صرح سيدنا سليمان في قاع البحر بالقرب من اليمن
مقدمة :
توارثنا أن صرح سليمان كان في القدس و على الأغلب مصدر هذه المعلومة هو اعتقاد اليهود بأن ملك سيدنا سليمان كان هناك و كذلك الهيكل المزعوم و بالرغم من المجهود المبذول لإثبات هذا إلا أنه لم يتم العثور على أي دليل مادي يؤكده, في المقابل وجدت أن ما ورد في القرآن الكريم من خبر سيدنا سليمان مع مملكة سبأ يرجح أن الصرح كان مقام في البحر و مدلولات ما وصلت إليه لخصته خلال هذا البحث.
الصرح ليس هو الأقصى و لا الهيكل. الأقصى هو مسجد للناس جميعا يتعبدون فيه و أما الصرح فهو مكان خاص كان فقط لسيدنا سليمان و دليل ذلك أنه كان وحيدا هناك حين مات. و أما الهيكل فله تفاصيل مزعومة عند أهل الكتاب و لا تتوافق مع وصف القرآن للصرح , فالهيكل مبني من حجارة و الصرح ممرد من قوارير.
المسجد الأقصى هو محل الإسراء و المعراج , و المسجد الأقصى كان و مازال و سيبقى مسجد قصي و خاص فقط بدين التوحيد. و الذي أتى به كل الرسل و الذي ختم بالإسلام. للأقصى قداسته حيث أنه ثاني بيت وضع للناس و أنه قبلة لأهل الكتاب و لكن ليس لقداسته علاقة بصرح سيدنا سليمان , و لا يوجد أي رابط بين صرح سليمان و الأقصى سوى أوهام و تحريفات و إدعاءات ستنجلي بانجلاء الحقيقة.
الإدعاء بالهيكل المزعوم هو إدعاء يهودي أصلا و تفصيلا , حيث أنهم يعتقدون أن الأقصى قد شيد محل هيكل سليمان , و مع أن المكتشفات الأثرية لم تثبت أي شيء بهذا الخصوص حتى الآن إلا أن أعمال الحفر مستمرة هناك مما يضر بسلامة الأقصى .
لقد أنعم المولى عز و جل علينا بأن حفظ لنا القرءان الكريم كما أُنزل . و من واجبنا البحث و التدقيق لإظهار صور الأعجاز العلمي و الغيبي في الآيات و مع التدقيق نستطيع تصحيح ما أختلف فيه من روايات و قصص الأولين المنقولة عن أهل الكتاب. التدقيق في الآيات يقودنا للوصول لحقائق منطقية يمكن إثباتها من خلال بحوث علمية و أثرية و في ذلك رد " بأن القصص في القرءان ليست أساطير الأولين" كما يدعي كل من لا يعرف الإسلام. و تثبت للمسلمين بأن ما لديهم هو الحق, و دعوة إلى الغير مما يدعون أن ديننا لا يرتكز على أسس علمية و منطقية بأن نثبت لهم و بالدليل المادي على أن القرءان هو من عند الله علام الغيوب .
قال تعالى: (وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [5] قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً [6] ) [سورة: الفرقان]
و قال تعالى: (لَقَدْ وُعِدْنَا هَـَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ [68] قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [69] ) [سورة: النمل]
"خلاصة ما وصلت إليه هو أن صرح سيدنا سليمان كان مشيد في البحر بالقرب من اليمن و ليس في القدس و لقد كان صرح ضخم و عالي تم تشيده بواسطة عمال بناء و غوص مهره من الجن و الشياطين و كانت مواد البناء متناسبة مع البيئة بأنها من قوارير الزجاج . و أنه بلغ في ضخامته و علوه أن كانت قاعدته و أرضيته مثبته و مستقرة على قاع البحر و قمته و مدخله يعلو سطح البحر و كأنه يشبه القارورة حيث يتسع من اسفل و يضيق من أعلى. و ان الصرح ظل مشيدا فترة طويلة بعد موت سيدنا سليمان ثم خر و اصبح أطلالا تحت الماء و يمكن العثور على بقاياه و بقايا ما كان يصنع الجن في قاع البحر حول الصرح من محاريب و تماثيل و قدر راسيات و غيرها "
ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا :
أخبرتنا الآيات بأن سليمان لم يكفر و أن الشياطين هي التي كفرت و أن الشياطين تتلو أخبار غير صحيحة عن ملك سليمان و أن هناك من اتبع ما تتلو الشياطين. وفي هذا يعني أن العديد من المتداول بين الناس ليس بالضرورة أن يكون صحيحا بل بعضها ما هو إلا مفتريات شياطين الأنس و الجن لتحقيق أهداف معينة.
