كان العلامة الراحل البروفيسور عبد الله الطيب رحمه الله تعالى، يتمتع بحس فكاهة وروح دعابة ظاهرين، يبدوان بصورة واضحة من خلال سائر آثاره المنشورة، وكذلك من خلال أحاديثه ومحاضراته، سواء ما كان منها داخل قاعات الدرس بالجامعة، أو خارجها، أو تلك التي كانت تبث عبر مختلف وسائل الإعلام.
ولقد كان الطلاب من مختلف كليات جامعة الخرطوم والجامعات الأخرى، وكذلك الأساتذة من شتى التخصصات، يُهرعون أفواجاً إلى حيث كان يقدم محاضراته العامة، لكي يصيبوا من علمه الغزير في شتى ضروب المعارف والفنون ، وخصوصاً علوم اللغة والأدب والتراث العربي الإسلامي القديم، ولكن لكي يستمتعوا أيضاً بملحه وطرائفه و"قفشاته" الحلوة التي كان يرسلها عفواً، في غير ابتذال ولا تكلف.
ولا شك في أنّ اتصاف شخص ما بالحس الفكاهي، لهو من علامات الفطنة والذكاء فيه، إذ أنها تنم عن قوة الملاحظة، ودقة الإدراك للمفارقات، والتعبير عنها بما يلائمها من التعليق الساخر، أو التصوير البديع، أو التشبيه المدهش الذي يغري بالابتسام، بل على القهقهة أحيانا. هذا ومن أدلّ آيات حذق أي شخص لأية لغة أجنبية، هو مقدرته على تأليف الملح بها، أو على الأقل مقدرته على تذوق روح الدعابة الخاصة بها.
فمن الشواهد الدالة على ما كان العلامة عبد الله الطيب يتمتع به من سرعة البديهة، والقدرة على إيراد الأجوبة المفحمة، هذه القصة التي سمعت تلميذه الأستاذ الدكتور الحبر يوسف نور الدائم، يرويها عنه.
تقول تلك القصة أن عبد الله الطيب قابل في ذات مرة أحد أساتذته الإنجليز وهو يومئذ طالب شاب بكلية غوردون، وقد كان ذلك الأستاذ الإنجليزي غير ميّال إلى عبد الله الطيب، فأراد أن يستفزه أو يغيظه. قال: فناداه قائلاً:
Abdallah El Tayeb, Your mind is like cotton
أي: يا عبد الله الطيب: إن لك عقلا مثل القطن
قال فرد عليه عبد الله الطيب على الفور:
It burns up quickly !
أي: يشتعل ذكاءً بسرعة
قال: فقال الخواجة:
But it comes down to nothing
أي: ولكنه ينتهي إلا لا شيء
قال: فرد عليه عبد الله الطيب قائلاً:
After destroying a great deal
أي: بعد أن يقضي على الكثير
وزعموا أن العلامة عبد الله الطيب قد زار القاهرة في أواخر أوائل سبعينيات القرن الماضي، للمشاركة في جلسات مجمع الخالدين الذي كان عضواً عاملاً به منذ عام 1961 وحتى تاريخ وفاته في عام 2003م، فلقي هناك الدكتور طه حسين.
قالوا:
فسأله طه حسين: وقد كان الرئيس الراحل " جعفر نميري " قد استولى على السلطة لتوه في السودان: " إيه هي حكاية النميري دي ؟! " فأجابه عبد الله الطيب قائلاً:
ولما رأتْ ركبَ النُّميريِّ أعرضتْ وكُنّ من أنْ يَلقينهُ حذراتِ
فضحك عميد الأدب العربي.
