إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تاريخنا المزوّر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16



    يبدو أن البروفيسور زكريا ستشن قد ذهب أبعد من تلك الروايات التقليدية بكثير . فقد ذكر في كتبه ( سلسلة كتب بعنوان : تاريخ الأرض ) ، أنه اعتمد على أدلة جمعها من مخطوطات و سجلات قديمة من مصر الفرعونية و السومريين و الحثيين و حضارة التيواناكو في جنوب أمريكا ( بوليفيا ) ، و خرج بحقيقة ثابتة تؤكّد مجيء مخلوقات فضائية تشبه الإنسان ، و سكنت الأرض منذ نصف مليون سنة !. و كشف عن الكثير من الحقائق بخصوص تلك الإنجازات الهندسية و المعمارية العظيمة مثل الأهرامات و معبد بعلبك و موقع تيوتيهوكان و برج بابل و غيرها من صروح قديمة . و لم تجد تساؤلات ستشن الكثيرة حول هذه الصروح الأجوبة المناسبة لها بين المجتمع العلمي الذي لازال يعتمد على المنطق التقليدي البدائي في عملية تفسير تلك الإنجازات الجبارة !.

    لكن كل من يزور تلك الصروح ، لابد من أن يخرج بقناعة تقول : إن استنتاجات الأكاديميين التي تخص طريقة تشييدها غير واقعية أبداً ! و لا ترقى إلى مستوى هذه المعجزات الهندسية العظيمة !.
    أما إذا شاهدت رسومات نازكا في البيرو ، تلك الأشكال المرسومة في الصحراء و يبلغ طول كل منها عدة كيلومترات ! و لا يمكن مشاهدتها كاملاً إلا إذا كنت محلّقاً في السماء ( بالطائرة ) ! حينها ستتعرّف على مستوى تلك الحضارات الغامضة !.
    قام اليابانيون منذ عدة سنوات بمحاولة بناء هرم مصغّر يبلغ ارتفاعه 35 قدم . ( بينما الهرم الأصلي يبلغ ارتفاعه 482 قدم ! ) . و استخدموا أحدث التقنيات و الوسائل المعمارية المعروفة في عصرنا الحديث . لكنهم فشلوا في هذا المشروع !.

    لقد فشل الإنسان العصري في استنساخ المنجزات التي قام بها الإنسان القديم !.

    الهرم الأكبر يحتوي على 2.3 مليون حجر يزن 100 طن ! و هذه الأحجار مركّبة بدقة و إتقان كبيرين . يقول المؤرخون أن مدّة بناء هذا الهرم استغرقت عشرين عام . هذا يعني أن المصريين قاموا بتركيب 6.7 أحجار في الدقيقة الواحدة !. و إذا كان هذا صحيحاً ، فلا بدّ من وجود تقنيات و قوى لم نألفها بعد !.

    أما معبد بعلبك في لبنان ، فنرى أن تلك الأحجار الطويلة التي تزن 1000طن لا زالت تمثّل لغز كبير بالنسبة للمهندسين المعماريين في عصرنا الحديث !. هناك الآلاف من هذه الظواهر الغير قابلة للتفسير حول العالم ...

    أما إذا انتقلنا إلى أمريكا الجنوبية ، بلاد العجائب ، و رأينا تلك النماذج المجنّحة في كولومبيا ! و الأهرامات العملاقة في حوض الأمازون ! المشيّدة على منحدرات جبلية مكسوّة بغابات كثيفة يصعب اختراقها ! حينها نعرف أنه هناك شيء كبير لازلنا نجهله !.

    هذه مناطق لا يمكن اكتشافها أو تكوين صورة شاملة عنها سوى بواسطة الأقمار الصناعية !. هذه الغابات الكثيفة تخفي الكثير من المعجزات !. أبنية ضخمة تعود إلى أكثر من 8000 سنة أو أكثر ! هذا ما استنتجته فحوص الراديوكاربون . لكن رغم كل ما توصّل له المكتشفون حتى الآن إلا أنهم لازالوا على أعتاب عالم مجهول ! عالم غامض يخفي في طياته تاريخ الإنسانية الحقيقي !.

    أما في بوليفيا ، فأثار مدينة تيواناكو ، الواقعة بجانب بحيرة تيتيكاكا ، لازالت تمثّل سؤال كبير بالنسبة للإنسانية جمعاء !. نجد في هذا الموقع آثار مدينة سحيقة في القدم ( أقدم مدينة في التاريخ !) ، و فيها أكثر أنظمة مياه تعقيداً ! حتى بالنسبة لعصرنا الحديث ! لم يرى الخبراء أو يسمعوا بما يضاهيها بالدقة و التعقيد !. أما أنظمة الري المؤلفة من قنوات و ممرات مائية تحت أرضية و أنظمة هيدروليكية ، فهي معجزة هندسية خارقة !.
    و قد أعاد عالم الآثار " ألان كولاتا " من جامعة شيكاغو ، تشغيل هذا النظام المائي بعد صيانته و ترميمه ، في سبيل إرواء الحقول الزراعية الاصطناعية من أجل إطعام السكان المحليين . مع العلم أن تلك المنطقة صحراوية غير قابلة للزراعة ، لكن الحقول الزراعية الاصطناعية التي أنشأها القدماء في وسط الصحراء يمكنها إطعام 100.000 من السكان !.


    تعليق


    • #17


      و لازالت عمليات التنقيب جارية في ذلك الموقع ، و قد اكتشفوا أساسات تعود لبناء ضخم تبلغ مساحته 2.5 ميل مربع !. و هناك بقايا اهرامات مركّبة من أحجار معشوقة ببعضها البعض يزن كل حجر 160طن !. و تخفي جدران هذه الهياكل المعمارية المعقّدة بين أحجارها أنظمة هيدروليكية تعمل على تنظيم المياه و توزيعها . أما الأحجار فهي موصولة ببعضها بواسطة كلابات نحاسية تساعد على تماسكها !.

      لكن رغم كل هذا فإنهم لم يجدوا أي نقوش أو ما يشير إلى أن هذه المدينة قد استخدمت الكتابة أو أي شيء يدلّ على لغة معيّنة ! مع أنهم وجدوا مخططات تشبه اللوحات الالكترونية !... كيف استطاع هؤلاء العباقرة المعماريين إنجاز هذه المعجزات دون الاستعانة باللغة المكتوبة ؟!.
      هناك الآلاف من الحقائق التي نجهلها عن العالم القديم ، عالم ما قبل التاريخ ، حقائق تخصّ أسلافنا القدماء . و بنفس الوقت نجد الآلاف من العوائق التي تمنعنا من معرفتها .
      و ويوجد الآلاف من الأمثلة على تلك العوائق .. دعونا نتعرّف على إحداها

      البروفيسور " أيلز هاردليكا " الذي كان مسئول عن مؤسسة السمثسونيان في واشنطن لعدة سنوات . كان هذا الرجل الأكاديمي المستبدّ محكوم بقناعة غير قابلة للنقاش ، تقول أن الكائن البشري لم يكن موجوداً في القارة الأمريكية قبل نهاية العصر الجليدي . و يرجع السبب إلى الشرائح الجليدية الهائلة التي عملت على إعاقة هجرته إليها . و قد دافع عن هذه الفرضية بطريقة متطرّفة إلى درجة أن محاولة معارضتها أو دحضها من قبل أحدهم يعتبر انتحار أكاديمي محتم !. فالجميع كانوا يخافون فجوره و سطوته المستبدّة !. و تمكّن هذا الرجل من فرض أفكاره على علماء الأنثربولوجيا لعقود طويلة من الزمن !. لقد مارس الاستبداد الفكري بكل مقاييسه !.
      و شاءت الأقدار أن يقوم البروفيسور فرانك هيبن من جامعة نيومكسيكو بالكشف عن بقايا و آثار تثبت أن الإنسان كان موجود فعلاً في الأمريكيتين قبل انتهاء العصر الجليدي بفترة طويلة جداً !. و قد وثّق اكتشافه الجديد و ألّف كتاب ( في العام 1946م ) يشرح فيه استنتاجاته و الإثباتات التي اعتمد عليها في فرضيته الجديدة . كان هذا الرجل الطيّب رئيس قسم الأنثروبولوجيا في جامعة نيومكسيكو ، و كان عالم أثار محترم ذات سمعة طيبة

      لكن ماذا حصل بعد أن نشر أعماله ؟ ... لقد فتحت عليه أبواب الجحيم !..
      كانت أفكار هاردليكا مسيطرة على عقول الأكاديميين في تلك الفترة لدرجة أنهم لم يعترفوا أساساً باكتشافات البروفيسور هيبن الجديدة ! و تعرّض لحملة عشواء من قبلهم ، بإدارة هاردليكا ، و كانت النتيجة : طرد البروفيسور من الجامعة ، دمّرت حياته المهنية تماماً ، و لم يسمح له بالتعليم أبداً !. أما الموقع الأثري الذي يحمل الإثبات على فرضيته ، فقد دمّر تماماً على يد مجهولين !. و دمّر هذا الرجل تماماً و اختفى عن الساحة الأكاديمية و لم يسمع بعدها عنه أحد !. لكن بعد ذلك بسنوات ، و بعد أن مات الدكتاتور الأكاديمي هاردليكا ، اكتشفت المئات من المواقع الأثرية التي تدعم فرضية هيبن . أوّلها كان موقع مونت فيرمنت في جنوب تشيلي . و بعدها راحت تظهر المواقع بالتتالي ! فانهارت الفرضية القديمة و ظهرت الحقيقة !

      لو أن المنطق الذي يحكمنا هو أكثر انفتاحاً و ذات أفق أرحب و أوسع ، لو أن القائمين على المؤسسات العلمية العالمية هم أكثر شرفاً و إنسانية من ما هم عليه اليوم ، لو أن أصوات المئات من الخبراء الشرفاء وجدت طريقها إلى الشعوب ، لتخبرهم عن ما توصلوا إليه من اكتشافات و استنتاجات .... لربما عرفنا الحقيقة منذ زمن طويل ... بكل أبعادها ....!

      تعليق


      • #18










        الهرم الأكبر يحتوي على 2.3 مليون حجر يزن 100 طن ! و هذه الأحجار مركّبة بدقة و إتقان كبيرين . يقول المؤرخون أن مدّة بناء هذا الهرم استغرقت عشرين عام . هذا يعني أن المصريين قاموا بتركيب 6.7 أحجار في الدقيقة الواحدة !. و إذا كان هذا صحيحاً ، فلا بدّ من وجود تقنيات و قوى لم نألفها بعد !.

        أما معبد بعلبك في لبنان ، فنرى أن تلك الأحجار الطويلة التي تزن 1000طن لا زالت تمثّل لغز كبير بالنسبة للمهندسين المعماريين في عصرنا الحديث !. هناك الآلاف من هذه الظواهر الغير قابلة للتفسير حول العالم ...

        أما إذا انتقلنا إلى أمريكا الجنوبية ، بلاد العجائب ، و رأينا تلك النماذج المجنّحة في كولومبيا ! و الأهرامات العملاقة في حوض الأمازون ! المشيّدة على منحدرات جبلية مكسوّة بغابات كثيفة يصعب اختراقها ! حينها نعرف أنه هناك شيء كبير لازلنا نجهله !.

        هذه مناطق لا يمكن اكتشافها أو تكوين صورة شاملة عنها سوى بواسطة الأقمار الصناعية !. هذه الغابات الكثيفة تخفي الكثير من المعجزات !. أبنية ضخمة تعود إلى أكثر من 8000 سنة أو أكثر ! هذا ما استنتجته فحوص الراديوكاربون . لكن رغم كل ما توصّل له المكتشفون حتى الآن إلا أنهم لازالوا على أعتاب عالم مجهول ! عالم غامض يخفي في طياته تاريخ الإنسانية الحقيقي !.

        أما في بوليفيا ، فأثار مدينة تيواناكو ، الواقعة بجانب بحيرة تيتيكاكا ، لازالت تمثّل سؤال كبير بالنسبة للإنسانية جمعاء !. نجد في هذا الموقع آثار مدينة سحيقة في القدم ( أقدم مدينة في التاريخ !) ، و فيها أكثر أنظمة مياه تعقيداً ! حتى بالنسبة لعصرنا الحديث ! لم يرى الخبراء أو يسمعوا بما يضاهيها بالدقة و التعقيد !. أما أنظمة الري المؤلفة من قنوات و ممرات مائية تحت أرضية و أنظمة هيدروليكية ، فهي معجزة هندسية خارقة !.

        و قد أعاد عالم الآثار " ألان كولاتا " من جامعة شيكاغو ، تشغيل هذا النظام المائي بعد صيانته و ترميمه ، في سبيل إرواء الحقول الزراعية الاصطناعية من أجل إطعام السكان المحليين . مع العلم أن تلك المنطقة صحراوية غير قابلة للزراعة ، لكن الحقول الزراعية الاصطناعية التي أنشأها القدماء في وسط الصحراء يمكنها إطعام 100.000 من السكان !.
        و لازالت عمليات التنقيب جارية في ذلك الموقع ، و قد اكتشفوا أساسات تعود لبناء ضخم تبلغ مساحته 2.5 ميل مربع !. و هناك بقايا اهرامات مركّبة من أحجار معشوقة ببعضها البعض يزن كل حجر 160طن !. و تخفي جدران هذه الهياكل المعمارية المعقّدة بين أحجارها أنظمة هيدروليكية تعمل على تنظيم المياه و توزيعها . أما الأحجار فهي موصولة ببعضها بواسطة كلابات نحاسية تساعد على تماسكها !.

        لكن رغم كل هذا فإنهم لم يجدوا أي نقوش أو ما يشير إلى أن هذه المدينة قد استخدمت الكتابة أو أي شيء يدلّ على لغة معيّنة ! مع أنهم وجدوا مخططات تشبه اللوحات الالكترونية !... كيف استطاع هؤلاء العباقرة المعماريين إنجاز هذه المعجزات دون الاستعانة باللغة المكتوبة ؟!.
        هناك الآلاف من الحقائق التي نجهلها عن العالم القديم ، عالم ما قبل التاريخ ، حقائق تخصّ أسلافنا القدماء . و بنفس الوقت نجد الآلاف من العوائق التي تمنعنا من معرفتها .
        البروفيسور " أيلز هاردليكا " الذي كان مسئول عن مؤسسة السمثسونيان في واشنطن لعدة سنوات . كان هذا الرجل الأكاديمي المستبدّ محكوم بقناعة غير قابلة للنقاش ، تقول أن الكائن البشري لم يكن موجوداً في القارة الأمريكية قبل نهاية العصر الجليدي . و يرجع السبب إلى الشرائح الجليدية الهائلة التي عملت على إعاقة هجرته إليها . و قد دافع عن هذه الفرضية بطريقة متطرّفة إلى درجة أن محاولة معارضتها أو دحضها من قبل أحدهم يعتبر انتحار أكاديمي محتم !. فالجميع كانوا يخافون فجوره و سطوته المستبدّة !.

        و تمكّن هذا الرجل من فرض أفكاره على علماء الأنثربولوجيا لعقود طويلة من الزمن !. لقد مارس الاستبداد الفكري بكل مقاييسه !.

        و شاءت الأقدار أن يقوم البروفيسور فرانك هيبن من جامعة نيومكسيكو بالكشف عن بقايا و آثار تثبت أن الإنسان كان موجود فعلاً في الأمريكيتين قبل انتهاء العصر الجليدي بفترة طويلة جداً !. و قد وثّق اكتشافه الجديد و ألّف كتاب ( في العام 1946م ) يشرح فيه استنتاجاته و الإثباتات التي اعتمد عليها في فرضيته الجديدة . كان هذا الرجل الطيّب رئيس قسم الأنثروبولوجيا في جامعة نيومكسيكو ، و كان عالم أثار محترم ذات سمعة طيبة .

        لكن ماذا حصل بعد أن نشر أعماله ؟ ...

        لقد فتحت عليه أبواب الجحيم !..

