنيتك،
سل أي عالم كبير جليل هل كنت في أي مرحلةٍ من حياتك تظن أنك ستصل إلى هذه المكانة؟ سيقول لك: لا.
سواءً كان الإمام البخاري، أو الإمام أحمد، أو الإمام الشافعي.
ولذلك فإن مواليد العلماء فيها خلاف، لكن وفياتهم لا؛ لأنه يوم ولد كان كملايين المواليد، لا يعرفون، هل سيكون أحدهم عالماً أم قاطع طريق،
ولكن عندما يموت يسجل تاريخ وفاته؛ لأنه لم يمت إلا وقد ملأ الدنيا علماً.
فأنت لا تدري ما يكتب لك من أمنيتك، فلا تحتقر نفسك، لعل الله عز وجل يغير الأمة بك وأنت لا تدري،
المهم: أن تفعل كما أمرك الله عز وجل وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم حين قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
هذا الغلام الذي حول الله عز وجل به هذه المملكة، غلام صغير، والساحر كان في ذلك الزمان كالمخابرات في هذا الزمان، وكان الملك يستخدمه في تسيير دفة الأمور بلا أسباب، فعندما تقع مشكلة كان يستخدم الساحر، مثلما فعل الملك مع الغلام عندما خرجت دابةٌ عظيمة اعترضت الناس.
قال الساحر عندما كبر: أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلم السحر، فائتوني بغلام نجيب.
فبحثوا له عن هذا الغلام وجاءوا به، فكان يعلمه السحر، وبينما كان الغلام ذاهباً إلى الساحر مر بصومعة الراهب،
وكان الرهبان إذ ذاك على الإسلام كما ورد في رواية الترمذي، وهذه القصة تدلك على أنها حدثت بعد عيسى عليه السلام؛ لأن هذه الرهبانية إنما ابتدعها النصارى.
ظهور الحق بقتل الدابة
وفي إحدى الأيام خرجت دابة -في رواية الترمذي أنها كانت أسداً- فحبست الناس، فأرسل الساحر الغلام ليقتل هذه الدابة،
فأخذ الغلام حجراً وقال: اليوم أعلم أمر الراهبِ أحب إلى الله عز وجل أم أمر الساحر! ثم قال:
اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة.
فقدم أمر الراهب على الساحر، وهذا يدل على الحب الذي كان يكنه للراهب؛ لأنه كان يمكن أن يقول: اللهم إن كان أمر الساحر أشر وأبغض إليك فاقتل هذه الدابة، لذلك قدم الراهب في الذكر؛ لأنه الأحب إليه، أراد أن يرى آية حتى يستريح، فأظهر الله عز وجل هذا الآية.
ولذلك نحن نقول: كل آية أنجاك الله عز وجل بها من مصيبة خذها مثالاً وقس عليها، وحسّن ظنك بربك،
فإذا أنجاك من ورطة ثم وقعت في ورطةٍ أخرى، فقل: كما أنجاني في الأولى ينجيني في هذه؛
لأن هذا أدعى لاستقرارك على طريق الحق.
كان هناك رجل قد سجن، وهذا الرجل كنا جميعاً نظن أنه صار في عداد المحكوم عليهم بالإعدام، وسجن سجناً مخصوصاً، وجعلوا عليه عميداً مخصوصاً يمنع دخول أي شيء إليه، وكان هذا الرجل أحد الدعاة الكبار،
فيشاء الله عز وجل أن يكون هذا العميد المختار يحب هذا الداعية جداً، فكان كل يوم يترك له دجاجة مشوية.
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
فهذا الغلام يريد أن يرى آية من الآيات حتى تثبت إيمانه، وأن هذا الرجل على الحق فلا يحيد.
فلما رمى هذا الأسد بالحجر قتله، فظهر له بجلاء أن الراهب على الحق.
دعاء الغلام لجليس الملك وشفاؤه بإذن الله:
بدأ صيت الغلام ينتشر ويعرفه الناس، وكان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من شر الأدواء،
فسمع به جليسٌ للملك، وكان من أصدقائه وأحبابه، لكنه عمي، فلما سمع أن الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من العمى؛ جمع له هدايا عظيمة،
وقال للغلام: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، أي: إن رددت علي بصري فجميع الهدايا لك.
فبدأ الغلام يدعو إلى الله عز وجل، قال: إني لا أشفي أحداً ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به دعوته فشفاك.