من قصص الفلكلور :
قد يكون في قصة المارد و القمقم و خاتم سليمان مثال على نسج خيال الراوي و لكن الملاحظ وجود رابط بين سيدنا سليمان و البحر, فلقد حكت القصص بأن سيدنا سليمان كان يحبس مارد الجن داخل قمقم ثم يرميه في قاع البحر, و أما خاتم سيدنا سليمان فيستخرجه صياد من بطن سمكة.
ليس بالضرورة أن يعني هذا الرابط شيء و لكنه على أي حال يطرح بعض التساؤلات,و منها مثلا لماذا يحبس ماردا في القمقم في قاع البحر...! و كيف وصل خاتم سليمان لبطن سمكة....! كان لسيدنا سليمان سلطة على الشياطين و الجن و يستطيع أن يعاقب و يحبس من يشاء كيف شاء و أن صح أن صرحه كان مبني من قوارير و كان ذلك الصرح مشيد في الماء فيكون بحبس ماردا في قمقم متوافق مع طبيعة و مكان الصرح . و لو علمنا أن ملك مات في البحر و أن من رموز ملكه الخاتم فيكون بلع سمكة لخاتم سليمان قريب للأذهان.
الموقع الجغرافي :
ارتبط خبر إسلام مملكة سبأ بسيدنا سليمان و يخبرنا المؤرخون بأن بعض قبائل الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة العربية و السواحل الغربية لإفريقيا اتخذوا من اليهودية دينا و لهم معتقدات متوارثة بأنهم من أحفاد سليمان و الواضح القرب الجغرافي و الذي يدل أيضا على وجود رابط تاريخي.
مملكة سبأ :
كانت سبأ مملكة من الممالك القديمة القوية و بعد اضمحلال سبأ تفرق أهلها و سكن بعضهم بلاد الشام و أطلق بعضهم على قراهم الجديد نفس أسم المناطق التي قدموا منها و يعرف هذا بالتيمن. و لقد ورد خبر سبأ في القرآن الكريم و ما حل بهم من تفرق و تشتت أصابهم بعد سيل العرم, و بالرغم من عدم كشف كل تفاصيل مملكة سبأ بعد إلا أن موقعها لا خلاف عليه بأنه كان في بلاد اليمن .
جازان (حيزان ):
منطقة تقع شمال اليمن و جنوب غرب السعودية العربية , و هي منطقة ساحلية تطل على البحر الأحمر و يقابلها عدد كبير من الجزر , و لأهل جازان معتقدات و قصص قديمة تعود لفترة حكم سيدنا سليمان . و يعتقد بعض أهالي جازان بأن منطقتهم كانت مقر لسيدنا سليمان حيث كان يجازي الجن لذا أشتق أسمها من "جازى الجن".
و تعد جازان قريبة من مملكة سبأ و بها عدد كبير من الجبال الشاهقة يفصلها وديان سحيقة. و الجدير بالملاحظة أن تقارب الجبال و كثرة عددها بتوافق مع ذكر الآيات للجبال ( بصيغة الجمع ) و التي كانت تسبح مع سيدنا داود , قال تعالى {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ }ص18 , في المقابل لا يوجد في القدس جبال بمفهوم الجمع كالتي في جازان.
أثيوبيا و اليهودية :
يسكن أثيوبيا قبائل يهودية (كيهود الفلاشة) لها معتقدات تمتد لأزمنة بعيدة و يعتقدون بأنهم أحفاد ملكة سبأ و ليس مستبعدا لجوء بعض أهل سبأ لبلاد شرق إفريقيا بعد إنهيار مملكتهم و تشتتهم و من هؤلاء بعض بني إسرائيل أو من جاورهم .