        كانت أفكار هاردليكا مسيطرة على عقول الأكاديميين في تلك الفترة لدرجة أنهم لم يعترفوا أساساً باكتشافات البروفيسور هيبن الجديدة ! و تعرّض لحملة عشواء من قبلهم ، بإدارة هاردليكا ، و كانت النتيجة : طرد البروفيسور من الجامعة ، دمّرت حياته المهنية تماماً ، و لم يسمح له بالتعليم أبداً !. أما الموقع الأثري الذي يحمل الإثبات على فرضيته ، فقد دمّر تماماً على يد مجهولين !. و دمّر هذا الرجل تماماً و اختفى عن الساحة الأكاديمية و لم يسمع بعدها عنه أحد !. لكن بعد ذلك بسنوات ، و بعد أن مات الدكتاتور الأكاديمي هاردليكا ، اكتشفت المئات من المواقع الأثرية التي تدعم فرضية هيبن . أوّلها كان موقع مونت فيرمنت في جنوب تشيلي . و بعدها راحت تظهر المواقع بالتتالي ! فانهارت الفرضية القديمة و ظهرت الحقيقة !

        لو أن المنطق الذي يحكمنا هو أكثر انفتاحاً و ذات أفق أرحب و أوسع ، لو أن القائمين على المؤسسات العلمية العالمية هم أكثر شرفاً و إنسانية من ما هم عليه اليوم ، لو أن أصوات المئات من الخبراء الشرفاء وجدت طريقها إلى الشعوب ، لتخبرهم عن ما توصلوا إليه من اكتشافات و استنتاجات .... لربما عرفنا الحقيقة منذ زمن طويل ... بكل أبعادها ....!



        تعليق


        • #19



          إذا نظرنا إلى التاريخ الذي تتناوله الشعوب المختلفة ، نلاحظ أن كل أمّة تنظر إلى التاريخ من الزاوية المناسبة لها ،
          وهذا طبعاً هو أمر طبيعي إذا قمنا بالنظر إليه من الناحية الاستراتيجية . فمن أجل إرساء الوحدة الوطنية و غيرها من أفكار تعمل
          على دغدغة مشاعر الشعوب ، تعمل المؤسسات الثقافية على إيجاد أبطال تاريخيين منسوبين لهذه الأمة و شاركوا في صنع أمجادها الغابرة !.

          ففي جمهورية أوزبكستان مثلاً ، يعتبر تيمورلانك بطل قومي حقق لشعبه الأمجاد و جلب له الخيرات من كل جهة و صوب !.. و من لا يعرف تيمورلانك ؟!.
          أنا لا أعلم ماذا يقولون للطلاب و كيف يسردون لهم عن تلك المجازر التي قام بتنفيذها ضد الشعوب الأخرى ؟ فمدينة أصفهان لوحدها ، ذبح 70.000 من السكان ! و في مدينة دلهي في الهند ، سفح 100.000 من الهندوس !. كان يأمر جيشه ببناء هرم كبير من الجماجم بعد كل مذبحة !.

          أما هولاكو ، الذي دمّر بغداد دماراً تاماً ، قام بإطفاء شعلة النور الوحيدة في زمن الجهل المظلم ، قتل 800.000 من سكانها !. و لازالت آسيا الوسطى تعاني من نتائج أفعاله التخريبية حتى الآن !.
          ينظرون إلى هذا الرجل في جمهورية منغوليا على أنه أعظم الشخصيات في التاريخ ! بعد جدّه جنكيز خان صانع الانتصارات العظيمة و سيد العالم أجمع !.

          أما " شاكا " ، زعيم قبائل الزولو في جنوب أفريقيا ، هذا الرجل يعتبر رمز العظمة و الجبروت . سببت حملاته التوسّعية و حروبه على القبائل الأخرى إلى مقتل أكثر من مليوني إنسان و عشرات الملايين من الدواجن و الماشية !. هذا رقم غير قليل في زمن الرمح و الخنجر ! مع العلم أن جيشه كان يزحف على الأعداء مشياً على الأقدام دون ركوب الجياد !..
          و عند سماعه يوماً نبأ وفاة والدته ، و كان حينها بعيداً عن الوطن ، أصيب بنوبة اختلال عقلي ( كريزة ) فراح يسفح يميناً و شمالاً برجاله و كل من جاء بطريقه ! و عندما زالت نوبته كان قد قتل 7000 فرد من الزولو !. و لمدّة سنة كاملة ، عاش شعبه هذا الحزن الكبير الذي أصابه ، فمنع زراعة المحاصيل ، و إنتاج الحليب ( الغذاء الرئيسي لشعب الزولو ) و كل امرأة حملت جنين في بطنها قتلت مع زوجها في الحال ! ذبح الآلاف من الأبقار الحلوبة ! ذلك من أجل أن تشعر العجول الصغيرة بصعوبة فقدان الأم !. هذا الرجل يعتبر من أحد الأبطال الفذّة في تاريخ أفريقيا !.


          أما إذا نظرنا إلى أبطال أوروبا التاريخيين ، و الطريقة التي يصفون بها هذه الشخصيات المثيرة للجدل ، نجد أنفسنا أمام أكبر عملية تزوير للتاريخ ! خاصة في عصر الاكتشافات !

          أوّل ما يلفت انتباهنا هو اعتبار كريستوفر كولومبس أنه مكتشف العالم الجديد ، و لازالوا يحتفلون بهذه المناسبة حتى اليوم ! و تجاهلوا تماماً الشعوب المحلية التي ازدهرت يوماً في تلك البلاد ! هذه الشعوب المسكينة تعتبر اكتشاف كولومبس أكبر لعنة ضربت القارة الجديدة !. قام الأوروبيون بذبح مئات الملايين من السكان الأصليين و دمروا كل ما له صلة بثقافاتهم و حضاراتهم الراقية ! و حوّلوهم إلى عبيد بين ليلة و ضحاها ! و بقوا على هذه الحال إلى أوائل القرن العشرين !.
          نأخذ مثلاً من الأبطال الأوروبيين :

          القائد الأسباني العظيم هيرناندو كورتيز ، دخل إلى بلاد الأزتك ( المكسيك حالياً ) و استقبله ملك البلاد " مونيزوما " استقبال النبلاء ، و أمر شعبه بأن يحسنون ضيافة الجنود و تلبية كل طلباتهم . لكن القائد الأسباني النبيل قام باستغلال هذه المعاملة المسالمة و بعد أن توغّل جيشه بين السكان ، بطريقة سلمية ، أصدر الأمر المفاجئ و راحت آلة القتل تعمل بهؤلاء المساكين . قام بإبادة طبقة النبلاء و المثقفين و القيادات العسكرية إبادة تامة ، و أخذ الملك رهينة كي يبادله بالكنوز و الأموال المخبّئة ، أما باقي الشعب المصدوم ، ففرض عليهم نظام استعبادي دام قرون من الزمن .... لازالت تماثيل كورتيز تعانق السماء في ساحات المكسيك !.بلاد الأزتك !.


          أما القائد العظيم فرانسيسكو بيزارو ، هذا الرجل الذي لم يتعلّم القراءة و الكتابة ، شاءت الأقدار بأن تجعله أحد أكبر قادة الجيوش الأسبانية في أمريكا الجنوبية !.

          عند وصوله إلى سواحل ما تسمى البيرو حالياً ، حيث ازدهرت حضارة الإنكا ، علم ملك البلاد ( أتاهوالبا ) بنبأ وصولهم ، فأوعز لجيوشه بأن يسمحوا لهم بالدخول إلى المناطق الداخلية حيث كان مقيماً هناك ، و ذهب هذا الملك المضياف مع بضعة آلاف من طبقة النبلاء و القادة لاستقبال الضيف القادم من وراء البحار ، مع العلم أن الهنود كانوا مجرّدين من السلاح . لكن البطل النبيل بيزارو قام يذبحهم جميعاً ! تاركاً الملك فقط على قيد الحياة من أجل إطلاعه على مخابئ الكنوز و الأموال ! و بعد استسلام جيوش الملك الذي أخذ رهينة ، و كان عددهم هائلاً مما جعله من المستحيل أخذهم كأسرى ، أمر القائد العظيم بيزارو جنوده بأن يقتلوهم جميعاً ! فراح الجنود الأسبان المتوحّشين يتفننون بقتلهم إلى أن تعبوا من ذلك ( بسبب كثرة العدد ) ! فصدر أمر من القائد السموح بأن يطلق سراح الذين لازالوا على قيد الحياة ، و قد تم ذلك بالفعل ، لكن بعد أن قاموا بتقطيع أيديهم !.. لقد قطعت أيدي أكثر من أربعين ألف من الهنود ! ثم أطلق سراحهم و عادوا على عائلاتهم بهذا الحال المزري !.
          هكذا كان فرانسيسكو بيزارو صانع أمجاد أسبانيا العظمى !..

          تعليق


          • #20





            إذا ألقينا نظرة على التاريخ الذي تدعي به حكومات الولايات المتحدة الأمريكية ، و الذي لا يتردّدون في الإعلان عنه و إدخاله في المناهج المدرسية و يعلّمون التلاميذ كيف كان أجدادهم الأبطال يحاربون الهنود المتوحشين ! و يجب أن لا ننسى الدور الذي لعبته الأفلام الهوليودية في ترسيخ تلك الأكاذيب في عقول الشعوب !. نكتشف حينها ذلك المستوى من الانحطاط الأخلاقي و التجرّد من الإنسانية الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في عملية تزويره للتاريخ !...


            يدعي التاريخ الأمريكي بأن الأوروبيين الأوائل قد خاضوا مئات من الحروب ضد الهنود . لكنها في الحقيقة لم تكن سوى مجازر دموية لا أخلاقية ارتكبها الأوروبي القوى المدجج بأسلحة فتاكة ضدّ شعب مضياف مسالم شبه أعزل يكره الحروب !.
            لا زالت كتب التاريخ الأمريكية تزخر بالمئات من الدروس التي تتحدّث عن حروب ضارية بين الأوروبيين و الهنود . أوّلها كانت حرب البيكوت عام 1637م . ثم حرب الناراغانست بين عامي 1643م 1645م . ثم الحروب التي اندلعت بين المستعمرين الفرنسيين و المستعمرين الإنكليز ، و التي راح ضحيتها المئات من القبائل ( مئات الألوف من الهنود ) التي صادف وجودها في وسط مناطق الصراع .
            ثم حرب الأوتاوا ، و حرب النوسكارورا ، و حرب الناتشيز ، و حرب الألغونكوان ، و حرب الأوروكويز ، حرب الشيروكي ، و الشكتاو ، و الكريك ، و الشاوني ، معركة تيبتكانو ، حرب البلاك هوك ، حروب السامينولي ، حروب الشوشون والأوتي و الأباشي و النافاجو ، ثم معارك الأراباهو و الشايني و السيوكس ، و معركة ليتل بيغ هورن ، و أخر المعارك كانت ضد شعب النيزبيرس في عام1870م ، و المعركة الشهيرة التي أخضعت آخر الثورات الهندية بقيادة جورانيمو في العام 1880م ، و ختمت هذه الحروب بمجزرة ووندد ني في داكوتا الجنوبية عام 1890م .

            جميع هذه الحروب اتخذت أسماء القبائل الهندية التي قام الأوروبيون بسحقها بعد التعامل معها بالمكر و الخديعة و المفاوضات قبل الإنقضاض عليها غدراً و من ثم ارتكاب أبشع المجازر بحق شعوبها .
            يقوم التاريخ الأمريكي بوصف تلك الحروب بطريقة تجعلنا نعتقد بأن المستعمرين البيض هم شعوب مسالمة جاؤا بسلام و لم يعتدوا على أحد إلا إذا تم الاعتداء عليهم . فيضطرّون حينها للردّ ، لكن بشجاعة لا مثيل لها و نبل أخلاقي منقطع النظير . أما الهنود ، فهم مجموعة من القبائل البدائية لا حضارة لها ، شعب من الكفار لا دين لهم ، متوحّشين يقتلون الأطفال و النساء ، لا يأبهون بالقيم الأخلاقية التي طالما نادى بها البيض !.


            لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو :
            إذا كان الحال كذلك ، كيف نفسّر إبادة عشرات الملايين من الهنود ؟ كيف تم دفع شعوب بكاملها ملأت يوماً كافة أرجاء القارة الأمريكية الشمالية ، إلى حد الانقراض التام ؟!.
            إن جميع تلك الحروب المذكورة لم تكن سوى مجازر هدفها هو إبادة منظّمة للشعوب الهندية على يد الأوروبيين !. و الوثائق التاريخية تؤكّد ذلك .

            يصف لنا الكابتن جون أندرهيل ، القائد الإنكليزي الذي شارك في الحرب التي أدّت إلى إبادة شعب البيكوت عام 1637م ، إحدى معاركها التي انتصر فيها الإنكليز الأبطال على الهنود الأشرار . و قتل في هذه المجزرة 400 من الرجال و الشيوخ و الأطفال و النساء . و لم ينجو منها سوى خمسة هنود !. و قد برّر فعلته الشنيعة هذه بأنه دائماً يستلهم أفعاله من الكتاب المقدّس الذي ورد فيه ما يحلّل قتل الكفار و أطفالهم و نسائهم و شيوخهم و كل ما يخصّهم !.. يقول البطل أندرهيل :

            .. بينما كنا نقترب من مخيّمهم ، راح الجنود ينبشون قبورهم و يمثّلون بمحتوياتها ... و قاموا بإحراق محاصيلهم .... و راحوا يطلقون النار على الحيوانات الأليفة التي جاءت في طريقهم .. و كل من جاء لمفاوضتنا من قبلهم كان يتعرّض لنيران الجنود ... قمنا بإشعال الحريق حول مخيّمهم المحصّن .... و انتظرنا لفترة من الوقت حتى تمكنت النيران من التسرّب إلى داخل المخيّم .... و رحنا نسمع صراخ الأطفال و النساء من بين الذين راحت تأكلهم النيران ... مما أنذرنا بأن الوقت قد حان لخروج رجالهم تجاهنا لمواجهة الموت المحتّم ... فراحوا يهجمون علينا من داخل النيران بشجاعة يستحقون الاعتراف بها حتى من أعدائهم ... و راح رجالنا يستقبلونهم مجموعات مجموعات ، ثلاثين و عشرين من الهنود بالوقت نفسه ....

            لكنهم لم يجدوا في انتظارهم سوى سيوفنا و نيران البنادق ... و ليس هناك فرصة للهروب ..... أما مشهد جثث الأطفال و النساء المترامية هنا و هناك ، فقد جعلت الكثير من الجنود يستسلمون للبكاء ، خاصة هؤلاء الصغار في السنّ الذين لم يخوضوا الحروب من قبل ... لكن الذي حصل هو الصواب .. و في هذه المناسبات القتالية أستلهم دائماً كلمة الله الواردة في الكتاب المقدّس ... فأتذكّر حروب الملك داوود على الكفار ، و كيف كان يسحق الأعداء الذين يستحقون البطش دون رحمة .. دوائهم هو السيف و ليس السلام ... إنهم يستحقون أبشع ميتة يمكن أن يموتها الإنسان الكافر ... و قد ورد في الكتاب ما يشير بوضوح إلى أنه يجب على النساء و الأطفال و ذويهم الكفار أن يهلكوا و يفنوا تماما على يد المؤمنين ... يجب أن لا نتجادل حول ما نفعله أو نرتكبه في الحروب .. إننا بكل بساطة نقوم بتنفيذ كلمة الله الذي طالما ساندنا في خطواتنا و إنجازاتنا المختلفة ..!


            مثالاً آخر على الحروب المذكورة في التاريخ الأمريكي المجيد نذكر تلك التي شنّتها الحكومة الأمريكية على شعب النيزبيرس الذي كانت قبائله تقطن في ما يعرف بأوراغون حالياً . فرضت الحكومة على هذه القبائل بأن تنزح عن أراضيها الخصبة إلى محميات خاصة للهنود أقامتها الحكومة في أراضي صحراوية غير صالحة حتى لعيش الأفاعي !.

