المعضلة :
تخبرنا الداروينية أن مثل هذة التصاميم المذهلة في الكائنات الحية ـ ببساطة ـ تنشأ تلقائيا كنواتج جانبية لأخطاء في النسخ تحدث روتينيا عندما تنتقل المعلومات الجينية من جيل إلى الذي يليه.
ودور الانتقاء الطبيعي ليس كقوة مولِّدة تستدعي إيجاد بنى جديدة، ولكن يمكنه فقط أن يتعامل مع تغييرات تقدّم له،ويعمل فقط على تعزيز أو حذف المستجدات التي تُحْدثها التغيرات الجينية العشوائية التي تقف وراء جميع الابتكارات البيولوجية ، فإما أن يزيل متغيّرات غير مرغوب فيها، أو يشجع متغيرات ناجحة، ويمكننا أن نعرف التطور بأنه عملية انتهازية، فهو ببساطة يستغل أو يرفض الإمكانيات عندما تظهر بالصدفة .
ومن ذلك فإن هذه التكيفات المعقدة لا يمكن أن تنشأ في خطوة واحدة بل عبر آلاف أو مئات الالاف أو ملايين من التجارب والطفرات المتراكمة التدريجية خلال أزمان طويلة جدا ، وملايين من الأجيال المتعاقبة (تتزايد بقدر تعقيد التكيف ) ،
ودور الانتقاء الطبيعي هنا هو صياغة التكيف تدريجيا من خلال سلسلة من المراحل الوسطي ،
والمعضلة الرئيسية هنا تكمن فى تحديد قيمة تكيفيه لجميع المراحل الوسطى أثناء رحلة التطور المزعومة والتي لا يمكن أن تحمل أي معني مفيد للكائن الحي الا بإكتمال الشكل التكيفي تماما، ففي آلية الشرك الخداعي ،
هنا كمثال يتوجب أن تمر بمراحل عديدة يمكننا تخيلها بعدة خطوات قد تختلف فى بعض ترتيبها تبدأ بخلق الشكل الشبيه فى أبعاده الاولية بجسد الكائن الذي يتم محاكاته تدريجيا ومن ثم خلق بقعه تشبه العين فى المكان المناسب تماما ، ومن ثم وضع الالوان المناسبة التي تشبه حراشف الاسماك ومن ثم خلق زعانف جانبية فى الاماكن المناسبة تماما ومن ثم صنع الذيل .
نحن نعلم أن الشكل الذي من الممكن أن يحاكي بنية السمكة لا يمكن أن يتم التعرف عليه وتمييزه الا بتواجد كل هذه الاجزاء الرئيسية مجتمعة ، تماما كما يقوم الرسام برسمها على الورق حيث لا تتبدي ملامحها كسمكة الا فى المراحل النهائية .
يمكننا تقريب الفكرة أكثر بإستخدام التشبيه السابق وتصوير الطفرات العشوائية بخطوط الرسم العشوائي ، والانتقاء الطبيعي بالممحاة التي يجب عليها أن تمحو الأخطاء التي لا تصب في صياغة شكل السمكة .
لكن العملية السابقة لا تشبه بالمرة الرسام المدرك لخطواته الذي يتحرك وفق خطة مسبقة وهدف غائي لصياغة شكل السمكة ، وتتجه خطوطه مباشرة نحو رسم هذا الشكل ، فخطوط الرسم ( الطفرات عشوائية -أخطاء النسخ ) غير موجهة نحو صياغة ورسم أي شكل معين وهي مجرد شخبطات ، وما يزيد الطين بلة أن الممحاة (الانتقاء الطبيعي ) التي يجب أن تهذب الاخطاء وتمحوها وتثبت الخطوط المفيدة لصياغة شكل السمكة أيضا غير موجهة نحو أي هدف مسبق ولا تستطيع التفرقة بين ما هو مفيد للتكيف مما هو غير ذلك ، لأننا كما قلنا بأن ذلك العضو لا يمكنه أن يحمل أي معنى لحامله الا بإكتمال تصميمه .
فالانتقاء الطبيعي لا يدرى شيئا عن وظيفة المستقبل لتلك البنى الجديدة، أو يمتلك مخطط مسبق يسير عليه ، وبذلك لا يمكنه التفرقة بين الخطوط التي تخدم في صياغة شكل السمكة من تلك الخطوط التي تعتبر أخطاء يجب محوها .