والبيت الذي استشهد به عبد الله الطيب هو للشاعر الأموي " الراعي النميري " من قصيدته التي شبب فيها بزينب بنت يوسف الثقفية، أخت الحجاج بن يوسف نفسه، فانظر إلى جسارة هذا الشاعر المتهور. ومطلع القصيدة هو:
تضوّعَ مسكاً بطن نُعمانَ إذ ... مشتْ به زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ
وكأنّ عبد الله الطيب أراد ان يقول لطه حسين:
" فلنعرض نحن كذلك عن ذكر النميري والسياسة كلها، ولنكن من أمرها على حذر.. ولننصرف إلى ما يهمنا من أمر الأدب واللغة والشعر الخ".
ولكن عبد الله الطيب لم يترك النميري وشانه بالكلية في الواقع، ولم يعفه من الهجاء والتعريض به، وخصوصاً بعد ان أطاحت بحكمه انتفاضة ابريل 1985 الشعبية التي جاءت بالمشير عبد الرحمن سوار الذهب رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، وبالدكتور الجزولي دفع الله رئيساً للوزراء في الفترة الانتقالية. ذلك بأن عبد الله الطيب قد نظم قصيدة بتلك المناسبة في تحية الانتفاضة جاء فيها:
تفاءلتُ باسم سوار الذهبْ... وباسم الجزوليِّ إذ يُنتخبْ
فذلكَ رمزُ غنانا وذا ... دلائلَ خيراتنا قد كتبْ
ذلك، واالتفاؤل والتشاؤم والتطير، وخشية العين والحسد، ومكائد الكائدين، ومكر الماكرين، قد كانت مواضيع شبه دائمة الحضور في نفسية عبد الله الطيب وتراثه كذلك. وأما ذكر كتاب " دلائل الخيرات " في البيت الثاني، فلأن مؤلفه هو الشيخ "عبد الله بن يس الجزولي". وقد صرح الشاعر بأنه متفائل بان رئيس وزراء الحكومة الانتقالية اسمه الجزولي كاسم ذلك الشيخ المذكور.
ثم عرّض عبد الله الطيب بالنميري في تلك القصيدة قائلاً:
وكان الجنيهُ له قيمةٌ ... فمذ صوّروهُ عليه اضطّربْ
وكان الرئيس نميري رحمه الله أول زعيم سوداني تجرأ على الأمر بطباعة صورته على العملة الورقية في السودان.
ويطربني من تلك القصيدة "الثورية" الفريدة في بابها بالنسبة لعبد الله الطيب قوله مندداً بسياسات العهد المايوي:
وأما القناةُ التي بالجنوبِ ... فما سيرُها الآنَ بالمتلئِّبْ
وهو يعني قناة "جونقلي" التي كان سيرها، أي مشروع حفرها لكي توصل مياه منطقة السدود إلى المجرى الرئيسي للنيل الأبيض، كان سيراً متعثراً، بل لم يكن قد بدا أصلاً، وهو ما عبّر عنه هذا الشاعر الفحل الذي كان يؤثر الجزالة دائما بقوله "متلئب"، أي: منتظم ومستمر على وتيرة مستقرة ومتوالية. والمفارقة المضحكة هاهنا منشؤها بالطبع، هو استخدام هذا الاسلوب الجزل الفخيم، في وصف مشروع تنموي معاصر من ذلك النوع الذي يذكر عادة في التقارير والدراسات الأكاديمية والصحفية بأساليبها المعروفة.
ثم إنك تجد روح الدعابة هذه مبثوثة في سائر مؤلفات عبد الله الطيب، وخصوصاً في أعماله السردية مثل كتابيه "من نافذة القطار" و "من حقيبة الذكريات"، وكلاهما يدور حول سيرته الذاتية وذكرياته عموما. ففي كتابه المذكور أولاً، يصور عبد الله الطيب زميلاً له من أبناء دفعته، كان متقعّراً في حديثه، فيذكر عنه نادرة مفادها أنهم عندما حلوا بالقاهرة لبعض الوقت، قبل مواصلة سفرهم إلى بريطانيا للدراسة في منتصف أربعينيات القرن الماضي، نادى زميلهم المتحذلق ذاك سائق عربة أجرة، بنبرة مفتعلة متقعرة: "تاكسييي!"، قال عبد الله الطيب: " فصاح بعض الترتوار: البرابرة عاملين خواجات ! ".