هنا وقفة مهمة، وأولى الناس بالالتفات إليها الدعاة إلى الله عز وجل:
راقب كلام الغلام ! ولاحظ دقته في التعبير!
قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى، فإن آمنت به -لم يقل: شفيتك- دعوته فشفاك.
فهذا رجلٌ أمين على دعوته، لا يسعى لمجد شخصي، ولا يأكل بدينه دنيا.
فالغلام عليه الدعاء فقط، وبعد ذلك ليس له أي دخل في الموضوع،
وهذا من الأمانة في سبيل الدعوة، فإنك إذا لاحظت أو رأيت أن أناساً غلو فيك ينبغي أن تردهم؛ حتى لا ينسبوا إليك ما لا يجوز لك،
فإن النصارى كفروا بسبب الغلو، وكل غلو نهايته إلى الكفر، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفض هذا الغلو.
ففي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال:
(بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، إذ جاءه رجلٌ أعرابي فوقف على الباب، فقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يسقينا؟ قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء وهو على المنبر)
وهذا هو الذي يجوز للخطيب، فلا يجوز له أن يرفع كلتا يديه؛ إنما يرفع أصبعه بالتوحيد.
أما رفع اليدين، فقد روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه، أنه رأى أحد خلفاء بني أمية على المنبر يرفع يديه على المنبر ويدعو فقال:
(قبح الله هاتين اليدين، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه أبداً، إنما كان يشير).
فأنت إذا كنت تخطب على المنبر وتريد أن تدعو، فعليك أن تشير بأصبعك السبابة فقط.
قال أنس رضي الله عنه: (فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه السبابة إلى السماء، وقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.
قال أنس: وكانت السماء مثل الزجاجة -صافية- فما إن دعا حتى تكاثر الغمام، وما نزل صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا والمطر يتحدر من على لحيته، وخرجنا إلى بيوتنا نخوض في الماء، وظللنا لا نرى الشمس جمعة).
وفي الجمعة التالية والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب، جاءه الأعرابي فوقف على الباب، وقال: (يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، فادع الله أن يحبس عنا الماء.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أني عبد الله ورسوله، -هذا الشاهد من الحديث: (أشهد أني عبد)، ليس لي دخل في الموضوع، أنا لم أصنع شيئاً- اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الضراب والآكام ومنابت الشجر) .
وعندما كسفت الشمس في موت إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كُسفت الشمس لموت إبراهيم؛ فأزعجه ذلك؛ لأنه أمينٌ على الوحي ولأنه بُعث ليعلم الناس دين الله ويعلقهم برب العالمين
فعندها أمر أن ينادى: الصلاة جامعة.
واجتمع الناس فقال لهم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن إذا رأيتم ذلك فعليكم بالصلاة).
والداعية إلى الله عز وجل همه أن يربط الناس بالله لا بشخصه؛ فلذلك لابد أن يكون دقيقاً في ألفاظه، يذكر ما يفعله وينخلع مما لا يقدر عليه.
قال جليس الملك: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني.
قال: إني لا أشفي أحداً، ولكن يشفي الله تعالى؛ فإن آمنت به دعوته فشفاك -إذاً عمله الدعاء فقط-.
أما الباقي فكله لله تبارك وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام وهو يعرّف رب العالمين للناس، فقال:
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].
فذكر ضمير الرفع المنفصل: (هو) في ثلاثة مواضع، وأخلى الموضع الرابع منه: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81] لم يقل: (هو)،
والقضية المرتبطة التي يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى ذكر فيها ضمير الرفع هو: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} لأنك ربما قلت: كنت ضالاً جاهلاً، وكنت غير ملتزم فهداني فلان.
فالهداية يشترك فيها العبد والرب تبارك وتعالى، مع التباين بين هداية العبد وإرشاده، وهداية الرب التي هي استقامة على طريق الإسلام فعلاً.
فهي من العبد: الدلالة والبيان، وهي من الله: التوفيق إلى طريق الهداية حقاً،
وقد أثبت الله الهداية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم مرة ونفاها عنه أخرى،
قال { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى:52]، فأثبتها له،
وفي الآية الأخرى نفاها عنه فقال: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص:56]،
إذاً: الهداية الأولى : هي هداية الدلالة والبيان،
والهداية التي نفاها الله عنه : توفيق العبد وإقامته على طريق الهداية حقاً.