الرومان و دورهم في تغيير التاريخ :
هيمنت الإمبراطورية الرومانية على مناطق شاسعة من مركز الحضارات القديم و كانت الإمبراطورية تدين بالديانات الوثنية قبل أن يدين بعض ملوكها بالمسيحية, و كان للرومان دور كبير في اضطهاد أهل الكتاب و تدمير معابدهم و مصادرة و حرق كتبهم. حيث وصفوا سواهم من البشر بأنهم برابرة بدائيون, و تعاملوا معهم بتكبر و كان للرومان الدور الأساسي في طمس و تشويه سمعة العديد من حضارات العالم القديم, إلى أن استطاع علماء الآثار العثور على مكتشفات هامة و فك بعض رموز النقوش القديمة. تؤكد أن التاريخ لم يكن تماما كما تم تدوينه بواسطة أصحاب المصالح. بالتالي كان أولى إعادة النظر في الكثير من المعتقدات المتوارثة و التي كتبت حسب أهواء كاتبها.
والجدير بالذكر أن الأثريون مازالوا يبحثون في القدس على دليل مادي يثبت المتوارث إلا أنهم لم يجدوا في فلسطين كلها شيء أثري يرجع لمملكة سليمان, و مزيد من البحث سيكشف حقائق التاريخ المزيف و أن الكثير مما هو متوارث ما هو إلا تحريفات كان للرومان و بعض أهل الكتاب دور كبير بها.
تفرد ملك البحر لسيدنا سليمان ( ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) :
استعان بعض البشر بالجن و سخروهم و خدموهم و ما زاد بعضهم بعضا إلا رهقا و أما سلطة سيدنا سليمان على الجن و الشياطين لم تكن لأحد قبله و لا بعده. و كان لبعض الملوك الذين أتوا بعد سليمان ملك عظيم و كانت سلطتهم و نفوذهم على سطح الأرض و لم نعلم أو نسمع عن أحد ملك البحار أو عن مملكة في البحر.
أرجح أن ما تفرد به سيدنا سليمان عن جميع ملوك العالم بعد أن دعا المولى عز و جل أن يهبه ملك لا ينبغي لأحد من بعده. فلقد ملك سيدنا سليمان البر و البحر. كان هذا الملك فقط لسيدنا سليمان و لم يكن لأحد قبلة و لم و لن يكون لأحد بعده.
صرح سيدنا سليمان :
كان لسيدنا سليمان موقف مع الصافنات الجياد حيث شغلته لوقت ما عن ذكر الله . و عندما أستدرك الأمر أسرع فدعا الله أن يغفر له و أن يهبه ملك لا ينبغي لأحد من بعده. يتكرر هذا الموقف مع كثير من الصالحين بأنهم عندما ينتبهون لتقصير أتى منهم في عبادتهم فإنهم يتوجهون للمولى عز و جل بالدعاء طلبا للعفو و المغفرة و لا يكتفون بذلك بل يجتهدوا في العبادة و العمل الصالح رغبة في إرضاء المولى عز و جل.
وهذا ما حدث مع سيدنا سليمان فأراد إرضاء الله بأن يهبه ملك يعينه على التعبد و العمل الصالح , و لكن بالرغم من أن الملك يمنحه فرصة عظيمة لإرضاء الله بالعمل الصالح إلا أن في أمور الملك الكثير مما يكفي ليشغله عن العبادة . لذلك فمن المنطق أن يخصص وقت تفرغ للعبادة ينعزل فيه عن الناس و كل ما يلهي حتى لا يتكرر معه ما حدث مع الصافنات الجياد, و عادة يختار الصالحون مكان يصلح للاعتكاف و التعبد , و في الماضي كان بعض الصالحين يعتكفون في معابد أو كهوف تكون في أعلى الجبال بعيدة عن البشر.
لقد كان لسيدنا سليمان ملك عظيم و يستطيع أن يختار المكان الذي يناسبه للتعبد و أن يشيد أروع المعابد و القصور أينما أراد و بالعدد الذي يحتاج حتى يكون موزع على أتساع مملكته. و أرجح أن أنسب مكان يستطيع سيدنا سليمان أن ينعزل فيه عن البشر هو البعد عن البر بالكامل و أن يشيد له قصر في البحر حيث لا يوجد من أمور الملك ما يشغله , كذلك لكي لا تنشغل مملكته في أمور بناء قصره أو الإعجاب بروعته و جماله عن أمور دينها و دنياها. و يرجح صحة تلك الفرضية أن من قام ببناء قصره هم الشياطين و الجن و نرى الآيات تخبرنا بأنه حشر له جنود من الإنس و الجن, أما في أمور بناء قصره و تزينه وغيره فلم يكن ذلك من عمل الإنس بل اختصت به الشياطين و الجن. و للبناء ضروريات كانت لابد و أن تشغل و تعيق حياة البشر و ربما سببت في بعض الأذى إن كان ذلك البناء قريب منهم و خصوصا أن من يقوم بالبناء هم من الجن و الشياطين.