وفيه أيضاً يصف الصبي عبد الله الطيب جده الذي كان مسافراً معهم في رحلة بالقطار من كسلا إلى الخرطوم في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وقد تملك ذلك الجد العجب من توهج المصابيح الكهربائية المثبتة على زوايا عربة القطار التي كانوا فيها فتساءل بصوت مسموع: "هسي يا فُقرا القطر ده لمباتو ديل البعلّبن منو؟ ". فيعلق عبد الله الطيب على حديث جده ذاك بروح صبيانية مرحة "ولم يكن في القَمَرة فقرا غيره !!".
وفي مسرحيات عبد الله الطيب وقصائده الممسرحة كذلك، قدر كبير من هذا الحس الفكاهي الذي نحس به حتى على مستوى اختيار بعض الألفاظ التي استخدمها في بعض رواياته ومنظوماته الشعرية، مثل قوله في مسرحيته الشعرية "السندباد البحري":
وقال الجن ربْرابو تربْرابو
ومعناها بلفظ الإنس هذا المرء كذّابُ
وبالطبع فإن "ربرابو تربرابو" هذه إنما هي محض ربربة و "تخاريف" لا معنى لها، ولكنها قد جاءت طريفة وعذبة في سياقها، فضلاً عن كونها قد جاءت متوافقة مع وزن وقافية الشطر الثاني.
وحدثني أستاذنا الدكتور جعفر مرغني مرة، وقد كان تلميذاً مقربا من عبد الله الطيب، عالما بآثاره وأخباره فقال لي: إن عبد الله الطيب شاهد في ذات يوم مظاهرة حانقة سيرتها جماعة سياسية معينة، كانت غاضبة من جراء أحكام الإعدام التي أصدرتها سلطة "مايو" ضد عدد من قياداتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وقد كان عبد الله الطيب يجد في نفسه من تلك الفئة لأنه كان يعتقد أنها قد حرّضت على فصله من هيئة التدريس بجامعة الخرطوم، من ضمن مجموعة أخرى من أساتذة الجامعة. قال: فلما نظر إليهم عبد الله الطيب إليهم وسمع هتافاتهم الغاضبة، تمثل شامتاً بهم بقول الشاعر:
ضجّتْ نساءُ بني حُسينٍ ضجّةً ... كضجيج نسوتنا غداةَ الدّارِ
أي: فلتشربوا من نفس الكأس ...التي شربنا منها من قبل.
وقد قيل إن هذا البيت قد أنشده مروان بن الحكم عندما سمع نسوةً من آل البيت يبكين الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما ورهطه الذين استشهدوا في كربلاء، فشبه حال أؤلئك النسوة بحال نسوة بني أمية وهن يبكين سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه، الذي تسوّرَ عليه الطغام الأوباش داره فاغتالوه. وكان مروان ممن دافع عن عثمان (رض) ببسالة، حتى أنه جرح جرحاً بليغاً في تلك الواقعة كما يقول المؤرخون.
وأخيراً، فإن من المواقف الطريفة التي حدثت لي انا خاصة مع البروفيسور عبد الله الطيب، وهو موقف يجمع بين الفائدة العلمية والفكاهة معا، أنني كنت أُلقي عليه ذات يوم قصيدة لي مجزوءة، حتى إذا وصلت إلى هذا البيت:
قد تناءتْ بنا النّوى وبَعِدنا عن الوطنْ
وكنت قد نطقت كلمة " بعدنا " بكسر العين هكذا "بعِدنا "، فصوبني البروف وقال لي: " بَعُدنا " بضم العين، ثم تلا قوله تعالى: " ألا بُعداً لمدينَ كما بَعِدتْ ثمود " الآية.. فكأنه قد كره لي استخدام هذه الكلمة بهذا الهجاء بالذات، بسبب دلالتها المعنوية السالبة التي وردت في الذكر الحكيم.
