أول نظام نقدي في الإسلام
النقد لغةً خلاف النسيئة وهي البيع المؤجل، وفي اللغة: نقدت له الدراهم: أعطيته إياها، ولهذا فالنقد في التاريخ الحضاري الإنساني، يعد من أهم منجزاته الحضارية، وذلك لأنه سهّل المعاملات الإنسانية المعنية بأمور العلاقات التجارية، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات والمجتمعات. والنقد والمال هما اليوم شيء واحد، ولهذا فقد جاء في مقدمة اهتمامات الشريعة الإسلامية، لصلته المباشرة بأفراد أي مجتمع وأهميته في حياة الإنسان وارتباطه به.
أكرم الله الإنسانية بشريعة الإسلام، فكان نبي ورسول هذه الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، من خيرة بطون العرب نسبًا وشرفًا ومكانةً، وحظي العرب بشرف النسب والتكريم هذا، في حملهم لهذه الرسالة ودعوة الناس إليها، فقد سمت هذه الرسالة بمكانة الإنسان على هذه الأرض على أنه خليفة الله عليها، وبسيادة الإسلام ساد العرب وعظم شأنهم، ونالوا شرف التكريم على سائر الأمم بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
والنظام المالي الذي هو موضوع الحديث فيه، هو ركن من أركان هذه الشريعة السماوية، منهله وينبوعه في أصوله ونظمه كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
النظام المالي في الإسلام وعدالته:
إن مما امتازت به الشريعة الإسلامية في علاقة المسلم بما يملكه من أموال أن جعله الله مستخلفًا فيها، والمال مال الله، فأوجب على المسلم العمل بالواجبات، والابتعاد عن المحرمات، وقد ذهب هذا النظام بعدالته إلى تأمين حد الكفاية للفرد في ظل الدولة الإسلامية بعيش كريم، أيا ًكانت ديانته أو نسبه، كما ضمن كذلك بباب الزكاة والصدقات والهبات والكفارات، الكثير من المنافع لفقراء المجتمع الإسلامي.
والمجتمع الإسلامي نظامه المالي يقوم على التوازن المالي والاقتصادي بين أفراده، سواء في تكافؤ الفرص وترشيد الإنفاق والاستهلاك وغير ذلك من الابتعاد عن المنهيات والأخذ بالتوصيات، فهذه كلها أصول ربانية سماوية {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فهذه الثوابت لا يجوز الخروج عليها، ولا الاختلاف فيها، وإلا كان ذلك خروجًا على الإسلام، وحكمًا بغير ما أنزل الله به، فمحرمات الأموال: الربا بشتى أنواعه والسرقات والرشوة وما يلحق بها من منهيات، وعلة التحريم هذه جاءت من الله، فلم ينه سبحانه هذا النهي إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وإذا لم تظهر مضرته في الحال، فسوف تظهر على كل حال، فقد انهار أمام هذا النظام الإلهي النظام الشيوعي، وسينهار كذلك أمامه النظام الرأسمالي بما يقوم عليه في نظمه الربوية من ظلم لبني الإنسان.
coin.jpg
الواقع المالي والنقدي في المجتمع العربي عند ظهور الإسلام
يعد العرب من أنشط الأمم في الجانب التجاري، بحيث تواصلت تجارتهم مع من جاورهم كالفرس والرومان، ومع الهند والشرق الآسيوي عبر اليمن، وكما هو معروف كانت لقريش رحلتان بقصد التجارة إلى كل من الشام واليمن، قال تعالى في سورة قريش: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
وعرب الجاهلية قبل الإسلام كانوا متأثرين بمن جاورهم في التعامل بالمنهيات والمحرمات في معاملاتهم المالية.
وكان النقد المتداول فيما بينهم: الدرهم الفضي الفارسي، والدينار الرومي الذهبي، وقد أشارت كتب التاريخ، إلى أن حضارة الروم في مصر والشام استقطبت كل ذهب الغرب الأوربي الهمجي البربري (كما يصفه الجغرافي الفرنسي موريس لومبار، في كتابه: الجغرافية التاريخية للدولة الإسلامية حتى القرن الرابع)، ومعنى هذا أن الدولة الإسلامية بسقوط الدولة الرومية وسيادة الدولة الإسلامية على كل من مصر والشام، قد ورثت أكبر مخزون ذهبي في العالم يومها، تمثل في كنوز الأديرة والكنائس والمقابر الفرعونية في مصر والشام.