فلما التبس هذا المعنى للهداية التي هي مشتركة بين العبد وبين ربه؛ احتاج إبراهيم عليه السلام أن يؤكد أن الهداية الحقة ليست لأحد، إنما هي لله وحده،
فأكدها بهذا الضمير: { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ، كأنه قال: فهو يهديني لا غيره،
من الجائز أن يقول الإنسان: كنت سأموت لولا أن فلاناً أطعمني وسقاني.
نحن نقول: إن الله تبارك وتعالى يخلق فيك الشبع بسبب الطعام، لا أن كل طعام يشبع، فلربما أن الإنسان يأكل ولا يشبع،
ويشرب ويحتاج إلى تناول الماء، فلو كان امتلاء المعدة النعمة بالماء والطعام دافعاً للجوع لما جاع آكل ولما ظمئ شارب،
وهذا ليس معناه نفي الأسباب نفسها لا ،
الله عز وجل هو الذي يخلق الري في الشراب، ويخلق الشبع في الطعام.
يقول: إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} هو الذي يشبعني،
كما في الصحيحين:
أن رجلاً كافراً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اسقني يا محمد.
فحلب له لبن شاه، فشرب، ثم قال: اسقني، حتى شرب سبع مرات، ثم أسلم بعد ذلك،
وجاء في إحدى المرات فقال: اسقني يا رسول الله؟ فحلب له لبن شاة، فشربها وحمد الله،
فقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).
فلما التبس هذا الأمر أكّده إبراهيم عليه السلام بضمير الرفع، وأن الذي يشبع هو الله، ليس مجرد أنك تناولت الطعام.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
(وما رميت -أي: وما أصبت- إذ رميت -لما أرسلت السهم- ولكن الله رمى).
ثم قال إبراهيم عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} انظر إلى الأدب!
نسب المرض لنفسه؛ وأنه هو الذي أمرض نفسه،
وكان مقتضى الكلام أن يقول: (وإذا أمرضني فهو يشفين)؛ لكن تأدباً لم ينسب المرض إلى الله،
كما قال العبد الصالح: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، فنسب هذا إلى نفسه،
ولما ذكر التفضل قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82].
نحن نتعلم طريقة عرض الأنبياء للدعوة إلى الله في كتاب الله عز وجل، لتعريف الناس بصفات الله تبارك وتعالى،
فنتعلم الدقة في سلامة الألفاظ.
وكان إبراهيم عليه السلام دقيقاً في كلامه حين قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} .
كثير من الناس يقول: كنت سأموت لولا أن الطبيب الفلاني شفاني.
وبعض المرضى إذا قال للطبيب: هل يوجد أمل؟ فقال له: نعم، يوجد أمل،
اعتمد كلامه وكأنه كلام رب العالمين، وإذا قال له: إنك ستموت، أو ليس هناك أمل، فإنه يستعد للموت.
أحد إخواننا ذهب إلى الطبيب فأخطأ الطبيب في التشخيص وقال له: أنت مصاب بالقلب.
فخرج يمشي ورجلاه ترتعدان، حتى أنه ما استطاع أن ينزل من السلم، انظر صعد ضد الجاذبية وكان في قمة النشاط، والآن هو ينزل فما استطاع حتى أسندوه.
ثم ذهب إلى طبيب متخصص فقال له: من الذي أعطاك هذا التشخيص؟ قال: الدكتور فلان.
قال: ما رأيك أن قلبك أقوى من قلبه! يقول: والله نزلت أجري على السلم.
كثير من الناس يظن أن الطبيب هو الذي رفع العلة، ويقولون: هذا الطبيب ماهر، وهذا الطبيب ممتاز،
وقد ذهبت إلى كثير من الأطباء فما وجدت طبيباً كهذا.
حسناً: لما هذا الطبيب يموت بنفس العلة التي يداوي الناس منها، فما تفسيرك لهذا الموضوع؟!
أكيد الخلط، فلما وقع هذا الخلط أراد إبراهيم عليه السلام أن يبين أن الذي يرفع الداء هو الله،
فلذلك أثبته بهذا الضمير: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} .
ولما جاءت القضية الرابعة التي لا خلاف بين الناس فيها، ولا تحتاج إلا تأكيد، وهي قضية الموت والإحياء؛ لأن هذه مسألة لا يجادل فيها أحد، ولذلك ما أكدها، هكذا فليكن الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.
-يُتبع إن شاء الله-
تعليق