            لكن هذا الطلب رفض من قبل الشعب الذي كان يتزعّمه أحد أعظم الشخصيات الهندية هو أنموتوياهلات الملقب بشيف جوزيف . كان هذا الرجل الحكيم راجح العقل ، واسع الأفق ، و ميّال للسلام أكثر منه للحرب . لكن الضغوط الكبيرة التي أنزلتها الحكومة على شعبه المسكين جعلته يفضّل النزوح شمالاً تجاه الأراضي الكندية بدلاً من الانتقال إلى محمية وضيعة في الصحراء . لكن ما أن وصل قرب الحدود الكندية ( مونتانا حالياً ) حتى انقضّت على قوافله المهاجرة جحافل من الجيوش الأمريكية بقيادة الجنرال البطل أوليفر هاوارد ! ففرض عليهم القتال !. و دامت المعارك الشرسة أيام عديدة إلى أن انتهت باستسلام الزعيم الهندي العجوز حفاظاً على سلامة من تبقّى من شعبه الذي تعرّض لعملية إبادة وحشية شاملة !.


            يقول في كلمته الشهيرة التي أعلن فيها عن استسلامه :
            لقد تعبت من القتال ... جميع زعماء شعبي قد ماتوا ... جميع الشيوخ الحكماء قد ماتوا .. و الذي يقود المحاربين الشباب قد مات .. إن الجو بارد جداً ، و ليس لدينا ما نكتسيه كي نتقي البرد القارص ... الأطفال الصغار يتساقطون من البرد و يموتون .. أما الذين بقوا على قيد الحياة ، فقد هربوا إلى التلال المجاورة ليختبؤا بين الأحراش ، ليس لديهم طعام و لا كساء .. لا أحد يعلم أين هم الآن ... ربما ماتوا من البرد .. أريد أن تمنحوني وقت حتى أبحث عن أطفالي .. ربما أجدهم بين الأموات ..
            اسمعوني يا أسيادي . أنا تعبت . إن قلبي حزين و مريض . و منذ هذه اللحظة ، من حيث موقع الشمس الآن ، سوف لن أقاتل أبداً ..
            مات هذا العجوز العظيم في إحدى المحميات الحكومية بعد حياة ذليلة ، ترفضها الكلاب ، قضاها في أواخر أيامه .


            و في العام 1890م ختمت الحكومة حروبها ضد الهنود بمجزرة ( ووندد ني ) التي ارتكبتها في داكوتا الجنوبية . و روى أحد الهنود الناجين من تلك المجزرة عن بعض من تفاصيلها للسيد جيمس مكريغور ، المشرف على أحوال و شؤون الهنود الحمر . فقال :


            ... ها أنت تشاهد حالتي .. أنا مريض و جرحي بالغ الخطورة ... فالجنود كادوا أن يقتلوني .. أنا لم أؤذي أي أبيض في حياتي .. كانت هذه المجزرة خطأ كبير تجاه شعبي و زعيم قبيلتي . لم ينوي زعيمنا مقاتلة الجنود . كان يضع دائماً علم أبيض أمام المخيّم تعبيراً عن ميله للسلام و التفاوض .. لقد غدر بنا الجنود ... قاموا بتجريدنا من السلاح بعد أن خدعوا زعيمنا .. راحوا يتوغلون بين الأهالي يفتشون النساء و الأطفال بحثاً عن السلاح أو أي آلة حادة تستخدم كسلاح .. و بعد أن كدّسوا الأسلحة بعيداً عن تناول الهنود ، أصدر قائدهم أمراً بإطلاق النار علينا و على نسائنا و أطفالنا ! .. راحوا يلاحقونا و يصيدونا كما يصيدون البوفالو !.. كيف يمكن لهؤلاء الجنود أن يقتلوا الأطفال ؟.. لا بدّ من أنهم سيؤن .. فالهنود لا يستطيعون قتل الأطفال البيض . لا يمكنهم فعل ذلك أبداً ....



            تعليق


            • #21
              في أوائل القرن التاسع عشر ، حضر مبشّر مسيحي إلى بوفالو كريك ، نيويورك ، قادماً من بوسطن و جمع زعماء قبائل السينيكا ، الذين سكنوا تلك المنطقة في حينها ، ليقول لهم أنه ينوي تحويلهم إلى الديانة المسيحية . و أنه سيعلّمهم كيف يعبدون الروح العظيم ، و لا ينوي تجريدهم من أرضهم أو مالهم أو ممتلكاتهم . و لا يوجد سوى ديانة واحدة أصيلة في هذا العالم ، و إن من لا يعتنقها سوف يتجرّد من السعادة و سيعيش في الظلمة و الخطيئة طوال عمره ، و غيرها من كلمات تبشيرية ساحرة .. و بعد انتهاء هذا المبشّر من خطابه الطويل ، طلب من الزعماء الهنود الحاضرين في الاجتماع أن يعطوه جواب على اقتراحه .

              و اتفق الزعماء على أن يتحدّث باسمهم الزعيم الهندي المخضرم " ساغويواثا " الملقّب بريد جاكيت . و قد قام الكاتب الأمريكي " سامويل غودريش " بتوثيق هذا الخطاب ، و نشره فيما بعد ضمن كتاب يحمل عنوان : " شخصيات هندية شهيرة " . و قد وصف الكاتب هذا الزعيم الهندي النبيل بدقة كبيرة منذ أن وقف ببطء منتصب القامة ملقياً وشاحه التقليدي على ذراعه كالسيناتور الروماني ، و كيف ألقى خطابه الشهير بفصاحة لا تخلو من النبل و عزة النفس ، و هذا ذكّر البيض الذين حضروا الاجتماع ، بما فقدوه من الشيم الأخلاقية الأصيلة التي طالما تميّز بها الهنود الحمر ، إلى أن انتهى من كلامه و مضى في سبيله .

              قال الزعيم الهندي رداً على كلام المبشّر :
              صديقي و أخي . إنها إرادة الروح العظيم بأن نجتمع هنا اليوم .. إنه الآمر الناهي بكل شيء .. و قد أعطانا يوماً جميلاً لاجتماعنا .. أزال حجابه عن عين الشمس فسطعت من فوقنا و فتحت عيوننا فأصبحنا نرى بوضوح .. و عملت آذاننا دون توقّف .. مما جعلنا نسمع بانتباه كل كلمة قلتها لنا .. كل هذا هو من فضل الروح العظيم و له الشكر و الحمد ..

              أخي .. لقد أقيم هذا الاجتماع من أجلك .. و قد حضرنا في هذا الوقت بناءاً على طلبك .. و قد استمعنا بانتباه لما قلته .. و طلبت منا أن نعبّر عن أفكارنا بحريّة .. هذا يجلب السرور لقلوبنا .. فإنه يشجعنا على الوقوف أمامك باستقامة و التعبير عن ما يجول في نفوسنا من أفكار .. الجميع هنا استمع إلى ما قلته ، و الجميع قرّر و اتفق على إعطائك الجواب عن طريق وسيط واحد ..

              أخي .. قلت أنك تريد جواباً على ما اقترحته قبل مغادرة هذا المكان .. إنه من حقك الحصول على جواب .. فأنت بعيد جداً عن منزلك و نحن لا نريد أن نؤخّرك .. لكن يجب علينا أولاً العودة قليلاً إلى الماضي .. و سأروي لك ما رواه لنا آبائنا و أجدادنا ، بالإضافة إلى ما سمعناه من الرجل الأبيض ..

              أخي .. اسمع جيداً ما سأقوله .. كان هناك وقت ملك فيه أجدادنا هذه الأرض .. و امتدّت مقاعدهم من شروق الشمس إلى غروبها .. فالروح العظيم جعل هذه الأرض للهنود .. و خلق البوفالو و الغزلان و الحيوانات الأخرى لطعامنا .. و خلق الدب و القندس لنجعل من جلدها كساءاً .. و قام بنشرها في جميع أسقاع البلاد ، و علّمنا كيف نصطادها .. و سخّر الأرض لتنتج الذرة فصنعنا الخبز .. كل هذه الخيرات ، خلقها من أجل أولاده الهنود لأنه يحبّهم .. و إذا حصلت خلافات بين الهنود حول أراضي الصيد ، كانت تسوّى مباشرة ، دون سفك الدماء .. لكن مرّ يوماً ملعوناً على الهنود .. عندما قطع أجدادك المياه العظيمة ( المحيط ) .. و وصلوا إلى شواطئنا .. كان عددهم قليل ، لكنهم وجدوا أصدقاء ، و ليس أعداء .. قالوا لنا أنهم هربوا من بلادهم خوفاً من رجال أشرار .. و جاؤا إلى هنا كي يتمتعوا بممارسة ديانتهم بحرية .. و طلبوا منا مقعد صغير من الأرض .. فأشفقنا عليهم ، و قمنا بتلبية طلبهم .. و عاشوا بيننا بسلام .. و قدمنا لهم اللحوم و الحبوب .. لكنهم أعطونا مقابلها السمّ !. لقد اكتشف الرجل الأبيض بلادنا .. فأرسلوا أنباء إلى بلادهم .. و جاء المزيد من البيض .. لكننا لم نهتم لهذه المسألة و أخذناهم كأصدقاء .. و قالوا لنا أنهم يعتبروننا أخوة .. و قد صدّقناهم و أعطيناهم المزيد من الأرض .. لكن أعدادهم ازدادت كثيراً .. و طلبوا المزيد من الأرض .. و قد أرادوا بلادنا كلها !. لكن عيوننا تفتحت ، و أصبحنا مضطربي البال .. و وقعت حروب كثيرة .. فأبيد الكثير من الهنود ..

              أخي .. كانت مقاعدنا في يوم من الأيام كبيرة ، و مقاعدكم كانت صغيرة .. لكنكم أصبحتم الآن شعب عظيم العدد و القدرة .. أما نحن ، فمن الصعب علينا إيجاد مقعداً نمدّ فيه بساطنا .. لقد أخذتم بلادنا .. لكنكم غير مكتفين بذلك .. و تريدون الآن فرض ديانتكم علينا ..

              أخي .. تابع في الاستماع .. تقول أنك ستعلّمنا كيف نعبد الروح العظيم وفق الطريقة التي يريدها هو .. و إذا لم نعبده وفق المذهب الذي تسلكونه سوف لن نكون سعداء إلى الأبد .. تقول أنك على صواب و نحن تائهين في عالم الخطيئة .... من الذي يضمن صحّة هذا الكلام ؟... و قد فهمنا أن ديانتكم مكتوبة في كتاب .. فإذا قُدر لهذه الديانة أن تنتشر بيننا ، لماذا لم نستلهمها مباشرة من الروح العظيم ؟.. لماذا لم يعطيها لأجدادنا و أسلافنا الأوائل حتى نتفهّمها جيداً و نستوعبها بطريقة صحيحة ؟.. إن كلّ ما نعرفه عن هذه الديانة هو ما تقوله لنا .. كيف لنا أن نصدّق كلامك في الوقت الذي نتعرّض فيه دائماً للمكر و الخديعة على يد الرجل الأبيض ؟..

              أخي .. تقول أنه هناك طريقة وحيدة لعبادة الروح العظيم و خدمته .. إذا كان هناك حقاً ديانة واحدة ، لماذا أنتم البيض تتجادلون دائماً حولها و تختلفون ؟. لماذا لا تتفقون على سلوك واحد طالما أن التعليمات مكتوبة في هذا الكتاب ؟..

              أخي .. نحن لا نفهم هذه الأشياء .. قيل لنا أنكم توارثتم هذا الدين من أجدادكم و انحدر من الأب إلى الابن إلى أن وصل إليكم .. لكن نحن أيضاً لدينا دين .. و قد توارثناه من أجدادنا .. هذه هي طريقتنا في العبادة .. إنه يعلّمنا كيف نحمد الخالق على ما نجنيه من خيرات .. و يعلّمنا كيف نحب بعضنا البعض .. و كيف نتّحد .. نحن لا نتجادل و لا نختلف حول ديننا ..\

              أخي .. إن الروح العظيم قد خلقنا جميعاً .. لكنه جعل أولاده البيض و الهنود يختلفون في أشياء كثيرة .. فقد أعطانا لون بشرة مختلف .. و عادات مختلفة .. و أعطاكم الفنون .. خاصة تلك التي تتعلّق بالحروب .. فهو لم يفتح أعيننا لهذه الأشياء .. و بما أنه جعلنا نختلف بأمور كثيرة ، لماذا لا نتفق على أنه أعطانا ديانة مختلفة لكنها مناسبة لطريقة عيشنا و فهمنا للحياة ؟. إن الروح العظيم لا يخطئ أبداً .. و هو يعرف ما يناسب أولاده .. و نحن مكتفون بما أعطانا ..

              أخي .. نحن لم نشأ تدمير ديانتكم .. أو نجرّدكم منها .. إننا فقط نريد أن نمارس ديانتنا ..

              أخي .. قلت أنك لم تأتي إلى هنا لتأخذ أرضنا أو مالنا .. بل أتيت لترشدنا إلى طريق الصواب .. لكن أحب أن أقول لك بأنني قد حضرت إحدى اجتماعاتكم العبادية .. و رأيت الراهب حين كان يدور على المصلّين و يجمع منهم المال .. أنا لا أعرف إلى أين يذهب هذا المال أو لماذا تجمعوه .. لكن دعونا نفترض أنه يذهب إلى الكاهن الأعلى .. و إذا بنينا هذا على طريقة تفكيرك ، نستنتج بأنك تريد بعض من مالنا ..

              أخي .. قيل لنا أنك تقوم بالتبشير بين البيض الذين يسكنون في الجوار .. هؤلاء الناس هم جيراننا و نحن نعرف سلوكهم جيداً .. سوف ننتظر لفترة من الوقت و نرى ما هو تأثير تعاليمك التبشيرية عليهم .. و إذا اكتشفنا أن لها نتائج إيجابية على سلوكهم ، و تجعلهم صادقين في تعاملهم مع الهنود و تردعهم عن الغش و الخداع الذي طالما عانيناه منهم ، سوف نعيد النظر فيما قلته ..

              أخي .. لقد سمعت جوابنا على اقتراحك .. و هذا كل ما عندنا لنقوله حالياً .. و بما أننا سوف نفترق ، سنتقدّم لمصافحتك باليد و نتمنى أن يحميك الروح العظيم في رحلتك ، و العودة إلى ديارك و ذويك بأمان ..
              لقد تعرّض بعدها الزعيم ريد جاكيت لتهم كثيرة تنعته بالهرطقة و الشعوذة و الخروج عن السلوكيات الدينية الأصيلة و اتخذت بحقه الإجراءات المناسبة لها ... !

              إن التاريخ المثالي هو الذي يكتبه مؤرخون متخصّصون يتمتعون بإلمام كامل عن الحقائق و التفاصيل التاريخية المختلفة . بالإضافة إلى عدم الانحياز في النظر إلى الأحداث . لكن الواقع يظهر حقيقة أخرى . فالتاريخ الذي تتعلمه الجماهير هو التاريخ الذي فرضه المنتصرون !.

              هذا يذكرني بكلام داروين عن حقيقة " البقاء للأنسب " ؟. ليس من الضرورة لأن نكون خبراء محترفين حتى نكتشف حقيقة أنه عندما يتعلّق الأمر بالإنسانية نجد أن الذي يبقى هو ليس الأنسب !. إذا نظرت إلى الواقع بنظرة إنسانية أصيلة ، تجد أن الذي يبقى هو الأكثر رغبة في القتل ، المدجّج بالسلاح و المحترف بفنون القتل و الدمار ، القاسي الذي يخلو من أي رادع أخلاقي يكبح وحشيته الشريرة . و بكلمة أخرى نقول :

              إن الذي يبقى هو النوع الغير مناسب إنسانياً !.



              تعليق


              • #22



                من بين جميع الآثار المصرية يبقى تمثال أبو الهول شامخاً بلا سبب، غامضاً بلا هدف، فمعظم الآثار والشواهد الفرعونية كان وراءها هدف ديني أو معتقد اجتماعي إلا أبو الهول لم يعرف الهدف من إنشائه حتى الآن. وحتى وقت قريب كان الاعتقاد السائد هو أن أبو الهول بني بأمر من الفرعون خفرع من الأسرة الرابعة. والسبب الوحيد لهذا الاعتقاد هو الشبه البسيط بين وجه التمثال ووجه.. خفرع!!.
                وكانت إحدى مخطوطات البردي القديمة - التي تعود لأربعة آلاف عام - قد أشارت إلى أن الرمال غطت أبو الهول قروناً طويلة حتى نسيته الأجيال تماماً. وذات يوم حلم الملك برجل حكيم يطلب منه الحفر في مكان معين كي يخرج التمثال من قبره. وقد نفذ الفرعون هذا الطلب وأمر بإخراج التمثال إلى الوجود. وكان هذا الحلم وحده (الذي اعتبر مقدساً في حينه) كافياً للاهتمام بالتمثال وتغليفه بطبقة الجرانيت الخارجية!!.