وحدة الوزن بالقيمة للنقد عند عرب الجاهلية
عرف القرشيون، وهم من كبار تجار العرب، كيف يتعاملون بكلا النقدين الدرهم الفارسي الفضي والدينار الذهبي الرومي، فقد كانوا يتعاملون فيها بوحدة الوزن بالقيمة، أي "الذهب غير المضروب والمعروف بـ التبر"، فوحدة الوزن هذه قد عرفتها قريش وقد جاءت وحدات الوزن بالقيمة على الشكل التالي:
الخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- واضع أول نظام نقدي في الإسلام
واجهت الدولة الإسلامية في عهد عمر -رضي الله عنه-، مع حركة الفتوحات الإسلامية واتساع حدود الدولة الإسلامية، قضية التعامل بالدينار الرومي الذهبي المعروف تاريخيًا باسم "نيومزمه"، ودرهم الفرس الفضي والمعروف بـ"البغلي"، إضافة لنقد أواسط آسيا وهو الدرهم الفضي الطبري، نسبة لـ"طبرستان".
وأمام هذا الواقع ذهب عمر -رضي الله عنه- إلى وضع نظام لهذا الحال الذي جاء نتيجة لحركة الفتوحات واتساع حدود الدولة الإسلامية، فقد سار على نهج التعامل مع هذا الواقع بنظام حسابي دقيق ارتبط بموضوع وحدة الوزن بالقيمة، على أساس وزن الدرهم، فالدرهم جاء وزن قيمته بمعيار أربعة عشر قيراطًا، والقيراط يساوي "3،96" غرامًا، والقيراط وحدة وزن إغريقية، والدانق وحدة قياس فارسية، فالدرهم يساوي "14" قيراطًا، والدينار الذهبي يساوي "4،25" غرام، وقد جاء قصد عمر -رضي الله عنه- من وضع هذا النظام لربط العملة الفضية بالذهبية.
ولانشغال المسلمين بمسألة الفتح وعدم علمهم بمسألة سك النقود وضربها، فقد قبل عمر التعامل بالنقود الرومية الذهبية والفارسية الفضية، رغم ما عليها من رسوم، مكتفيًا بوضع كلمات وجمل إسلامية، على هذه الدنانير والدراهم، وبذلك يتبين لنا أن عمر -رضي الله عنه- قد قصد في عمله هذا، الوحدة التدريجية بين النقدين، الأمر الذي عجل في استعمال النقدين في جميع الأراضي الإسلامية المفتوحة سواء في بلاد فارس أم بلاد الروم، على أساس الوحدة بين الدرهم والدينار.
ومما تجب الإشارة إليه: أن النقد يعد مصدرًا من أهم مصادر التاريخ لأي مجتمع إنساني ينتمي إليه هذا النقد يكشف طبيعة عيش ذلك المجتمع، وأسماء ملوكه وحكامه، فمن كلا النقدين الفارسي والرومي تم لنا معرفة مدة استمرار التداول بهما في المجتمع الإسلامي، كما تم من النقد معرفة التاريخ الذي تم فيه ضرب أول نقد إسلامي، والنقد من أهم العطاءات الإنسانية لما سهل فيه للناس في قضايا المعاملات التجارية والمالية.
التحول إلى النقد الإسلامي وتاريخه
بعد أن اكتمل بناء الدولة الإسلامية سياسيًا وجغرافيًا، ذهب الخلفاء في رسم خطوط الدولة وما يجب أن تقوم عليه الدولة من نظم وقوانين، فذهبوا في سن القوانين ووضع الدواوين، وكانت قضية النظام المالي والنقدي من أهم القضايا التي واجهت الخلفاء الأمويين، فقد مضوا في وضع نظام نقدي جديد، بعد أن تم الاستعانة بدور الضرب الساسانية والرومية لمدة طويلة، وذلك بسبب تداول العملتين في معظم الأراضي التي دخلها الإسلام وساد فيها.
وثمة سبب آخر لتداول النقدين وهو جهل المسلمين بمثل هذا النوع من الصناعة في مسألة ضرب النقد وسكه، إضافة لانشغالهم بنشر الإسلام.