ولقد كان الطلاب من مختلف كليات جامعة الخرطوم والجامعات الأخرى، وكذلك الأساتذة من شتى التخصصات، يُهرعون أفواجاً إلى حيث كان يقدم محاضراته العامة، لكي يصيبوا من علمه الغزير في شتى ضروب المعارف والفنون ، وخصوصاً علوم اللغة والأدب والتراث العربي الإسلامي القديم، ولكن لكي يستمتعوا أيضاً بملحه وطرائفه و"قفشاته" الحلوة التي كان يرسلها عفواً، في غير ابتذال ولا تكلف.
ولا شك في أنّ اتصاف شخص ما بالحس الفكاهي، لهو من علامات الفطنة والذكاء فيه، إذ أنها تنم عن قوة الملاحظة، ودقة الإدراك للمفارقات، والتعبير عنها بما يلائمها من التعليق الساخر، أو التصوير البديع، أو التشبيه المدهش الذي يغري بالابتسام، بل على القهقهة أحيانا. هذا ومن أدلّ آيات حذق أي شخص لأية لغة أجنبية، هو مقدرته على تأليف الملح بها، أو على الأقل مقدرته على تذوق روح الدعابة الخاصة بها.
فمن الشواهد الدالة على ما كان العلامة عبد الله الطيب يتمتع به من سرعة البديهة، والقدرة على إيراد الأجوبة المفحمة، هذه القصة التي سمعت تلميذه الأستاذ الدكتور الحبر يوسف نور الدائم، يرويها عنه.
تقول تلك القصة أن عبد الله الطيب قابل في ذات مرة أحد أساتذته الإنجليز وهو يومئذ طالب شاب بكلية غوردون، وقد كان ذلك الأستاذ الإنجليزي غير ميّال إلى عبد الله الطيب، فأراد أن يستفزه أو يغيظه. قال: فناداه قائلاً:
Abdallah El Tayeb, Your mind is like cotton
أي: يا عبد الله الطيب: إن لك عقلا مثل القطن
قال فرد عليه عبد الله الطيب على الفور:
It burns up quickly !
أي: يشتعل ذكاءً بسرعة
قال: فقال الخواجة:
But it comes down to nothing
أي: ولكنه ينتهي إلا لا شيء
قال: فرد عليه عبد الله الطيب قائلاً:
After destroying a great deal
أي: بعد أن يقضي على الكثير
وزعموا أن العلامة عبد الله الطيب قد زار القاهرة في أواخر أوائل سبعينيات القرن الماضي، للمشاركة في جلسات مجمع الخالدين الذي كان عضواً عاملاً به منذ عام 1961 وحتى تاريخ وفاته في عام 2003م، فلقي هناك الدكتور طه حسين.
قالوا:
فسأله طه حسين: وقد كان الرئيس الراحل " جعفر نميري " قد استولى على السلطة لتوه في السودان: " إيه هي حكاية النميري دي ؟! " فأجابه عبد الله الطيب قائلاً:
ولما رأتْ ركبَ النُّميريِّ أعرضتْ وكُنّ من أنْ يَلقينهُ حذراتِ
فضحك عميد الأدب العربي.
والبيت الذي استشهد به عبد الله الطيب هو للشاعر الأموي " الراعي النميري " من قصيدته التي شبب فيها بزينب بنت يوسف الثقفية، أخت الحجاج بن يوسف نفسه، فانظر إلى جسارة هذا الشاعر المتهور. ومطلع القصيدة هو:
تضوّعَ مسكاً بطن نُعمانَ إذ ... مشتْ به زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ
وكأنّ عبد الله الطيب أراد ان يقول لطه حسين:
" فلنعرض نحن كذلك عن ذكر النميري والسياسة كلها، ولنكن من أمرها على حذر.. ولننصرف إلى ما يهمنا من أمر الأدب واللغة والشعر الخ".