                وكان علماء المصريات يعتقدون أن تمثال أبو الهول بني في وقت واحد مع المعابد المحيطة به في عصر الأسرة الرابعة. أما اليوم فهناك ما يثير الريبة في هذا الاعتقاد، ففي حين ما تزال المعابد المحيطة تحتفظ برسوماتها الزاهية تعاني قاعدة أبو الهول من أخاديد وشقوق يتجاوز عمق بعضها ثمانية أقدام. وهذا إن دل على شيء فعلى أن أبو الهول (الغامض في هدفه وتاريخه) كان موجوداً قبل بناء أهرامات ومعابد الجيزة بوقت طويل!!.
                وقد كشفت الدراسات الأخيرة أن التمثال يتكون من (نواة) من الحجر الجيري بالغة القدم والتآكل. أما طبقة الجرانيت الخارجية فأضيفت قبل (4600) سنة فقط - أي في عصر بناة الأهرامات -. وهذا يعني أن أساس التمثال بني في عهد حضارة قديمة غير معروفة سبقت عهد الفراعنة بكثير!!.
                ومن المعروف أن التمثال نحت بشكل أسد ووجه رجل. وقد نحت من جبل جيري تزداد صلابته كلما صعدنا إلى الأعلى. وهذا ما يفسر لماذا تآكل التمثال في أسفله في حين بقي وجهه متماسكاً.. غير أن هناك سبباً آخر قد يشرح لماذا تآكل التمثال - وظهرت فيه أخاديد طولية - في اسفله دون أعلاه، فمن خلال دراسات الأستاذ شوتس (من جامعة بوسطن) وجون ويست (المتخصص في علوم المصريات) اتضح أن الأخاديد والشقوق السفلية حدثت بسبب تآكل مائي سببته أمطار غزيرة وسيول جارفة.. وإذا علمنا أن مصر تعتبر (حالياً) من أكثر مناطق العالم شحاً بالأمطار فهذا يعني أن التمثال كان موجوداً في فترة كانت فيها الأمطار تهطل بغزارة - وهذا ببساطة يعني العصر الجليدي الأخير.. أي قبل عشرة آلاف عام على الأقل!!




                وحين ظهر هذا الرأي لأول مرة (عام 1993م من خلال برنامج في محطة NBC) جوبه بمعارضة شديدة من قبل علماء المصريات. ولكنه اليوم يلقى قبولاً متزايداً كونه الوحيد الذي يفسر المفارقات التاريخية والعوامل الجيولوجية التي أثرت على التمثال.. والقبول به يعني أن أبو الهول بني من قبل حضارة مجهولة سبقت الحضارة الفرعونية بأربعة آلاف عام على الأقل. وأمر كهذا قد يعيد النظر في تاريخ الإنسان الحضاري ويغير العديد من المفاهيم السائدة حول تواريخ ومستوى الحضارات القديمة..
                أما عن اسم "أبو الهول" والأشتقاق اللغوي له، فيبدو أن اصله يرجع إلي الدولة الحديثة حين نزل قوم من الكنعانيين إلى منطقة الجيزة وشاهدوا التمثال الذي يمثل الإله "حور" وربطوا بينه وبين إله لديهم هو "هورون" ثم حرف هذا الاسم إلي "حورونا" الذي حرف بدوره إلي "هول" حيث قاعدة الإبدال بين الحاء والهاء في اللغة العربية. أما لفظة "أبو" فيبدو أنها تحريف للكلمة المصرية القديمة "بو" التي تعني "مكان"، وفي هذه الحالة يصبح معني الاسم "مكان الإله حور" ,فيما قام الإغريق القدماء باستنساخ نسختهم الأنثوية من ذلك الكائن.


                وفي رواية أخرى لأصل التسمية أنه كان قديماً يسمى عند الفراعنة بـ (بوحول) وكان الفراعنة يطلقون على الحفرة التي بها أبو الهول (برحول) أي بيت حول، وعندما جاء الفرنسيون إلى مصر كانوا يقولون عنه أن اسمه (بوهول) لأنهم لا ينطقون حرف الحاء ثم حرف أخيرًا إلى (أبي الهول). وتكشف لوحات فنية رسمت وقت الحملة الفرنسية على مصر تمثال أبي الهول مغطى حتى رأسه بالرمال بجوار الأهرامات الثلاث ثم تم الكشف عنه أثناء الحملة الفرنسية وذلك عندما قامت عاصفة وكشفت عن جزء صغير منه، وعندما تم التنقيب وإزالة الرمال وجدوا تمثال ضخم وهو أبو الهول والرمال التي كانت تحيط به أزيلت تماما في العام 1905



                كان لدى التمثال أنف طويل لكن التمثال فقد أنفه والتي يبلغ عرضها 1 متر، وهناك شائعات لا زالت تتناقل تقول بأن الأنف قد دمرت بواسطة مدفعية جنود نابليون. وشائعات أخرى تتهم البريطانيون أوالمماليك أو آخرون. ولكن الرسوم التي صنعها المستكشف الدانمركي فريدريك لويس نوردين لأبي الهول في عام 1737م ونشرت في 1755م في كتابه "الرحلة إلى مصر والنوبة" توضح التمثال بلا أنف، و هذا ما يتفق مع رأى عالم المصريات الدكتور مهند أبو حديد.
                وقد أشار المقريزي إلي أن أنف أبو الهول هشمها المتصوف صائم الدهر الذي كان يعيش بجوار هذا الصنم الذي كان ينظر إليه الناس نظرة تقديس في ذلك الوقت‏,‏ وتحدث عنه

                علي باشا مبارك في كتابه الخطط التوفيقية‏.‏

                وهناك أراء أخرى لتفسير ذلك:
                1. أن أبناء الملوك الفراعنة كانو يتبارون عليها في الرماية.
                2. عوامل التعرية قد تكون السبب.
                3. يقال انه اساسا بدون انف.

                إلا ان كل النظريات إتفقت على أن السبب الرئيسي هو ان الأنف كانت أضعف نقطة في أبو الهول عبر العصور تغطى أبو الهول بالرمال التى أزيلت عنه عدة مرات، وقد سجلت أشهر عملية إزالة على "لوحة الحلم" أمام أبو الهول مباشرة التي أمر بوضعها الفرعون تحتمس الرابع (1400-1390 ق.م) وتصف الوعد الذى تلقاه في الحلم بأنه سيصبح ملك إذا قام بإزالة الرمال حول أبو الهول، قبل أن يعتلي عرش مصر في عام 1401 قبل الميلاد.



                لوحة أبي الهول
                أو لوحة الحلم القائمة بين ذراعي أبي الهول ذات شكل مستطيل حافته العليا مقوسة، ويبلغ ارتفاع اللوحة 144 سنتيمتر وعرضها 40 سنتيمتر وسمكها 70 سنتيمتر. ويرى في جزئها العلوي شكلان منحوتان للفرعون تحتمس الرابع إلى اليمين وإلى اليسار يقدم قرابينا إلى أبي الهول.

                وقد قام علماء الآثار الأجانب بأخذ قوالبا من اللوحة وجهزوا منها قوالبا من الجبس لترجمتها وتفسير ما عليها من كتابة هيروغليفية ورسومات، وتوجد إحدى تلك اللوحات التي تشبه الأصل إلى أبعد الحدود في متحف لندن.


                أشكال أخرى لأبي الهول


                كان أبو الهول ملهمًا للفنانين القدامى والجدد حتى أننا نجد منها ما صنع أيضا خلال القرن التاسع عشر في أوروبا وعلى الأخص في إيطالياوفرنسا عندما بدأ صيت الحضارة المصرية ينتشر في ربوع أوروبا وأمريكا. ولكن المصريون القدماء كانوا يصنعون تماثيلا مماثلة لإبي الهول في أحجام أصغر، كمثال فقد وضعت عدة تماثيل على جانبي الطريق الواصل بين معبد الكرنك ومعبد الأقصر. إلا أن رؤوسها كرؤوس كباش وجسمها جسم الأسد وتتخذ وضعية أبي الهول، وهذا الطريق يسمى "طريق الكباش". وأحيانا كانت تماثيل أبي الهول الصغيرة تصنع تمجيدا للملوك، مثل تمثال لأحد الفراعنة موجود في الفيوم وتمثال آخر يمثل الملكة حتشبسوت

                وتوجد عدة تماثيل مصرية علي شكل أبي الهول تمثل الملوك وآلهة الشمس، وغالبا مايكون وجه التمثال ملتحيا باللحية المضفرة المصرية التقليدية كما ظهرت مخلوقات وبأفكار مشابهة في عدة حضارات أخرى بينها جنوب وجنوب شرق آسيا، كما احتل أبو الهول مكانا في فن الديكور الأوروبي بدأ من عصر النهضة.


                تعليق


                • #23


                  ضرورة إعادة كتابة التاريخ


                  إن التاريخ إذا كان يسعى إلى إدراك الماضي البشري، فإنّ الإدراك هو غير التوهّم أو التخيّل والتصوّر، سواء أكان هذا أو ذاك عن وعي أم عن غير وعي.فالشعوب في مراحلها البدائيّة حين يغلب الوهم على المنطق العقلاني، والخيال على النقد، والتصوّر على التحقيق, تتناقل أحداث ماضيها مضخّمة مفعمة بالبطولات – بطولات الآلهة وبطولات البشر، فتروي الخرافات وتنشد الملاحم، ولا تلتزم الواقع كما حدث فعل.و لقد بقي هذا العنصر الوهميّ ملتصقاً بالمجهود التأريخي يؤثّر فيه، إلى أن انتظم علم التأريخ الحديث في القرن الأخير فدعا إلى التحرّر من هذا العنصر, وإلى مجابهة الماضي وأخباره بأدوات النقد والتحقيق التي تتميّز بها المعرفة العلميّة.و للأسف فلا تزال الكثرة من الناس تتوهّم ماضيها وماضي غيرها، ولا تدركهما أو تعيهما حقّاً.إن ما كُتب من التاريخ سواء في القديم أو في الحديث، قد أخذ شكل التركيز على الحكّام والشخصيّات، أكثر منه على الإنسان العاديّ، فبدلاً من تاريخ الشعب وجدنا ما يسمّى بتاريخ البلاط. فالكثير من جوانب تاريخنا كتبها أناس مأجورون من قبل الملوك.

                  كما لم نعن في كتابة تاريخنا بتاريخ الإقتصاد والإجتماع والفكر، والتي هي محاور رئيسيّة في منهاج المدرسة الحديثة في التاريخ. تلك المدرسة التي تهدف إلى الإفادة من التاريخ في إصلاح شؤون المجتمع، ووضع الحلول المناسبة لمشكلاته، بمعنى توظيف التاريخ في خدمة المستقبل، وليس دراسته من أجل الماضي كماضٍ فقط.و مع حلول منتصف القرن التاسع عشر بدا للباحث أنّه كانت هنالك محاولات جديّة لتفسير التاريخ بأسلوب علميّ، فقد برزت نظريّات طبيعيّة تؤكّد أنّ الجغرافيا والمناخ والغذاء هي الأساس الذي يشرح التطوّر الإجتماعي، وإنّه لمن الجدير بالذكر التنويه بأنّ (باكل) وهو رائد هذا الميدان لم يفته اعتبار العقل البشري كعامل من عوامل التقدّم الإجتماعي. وقد برزت في ذلك الحين بعض النظريّات الإقتصاديّة، كتلك التي قال بها كارل ماركس،

                  والتي تحاول أن تردّ التطوّر الإجتماعي إلى أنّه تفسير لعوامل اقتصاديّة كالإنتاج والتوزيع وصراع الطبقات الذي يخلقه الإنتاج والتوزيع. ومع أنّ أساس نظريّة ماركس وإنجلز كان ماديّاً، إلاّ انّهما أدركا حقّاً أهمّيّة العوامل الآنيّة كالعقل والنظم، واعترفا بأنهّا تلعب دوراً أساسيّاً في التاريخ. وها هو المنحى الأنثروبولوجي يغدو مهمّاً أكثر فأكثر في مجهوداتنا لفهم المجتمع البشري.

                  يبدأ التاريخ حين يبدأ الناس في التفكير بانقضاء الزمن ليس بمعايير السياقات الطبيعيّة - دورة الفصول، أمد الحياة البشريّة - وإنّما بوصفه سلسلة من الأحداث المحدّدة التي ينخرط فيها الناس ويؤثّرون فيها، بصورة واعية. إنّ التاريخ بكلمات (بوركهاردت) هو انقطاع مع الطبيعة يحدثه استيقاظ الوعي" فالتاريخ هو النضال المديد للإنسان - عبر استخدامه عقله - لكي يفهم بيئته ويفعل يها. ولكن الفترة الحديثة قد وسّعت هذا المفهوم، فالإنسان الآن يفهم ويفعل ليس في بيئته فحسب، وإنّما في نفسه كذلك. وقد أضاف هذا بعداً جديداً إلى التاريخ.

                  إنّ التاريخ المدوّن هو بمثابة سجن للإنسان، فهو يعيقه عن النظر إلى الواقع بتجرّد وموضوعيّة، لأنّه يخلط بين أفق الإنسان الفرد وأفق محيطه، يخلط بين الذّات والموضوع، بين الأنا وغير الأنا، بين العالم والمعلوم، بين النسبيّ والمطلق. وممّا يساعد على ذلك ويعزّزه - كما هو نتيجة له - هي سطحيّة التفكير، الناشئة عن تكوّن المفاهيم في العقل بطريقة انطباعيّة تقوم على التأثّر لا على الدراسة والتحليل والنقد. ونقطة الضعف هذه أصبحت ظاهرة عمّت الجموع البشريّة التي لازالت تقبع تحت وطأة القهر، سجينة ظلمات التاريخ، سجن الإنسان الأكبر، والذي ما فتئنا نجترّ صفحاته الخاوية من أيّ معنىً من معاني الإنسانيّة الإيجابيّة، التي تدفع الجموع لتحقيق العدل وإحقاق الحقّ ونشر الجمال سلوكاً والمنطق مرجعاً والعلميّة منهجاً. إذ أن أغلب الأحداث المدوّنة كانت تُعدُّ في المطابخ السياسيّة بعيدةً عن أعين الجمهور، حيث كان يجري لها من الرتوش والإخراج ما يخفي دوافعها الحقيقيّة، لتضليل الحشود ولإضفاء الشرعيّة على أفعال سلطات البطش والجشع.

                  إنّ ما كتب من التاريخ تنقصه الموضوعيّة، فنجد غياب العقلانيّة وتسليط أساليب النقد على هذا التاريخ، فجزء كبير من التاريخ تغلب عليه النظرة الرومانسيّة العاطفيّة، أكثر من النظرة المتّزنة العقلانيّة، واتي هي في حقيقتها تعويض عن مجابهة الحقيقة وهروب منها، تماماً كما يفعل المصاب بأحلام اليقظة.إن الأفراد والأمم عندما تكون سطوة الماضي قويّة نافذة، وصورته مستولية على النفس متحكّمة بالعقل، يتوقّف النشاط لديهم وتخفّ حيويّتهم، اكتفاءً بما حقّق وقناعةً به واستكانةً إليه، فينحصر الجهد والنشاط في محاولة إعادة مجرى التاريخ ورسم الحاضر على صورة الماضي.هذا الجمود يتطلّب أوّلاً ممارسة النقد الذاتي، ليزيل نير السطوة المتحكّمة، بتمييزه بين الصالح والفاسد، والزائل والباقي، والنافع والضار، فيغدو بذلك مبدأ النقد الذاتيّ عامل نهوضٍ أساسيّ.يقول في هذا الصدد د. قسطنطين زريق : إن للثقافة التأريخيّة المحترمة للماضي، فعل تركيز وتوطيد وتأصيل. أمّا عندما نعمد إلى نقد الماضي، فإنّها تغدو أداة إطلاقٍ وتحرير, تحرّرنا من سطوة الجهل ومن غرور الوهم والتواكل، وتهيب بنا إلى تحرّي الحقيقة مهما يكن طلبها شاقّاً وتكاليفها عسيرة. إنّها تنمّي في نفوسنا القدرة على مجابهة نتائج هذا التحدّي واستساغتها مهما يكن منظرها مؤذياً وطعمها مرّاً. إنّها تطرد الخوف من قلوبنا وتبعث فينا الجرأة وتكسبنا المتانة العقليّة والخلقيّة والنفسيّة التي تصمد أمام الواقع وتعلو عليه. إنّها تصفّي أصالتنا ممّا علق بها من أدران، وتعيد الحياة والنشاط إلى جذورها، فتجعلها أصالةً إيجابيّةً مثمرة، لا أصالة ادّعاءٍ وتيهٍ وارتداد.