لكن بعد الاستقرار السياسي للدولة الإسلامية، ونظرًا لتحريم الشرع الإسلامي للصور والمجسمات التي تمثل المخلوق، إنسانًا كان أم حيوانًا، فقد نقلت دور الضرب إلى دار الخلافة بدمشق، وأصبح ضربها يتم بدمشق، وعليها آيات قرآنية أو عبارات إسلامية مثل كلمة التوحيد وما شابه ذلك، وثمة هناك مصادر تاريخية تشير إلى أن الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، كان أول من سك عملة في البصرة سنة (40هـ- 660م)، وكان يكتب عليها بالخط الكوفي، لكن هذه المحاولة لم تطل، إلى أن جاء معاوية (41- 60هـ- 660- 680م) وذهب في ضرب النقد في دمشق، وإلى ذلك يشير ابن خرداذبة الجغرافي المعروف في كتابه (المسالك والممالك)، الذي بدأ بتأليفه سنة (232هـ- 846م)، وتحدث فيه عن النهضة العمرانية والتجارية التي عرفتها الدولة الأموية، كضرب العملة سواء كان دينارًا ذهبيًا أم درهمًا فضيًا، والسبب في هذا هو وفرة معدني كل من الذهب والفضة لدى الدولة، كما أشار إلى أن الخليفة معاوية -رضي الله عنه- هو أول من سك النقود الإسلامية، وإلى ذلك أشار المؤرخ المشهور (المقريزي) في رسالته المعروفة بـ(شذور العقود في ذكر النقود) فيقول: "وضرب معاوية أيضًا دنانير عليها تمثال له متقلدًا سيفه".
لكن عهد عبدالملك بن مروان (74-75هـ/ 693- 694م)، عرف تقدمًا واسعًا في ضرب النقد وسكه، وخاصة في مدينة دمشق، ومن دمشق اتسعت دائرة ضرب العملة في أنحاء متفرقة من ولايات الدولة الإسلامية، بعد أن رخصت لهم دار الخلافة بسك النقود.
وفي عهد المأمون الخليفة العباسي (198- 218هـ/ 813- 833م)، اتجهت دور الضرب نحو اللامركزية، وذلك ابتداءً من سنة (212هـ- 827م)، ومنذ العهد الأموي تم توحيد العمل بالنقدين الدرهم والدينار على حساب وحدة وزن القيمة، فكانت ميزانية بغداد حتى القرن التاسع تحسب بالدينار لأهل المغرب، والدرهم لأهل المشرق، ومع مطلع القرن العاشر للميلاد أصبحت تحسب وتقدر بالدينار، مما يشهد على الوحدة النقدية على مستوى الصعيد الإداري للدولة.
ثم تتابعت عملية ضرب النقود في الدول الإسلامية المتتالية بحيث كان لكل دولة عملة خاصة فيها وكانت آخرها الدولة العثمانية، وامتازت جميع هذه العملات بعدم وجود صور عليها أو مجسمات لحاكم أو أمير، وذلك بسبب تحريم الصور والمجسمات في الدين الإسلامي.
وختامًا: فمدرسة الفقه الإسلامي تركت لنا موروثًا نفيسًا ونادرًا في وضع المال في الإسلام، أسهم فيه كبار الفقهاء والعلماء مثل كتاب (الخراج) لمؤلفه: القاضي أبو يوسف، وكتاب (الأموال) لمؤلفه: أبو عبيد البغدادي، وكتاب (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) للإمام الماوردي، وكتاب: (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) للإمام ابن قيم الجوزية...
كل هذا التراث المالي يشير إلى تكامل نظم الشريعة الإسلامية وسمو مكانة النظام المالي في الإسلام، مما دفع العديد من علماء الاقتصاد والمال في هذا العصر للحديث عن هذا النظام وقوته أمام الأنظمة المالية الأخرى، وقد أدرج هذا النظام اليوم تحت اسم جديد هو (المذهب الاقتصادي الإسلامي) تمييزًا له في معاصرته لغيره من الأنظمة المالية.
المصدر: شبكة الألوكة
النقد لغةً خلاف النسيئة وهي البيع المؤجل، وفي اللغة: نقدت له الدراهم: أعطيته إياها، ولهذا فالنقد في التاريخ الحضاري الإنساني، يعد من أهم منجزاته الحضارية، وذلك لأنه سهّل المعاملات الإنسانية المعنية بأمور العلاقات التجارية، سواء على مستوى الأفراد أم على مستوى الجماعات والمجتمعات. والنقد والمال هما اليوم شيء واحد، ولهذا فقد جاء في مقدمة اهتمامات الشريعة الإسلامية، لصلته المباشرة بأفراد أي مجتمع وأهميته في حياة الإنسان وارتباطه به.