ولكن عبد الله الطيب لم يترك النميري وشانه بالكلية في الواقع، ولم يعفه من الهجاء والتعريض به، وخصوصاً بعد ان أطاحت بحكمه انتفاضة ابريل 1985 الشعبية التي جاءت بالمشير عبد الرحمن سوار الذهب رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي، وبالدكتور الجزولي دفع الله رئيساً للوزراء في الفترة الانتقالية. ذلك بأن عبد الله الطيب قد نظم قصيدة بتلك المناسبة في تحية الانتفاضة جاء فيها:
تفاءلتُ باسم سوار الذهبْ... وباسم الجزوليِّ إذ يُنتخبْ
فذلكَ رمزُ غنانا وذا ... دلائلَ خيراتنا قد كتبْ
ذلك، واالتفاؤل والتشاؤم والتطير، وخشية العين والحسد، ومكائد الكائدين، ومكر الماكرين، قد كانت مواضيع شبه دائمة الحضور في نفسية عبد الله الطيب وتراثه كذلك. وأما ذكر كتاب " دلائل الخيرات " في البيت الثاني، فلأن مؤلفه هو الشيخ "عبد الله بن يس الجزولي". وقد صرح الشاعر بأنه متفائل بان رئيس وزراء الحكومة الانتقالية اسمه الجزولي كاسم ذلك الشيخ المذكور.
ثم عرّض عبد الله الطيب بالنميري في تلك القصيدة قائلاً:
وكان الجنيهُ له قيمةٌ ... فمذ صوّروهُ عليه اضطّربْ
وكان الرئيس نميري رحمه الله أول زعيم سوداني تجرأ على الأمر بطباعة صورته على العملة الورقية في السودان.
ويطربني من تلك القصيدة "الثورية" الفريدة في بابها بالنسبة لعبد الله الطيب قوله مندداً بسياسات العهد المايوي:
وأما القناةُ التي بالجنوبِ ... فما سيرُها الآنَ بالمتلئِّبْ
وهو يعني قناة "جونقلي" التي كان سيرها، أي مشروع حفرها لكي توصل مياه منطقة السدود إلى المجرى الرئيسي للنيل الأبيض، كان سيراً متعثراً، بل لم يكن قد بدا أصلاً، وهو ما عبّر عنه هذا الشاعر الفحل الذي كان يؤثر الجزالة دائما بقوله "متلئب"، أي: منتظم ومستمر على وتيرة مستقرة ومتوالية. والمفارقة المضحكة هاهنا منشؤها بالطبع، هو استخدام هذا الاسلوب الجزل الفخيم، في وصف مشروع تنموي معاصر من ذلك النوع الذي يذكر عادة في التقارير والدراسات الأكاديمية والصحفية بأساليبها المعروفة.
ثم إنك تجد روح الدعابة هذه مبثوثة في سائر مؤلفات عبد الله الطيب، وخصوصاً في أعماله السردية مثل كتابيه "من نافذة القطار" و "من حقيبة الذكريات"، وكلاهما يدور حول سيرته الذاتية وذكرياته عموما. ففي كتابه المذكور أولاً، يصور عبد الله الطيب زميلاً له من أبناء دفعته، كان متقعّراً في حديثه، فيذكر عنه نادرة مفادها أنهم عندما حلوا بالقاهرة لبعض الوقت، قبل مواصلة سفرهم إلى بريطانيا للدراسة في منتصف أربعينيات القرن الماضي، نادى زميلهم المتحذلق ذاك سائق عربة أجرة، بنبرة مفتعلة متقعرة: "تاكسييي!"، قال عبد الله الطيب: " فصاح بعض الترتوار: البرابرة عاملين خواجات ! ".