                  إنّ التركيز والتحرير عملان متناقضان ينفي أحدهما الآخر ويزيل أثره. وإنّ ما ينتجه الأوّل من تثبيتٍ وتوطيد، ينقصه ما في الثاني من انطلاقٍ وانعتاق.إنّهما على العكس، عملان متكاملان يقوّي أحدهما الآخر وينمّيه، ولئن كان بينهما تناقضٌ واصطراعٌ داخلي، فإنّ هذا الإصطراع ذاته - هذا التجاذب والتنافر - هو عامل من عوامل النمو والإغتناء والخصب والإبداع. فكلٌّ من الإتجاهين يتغلّب بإيجابيّته على سلبيّة الآخر، فتعزّز إيجابيّة كلّ منهما وإيجابيّتهما المشتركة.و بهذا تبلغ الثقافة التأريخيّة الداعية إلى معرفة النفس ونقدها, المركّزة المحرّرة، المؤصّلة المتسامية - تبلغ هذه الثقافة غايتها، وتحدث آثارها المنشودة في الفكر والعمل، في فهم الحياة وفي صنعها.

                  إنّ ما يدفعنا لإعادة كتابة تاريخنا، أنّ التاريخ مقوّم من مقوّمات النهضة، وعمودٌ أساسيٌّ في الهيكل البنائي لشخصيّة الأمّة. فالتاريخ بحسب رأي المؤرّخ الفرنسي (ميشيليه) هو "رؤية من الداخل وعمليّة بثّ كاملة". فالتاريخ هو عاملٌ أساسيّ في تعميق الهويّة، فالتاريخ هو الذاكرة القوميّة للشعوب، وذاكرة الشعوب كما هي ذاكرة الأفراد، إن أصابها خلل، انسحب هذا الخلل على الكيان العام لهذه الأمة، حتّى إذا استعيدت هذه الذاكرة الجماعيّة، سهل علاج هذه الأمّة.

                  من هذا القول، وما يتعلّق منه بإعادة بناء الشخصيّة، ما يجعلنا نحدّد ثلاثة أمور :الأمر الأوّل أنّه لا بدّ من معرفة أبعاد تاريخنا جميعها، الجيّد منها، وغير الجيّد. فترات الإستشراق والتقدّم، وفترات الظلام والتخلّف. تماماً كما نقوم بالتعرّف على أبعاد شخصيّة مريض الذاكرة، والذي لا بدّ له من تحليلٍ كاملٍ لماضيه، حتّى يعي هذا الماضي وعياً دقيقاً، فتعود إليه ذاكرته ويستردّ عافيته. والأمر الثاني هو أنّ التاريخ المكتوب بصدق، والذي يتّصف بصفة الشموليّة، له دور كبير في تطهير الشخصيّة، فمريض الذاكرة يتطهّر من عيوبه وآفاته، إذا أخرجنا ما في لاوعيه إلى ساحة الوعي، ومافي لاشعوره إلى ساحة الشعور، فلا تعود الأمور غير المرتّبة في عقله الباطن تؤثّر تأثيراً سلبيّاً على عقله الواعي وممارساته الظاهرة.الأمر الثالث أنّه بالدراسة التحليليّة لتاريخنا، نحرّر شعبنا من الكوابح التي تشدّه إى الوراء وتعيقه عن الإنطلاق، فنحقّق له بذلك تفجيراً لطاقاته المبدعة، ونسير به نحو الثورة الحقيقيّة على الذات، هذه الثورة التي تحقّق المعجزات، وتدخل من جرّائها الشعوب التاريخ من أوسع أبوابه.و في ذلك نستطيع من خلال وعي ذاتنا، ومعرفة آفاق شخصيّتنا، والوقوف على معاني الإبداع والقوّة فيها، بعد أن نكون قد تعرّفنا على عوامل الضعف والتخلّف من أجل أن نتجنّبها ونبتعد عنها، نقوم بنهضة حقيقيّة تفعّل وجودنا لصالحنا وصالح عموم الإنسانيّة.


                  تعليق


                  • #24
                    ممّا تقدّم نلخص إلى :إن غاية التاريخ هي إدراك الماضي كما كان، لا كما نتوهّم انّه كان، لهذا لا بدّ من مستوىً عالٍ من المنهجيّة التاريخيّة. فلا تاريخ بدون بحثٍ عميق واستقصاءٍ عريض، كما أنّه لا تاريخ بدون نقد. وهذه المنهجيّة تقتضي مزيداً من العلميّة، بمعنى تسليط منطق العلم على التاريخ, فلا بدّ إذاً من الموضوعيّة، نرى أنّ بعض علماء الحديث قد شرعوا في الإهتمام بالموضوعيّة، وتحرّي الحقيقة فيما يذهبون إليه، كما حرصوا على التأكيد من الأخبار والروايات، فسلّطوا عليها سيف النقد، وأوجدوا ما عُرِفَ بعلم الجرح والتعديل.من المتطلّبات الأساسيّة في التأريخ، ميّزة التجرّد. حيث أنّها مزيّة مطلوبة في كلّ علم، مفروضة على كلّ باحث, والتجرّد يلزمه الحرّيّة لكتابة التاريخ، هذه الحرّيّة التي تحرّر افنسان من سجن التاريخ، إذ لا بدّ منها حتّى نكتب تاريخنا بموضوعيّة وصدق, ومن أجل أن تتلاقح الآراء للوصول من خلال الحوار إلى الحقائق، وإلاّ فسيبقى التاريخ مكبّلاً آسراً لنا ولطاقاتنا، وأسيراً لمغالطاتنا وأوهامنا.الدقّة في النقل، والدقّة في التفكير والتعبير، شرط أساسيّ صريح من شروط أيّ بحثٍ علميّ، وهي في صميم تقليد العلم المتراكم، ومن أهمّ عوامل تقدّمه ورقيّه.
                    والدقّة تتطلّب تفسير الأحداث التاريخيّة وتحليلها تحليلاً دقيقاً، فلا ينبغي الإكتفاء بذكر الأحداث بدقّة، بل لا بد من تفسيرها. يجدر بي هنا أن أشير إلى مسألة هامّة بالنسبة للدقّة في التفسير لدى المنهجيّة العلميّة للدراسة التاريخيّة، ألا وهي تحليل التغيّر عبر الزمن.على ضوء هذه الإعتبارات يمكن الإحاطة بكيفيّة إعادة كتابة التاريخ، للبدء في عمليّة صقل شخصيّتنا القوميّة بأصالة ووضوح.

                    تحريف التاريخ:
                    حقائق التاريخ – المشتملة على جميع نواحي وجود الإنسان – لا تصل إلينا مطلقاً بصورة بحتة، لأنّها لا توجد ولا يمكن أن توجد بصورة بحتة، فالماضي لم يعد موجوداً، ولكن يمكن تتبّعه بفضل الطرق الفنّيّة التي تعطينا أدلّة تمدّنا بها العلوم الطبيعيّة والتقنيّة، عن طريق البحث العلمي في الآثار الماديّة الباقية، وأيضاً نقرأه في المؤلّفات والوثائق التاريخيّة، ولكن علينا أن نعي أن الحقائق التي وصلت إلينا بشكلٍ مكتوب تنعكس من خلال ذهن من قام بتدوينها، فيترتّب على ذلك أنّنا إذا ما تناولنا في البحث عملاً تاريخيّاً يجب أن لا يكون اهتمامنا الأوّل منصبّاً على الحقائق التي يتضمّنها، وإنّما على المؤرّخ أو المؤلّف الذي كتبها. فغالباً ما يستعين المؤرّخ بخياله في إتمام الوقائع وتأويلها، فهو يصل إلى نتائج كان يرمي إليها منذ البداية متأثّراً بأهواءه، يهديه إيمانه أكثر ممّا يهديه حبّ استطلاعه، فخياله في تأويل الوقائع ليس محايداً.

                    يرى الباحث المنقّب من خلال ما رواه المؤرّخون المثبتون، وما ذكرته مؤلّفاتهم، أنّه ليس إلاّ أحاديث خرافة أو أقاصيصٌ مُفتراة، كانوا قد قصدوا منها إلى تمجيد فريقٍ من الناس تمجيداً فيه أطنابٌ وأسراف، وإلى تحقير فريقٍ آخر تحقيراً لا إنصاف فيه. ثمّ تدال الناس هذه المفتريات أجيالاً تلو أجيال، فقرّت في أذهانهم كأنّها حقائق، حتّى قام بعضٌ من علماء وباحثي هذا العصر بالتنقيب عن آثار الماضي وفحص أسانيده، واستعانوا بالعلوم المساعدة كعلم الآثار والأبيغرافيا والكرونولوجيا وغيرها، مرتكزين بذلك على أدوات العقل في التفكير المنطقيّ من تحليل وتفكيك وتركيب، إلى مقارنة وقياس وتمحيص، فأماطوا اللثام عن كثيرٍ من تلك الأكاذيب الذائعة، فبيّنوا لنا أن المؤرّخين القدماء قد عظّموا أناساً لا يستأهلون التعظيم، وظلموا آخرين لم يقترفوا ما نُسِبَ إليهم زوراً.إنّ عدم المصداقيّة التي دوّن بها أولئك المؤرّخين، إنّما تعود على فشلهم في تحرير أنفسهم من العوامل المؤقّتة الدخيلة على الإنسان، وعلى رأسها الوطن والدِّين. كما ترجع أيضاً على من قام منهم بتلبية أهواء الملوك والقادة المُغرضة.إنّ المؤرِّخ كغيره من النّاس، يتأثّر بالدّين الذي وَجَدَ نفسه مُلزَماً باعتناقه، كما يتأثّر بمعطيات الوطن الذي ورثه، وأخلاقيّات وسلوكيّات الجماعة التي ينتمي إليها.و لا يجدر بنا أن نصبّ عمليّة البحث التاريخيّ على العنصر الوثائقيّ فقط، إذ من الأحرى بنا أن نولي بالدراسة شخص المؤرّخ أو المؤلّف ذاته، وأهواءه المستمَدّة من بيئته، مراعين بذلك الطبيعة الظرفيّة الزمكانيّة آنذاك. وبما أنّه لم يحدث تغييرٌ جليلٌ في طبيعة الأمزجة الإجتماعيّة في الفترات التي عاشها من عاصر ونقل ما وصل إلينا من وثائق وأخبار، حتّى يومنا هذا، فإنّه من السهل القيام بالمقارنات وتحليل الماضي الُمنصرم على ضوء الحاضر المُعاش.

                    إنّ ما يدفع المؤرّخين عادةً إلى التحريف والكذب (مؤلّفي الوثائق – مدوّني الوقائع) هو :
                    1-أن يحاول المؤلِّف أن يجتلب لنفسه منفعةً عمليّة، ويريد أن يخدع القارئ للوثيقة لدفعه إلى القيام بعمل أو صرفه عنه. ولتحديد الأقوال المتّهمة ينبغي أن نتساءل عن المصلحة التي اعتقد المؤلِّف نفسه أنّها له، وذلك عن طريق البخث في ميوله الفرديّة التي اكتسبها من ميول الجماعة التي ينتمي إليها، كالأسرة، الإقليم، الوطن، الطبقة الإجتماعيّة، الدين السائد، الحزب السياسيّ. ولكنّ هذه الإنتماءات قد تتعارض مصالحها أحياناً، فيجب علينا أن نميّز الجماعة التي يتشيّع إليها أكثر من غيرها، والتي كان يعمل لها.
                    2-أن يكون المؤلَّف في موقفٍ أرغمه على الكذب، وهذا ينطبق على جميع الحالات التي يكون فيها في حاجةٍ إلى كتابة ما يتوافق مع القواعد والعادات الشائعة.
                    3-أن يكون المؤلِّف يستشعر عطفاً أو كراهيةً لجماعةٍ من الناس (أمّة، أسرة، فرقة، مدينة، إقليم، حزب) أو لمجموعٍ من المذاهب والمؤسّسات (دين، فلسفة، فرقة سياسيّة)، ما دفعه إلى تشويه الوقائع ابتغاءَ أن يُعطي فكرةً حسنةً عن أصدقائه، وسيّئةً عن خصومه في الإنتماء أو التوجُّه.
                    4-أن يكون المؤلّف قد انساق وراء غرورٍ فرديٍّ أو جماعيّ، فكذب ابتغاء تمجيد شخصه أو الجماعة التي ينتمي إليها، وقال ما اعتقد أن يُحدِث في القارئ تأثيراً ينطوي على ما يؤكّد أنّه هو أو بني جماعته كانوا ذوي مناقب جليلة. وهنا لا يصحّ، عند البحث في هذه النقطة، القيام بعمليّة قياس الغايات إن قمنا بتقمّص دوره، فلعلّه إنّما كذب ابتغاء أن ينسب لنفسه ولقومه أفعالاً تبدو لنا ذميمةً شائنة، بينما كانت هي بالنسبة إليه ولقومه أفعالاً محمودة، والأمثلة في هذا كثيرةٌ سواء في التاريخ القديم أم الحديث منه.
                    5-أن يكون المؤلّف أراد تملُّق الجمهور، أو على الأقل أراد أن يتجنّب الصدام معه. فتراه يُعّبِّر عن العواطف والأفكار المتّفقة مع أخلاق جمهوره والبدع السائدة عنده. حتّى وإن كان هو ذا عواطف وأفكارٍ مخالفة، فإنّه يشوّه الوقائع ويلائم النصّ ابتغاء التكيّف مع أهواء جمهوره.6- أن يكون المؤلّف قد حاول تملُّق الجمهور بميولٍ أدبيّةٍ، فشوّه الوقائع لجعلها أجمل حسب تصوّره للجمال وبحسب الذائقة العامّة المعاصرة لمؤلّفاته.و لدينا في تاريخنا في هذا الشأن مثالٌ بارزٌ صَبَغَ التاريخ من بعده بلون ما شوّه للأسباب التي ذكرناها.

                    ومن الأنواع المعتادة في التشويه الأدبي :
                    - التشويه الخطابيّ : وهو أن ننسب إلى الأشخاص مواقفاً وأعمالاً وعواطفاً، بكلماتٍ تنمُّ عن النُبل، وهذا ميلٌ معهودٌ لدى مبتدئي فنّ الكتابة والتأليف.
                    - التشويه الملحمتيّ : هو أن يُجمِّل الحكايا بإضافة تفاصيلٍ جذّابةٍ مشوّقةٍ، وخِطَبٍ يدّعي أنّ أناساً ألقوها، وأسماء أشخاصٍ وحتّى أرقاماً، وذلك أنّ ذِكر تفاصيل دقيقة توهم الصدق.
                    - التشويه الدرامي : وهو أخطر أنواع التشويه، حيث يحشد المؤلّف الوقائع ابتغاء زيادة قوّتها الحبكويّة، وذلك بأن يركّز على لحظةٍ واحدةٍ أو شخصٍ واحدٍ أو جماعةٍ واحدةٍ، وقائع مشتّتة.

                    و هنا ندرج بعضاً من الأمثلة التي نالت قسطاً كبيراً من التزييف، وتناقلتها الأجيال بالتواتر وبالتسليم بما قد كُتِب

                    تعليق


                    • #25


                      يقول المؤرّخون أنّ الإسكندر المقدوني بكى حين دخلت جيوشه أرض الهند، لأنّه بذلك كان قد أخضع كلّ أرضٍ معمورةٍ في أيّامه، فلم تعد ثمّة أقاليمٍ يغزوها ويسودها. ولكن يوجد من الأدلّة ما يُثبِت أنّ جيوشه كانت قد هُزِمت أمام الجيوش الهنديّة، وأنّه اضطرّ إلى أن يرجع القهقرى مهزوماً.