أكرم الله الإنسانية بشريعة الإسلام، فكان نبي ورسول هذه الشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، من خيرة بطون العرب نسبًا وشرفًا ومكانةً، وحظي العرب بشرف النسب والتكريم هذا، في حملهم لهذه الرسالة ودعوة الناس إليها، فقد سمت هذه الرسالة بمكانة الإنسان على هذه الأرض على أنه خليفة الله عليها، وبسيادة الإسلام ساد العرب وعظم شأنهم، ونالوا شرف التكريم على سائر الأمم بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
والنظام المالي الذي هو موضوع الحديث فيه، هو ركن من أركان هذه الشريعة السماوية، منهله وينبوعه في أصوله ونظمه كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
النظام المالي في الإسلام وعدالته:
إن مما امتازت به الشريعة الإسلامية في علاقة المسلم بما يملكه من أموال أن جعله الله مستخلفًا فيها، والمال مال الله، فأوجب على المسلم العمل بالواجبات، والابتعاد عن المحرمات، وقد ذهب هذا النظام بعدالته إلى تأمين حد الكفاية للفرد في ظل الدولة الإسلامية بعيش كريم، أيا ًكانت ديانته أو نسبه، كما ضمن كذلك بباب الزكاة والصدقات والهبات والكفارات، الكثير من المنافع لفقراء المجتمع الإسلامي.
والمجتمع الإسلامي نظامه المالي يقوم على التوازن المالي والاقتصادي بين أفراده، سواء في تكافؤ الفرص وترشيد الإنفاق والاستهلاك وغير ذلك من الابتعاد عن المنهيات والأخذ بالتوصيات، فهذه كلها أصول ربانية سماوية {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، فهذه الثوابت لا يجوز الخروج عليها، ولا الاختلاف فيها، وإلا كان ذلك خروجًا على الإسلام، وحكمًا بغير ما أنزل الله به، فمحرمات الأموال: الربا بشتى أنواعه والسرقات والرشوة وما يلحق بها من منهيات، وعلة التحريم هذه جاءت من الله، فلم ينه سبحانه هذا النهي إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وإذا لم تظهر مضرته في الحال، فسوف تظهر على كل حال، فقد انهار أمام هذا النظام الإلهي النظام الشيوعي، وسينهار كذلك أمامه النظام الرأسمالي بما يقوم عليه في نظمه الربوية من ظلم لبني الإنسان.
coin.jpg
الواقع المالي والنقدي في المجتمع العربي عند ظهور الإسلام
يعد العرب من أنشط الأمم في الجانب التجاري، بحيث تواصلت تجارتهم مع من جاورهم كالفرس والرومان، ومع الهند والشرق الآسيوي عبر اليمن، وكما هو معروف كانت لقريش رحلتان بقصد التجارة إلى كل من الشام واليمن، قال تعالى في سورة قريش: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
وعرب الجاهلية قبل الإسلام كانوا متأثرين بمن جاورهم في التعامل بالمنهيات والمحرمات في معاملاتهم المالية.
وكان النقد المتداول فيما بينهم: الدرهم الفضي الفارسي، والدينار الرومي الذهبي، وقد أشارت كتب التاريخ، إلى أن حضارة الروم في مصر والشام استقطبت كل ذهب الغرب الأوربي الهمجي البربري (كما يصفه الجغرافي الفرنسي موريس لومبار، في كتابه: الجغرافية التاريخية للدولة الإسلامية حتى القرن الرابع)، ومعنى هذا أن الدولة الإسلامية بسقوط الدولة الرومية وسيادة الدولة الإسلامية على كل من مصر والشام، قد ورثت أكبر مخزون ذهبي في العالم يومها، تمثل في كنوز الأديرة والكنائس والمقابر الفرعونية في مصر والشام.
وحدة الوزن بالقيمة للنقد عند عرب الجاهلية
عرف القرشيون، وهم من كبار تجار العرب، كيف يتعاملون بكلا النقدين الدرهم الفارسي الفضي والدينار الذهبي الرومي، فقد كانوا يتعاملون فيها بوحدة الوزن بالقيمة، أي "الذهب غير المضروب والمعروف بـ التبر"، فوحدة الوزن هذه قد عرفتها قريش وقد جاءت وحدات الوزن بالقيمة على الشكل التالي:
1- المثقال يساوي اثنين وعشرين قيراطًا إلا كسرًا.