الغوص و البناء الزجاجي :
لقد أخبرتنا الآيات أن الجن و الشياطين قد سُخروا لخدمة سليمان و ذكرت الآيات أن كل بناء و غواص و اقتران البناء مع الغوص لوصف عمل الجن و الشياطين فيه دلالة أنهم كانوا يبنون له شيء في قاع البحر. يتطلب البناء في البحر عمال مهرة في البناء و الغوص, و لقد كان صرح سيدنا سليمان ممرد من قوارير (زجاج) و لقد أُسيل لسيدنا سليمان عين القطر (النحاس). و أن تكون مواد البناء المستخدمة هي الزجاج و تملأ الفواصل بعنصر إنشائي قوي مطيع مثل النحاس. بالرغم من عدم معرفتنا بقدرات الجن جيدا إلا أننا توارثنا خبر سكناهم في قيعان البحار , و نعلم أنهم من نار و بذلك يكون منطقي قدرتهم على بناء صرح من زجاج و ملأ الفواصل بالنحاس المنصهر السائل .
يسمح الزجاج بالرؤية و هذه الحاجة المعمارية تكون منطقية للمباني تحت الماء أما على اليابسة فمستغربة بل ليست منطقية. أن يكون قصر مشيد من قوارير الزجاج تحت الماء مقبول هندسيا, أما أن يكون الصرح العالي الضخم المبني من زجاج مقام على اليابسة فكم ترى كانت تبلغ درجة الحرارة داخله بفعل الاحتباس الحراري و خصوصا في أيام الصيف.
أن يكون مبني مستقر في البحر فتكون أرضيته على القاع و يرتفع المبنى إلى الأعلى حتى السطح حيث أن الجزء العلوي هو المدخل وتتم عبره التهوية و هذا يبرر أن يكون الصرح ممرد فلعلو البنيان وظيفة, أما على اليابسة فالعلو في البنيان أستخدم في السابق للمراقبة أو الإنارة و كانت تبنى هذه المباني من الحجارة الضخمة و هذا لا ينطبق على صرح سيدنا سليمان.
عادة تحاط القصور بالمساحات الخضراء و لكن لو كان صرحا في قاع البحر فيكون أولى إحاطته بتماثيل و منحوتات , و صرح مصنوع من زجاج شفاف يحتاج لمحاريب (غرف) للعبادة و للنوم و خلافة. و صرح بعيد عن البشر يحتاج لقدور كبيرة لخزن الغذاء و الماء و خلافه.
أين ذهب ما كان يصنع الجن ؟
كان من جنود سيدنا سليمان إنس و جن يتمتعون بقوة و علم نافذ وكانت أعمالهم خارقة و إن قارنا تلك القدرات مع إنجازاتهم فلابد و أن تكون ضخمة و عظيمة و بأن منهم من كان يعمل محاريب و تماثيل و قدر راسيات – قد تكون راسية في قاع البحر – و لنتخيل ضخامة حجم وكثرة عددهم مع التذكر بأن العمل ظل مستمر حتى بعد موت سيدنا سليمان, نتساءل أين يمكن على اليابسة أن يوجد مكان يستوعب هذا العمل و أين هو هذا العمل مقارنة بالآثار المعروفة حاليا كالأهرامات , فهل اختفى كل هذا العمل بموت سيدنا سليمان بالرغم من ضخامته و كثرة عدده ....! ولماذا لم يحتفظ من جاء بعد سيدنا سليمان بجزء من هذه الأعمال..! أرجح أن المكان الذي يستوعب هذا العمل هو قاع البحر حول صرح سيدنا سليمان. و نعلم جيدا أن قاع الكثير من البحار مازال غامضا و مجهولا. و مازال يحمل من الأسرار الكثير. و قاع البحر يتسع فعلا لمثل هذه الأعمال الضخمة مع علمنا أنها كانت محاريب و تماثيل بصيغة الجمع لتبيان كثر عددها. كذلك فمثل هذه الأعمال تكون زينة و ضرورة حول صرح مشيد في الماء و لا داعي لها و تعد إلهاء لو كان الصرح على اليابسة
تسخير الرياح :
سخر المولى عز و جل الريح تأتمر بأمر سيدنا سليمان و في قولة تعالى (وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) [سورة الأنبياء : الآية -81]
كلمة "تجري" جاءت في القرءان الكريم في مواضع عدة ترتبط بجريان المياه أو الأنهار أو الفلك التي تجري في البحر أما الريح فنعلم أنها يمكن أن تهب أو تعصف و لكن الريح لا تجري. و هذا يعني أن بعض تنقلات سيدنا سليمان مابين صرحه و الأرض المباركة كان عن طريق سفينة شراعية, يركبها و يأمر الريح العاصفة بأن تدفع سفينته لتجري بأمان و بسرعة كبيرة إلى الوجهة التي يريدها.