                      كما أراد المؤرّخون الإشادة بشجاعة الإغريق وبسالتهم، فيؤكّدون أنّه حين احتشدت جيوش الفُرس الزاحفة تحت أمرة (اكزرسيس) عند ممرّ (ترموبيلي)، تصدّى لها ثلاثمائة إغريقيّ فقط ! فانهالوا على كتائب الفُرس تقتيلاً حتّى كادوا يردّونها على أعقابها. ولكن البحث التاريخيّ يُثبت أنّ جنود الإغريق لم يكونوا ثلاثمائة، بل كانوا اثني عشر ألف جندي على الأقل. وأنّهم لم يصمدوا لقوّات الفرس التي أودت بهم جميعاً.

                      وبالغوا في الحطّ من تاريخ (نيرون) حتّى صار مضرب المثل في البغيّ والعسف. فاتّهموه بأنّه أمر بقتل أمّه، مع أنّها قُتلت دون أن يدري، اتّهموه بأنّه أمر بإحراق روما ليشاهد النيران تلتهم معالمها وتفتك بأهلها، بينما هو ينشد الأغاني ويعزف على (الكمان) لاهياً. والحقّ أنّ النار التي أحرقت روما شبّت قضاءاً وقدراً، وأمّا (الكمان) فلم يُخترَع إلاّ بعد عهده بمئات السنين!

                      وأضفى المؤرّخون على (قسطنطين الأوّل) صفات القداسة، فلم يعد اسمه يُنطق إلاّ مسبوقاً بلقب قدّيس..... لماذا؟ ألأنّه قتل زوجته، وولدين من أولاده، ونفراً جمّاً من أهله؟

                      كما قام المؤرّخون بتقديم مفهومٍ سطحيّ للحروب الصليبيّة، حيث اختزلوه إلى بُعدٍ دينيٍّ فقط، ودوّنوها على أنّها الحروب التي وقعت في سورية في نهاية القرن الحادي عشر. بينما هي بمفهومها العلميّ الحروب التي ارتكزت على أسسٍ اقتصاديّة سلطويّة توسّعيّة كما هي دينيّة. تعود إلى القرن الثامن، بدأت معاركها الأولى في سهل (اللوار) و(الرين)، وُجّهت نحو الوثنيّة بادئ الأمر، ثمّ إلى إلى الإسلام والوثنيّة معاً، ثمّ إلى الإسلام وحده بعد انحلال الوثنيّة، ولم تكن المعارك المتوالية التي وقعت في سورية ومصر بين المسلمين والفرنج منذ وجود (فروادى بويون) إلى (لويس التاسع) إلاّ طوراً من أطوار ذلك الصراع العامّ. ففي الوقت الذي انهارت فيه صروح العالم الرومانيّ الشامخة لأسبابٍ عدّة، انقضّ الإسلام على أنقاضها في آسيا ة أفريقيا وشادوا منها دولاً جديدة. ثمّ حاول أن ينفذ إلى سويداء النصرانيّة من المشرق والمغرب معاً، فلاقى خيبته الحاسمة في المشرق أمام أسوار القسطنطينيّة، ولاقى ذات الهزيمة في الغرب فوق ضفاف (اللوار)، وارتدّت الوثنيّة في نفس الوقت على ضفاف (الرين) أمام نفس أولئك الفرنج الذين وقفوا فلإسلام سدّاً.فوق هذه البسائط وفي مهاد تلك المعارك الحاسمة، معارك الحياة والموت، قدّرت النثرانيّة فداحة الخطر الذي يهدّد كيانها من تدفّق الإسلام والوثنيّة، لتنشأ في المجتمع النصرانيّ فكرة صراعٍ غامضة استحالت إلى فكرة الحروب الصليبيّة.

                      تزوير الوثائق التاريخيّة:
                      من الحوادث الهامّة والشهيرة في تزييف الوثائق، ما أقدم عليه (لوكاس فرين) في فرنسا، حيث قام بتزييف وثائقٍ عدّة وباعها إلى المؤرّخين ذوي الشأن آنذاك في فرنسا والعالم الحديث وعلى رأسهم العلاّمة (ميشيل شال) على أنّها قديمة وبخطّ كاتبيها ومنها : كتاب من الإسكندر المقدونيّ إلى أرساطاطاليس، وأيضاً خطاب من جان دارك إلى الشعب الفرنسي، وباقي الوثائق كانت قد بلغت 27320 خطاباً منسوبة إلى 660 شخصاً من مشاهير التاريخ، وقد تمّ فكّ ملابسات تلك الوثائقو البتّ بقضيّة التزييف هذه فلاقى صانعها مصير السجنلا شكّ أنّ وثائق (لوكاس فرين) تمّ معرفة زيفها بتعيين المعنى الخاص للكلمات في الوثيقة، إذ لم يكن متوفّر في ذاك العهد أدوات قياس عمر المواد كالإستعانة بالمواد المشعّة.

                      يقوم الكشف اللغوي في الوثيقة على مبادئ بسيطةٍ جدّاً وأهمّها :

                      1-إنّ اللغة في تطوّر مستمر من شأنه أن يفسدها. ولكلّ عصر لغته الخاصّة، ينبغي النظر إليها على أنّها نظام خاص من الرموز والعلامات. وعلى هذا فإنّه لفهم وثيقةٍ ما، يتوجّب معرفة لغة العصر، أعني معنى الألفاظ والصيغ في العصر الذي كتبت فيه الوثيقة - ومعنى اللفظ يتعيّن بجمع المواضع التي استعمل فيها، وسنجد غالباً موضعاً فيه باقي الجملة لا يدع شكّاً في المعنى المقصود.

                      2-الإستعمال اللغوي يمكن أن يختلف من إقليم إلى آخر، ولهذا يجب معرفة لغة الإقليم الذي كتبت فيه الوثيقة، أي المعاني الخاصّة المستعملة بها الألفاظ في الأقاليم المختلفة

                      3-لكلّ مؤلّف طريقته الخاصّة في الكتابة، ولهذا يجب أن ندرس لغة المؤلّف، والمعنى الخاص الذي استعمل به الكلمات.

                      4-التعبير يختلف معناه بحسب الموضوع الذي يوجد فيه، ولهذا ينبغي أن تفسّر كل كلمة وكل جملة لا مفردة، بل بحسب المعنى العام للفقرة (السياق) وقاعدة السياق هذه : ينبغي ألاّ نفصل كلمتين عن سياقهما، وإلاّ فهذه الوسيلة للغلط في معنييهما، وهذه قاعدة أساسيّة في التفسير، وتقتضي بأنّه قبل أن نستعمل جملة من نص أن نقرأ النص كلّه أوّلاً، ويحظر التقاط الإقتباسات وإدراجها في عمل حديث، أي التقاط شذرات من جمل منتزعة من فقرة لا ندري ما المعنى الخاص الذي لها فيها.




                      التعديل الأخير تم بواسطة محمدعامر; الساعة 2015-05-10, 11:23 PM.

                      تعليق


                      • #26


                        يقول المؤرّخون أنّ الإسكندر المقدوني بكى حين دخلت جيوشه أرض الهند، لأنّه بذلك كان قد أخضع كلّ أرضٍ معمورةٍ في أيّامه، فلم تعد ثمّة أقاليمٍ يغزوها ويسودها. ولكن يوجد من الأدلّة ما يُثبِت أنّ جيوشه كانت قد هُزِمت أمام الجيوش الهنديّة، وأنّه اضطرّ إلى أن يرجع القهقرى مهزوماً.

                        كما أراد المؤرّخون الإشادة بشجاعة الإغريق وبسالتهم، فيؤكّدون أنّه حين احتشدت جيوش الفُرس الزاحفة تحت أمرة (اكزرسيس) عند ممرّ (ترموبيلي)، تصدّى لها ثلاثمائة إغريقيّ فقط ! فانهالوا على كتائب الفُرس تقتيلاً حتّى كادوا يردّونها على أعقابها. ولكن البحث التاريخيّ يُثبت أنّ جنود الإغريق لم يكونوا ثلاثمائة، بل كانوا اثني عشر ألف جندي على الأقل. وأنّهم لم يصمدوا لقوّات الفرس التي أودت بهم جميعاً.

                        وبالغوا في الحطّ من تاريخ (نيرون) حتّى صار مضرب المثل في البغيّ والعسف. فاتّهموه بأنّه أمر بقتل أمّه، مع أنّها قُتلت دون أن يدري، اتّهموه بأنّه أمر بإحراق روما ليشاهد النيران تلتهم معالمها وتفتك بأهلها، بينما هو ينشد الأغاني ويعزف على (الكمان) لاهياً. والحقّ أنّ النار التي أحرقت روما شبّت قضاءاً وقدراً، وأمّا (الكمان) فلم يُخترَع إلاّ بعد عهده بمئات السنين!

                        وأضفى المؤرّخون على (قسطنطين الأوّل) صفات القداسة، فلم يعد اسمه يُنطق إلاّ مسبوقاً بلقب قدّيس..... لماذا؟ ألأنّه قتل زوجته، وولدين من أولاده، ونفراً جمّاً من أهله؟

                        كما قام المؤرّخون بتقديم مفهومٍ سطحيّ للحروب الصليبيّة، حيث اختزلوه إلى بُعدٍ دينيٍّ فقط، ودوّنوها على أنّها الحروب التي وقعت في سورية في نهاية القرن الحادي عشر. بينما هي بمفهومها العلميّ الحروب التي ارتكزت على أسسٍ اقتصاديّة سلطويّة توسّعيّة كما هي دينيّة. تعود إلى القرن الثامن، بدأت معاركها الأولى في سهل (اللوار) و(الرين)، وُجّهت نحو الوثنيّة بادئ الأمر، ثمّ إلى إلى الإسلام والوثنيّة معاً، ثمّ إلى الإسلام وحده بعد انحلال الوثنيّة، ولم تكن المعارك المتوالية التي وقعت في سورية ومصر بين المسلمين والفرنج منذ وجود (فروادى بويون) إلى (لويس التاسع) إلاّ طوراً من أطوار ذلك الصراع العامّ. ففي الوقت الذي انهارت فيه صروح العالم الرومانيّ الشامخة لأسبابٍ عدّة، انقضّ الإسلام على أنقاضها في آسيا ة أفريقيا وشادوا منها دولاً جديدة. ثمّ حاول أن ينفذ إلى سويداء النصرانيّة من المشرق والمغرب معاً، فلاقى خيبته الحاسمة في المشرق أمام أسوار القسطنطينيّة، ولاقى ذات الهزيمة في الغرب فوق ضفاف (اللوار)، وارتدّت الوثنيّة في نفس الوقت على ضفاف (الرين) أمام نفس أولئك الفرنج الذين وقفوا فلإسلام سدّاً.فوق هذه البسائط وفي مهاد تلك المعارك الحاسمة، معارك الحياة والموت، قدّرت النثرانيّة فداحة الخطر الذي يهدّد كيانها من تدفّق الإسلام والوثنيّة، لتنشأ في المجتمع النصرانيّ فكرة صراعٍ غامضة استحالت إلى فكرة الحروب الصليبيّة.

                        تزوير الوثائق التاريخيّة:

                        من الحوادث الهامّة والشهيرة في تزييف الوثائق، ما أقدم عليه (لوكاس فرين) في فرنسا، حيث قام بتزييف وثائقٍ عدّة وباعها إلى المؤرّخين ذوي الشأن آنذاك في فرنسا والعالم الحديث وعلى رأسهم العلاّمة (ميشيل شال) على أنّها قديمة وبخطّ كاتبيها ومنها : كتاب من الإسكندر المقدونيّ إلى أرساطاطاليس، وأيضاً خطاب من جان دارك إلى الشعب الفرنسي، وباقي الوثائق كانت قد بلغت 27320 خطاباً منسوبة إلى 660 شخصاً من مشاهير التاريخ، وقد تمّ فكّ ملابسات تلك الوثائقو البتّ بقضيّة التزييف هذه فلاقى صانعها مصير السجنلا شكّ أنّ وثائق (لوكاس فرين) تمّ معرفة زيفها بتعيين المعنى الخاص للكلمات في الوثيقة، إذ لم يكن متوفّر في ذاك العهد أدوات قياس عمر المواد كالإستعانة بالمواد المشعّة.

                        يقوم الكشف اللغوي في الوثيقة على مبادئ بسيطةٍ جدّاً وأهمّها :

                        1-إنّ اللغة في تطوّر مستمر من شأنه أن يفسدها. ولكلّ عصر لغته الخاصّة، ينبغي النظر إليها على أنّها نظام خاص من الرموز والعلامات. وعلى هذا فإنّه لفهم وثيقةٍ ما، يتوجّب معرفة لغة العصر، أعني معنى الألفاظ والصيغ في العصر الذي كتبت فيه الوثيقة - ومعنى اللفظ يتعيّن بجمع المواضع التي استعمل فيها، وسنجد غالباً موضعاً فيه باقي الجملة لا يدع شكّاً في المعنى المقصود.

                        2-الإستعمال اللغوي يمكن أن يختلف من إقليم إلى آخر، ولهذا يجب معرفة لغة الإقليم الذي كتبت فيه الوثيقة، أي المعاني الخاصّة المستعملة بها الألفاظ في الأقاليم المختلفة

                        3-لكلّ مؤلّف طريقته الخاصّة في الكتابة، ولهذا يجب أن ندرس لغة المؤلّف، والمعنى الخاص الذي استعمل به الكلمات.

                        4-التعبير يختلف معناه بحسب الموضوع الذي يوجد فيه، ولهذا ينبغي أن تفسّر كل كلمة وكل جملة لا مفردة، بل بحسب المعنى العام للفقرة (السياق) وقاعدة السياق هذه : ينبغي ألاّ نفصل كلمتين عن سياقهما، وإلاّ فهذه الوسيلة للغلط في معنييهما، وهذه قاعدة أساسيّة في التفسير، وتقتضي بأنّه قبل أن نستعمل جملة من نص أن نقرأ النص كلّه أوّلاً، ويحظر التقاط الإقتباسات وإدراجها في عمل حديث، أي التقاط شذرات من جمل منتزعة من فقرة لا ندري ما المعنى الخاص الذي لها فيها.

                        في مجلّة شتيرن عام 1983في العشرين من نيسان 1945 كانت برلين تحترق وفي ذاك الوقت أمر هتلر بأن تحرق كلّ أوراقه الشخصيّة والرسميّة وقد أقرّ خبراءالحكومة الألمانيّة فيما بعد بالتزييف الصارخ الذي أرجحوا أنّه تمّ في عام 1964البعض من مسرحيّات شكسبير كما اكتشف البروفيسور (دوفر ويلسون 9 والبروفيسور (بولارد) قد كانت موجودة فعلاً قبل عام 1953 بأقلام غير شكسبيريّة كمثل مسرحيّة (هنري الخامس) و(روميو وجولييت) و(هاملت), وأنّ ما فعله شكسبير هو أنّه قوّمها وأصلحها، حيث جعلها على الشاكلة الموجودة لدينا الآن.

                        تدفعنا هذه الأمثلة للتساؤل عمّا بحوزتنا من وثائق تدّعي القِدّم والأسبقيّة، فحريٌّ بنا،قبل أن نهزأ بباقي المؤلّفات المزوَّرة، أن ننظر إلى ما في جعبتنا، ونباشر بالفحص والتدقيق والتمحيص.

                        تمحيص التاريخ

                        في الفترة التي أعقبت الحرب العالميّة الأولى وإلى قيام الحرب العالميّة الثانية، أدركت بعض الأمم أنّ كتابة التاريخ يجب أن يكون تحت إشراف عصبة الأمم ومعهد التعاون الفكري، ثمّ بعد الحرب الثانية توبع العمل تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة ومنظّمة الأونيسكو، ولكن ظهر أن التواريخ المدوّنة لم تكن تضمن الغاية المنشودة من المصداقيّة، لأنّها لم تكن تكتب بإخلاص بل بتحيّز واتّجاه معيّن ألا وهو تمجيد أعمال الوطن وتبرير أخطائه، ونقد أعمال وسياسة سائر البلدان ولا سيّما عندما لا تتماشى ومصالحه. وبذلك أصبح التاريخ وسيلة للتضليل لا للتعريف بالحقائق وتكوين مجتمع صالح. ومثال ذلك أنّ كلّ شخصٍ يقرأ في تاريخ بلاده أنّها كانت عُرضةً للمظالم والمطامع، وضحيّةً بريئة للغاصبين، وقلّما يجد ذِكراً للأخطاء التي ارتكبتها، والحروب التي يجب أن تتحمّل مسؤوليّتها، والفظائع التي لم تبالِ بارتكابها، ولئن جاء ذِكر شيءٍ من هذا فإنّما يكون في مقام المُدافِع لا المُعتدي.