2- عشرة دراهم تساوي سبعة مثاقيل.
3- الرطل يساوي اثنتي عشرة أوقية.
4- الأوقية تساوي أربعين درهمًا.
5- الدرهم يساوي واحدًا إلى أربعين من الأوقية وزنًا.
6- مثقال الذهب يساوي دينارًا.
7- كل عشرة أوزان من الدراهم تساوي سبعة أوزان من الدينار.
8- الشعيرة: وحدة وزن عند قريش تساوي من واحد إلى ستين من وزن الدرهم.
9- النش يساوي عشرين درهمًا.
10- النواة تساوي خمسة دراهم.
كانت هذه المعايير الأساسية في قضية وحدة الوزن بالقيمة، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعايير وسار على نهجه الخلفاء الراشدون حتى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وصولًا إلى عبدالملك بن مروان.الخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- واضع أول نظام نقدي في الإسلام
واجهت الدولة الإسلامية في عهد عمر -رضي الله عنه-، مع حركة الفتوحات الإسلامية واتساع حدود الدولة الإسلامية، قضية التعامل بالدينار الرومي الذهبي المعروف تاريخيًا باسم "نيومزمه"، ودرهم الفرس الفضي والمعروف بـ"البغلي"، إضافة لنقد أواسط آسيا وهو الدرهم الفضي الطبري، نسبة لـ"طبرستان".
وأمام هذا الواقع ذهب عمر -رضي الله عنه- إلى وضع نظام لهذا الحال الذي جاء نتيجة لحركة الفتوحات واتساع حدود الدولة الإسلامية، فقد سار على نهج التعامل مع هذا الواقع بنظام حسابي دقيق ارتبط بموضوع وحدة الوزن بالقيمة، على أساس وزن الدرهم، فالدرهم جاء وزن قيمته بمعيار أربعة عشر قيراطًا، والقيراط يساوي "3،96" غرامًا، والقيراط وحدة وزن إغريقية، والدانق وحدة قياس فارسية، فالدرهم يساوي "14" قيراطًا، والدينار الذهبي يساوي "4،25" غرام، وقد جاء قصد عمر -رضي الله عنه- من وضع هذا النظام لربط العملة الفضية بالذهبية.
ولانشغال المسلمين بمسألة الفتح وعدم علمهم بمسألة سك النقود وضربها، فقد قبل عمر التعامل بالنقود الرومية الذهبية والفارسية الفضية، رغم ما عليها من رسوم، مكتفيًا بوضع كلمات وجمل إسلامية، على هذه الدنانير والدراهم، وبذلك يتبين لنا أن عمر -رضي الله عنه- قد قصد في عمله هذا، الوحدة التدريجية بين النقدين، الأمر الذي عجل في استعمال النقدين في جميع الأراضي الإسلامية المفتوحة سواء في بلاد فارس أم بلاد الروم، على أساس الوحدة بين الدرهم والدينار.
ومما تجب الإشارة إليه: أن النقد يعد مصدرًا من أهم مصادر التاريخ لأي مجتمع إنساني ينتمي إليه هذا النقد يكشف طبيعة عيش ذلك المجتمع، وأسماء ملوكه وحكامه، فمن كلا النقدين الفارسي والرومي تم لنا معرفة مدة استمرار التداول بهما في المجتمع الإسلامي، كما تم من النقد معرفة التاريخ الذي تم فيه ضرب أول نقد إسلامي، والنقد من أهم العطاءات الإنسانية لما سهل فيه للناس في قضايا المعاملات التجارية والمالية.
التحول إلى النقد الإسلامي وتاريخه
بعد أن اكتمل بناء الدولة الإسلامية سياسيًا وجغرافيًا، ذهب الخلفاء في رسم خطوط الدولة وما يجب أن تقوم عليه الدولة من نظم وقوانين، فذهبوا في سن القوانين ووضع الدواوين، وكانت قضية النظام المالي والنقدي من أهم القضايا التي واجهت الخلفاء الأمويين، فقد مضوا في وضع نظام نقدي جديد، بعد أن تم الاستعانة بدور الضرب الساسانية والرومية لمدة طويلة، وذلك بسبب تداول العملتين في معظم الأراضي التي دخلها الإسلام وساد فيها.