ومن هنا نتساءل ؟
كيف يمكن للطفرات العمياء المتراكمة التدريجية والبطيئة عبر الآف من الاجيال المتعاقبة أن تتوجه لإنتاج هذا التكيف وهى لا تدرى أصلا ما فائدة ذلك ؟!
فالاشكال الوسيطة لا تمنح الكائن الحي أي قيمة تكيفيه الا بوصفها مرحلة في الكيان المكتمل ولا تعني للإنتقاء سوى عبئا وتشوها تطوريا يجب التخلص منه .
فالاشكال الوسيطة لا تمنح الكائن الحي أي قيمة تكيفيه الا بوصفها مرحلة في الكيان المكتمل ولا تعني للإنتقاء سوى عبئا وتشوها تطوريا يجب التخلص منه .
ومن ذلك يتوجب علي الداروينية أن تتخطى هذه الإشكالية المحورية ، بتوفير وظيفة لكافة الاشكال الانتقالية الوسيطة أثناء رحلة صياغة البنية الجديدة فى الكائن الحي حتي تحمل ميزة انتقائية يتم تثبيتها وهذا ما لا يمكن توفره مع تلك البني المعقدة .
الاشكالية الأكبر لا تقف عند هذا الحد رغم أنه كفيل بدحض الدارونية وأسسها ولا يوجد له حتي الان تفسيرا يمكن أن يقبله العقل العلمي، ولكنها تتعلق بكيفية خلق سلوك الكائن الحي نفسه المرتبط بمثل هذه التكيفيات ومعرفة قيمتها ، فلو تخطينا المعضلة السابقة وافترضنا جدلا قدرة العشوائية على خلق مثل هذه الأشكال التكيفيه وهو محال وجنون ،
فكيف تمكن المحار ذلك الحيوان البدائي من أن يدرك قيمة هذا التكيف الجديد ويستخدمه لصنع تلك الحيل وما هي الالية التطورية لصنع مثل هذه السلوكيات وإن وجدت كيف يتزامن هذا التطور السلوكي الذكي مع التطور الشكلي بصنع الفخاخ .
بمعني أدق هل يوجد قانون طبيعي أو صدفي فى محيط الادراك الكوني يمكنه أن يفسر هذا ؟!!!
يعتقد الانسان الذي يمتلك أدنى درجات التفكير المنطقي أنه من السفاهة تخيل حدوث مثل هذه الأحداث بغير تصميم حكيم .
دجل كهنة الداروينية ، وفرضية التكيف المسبق:
بعدما تفضل بالاعتراف بهذه الاشكالية ولم يتجاهلها كعادة أرباب الداروينية في إستغلال رحابة مجال الفحص الحيوي وإتساع وتشعب دروبه لتخطي العقبات التي تواجه عقيدتهم ،
وقف ستيفن جولد Stephen Jay Gould أحد كهنة الداروينية العتاة مذهولا لبعض الوقت أمام مشهد تلك الاسماك المحارية الزائفة ، ثم لم يلبث أن هرش رأسه مليا ليضع الحل السحري لتلك المعضلة مع سيناريو الدراونية العقيم الذي اطلق عليه التكيف المسبق exaptation
.
وبالرغم من أنه قد إستخدم الانتقائية فى تبريره باستخدام نموذج واحد من نماذج التمويه والذي يتعلق بتمويه السمكة الملتصقة بجسد المحارة ، فإن تبريره حول ظهور هذه السمكة تدريجيا بدا فى غاية الضحاله والاستخفاف بالعقول .
فنموذج الداروينية المتعلق بالتكيف المسبق يقول أن التركيبات والتكيفات المعقدة كانت تمتلك وظائف أخري سابقة أثناء رحلة تكونها التدريجي والتي يمكن أن تتحول إلى وظيفة أخري، وبذلك يمكن تخطي معضلة فجوة الاشكال الوسيطة التي ينبغي أن تحمل وظيفة ما حتي يحافظ عليها الانتقاء الطبيعي ولابد أن هذه الوظائف مختلفة تماما عن وظيفة التكيف الكامل لأنه لم يكن قد وجد بعد ، ومن ذلك عليه أن يجد وظائف أخرى غير الشرك البصري مما يجب ان يؤديه شكل السمكة اثناء تدرجه فى التطور
وبعد البحث المضني في أرشيف الخيال الواسع الذي تذخر به حكايات الداروينية أتت هذه الوظيفة الممكنة التي لم تتخطى حاجز التخمين فى أن الحركة الايقاعية للسمكة الزائفة من الممكن أنها تطورت (وركزوا جيدا ولا تضحكوا من سفاهة التبرير ) من زوائد كالرفارف ربما كانت وظيفتها تزويد اليرقات بالهواء أولإبقاء اليرقات معلقه بالماء بعد أن تطلقها الأم خارج جسدها، واذا كانت الرفرفة الايقاعية قد وفرت هذه الميزات مسبقا فالتشابه العرضي مع شكل السمكة يمكن اعتباره تكيفا مسبقا ويمكن تحسينه فى الوقت الذي كانت فيه الرفارف تؤدي وظائف اخرى .