                        تعليق


                        • #27


                          وهكذا تتكوّن لدى الأخوة الزملاء الذين تعوزه عناصر المقارنة وروح النقد، هذه الأفكار المضلِّلة وتنطبع في ذهنه, فيعتقد أنّ مواطنيه كانوا عِبر التاريخ والعصور عنوان الفضيلة, وأنّ الأمم الأخرى أممٌ معتدية ظالمة، وبذلك يُصبح هذا الإنسان شذِراً إلى غيره ’ متأثّراً بهذه الأفكار.

                          وبهذا الصدد قال البروفيسور (بيتر هيل) : إنّ التاريخ الذي يُدرَّس في اتّجاهٍ معيّن يصنع المتطرّفين والمتعصّبين، والتاريخ الذي يُدرَّس على وجهيه يشحذ روح النقد ويجعل المرء أكثر إنسانيّةً وإنصافاً.من هنا تتّضح ضرورة مراجعة الكتب المدرسيّة وكتابتها من جديد بتلك الروح، لأنّ أكثر ما يعانيه العالم اليوم من خلافاتٍ وبغضٍ للآخر المختلف، إنّما يرجع في أصله إلى الفكرة الأولى التي انطبعت في أذهان التلاميذ عن الشعوب الأخرى.
                          إنّ اكتشاف الباحث المؤرِّخ لما هو (تحت التاريخ) يساعد بالتدريج على إيجاد عالم يقدّر كلّ أصالةٍ في الفكر، ولا يقتصر على الأنواع التي كانت تقدّرها الطبقات الأرستقراطيّة فيما مضى. وفي هذا العصر الذي كثُر فيه الخوف من التغيّرات متزايدة السرعة، كثيراً ما يؤدّي هذا الخوف إلى حالة من الجمود نحسبه خطأً علامة الإستقرار، لذا فإنّ تعمّق الباحث في العقل غير الواعي للأجيال الماضية، وكيف كانت عقائدهم ونزعاتهم في تعارضٍ مع اعترافاتهم، يمكن أن يفرغ علينا تواضعاً شافياً حين ننظر إلى ذاتنا. تكوّن عمليّة الإستنباط هذه، مع الإستعانة بباقي أدوات الفكر، ما يُدعى بفلسفة التاريخ.

                          إنّ مجرى التاريخ متّصل غير منفصل، برغم ما يبدو لمن يقلّب صفحاته متنقّلاً بين عصوره وحوادثه، إذ يجد حروباً غيّرت وجه الأرض فأقامت ممالكَ على أنقاض ممالكٍ أخرى، ويجد ثوراتٍ هدّت معالم الإجتماع، فجعلت العالي سافلاً والسافل عالياً، ويجد طائفةً من العباقرة في السياسة والعلم والأدب برزوا على معاصريهم، وصبغوا الحضارة بصبغٍ جديدة هي صبغتهم الخاصّة.

                          من المعروف أنّ غريزة التملّك كانت كبيرة الأثر في جمع الثروة المادّيّة التي اقتضاها سير الحضارة وانتقالها من أدوارها الأولى. ولا تزال ثمّة شعوب وجماعاتٍ لا تسدّ رمقها ولا تصيب مساك عيشها، إلاّ من الصيد وجمع الثمار البرّيّة، كقبائل (البونان) في (بورنيو) وهم سكّان الغابات، ومن الملاحظ أنّهم امتازوابالرقّة ولطف المعشر، فلا تجد حروباً نشبت مع غيرهم ولا نزاعاتٍ بينهم. ذلك أنّ غريزة التملّك لم تلعب دوراً كبيراً في مسالك حياتهم. فعندما بدأ الإنسان بانتقالٍ مرحليّ في ممارسة الزراعة، أخذت هذه الغريزة تُحدِث أكبر الأثر في الجماعة، وذلك لكون الحبوب والغلال تصلح للإختزان كضربٍ من الثورة، وأكثر الحضارات التي نمت وتطوّرت كثيراً ما قامت على أساس جمع الحبوب واختزان الغلال. فكانت الحبوب من أهمّ رؤوس الأموال وأكبر السلع التجاريّة شأناً، ولا يخفى ما كان لتجارة من أثرٍ بالغٍ في التطوّر الإجتماعيّ. وكان من أثر تلك الغريزة قيام الجماعات البشريّة بتحرّكاتٍ رسمت مناحٍ عدّة في وجه المعمورة، ولعلّ أكثر صفحات التاريخ البشريّ مستغرقة في وصف قصّة انتشار الإنسان وهجرته وغزوه وفتوحاته واستعماره.الإنتشار، وعلى خلاف الهجرة, هو انتقال الجماعات إلى أصقاعٍ غير مأهولة للإستيطان فيها. أمّا الغزو فكان دخول أقوامٍ عنوةً أرض أقوامٍ أخرى أوفر منهم ثروةً وأكثر ثقافةً ز وكان الفتح إغارة قُبيلٍ من النّاس استقرّ!وا وأثّروا كالرومان على بلاد قومٍ آخرين دونهم في الثقافة والرخاء كالغال لسيادتهم وحُكمهم والظفر بسلطان المجد وابتزاز مواردهم أيضاً. ويقتضي الغزو ذهاب شطرٍ من القوم الغازين أو انتقالهم جميعاً إلى الأرض الجديدة للإستقرار فيها، أمّا الفتح فإنّ الفاتحين لا يغيّرون مقامهم إلاّ على القدر الكافي للإشراف على البلد المفتوح واستغلال موارده.

                          إنّ كثرة التزاوج بين الغزاة والمغزوّين أحدثت آثارها البيولوجيّة ومعقّباتها الإجتماعيّة، حتّى لم تترك جنساً من الأجناس على أصله، ولم تدع أرضاً يمكن أن يدّعي أهلها أنّهم مواطنوها الأوّلون، باستثناء بعض المناطق التي لم تكن عرضةً للمطامع، او التي يتعذّر الوصول إليها.

                          وجاء عهد الإستعمار بانتقال أقوامٍ من أوطانهم إلى أقاليمٍ أُخضِعت لها من الوجهة السياسيّة، وكانت بداية هذه الحركات في القرن السابع عشر، وظلّت قائمة إلى القرن الماضي، وقد جعلت أهدافها أمريكا وأفريقيا وأستراليا، وليس من شكّ في أنّ الدول الكبيرة إنّما تلتمس الظفر بمستعمراتٍ لأسبابٍ اقتصاديّةٍ أوّلاً، وللسيطرة والمجد ثانياً، فإنّ المستعمرات كانت كفيلة لها بالمواد الأوّليّة، وهي أيضاً أسواق نافقة لتصريف منتجاتها، ومنفذٌ لتخفيف عن زحمة السكّان في بلادها. يقودنا بحثنا في العقل غير الواعي للعصور الماضية إلى تفاصيل وافية ونتائج ثابتة، حتّى نحصل على أدلّة بالمعنى المألوف في الوثائق التاريخيّة، والواقع أنّ طريقة البحث هذه تمثّل وجهة جديدة تماماً، وانقلاباً في التفكير المعهود. إنّنا بذلك نضع الماضي على سرير التحليل النفسيّ.
                          و معرفة الحاضر تزيد من فهمنا للماضي، والتعرّف على المفهومات التي استحدثها علماء الإجتماعيّات لتحليل العمليّات الإجتماعيّة المعاصرة، بسهّل التحرّي عن العمليّات المشابهة التي تواجهنا في المدوّنات التاريخيّة. ويحدث العكس أيضاً لأنّ معرفة تاريخ الماضي تنير فهمنا للحاضر، وتقوم في الوقت ذاته بشحذ أدوات التحليل وتوسيع نطاق الشواهد التي تستخدمها العلوم الإجتماعيّة غير التاريخيّة.

                          إنّ المؤرّخين، على غرار النّاس العاديّين، يقعون أحياناً في استخدام لغة البلاغة، ويتحدّثون عن حدثٍ ما بوصفه (حتميّاً)، في حين أن كلّ ما يقصدونه هو أنّ تضافر العنصر الذي يدفع المرء إلى توقّع ذلك الحدث كان قويّاً للغاية.

                          يرى ابن خلدون أنّ الحضارات تتعاقب عليها أطوار ثلاثة : هي طور البداوة، وطور التحضّر، وطور التدهور. ففي طور البداوة تجمع النّاس رابطة العصبيّة على ما هو ضروريّ، ثمّ تطلب الغلبة على القبائل الأخرى حتّى تستتبعها وتلتحم بها. ولا تظفر الجماعة باللإنتصار والسيادة إلاّ إذا اعتمدت على مبدأ دينيّ أو سياسيّ، حيث تتشكّل الدولة، بعد أنّ تمّ لها فتح الأمصار وأصبحت تنعم ببحبوحةٍ وعيشٍ كريم. على أنّ تقدّم الحضارات يتوقّف على ثلاثة أشياء، هي مزايا الأرض ومزايا الحكومة، ومزايا السكّان. بعد ذلك يأتي طور التدهور حيث يرى ابن خلدون أنّ عوامل تحضُّر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها. وأوّل هذه العوامل هي العصبيّة، ومحاولة الملك التفرُّد بالحكم والتخلّي عن أبناء قبيلته، وبالتالي الإستعانة بالموالي. والعامل الحاسم في تدهور الدولة هو الترف الذي يفسّره ابن خلدون بأسبابٍ اقتصاديّة وأخلاقيّة ونفسيّة.

                          إنّ التقدّم في التاريخ – وعلى عكس التطوّر في الطبيعة – يستند إلى تناول الموارد المكتسَبة. وتشمل هذه الموارد الممتلكات المادّيّة وكذلك القدرة على التحكّم بالبيئة وتحويلها واستخدامها. وبالفعل فإنّ هذين العنصرين مترابطان بشدّة ويؤثّر الواحد منهما في الآخر. إنّ كارل ماركس ينظر إلى العمل الإنسانيّ بوصفه أساس الصرح الإجتماعيّ بأسره، وتبدو هذه الصيغة مقبولة إذا ما أُعطيت كلمة (العِلم) معنىً واسعاً بما فيه الكفاية.إذ أنّ مجرّد مراكمة الموارد لن تجدي إلاّ إذا ترافقت ليس مع تزايد المعرفة والخبرة الفنّيّة والإجتماعيّة فحسب، بل ومع تزايد الحكّم ببيئة الإنسان بالمعنى الأوسع.

                          ولا يجوز أن يبدأ التاريخ من مرحلة معينة دون أخرى أو أبراز فكرة محددة على حساب أخرى. إنّ الأفكار والوقائع تجري في نسق معيّن، فكلّ واقعة مرتبطة بأخرى، وأخريات.و تتضمّن الوقائع علاقات، والملاحظة توجّه إلى كلّ من الوقائع، وعلاقتها بالوقائع الأخرى في آنٍ واحد.و على هذا فلا ينبغي أن يتعدّى كون المؤرّخ أكثر من جامع للأخبار، وإنّما يكون كمحقّق وباحث ومجرّب أيضاُ.

                          إن التوق إلى تعليل التاريخ عميق الجذور إلى حدّ أنّنا مُعرَّضون، إذا لم نمتلك وجهة نظر بناءه في الماضي، للإنزلاق إلى أحد أمرين : الغيبيّة أو الشكّيّة.



                          تعليق


                          • #28



                            أهواء المؤرّخين

                            ينطلق المؤرخين من مقدّمات واحدة ولكنّهم يصلون إلى غاياتٍ مختلة، وكلٌّ منهم يفترض أن الغاية التي بلغها هي الصحيحة المنشودة. فالإقتناع يمكن نعتبره نتيجة يعتقد صاحبها أنّها صحيحة عن إحساسٍ شخصيّ، إمّا لأسباب عاطفيّة أو ذهنيّة، قد يضمرها أو يعلنها، ممّا يجعل كلّ اختصام حالة قائمة بذاتها، تتوقّف على طبيعة الموقف والتفسير أو التأويل أو السياسة التي تكمن وراء القضيّة. وهذا على خلاف ما في المسائل الرياضيّة، فلا يمكن أن يكون هناك اختصام في النتيجة لأنّ المقدّمات محدّدة، وقواعد الإستدلال ثابتة، فيكون الجواب محتوماً. ولهذا لا يقوم خلاف بشأن المسائل الرياضيّة. فالفرق بين الأمرين هو مسألة تحديد عناصر القضيّة المختلف عليها، فهي لا توضع في الغالب وضعاً محدّداً دقيقاً، كمثل أن يقوم فريقين بقياس ارتفاع قمّة جبل بأجهزة المساحة، فقد يحدث بينهما اتّفاقٌ كامل، أو يقع بينهما اختلافٌ هيّن. أمّا إذا كان الإختلاف كبيراً في النتيجتين، فيكون أحد الفريقين قد أخطأ في الملاحظة أو الحساب، ومتى صُحّح الخطأ عاد الإتّفاق بينهما. ذلك أن مسألة القياس هذه خارجة عن نطاق الإختصام، لأنّها تقاس بوسائل متّفق عليها، فنحن هنا لسنا بصدد نظريّة أو تأويل، بل بصدد واقع لا خلاف عليه. ولو أنّ جميع ما يتعلّق بالإهتمام البشريّ كان من هذا القبيل، لاختفت الخصومات وأصبحت أنواع الإقتناع واحدة، لحصول الإقتناع دائماً على أشياء واحدة.

                            إنّ اختلاف المقاصد والعقبات التي تحول دون توافقها وتجانسها من أهمّ موانع الإتّفاق على نتائج واحدة. والحقيقة أنّ الإختلاف في تأويل عناصر القضيّة الفكريّة أخطر بكثير من الإختلاف على العناصر نفسها. فقد يتّفق الناس على العناصر من حيث هي، ولكن تأويلهم لكلّ منها هو سبب الإختلاف الذي لا يرجى معه اتّفاق. فالتأويل هو الذي يدخل العنصر الذاتيّ في القضيّة. لأنّ لكلٍّ من المتخاصمين هدفه الخاص من القضيّة ومقصده الشخصيّ. فليس الهدف بين المتخاصمين على الدوام واضحاً مثل قياس ارتفاع جبل. وليست أدوات الحكم دائماً ممّا يركن إليه كأجهزة المساحة.

                            إنّ التحليل والتركيب يتمّ بهما تجزئة المواقف أو المفهومات، ثمّ إعادة إنشائها في صيغة جديدة، وهذا ما يتمثّل في الإتجاه العلمي في التاريخ، حيث يقوم المؤرّخ بباستخدام أدوات التفكير ويستعين بالملاحظة والذاكرة والمخيّلة، وفي هذه العمليّات جميعاً لا بدّ من خيوطٍ رابطة، يسمّيها علماء النفس عمليّة التداعي أو الترابط. ولا توجد قواعد ثابتة للتداعي السديد، الذي نقوم بالإستناد على نتائجه بالحكم على المعطيات.

                            والحكم هوعبارة عن تمييز تضاف له قيمة معنويّة، مثل الصواب والخطأ، والجودة والخسّة.و لكن كثيراً ما يقوم النّاس بالحكم بأحكامٍ متباينةٍ على ذات الأشياء، وهذا مرجعه الدوافع التي توجّهنا لإطلاق الأحكام انطلاقاً من ذواتنا، وليس ارتكازاً على ماهيّة الشيء أو الموقف أو الفعل الذي نقوم بالحكم عليه. الأفعال الإنسانيّة علّتها ليس في نفسها بل لها دوافع. وهذه الكلمة الغامضة تدلّ في وقتٍ واحد على الحافز الذي يحفّز على إنجاز فعل وعلى الإمتثال الواعي الذي لدينا عن الفعل في لحظة إنجازه. ولا نستطيع أن نتخيّل دوافع إلاّ في ذهن إنسان على شكل امتثالات ٍ باطنة غامضة، مماثلة لتلك التي لدينا عن أحوالنا الداخليّة الخاصّة، ولا نستطيع أن نعبّر عنها إلاّ بكلمات، في العادة مجازيّة.
                            وتلك هي الوقائع النفسيّة التي تٌسمّى باللغة العامّة : العواطف والأفكار.