وثمة سبب آخر لتداول النقدين وهو جهل المسلمين بمثل هذا النوع من الصناعة في مسألة ضرب النقد وسكه، إضافة لانشغالهم بنشر الإسلام.
لكن بعد الاستقرار السياسي للدولة الإسلامية، ونظرًا لتحريم الشرع الإسلامي للصور والمجسمات التي تمثل المخلوق، إنسانًا كان أم حيوانًا، فقد نقلت دور الضرب إلى دار الخلافة بدمشق، وأصبح ضربها يتم بدمشق، وعليها آيات قرآنية أو عبارات إسلامية مثل كلمة التوحيد وما شابه ذلك، وثمة هناك مصادر تاريخية تشير إلى أن الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، كان أول من سك عملة في البصرة سنة (40هـ- 660م)، وكان يكتب عليها بالخط الكوفي، لكن هذه المحاولة لم تطل، إلى أن جاء معاوية (41- 60هـ- 660- 680م) وذهب في ضرب النقد في دمشق، وإلى ذلك يشير ابن خرداذبة الجغرافي المعروف في كتابه (المسالك والممالك)، الذي بدأ بتأليفه سنة (232هـ- 846م)، وتحدث فيه عن النهضة العمرانية والتجارية التي عرفتها الدولة الأموية، كضرب العملة سواء كان دينارًا ذهبيًا أم درهمًا فضيًا، والسبب في هذا هو وفرة معدني كل من الذهب والفضة لدى الدولة، كما أشار إلى أن الخليفة معاوية -رضي الله عنه- هو أول من سك النقود الإسلامية، وإلى ذلك أشار المؤرخ المشهور (المقريزي) في رسالته المعروفة بـ(شذور العقود في ذكر النقود) فيقول: "وضرب معاوية أيضًا دنانير عليها تمثال له متقلدًا سيفه".
لكن عهد عبدالملك بن مروان (74-75هـ/ 693- 694م)، عرف تقدمًا واسعًا في ضرب النقد وسكه، وخاصة في مدينة دمشق، ومن دمشق اتسعت دائرة ضرب العملة في أنحاء متفرقة من ولايات الدولة الإسلامية، بعد أن رخصت لهم دار الخلافة بسك النقود.
وفي عهد المأمون الخليفة العباسي (198- 218هـ/ 813- 833م)، اتجهت دور الضرب نحو اللامركزية، وذلك ابتداءً من سنة (212هـ- 827م)، ومنذ العهد الأموي تم توحيد العمل بالنقدين الدرهم والدينار على حساب وحدة وزن القيمة، فكانت ميزانية بغداد حتى القرن التاسع تحسب بالدينار لأهل المغرب، والدرهم لأهل المشرق، ومع مطلع القرن العاشر للميلاد أصبحت تحسب وتقدر بالدينار، مما يشهد على الوحدة النقدية على مستوى الصعيد الإداري للدولة.
ثم تتابعت عملية ضرب النقود في الدول الإسلامية المتتالية بحيث كان لكل دولة عملة خاصة فيها وكانت آخرها الدولة العثمانية، وامتازت جميع هذه العملات بعدم وجود صور عليها أو مجسمات لحاكم أو أمير، وذلك بسبب تحريم الصور والمجسمات في الدين الإسلامي.
وختامًا: فمدرسة الفقه الإسلامي تركت لنا موروثًا نفيسًا ونادرًا في وضع المال في الإسلام، أسهم فيه كبار الفقهاء والعلماء مثل كتاب (الخراج) لمؤلفه: القاضي أبو يوسف، وكتاب (الأموال) لمؤلفه: أبو عبيد البغدادي، وكتاب (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) للإمام الماوردي، وكتاب: (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) للإمام ابن قيم الجوزية...
كل هذا التراث المالي يشير إلى تكامل نظم الشريعة الإسلامية وسمو مكانة النظام المالي في الإسلام، مما دفع العديد من علماء الاقتصاد والمال في هذا العصر للحديث عن هذا النظام وقوته أمام الأنظمة المالية الأخرى، وقد أدرج هذا النظام اليوم تحت اسم جديد هو (المذهب الاقتصادي الإسلامي) تمييزًا له في معاصرته لغيره من الأنظمة المالية.
المصدر: شبكة الألوكة
تعليق