يعتقد البعض أن سيدنا سليمان كان يركب ما يشبه المنصة الطائرة و كان يأمر الريح لنقله حيث أراد و لكننا نعلم أن بعض تنقلاته كانت برا و نستدل على ذلك عندما مر بوادي النمل , و نرى المنطق هنا مرة أخرى يقودنا لشيء هام و هو أنه كان لسليمان وسيلتين للتنقل الأولى بحرية يستخدمها في حال وجود مسالك مائية متاحة له للوصول للمكان الذي يريد , و الوسيلة الثانية و هي البرية و التي كان يستخدمها لعبور اليابسة في الأماكن التي لا يوجد خلالها مسالك مائية.
كان جيش سليمان قوي و منظم و بالرغم من ضخامته فلقد كانت حركة جيوشه محكومة بشكل جيد و بالرغم من أن كان لبعض جنود سليمان قدرات هائلة مثل إحضار عرش ملكة سبأ إلا أن تلك القدرات كانت تستخدم فقط عند الحاجة. و إلا لما أحتاج سليمان و جيشه لأن يتنقلوا برا أو بحريا أو حتى كما يعتقد جويا و لكان أسرع و أضمن أن يعتمد على قدرات بعض أعوانه في تحركاته ..... صعب تخيل ذلك.
انضباط الهدهد :
حددت الآيات نوع الطائر الذي أتى بخبر سبأ, بأنه هدهد و لهذا التحديد أهميته فلطائر الهدهد قدرات محدودة و هي قدرات لا تتعدى قدرات طائر و دليل ذلك تأخره عن مجلس سيدنا سليمان. و تخبرنا الآيات أنه عندما تفقد سيدنا سليمان الطير لم يجد الهدهد و أن سليمان توعد الهدهد بالعقاب بسبب تغيبه و أكدت الآيات أنه هدهد حقيقي و أنه كاد أن يذبح عقابا .
من الأمور الأساسية عند الجنود إتباع النظام, و ينطبق هذا على الهدهد فهو من جنود سليمان. عادة يقوم القائد بتفقد جنوده و يعاقب من يقصر أو يتغيب بدون عذر, و كان الهدهد يدرك ذلك فعندما حضر عند مجلس سليمان بعد تغيبه وقف في مكان ليس قريب و بدأ يبرر تغيبه خوفا من العقاب. و من المنطق أن لو كان مجلس سيدنا سليمان بعيد عن مملكة سبأ مسافة كبيرة , فعلى الهدهد أن يطير مسافرا هذه المسافة و لأدرك منذ البداية أنه كان سوف يتأخر و أي جندي منظم لن يقدم على ذلك بدون إذن مسبق أو أن يخبر من يقوم بدورة أو يعتذر عنه بما هو مقنع , و هذا لم يحدث, فهل كان الهدهد عديم المسئولية إلى هذه الدرجة بأن يسافر بدون إذن....! (من القدس لسبأ مسافة تصل 2000 كم).