                            وفي الوثائق نستشفّ ثلاثة أنواع من الدوافع:

                            1- دوافع وتصوّرات المؤلّفين الذين عبّروا عنها.
                            2- الدوافع والأفكار التي نسبها المؤلّفون إلى معاصريهم الذين عاينوا أفعالهم .
                            3- دوافع يمكن أن نفترضها لأفعالٍ واردة في الوثائق ونتمثلها نحن لأنفسنا على غرار أفعالنا.

                            في القضايا التاريخيّة كثيراً ما نصل إلى نتائج غير دقيقة إمّا عن إهمال أو قصور في كفايتنا الفكريّة.

                            وعين الحبّ عن الأخطاء عمياء بالمزايا والمحاسن حديدة البصر. أمّا عين السخط والكراهيّة فعمياء عن المحاسن، حديدةٌ في الكشف عن العيوب والمثالب. ونحن حريّون أن نعزو صفاتٍ ومزايا مستحبّة إلى ذوات الجمال وربّات الحسن، وهنّ عاطلاتٌ من ذلك. ومن العسير علينا أيضاً أن نتبيّن مزايا حقيقيّة موجودة فعلاً في ذوات القبح.

                            فالعلاقات الإنسانيّة عاطفيّة إلى درجة كبيرة. ولهذا تكون الأحكام الخاصّة بهذه العلاقات ميداناً خصيباً بنشاط الأهواءو لكن مرادنا أن نعامل المشكلات العامّة بأسلوبٍ عقليّ منزّه عن الأهواء، وما يحدث عادةُ على الرغم من صدق نيّتنا في العدل أنّّنا نمزج المنطق بالهوى أو المعتقدات السابقة التي تٌسمّى بالسبقيّات. وفي النهاية نجد سنداً سليماً بعض الشيء لنتائج أحكامنا، يسانده خليطٌ متباينٌ من الميول العاطفيّة التي تجنح بنا إلى القبول بتلك النتائج.

                            إنّ من أسباب الهوى في التفكير التاريخيّ أننا نفكّر جميعاً، على حسب ما يتراءى لنا، والأهواء تتشرّب بها عقولنا. كما نتشرّب بالمعتقدات العامّة عن طريق الإيحاء والتقليد لمن نجعلهم قدوة لنا في سلوكنا واعتقاداتنا،و بتأثير الآراء والعواطف التي نتعرّض لها. فتفكيرنا متأثّر بصورة معقّدة وخفيّة بمشاعرنا الشخصيّة والإجتماعيّة. والآراء والعواطف تنتقل بالعدوى. والهوى يسري بسهولة ومن العسير اقتلاعه ما دامت العواطف غالبة على العقل كما هي الحال غالباُ.

                            ما أردنا قوله في هذا الفصل أنّ الأهواء - فيما يخصّ كتابة التاريخ - إذا ما تلاشت في فترة من الفترات لا تلبث أن تنشأ في مكانها أهواءٌ جديدة. فنحن أفراداُ وجماعاتٍ، معرّضون للهوى، بتأثير عواطفنا. وهذا الهوى تختلف درجة شدّته وتشويهه لعدالتنا وموضوعيّة نظرتنا إلى الأمور. وقد يصل تأثيره إلى حدّ المرض لدى المصابين بالبرانويا وما إلى ذلك من الأمراض العقليّة التي يتصوّر امصابون بها أنّ الواقع مشكّل على غرار أوهامهم وتصوّراتهم.

                            ومع ذلك فالإصابات الخفيفة بهذا الشأن مألوفة لدى المؤرّخين بل حتّى بين رجال العلم حين يتعصّبون لفروضهم ونظريّاتهم مدفوعين برغباتهم وتصوّ!راتهم على حساب الموضوعيّة فيبيتون أقلّ موضوعيّة ممّا يبدون في الظاهر.

                            إن معظم المؤرّخين حين يقعوا في هذا الخطأ يكونوا مخدوعين. إذ يبدأون نسيج الحقيقة بلحمة من الواقع وسداةٍ منه. ولكن بينما هم يمدّون الخيوط في عمليّة النسيج يتدخّل خيطٌ من رغباتهم أو ذاتيّتهم من حيث لا يدرون. فإذا بالنسيج يأخذ اتجاهاً ولوناً خاصّاً يميل لإعتقادهم الشخصيّ، لا للموضوعيّة الخالصة.فالمؤرّخ الذي يستخدم خياله في تأويل الوقائع وإتمامها، يهديه إيمانه أكثر ممّا يهديه حبّ استطلاعه، وخياله في تأويل الوقائع ليس محايداً، فغرضه ليس تحقيق الفروض تحقيقاً نزيهاً بل غرضه إثباتها جهد الإثبات.

                            وقد دفع أمر انزلاق المؤرّخين كما غيرهم من الأناس والعقول العاديّة، الدكتور (ديفيد جوردان) إلى تسجيل اتجاهات هذا النوع من التفكير الذي يصدر عن عقولٍ ذات مخيّلة خصبة ومنطق محدود، وأطلق على ذلك التفكير اسم
                            (البلاهة العُليا أو الراقية).


                            تعليق


                            • #29
                              ""يبدو أن هذا الواقع هو حقيقة عالميّة، عرفها كل شخص عاش في العصور القديمة. وتؤكّد النّصوص المقدّسة أنّ البشر امتلكوا منذ البداية - حال خروج الإنسان من الجنّة - قدرات عقلية استثنائيّة"".
                              قال تعالى ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴿٣١قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴿٣٢قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴿٣٣ ((

                              تعليق


                              • #30




                                ومن المؤلَّفات والوثائق التاريخيّة التي تمّ تزويرها أو تعديلها نذكر

                                مذكّرات هتلرالمنشورة في مجلّة شتيرن عام 1983في العشرين من نيسان 1945 كانت برلين تحترق وفي ذاك الوقت أمر هتلر بأن تحرق كلّ أوراقه الشخصيّة والرسميّة وقد أقرّ خبراءالحكومة الألمانيّة فيما بعد بالتزييف الصارخ الذي أرجحوا أنّه تمّ في عام 1964البعض من مسرحيّات شكسبير كما اكتشف البروفيسور (دوفر ويلسون 9 والبروفيسور (بولارد) قد كانت موجودة فعلاً قبل عام 1953 بأقلام غير شكسبيريّة كمثل مسرحيّة (هنري الخامس) و(روميو وجولييت) و(هاملت), وأنّ ما فعله شكسبير هو أنّه قوّمها وأصلحها، حيث جعلها على الشاكلة الموجودة لدينا الآن.

                                تدفعنا هذه الأمثلة للتساؤل عمّا بحوزتنا من وثائق تدّعي القِدّم والأسبقيّة، فحريٌّ بنا،قبل أن نهزأ بباقي المؤلّفات المزوَّرة، أن ننظر إلى ما في جعبتنا، ونباشر بالفحص والتدقيق والتمحيص.

                                تمحيص التاريخ:


                                في الفترة التي أعقبت الحرب العالميّة الأولى وإلى قيام الحرب العالميّة الثانية، أدركت بعض الأمم أنّ كتابة التاريخ يجب أن يكون تحت إشراف عصبة الأمم ومعهد التعاون الفكري، ثمّ بعد الحرب الثانية توبع العمل تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة ومنظّمة الأونيسكو، ولكن ظهر أن التواريخ المدوّنة لم تكن تضمن الغاية المنشودة من المصداقيّة، لأنّها لم تكن تكتب بإخلاص بل بتحيّز واتّجاه معيّن ألا وهو تمجيد أعمال الوطن وتبرير أخطائه، ونقد أعمال وسياسة سائر البلدان ولا سيّما عندما لا تتماشى ومصالحه. وبذلك أصبح التاريخ وسيلة للتضليل لا للتعريف بالحقائق وتكوين مجتمع صالح. ومثال ذلك أنّ كلّ شخصٍ يقرأ في تاريخ بلاده أنّها كانت عُرضةً للمظالم والمطامع، وضحيّةً بريئة للغاصبين، وقلّما يجد ذِكراً للأخطاء التي ارتكبتها، والحروب التي يجب أن تتحمّل مسؤوليّتها، والفظائع التي لم تبالِ بارتكابها، ولئن جاء ذِكر شيءٍ من هذا فإنّما يكون في مقام المُدافِع لا المُعتدي.

                                وهكذا تتكوّن لدى القارئ الذي تعوزه عناصر المقارنة وروح النقد، هذه الأفكار المضلِّلة وتنطبع في ذهنه, فيعتقد أنّ مواطنيه كانوا عِبر التاريخ والعصور عنوان الفضيلة, وأنّ الأمم الأخرى أممٌ معتدية ظالمة، وبذلك يُصبح هذا الإنسان شذِراً إلى غيره ’ متأثّراً بهذه الأفكار.

                                وبهذا الصدد قال البروفيسور (بيتر هيل) : إنّ التاريخ الذي يُدرَّس في اتّجاهٍ معيّن يصنع المتطرّفين والمتعصّبين، والتاريخ الذي يُدرَّس على وجهيه يشحذ روح النقد ويجعل المرء أكثر إنسانيّةً وإنصافاً.من هنا تتّضح ضرورة مراجعة الكتب المدرسيّة وكتابتها من جديد بتلك الروح، لأنّ أكثر ما يعانيه العالم اليوم من خلافاتٍ وبغضٍ للآخر المختلف، إنّما يرجع في أصله إلى الفكرة الأولى التي انطبعت في أذهان التلاميذ عن الشعوب الأخرى.
                                إنّ اكتشاف الباحث المؤرِّخ لما هو (تحت التاريخ) يساعد بالتدريج على إيجاد عالم يقدّر كلّ أصالةٍ في الفكر، ولا يقتصر على الأنواع التي كانت تقدّرها الطبقات الأرستقراطيّة فيما مضى. وفي هذا العصر الذي كثُر فيه الخوف من التغيّرات متزايدة السرعة، كثيراً ما يؤدّي هذا الخوف إلى حالة من الجمود نحسبه خطأً علامة الإستقرار، لذا فإنّ تعمّق الباحث في العقل غير الواعي للأجيال الماضية، وكيف كانت عقائدهم ونزعاتهم في تعارضٍ مع اعترافاتهم، يمكن أن يفرغ علينا تواضعاً شافياً حين ننظر إلى ذاتنا. تكوّن عمليّة الإستنباط هذه، مع الإستعانة بباقي أدوات الفكر، ما يُدعى بفلسفة التاريخ.

                                إنّ مجرى التاريخ متّصل غير منفصل، برغم ما يبدو لمن يقلّب صفحاته متنقّلاً بين عصوره وحوادثه، إذ يجد حروباً غيّرت وجه الأرض فأقامت ممالكَ على أنقاض ممالكٍ أخرى، ويجد ثوراتٍ هدّت معالم الإجتماع، فجعلت العالي سافلاً والسافل عالياً، ويجد طائفةً من العباقرة في السياسة والعلم والأدب برزوا على معاصريهم، وصبغوا الحضارة بصبغٍ جديدة هي صبغتهم الخاصّة.

                                من المعروف أنّ غريزة التملّك كانت كبيرة الأثر في جمع الثروة المادّيّة التي اقتضاها سير الحضارة وانتقالها من أدوارها الأولى. ولا تزال ثمّة شعوب وجماعاتٍ لا تسدّ رمقها ولا تصيب مساك عيشها، إلاّ من الصيد وجمع الثمار البرّيّة، كقبائل (البونان) في (بورنيو) وهم سكّان الغابات، ومن الملاحظ أنّهم امتازوابالرقّة ولطف المعشر، فلا تجد حروباً نشبت مع غيرهم ولا نزاعاتٍ بينهم. ذلك أنّ غريزة التملّك لم تلعب دوراً كبيراً في مسالك حياتهم. فعندما بدأ الإنسان بانتقالٍ مرحليّ في ممارسة الزراعة، أخذت هذه الغريزة تُحدِث أكبر الأثر في الجماعة، وذلك لكون الحبوب والغلال تصلح للإختزان كضربٍ من الثورة، وأكثر الحضارات التي نمت وتطوّرت كثيراً ما قامت على أساس جمع الحبوب واختزان الغلال. فكانت الحبوب من أهمّ رؤوس الأموال وأكبر السلع التجاريّة شأناً، ولا يخفى ما كان لتجارة من أثرٍ بالغٍ في التطوّر الإجتماعيّ. وكان من أثر تلك الغريزة قيام الجماعات البشريّة بتحرّكاتٍ رسمت مناحٍ عدّة في وجه المعمورة، ولعلّ أكثر صفحات التاريخ البشريّ مستغرقة في وصف قصّة انتشار الإنسان وهجرته وغزوه وفتوحاته واستعماره.الإنتشار، وعلى خلاف الهجرة, هو انتقال الجماعات إلى أصقاعٍ غير مأهولة للإستيطان فيها. أمّا الغزو فكان دخول أقوامٍ عنوةً أرض أقوامٍ أخرى أوفر منهم ثروةً وأكثر ثقافةً ز وكان الفتح إغارة قُبيلٍ من النّاس استقرّ!وا وأثّروا كالرومان على بلاد قومٍ آخرين دونهم في الثقافة والرخاء كالغال لسيادتهم وحُكمهم والظفر بسلطان المجد وابتزاز مواردهم أيضاً. ويقتضي الغزو ذهاب شطرٍ من القوم الغازين أو انتقالهم جميعاً إلى الأرض الجديدة للإستقرار فيها، أمّا الفتح فإنّ الفاتحين لا يغيّرون مقامهم إلاّ على القدر الكافي للإشراف على البلد المفتوح واستغلال موارده.

                                إنّ كثرة التزاوج بين الغزاة والمغزوّين أحدثت آثارها البيولوجيّة ومعقّباتها الإجتماعيّة، حتّى لم تترك جنساً من الأجناس على أصله، ولم تدع أرضاً يمكن أن يدّعي أهلها أنّهم مواطنوها الأوّلون، باستثناء بعض المناطق التي لم تكن عرضةً للمطامع، او التي يتعذّر الوصول إليها.

                                وجاء عهد الإستعمار بانتقال أقوامٍ من أوطانهم إلى أقاليمٍ أُخضِعت لها من الوجهة السياسيّة، وكانت بداية هذه الحركات في القرن السابع عشر، وظلّت قائمة إلى القرن الماضي، وقد جعلت أهدافها أمريكا وأفريقيا وأستراليا، وليس من شكّ في أنّ الدول الكبيرة إنّما تلتمس الظفر بمستعمراتٍ لأسبابٍ اقتصاديّةٍ أوّلاً، وللسيطرة والمجد ثانياً، فإنّ المستعمرات كانت كفيلة لها بالمواد الأوّليّة، وهي أيضاً أسواق نافقة لتصريف منتجاتها، ومنفذٌ لتخفيف عن زحمة السكّان في بلادها. يقودنا بحثنا في العقل غير الواعي للعصور الماضية إلى تفاصيل وافية ونتائج ثابتة، حتّى نحصل على أدلّة بالمعنى المألوف في الوثائق التاريخيّة، والواقع أنّ طريقة البحث هذه تمثّل وجهة جديدة تماماً، وانقلاباً في التفكير المعهود. إنّنا بذلك نضع الماضي على سرير التحليل النفسيّ.
                                و معرفة الحاضر تزيد من فهمنا للماضي، والتعرّف على المفهومات التي استحدثها علماء الإجتماعيّات لتحليل العمليّات الإجتماعيّة المعاصرة، بسهّل التحرّي عن العمليّات المشابهة التي تواجهنا في المدوّنات التاريخيّة. ويحدث العكس أيضاً لأنّ معرفة تاريخ الماضي تنير فهمنا للحاضر، وتقوم في الوقت ذاته بشحذ أدوات التحليل وتوسيع نطاق الشواهد التي تستخدمها العلوم الإجتماعيّة غير التاريخيّة.



                                تعليق

                                يعمل...
                                X