هنا يحق لنا أن نسأل جولد :
لماذا إنتقيت هذا النموذج وحده ولم تذكر أو تشير للنماذج المذهلة الاخرى ؟
الاجابة ببساطة واضحة فإنتقاءه غير بري بالمرة وهو نوع من التدليس العلمي لأن كل النماذج السابقة كصنع الديدان وحشرات الصيد أو السمكات المعلقة بالسنارة وحتي تمويه القريدس لا يمكن أن يتفق بأي حال مع هراء التكيف المسبق ولن يحله بالمطلق فهذه المحاكاة بالغة التعقيد وجدت فقط لهذا الهدف التي وجدت لاجله (الشرك البصري ) .
لكن هل نجح جولد في حل إشكالية شرك السمكة الزائفة ؟
الحقيقة أن الهراء من السفاهة من أن يرد عليه لكننا ابتلينا دائما بتوضيح الواضحات .
أولا : إن كانت الرفارف لتزويد اليرقات بالهواء فكيف تتنفس اليرقات فى الانواع الاخري التي لا تملك رفارف ومنها أغلب النماذج الأخرى المذكورة أعلاه؟.
و إذا كانت الرفارف وجدت كتكيف مسبق لنثراليرقات في الماء، فلماذا تحركها المحارات دائما وكان يتوجب عليها تحريكها فقط عند طرد اليرقات، وهل من الممكن أن يقنع هذا التبرير صبى صغير ، فالرفارف لا يمكنها توفير الهواء لليرقات ويكفي -ببساطة- أن تفتح المحارة الأم مصراعيها ليسحب تيار الماء صغارها ونثرها إلي أبعد مكان دون أن تحتاج لعبئ صنع الرفارف.
ثانيا : وهو الأهم أن هذا التبرير لم يتخطى بالمرة مشكلة التكيف التدريجي مع حمل وظيفة وسيطة لكل مرحلة من مراحل التطور وإنما إبتكر وظيفة هزلية للرفارف رغم أن وجود تلك الرفارف بالشكل المفترض لا يمكنه أن يمثل أي قيمة تكيفية فى مسار تغير الشكل الى ما هي عليه، ولم يقترب من جسم المعضلة المتمثل في مسار تكيف الرفرف لشكل السمكة ، فما هو وجه الشبه بين شكل زائدة لحميه وشكل السمكة الذي رأيناه؟
و ما هو دور التكيف المسبق فى تغيير شكل الرفرف تدريجيا الى سمكة بكل تفاصيلها الشكلية ،وكيف يصوغ التكيف المسبق تفسيرا وظيفة ثانوية للتشكل تدريجي للعين ثم الزعانف ثم الذيل ؟.
ثالثا: ومن ثم كيف يفسر التكيف معرفة المحار بقيمة هذا الشكل ليستخدمه فى الحيلة الوظيفية الجديدة .
ببساطة اذا كان كل المحار يتكاثر بطريقة بسيطة بوضع البيض فى الماء فما الدافع التطوري والقيمة الانتقائية في لجوء هذه المحارات إلى هذه التحولات الملتوية والعجيبة عبر ملايين السنين ؟
وفقا للداروينية فإن التغير التدريجي فى الشكل يجب أن يشير الى تكوين تدريجي للوظيفة،واذا لم يتعين حدوث ذلك فإن المراحل المبكرة والناقصة لوظيفة ما لم تكن موجودة قط وان تلك الاشكال خلقت مرة واحدة .
ما يقوله الدراونه لا يعدو كونه مزيجا من الدجل والهراء والعبث ،
ونحن نقول فى المقابل إن التفسير الوحيد المنطقي لمثل هذا الحدث هو التصميم الحكيم .
فالحياة منظومة تكيفية كاملة يستحيل اختزالها بمفهوم تطوري عقيم سطحي متهاوي وتظل مثلها آلاف الأمثلة شاهدة لله الخالق القدير .
المصدر
تعليق