كان لسيدنا سليمان جيوش من الأنس و الجن و لم يفطن أحدهم لعبادة سبأ للشمس و لكن طائر الهدهد أستطاع , و لقد وجدت تبريرا لهذا بأنه بسبب قرب مجلس سيدنا سليمان من مملكة سبأ أخفوا عبادتهم خوفا من سيدنا سليمان, فلو كان بعيدا لما أخفوا عبادتهم . كان الهدهد يطير عاليا و من فوق رأى ما لم يراه غيره , فلم يتردد في السعي للتحقق بنفسه حتى لا يكون خبر ظني بل خبر يقين, و أخبر سيدنا سليمان عنهم و تعجب كيف أنهم لا يسجدون لله الذي يعلم ما يخفي الناس و ما يعلنون .
قال تعالى " أَلاّ يَسْجُدُواْ للّهِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [25]-النمل.
لقد ظهر الخبء و أتى الهدهد بخبر يقين , الأرجح أن الذي حدث هو أن الهدهد و الذي له نظر حاد , كان يطير عاليا ضمن جنود سليمان في مرورهم برا بالقرب من مملكة سبأ حيث مروا بوادي النمل و كانت مملكة سبأ لا تبعد كثير عنهم و في مجال نظر الهدهد و سرعة طيران الهدهد بحيث لا يتأخر سوى سويعات عن موكب جنود سيدنا سليمان , و أن مملكة سبأ لفتت نظر الهدهد فطار إليه يستبينه و هناك بقي بعض الوقت حيث أحاط و أدرك عبادة القوم للشمس و كان هذا سبب تأخره عن الجنود.
الدخول يعني قرب المكان :
تأكيدا لفكرة أن صرح سليمان كان أقرب لمملكة سبأ أن الهدهد أستطاع حمل رسالة لمملكة سبأ و لو كانت المسافة كبيرة لكان عليه مشقة و لأختار سليمان من الجنود من يرافق الهدهد لحمل الرسالة. كذلك لو وضعنا أنفسنا مكان أهل سبأ و جاءتنا رسالة من هدهد ( أكيد رماها عليهم ) فكيف لهم أن يعرفوا من هو صاحب الرسالة و أين هو, لقد ذكرت الرسالة أنها من سليمان و دليل أنهم عرفوه أنهم أرسلوا له رسلهم .هذا يؤكد أن سليمان و جنوده كانوا بالقرب من مملكة سبأ . و هذا ما أخاف ملكتهم حيث قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها (نلاحظ اللفظ "دخلوا") , ذلك أن لو كان هناك مسافة كبيرة ربما خطر في بالها أمور عده: مثل أن من هو سليمان و ما مقدار قوته و هل يعقل أن تطاوع مباشرة لمجرد تسلمها لرسالة مع أن ملكها كان عظيم و أن من حولها كانوا أولوا قوة و بأس شديد . ثم لماذا لم تفكر في التحصين و الاستعداد أو ربما الاستعانة بالأحلاف و لكن على ما يبدوا أنها رأت أن سليمان و جنوده (الكثير عددهم) كانوا قريبين كفاية و لم يبقى لهم إن أرادوا أن يدخلوا المملكة إلا مسافة صغيرة , فحاولت إرضاء سليمان بالهدايا و لما رفض رأت أن تذهب هي إليه أسلم لمملكتها من أن يدخل هو و جنوده عليهم. فلقد عرفت أن الملوك إن دخلوا بلدة يجعلوهم أعزة أهلها أذله, و أن تذهب هي لمقابلة سيدنا سليمان يؤكد قرب المسافة و أنها لن تعاني من مشقة السفر الطويل.
"فلما رآه مستقرا " :
قال تعالى " فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ {36} ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ {37} قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {40} قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ {41} فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ {42} وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ {43} قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} - النمل.
" لما " هي ظرف زمان شرطية تأتي محل " حين" و لاحظت أنها تكررت في مواضع عدة كما هو واضح في الآيات السابقة , وردت الجملة " فلما رآه مستقرا" و لم ترد " فرآه مستقرا". ورود التعبير الأول يجعل ترجيح أن إحضار العرش استغرق وقت أطول من طرفة عين كما يعتقد البعض و هناك أقوال في تقدير هذا الوقت في قوله تعالى: "قبل أن يرتد إليك طرفك"، قال سعيد بن جبير: يعني: من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك. قال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر. وقال مجاهد: يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً. وقال وهب: تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه، حتى أمثله بين يديك، قال بعضهم: معناه: أنا آتيك به قبل أن يصل إليك من كان منك على مدّ البصر قال آخرون: بل معنى ذلك: من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته. الطبري ...