وفيه أيضاً يصف الصبي عبد الله الطيب جده الذي كان مسافراً معهم في رحلة بالقطار من كسلا إلى الخرطوم في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وقد تملك ذلك الجد العجب من توهج المصابيح الكهربائية المثبتة على زوايا عربة القطار التي كانوا فيها فتساءل بصوت مسموع: "هسي يا فُقرا القطر ده لمباتو ديل البعلّبن منو؟ ". فيعلق عبد الله الطيب على حديث جده ذاك بروح صبيانية مرحة "ولم يكن في القَمَرة فقرا غيره !!".
وفي مسرحيات عبد الله الطيب وقصائده الممسرحة كذلك، قدر كبير من هذا الحس الفكاهي الذي نحس به حتى على مستوى اختيار بعض الألفاظ التي استخدمها في بعض رواياته ومنظوماته الشعرية، مثل قوله في مسرحيته الشعرية "السندباد البحري":
وقال الجن ربْرابو تربْرابو
ومعناها بلفظ الإنس هذا المرء كذّابُ
وبالطبع فإن "ربرابو تربرابو" هذه إنما هي محض ربربة و "تخاريف" لا معنى لها، ولكنها قد جاءت طريفة وعذبة في سياقها، فضلاً عن كونها قد جاءت متوافقة مع وزن وقافية الشطر الثاني.
وحدثني أستاذنا الدكتور جعفر مرغني مرة، وقد كان تلميذاً مقربا من عبد الله الطيب، عالما بآثاره وأخباره فقال لي: إن عبد الله الطيب شاهد في ذات يوم مظاهرة حانقة سيرتها جماعة سياسية معينة، كانت غاضبة من جراء أحكام الإعدام التي أصدرتها سلطة "مايو" ضد عدد من قياداتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وقد كان عبد الله الطيب يجد في نفسه من تلك الفئة لأنه كان يعتقد أنها قد حرّضت على فصله من هيئة التدريس بجامعة الخرطوم، من ضمن مجموعة أخرى من أساتذة الجامعة. قال: فلما نظر إليهم عبد الله الطيب إليهم وسمع هتافاتهم الغاضبة، تمثل شامتاً بهم بقول الشاعر:
ضجّتْ نساءُ بني حُسينٍ ضجّةً ... كضجيج نسوتنا غداةَ الدّارِ
أي: فلتشربوا من نفس الكأس ...التي شربنا منها من قبل.
وقد قيل إن هذا البيت قد أنشده مروان بن الحكم عندما سمع نسوةً من آل البيت يبكين الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما ورهطه الذين استشهدوا في كربلاء، فشبه حال أؤلئك النسوة بحال نسوة بني أمية وهن يبكين سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه، الذي تسوّرَ عليه الطغام الأوباش داره فاغتالوه. وكان مروان ممن دافع عن عثمان (رض) ببسالة، حتى أنه جرح جرحاً بليغاً في تلك الواقعة كما يقول المؤرخون.
وأخيراً، فإن من المواقف الطريفة التي حدثت لي انا خاصة مع البروفيسور عبد الله الطيب، وهو موقف يجمع بين الفائدة العلمية والفكاهة معا، أنني كنت أُلقي عليه ذات يوم قصيدة لي مجزوءة، حتى إذا وصلت إلى هذا البيت:
قد تناءتْ بنا النّوى وبَعِدنا عن الوطنْ
وكنت قد نطقت كلمة " بعدنا " بكسر العين هكذا "بعِدنا "، فصوبني البروف وقال لي: " بَعُدنا " بضم العين، ثم تلا قوله تعالى: " ألا بُعداً لمدينَ كما بَعِدتْ ثمود " الآية.. فكأنه قد كره لي استخدام هذه الكلمة بهذا الهجاء بالذات، بسبب دلالتها المعنوية السالبة التي وردت في الذكر الحكيم.