سرعة من كان لديه علم فاقت سرعة عفريت من الجن, و إدراك هذا مهم فبدون العلم يصبح السهل صعبا و الممكن مستحيلا, لذا كان دوما يحثنا ديننا على العلم و التعلم و أن نفيد و نستفيد من علمنا و أن نستعيذ من كل علم لا ينفع. و ليس العلم مقتصرا فقط بحفظ دعاء كما أعتقد البعض و أنه من خلال هذا الدعاء تلبى الرغبات, فالعلم مبني على أسس و قواعد و العلم يعلم, صحيح أن الدعاء لا غنى عنه و لكنه يجب أن يكون دعاء بالتوفيق في العمل و دعاء توكل لا تواكل.
طلب إحضار العرش قبل أن تصل ملكة سبأ و من برفقتها يرجح منطقية أن المسافة بين مجلس سليمان و العرش ليست كبيرة , فلو كانت المسافة كبيرة لكان تطلب حضور ملكة سبأ وقت طويل و هناك متسع من الوقت لأن يحضر جنود سليمان العرش خلاله. و لكن أن تترك ملكة سبأ العرش خلفها و عندما تحضر عند مجلس سليمان تجد العرش أمامها بالرغم من قربها و سرعة حضورها , ففي ذلك رسالة تؤكد قدرة و قوة سيدنا سليمان. و أيضا قرب مملكة سبأ من المجلس و من موقع الصرح.
نكروا لها عرشها:
عندما رأى سيدنا سليمان عرش مملكة سبأ مستقر عنده حمد الله على ذلك, و كلمة "مستقر" هي عكس مضطرب فلقد وصل العرش على هيئته و كان سهلا على ملكة سبأ و من يرافقها التعرف على العرش لو لمسته و اقتربت منه كفاية, لكن سيدنا سليمان بحكمته أراد أمرا , فلقد طلب من أتباعه أن ينكروا العرش, و النكرة عكس المعرفة. و لا يكون تنكيره بتشويهه بل على الأرجح أنه وضع في وسط مائي حيث تنكسر رؤية الأجسام و لم يغير فيه شيء و إلا لأظهرت الآيات هذا أو لأنكرته ملكة سبأ, و لكن سألها من قابلها بأنه أهكذا عرشك. لم يشأ سيدنا سليمان أن يخبرها من قابلها مباشرة بأن ما تراه بعينها هو عرشها بل أرادها أن تستنبط هذا لوحدها و خصوصا عندما ترى لاحقا الصرح فتجد عرشها الذي كان فعلا عرش عظيم و لكنه لا يكاد يذكر إن قورن بصرح سليمان . و لفته أخرى أن في إحضار العرش تعدي على الخصوصية و لقد وجب تبيانه بأنه ليس تعدي عدواني و لكنه تعدي دعوي.
أرجح أن العرش أستقر في وسط مائي . و عندما حضرت ملكة سبأ الى مجلس الحكم بالقرب من الصرح سؤلت عن العرش و كان صعب عليها لمسه فهي تراه من بعيد من خلال الماء , لذا تطلب الأمر منها حنكة في الرد و هذا يفسر لماذا لم ترد يقينا بأنه هو مع أنها أحست بأنه هو و ليس شبيه له.و لم تستطع أن تنكره و بكل تأكيد كان أمرا صعب عليها و خصوصا لو رأت عرشها العظيم و قد نزعت عنه الهيبة, فلقد تركته عظيما خلفها فما بال مملكتها كلها و بكل تأكيد كان موقفها لا تحسد عليه.
حسبته لجة :
كذلك عندما طلب من ملكة سبأ أن تدخل الصرح , يبدو أنها لم ترى "صرح" و ما رأته حسبته "لجة" فكشفت عن ساقيها كي لا يتبلل ثوبها و ظنت أنها سوف تدخل في ماء . عندها أكد من كان في استقبالها أن ما تراه هو "صرح ممرد من القوارير" و نلتمس من هذا الموقف أن الصرح بالرغم من أنه كان بناء عالي كالمارد إلا أنه لم يكن ظاهرا بهذا الهيئة من اليابسة و لم تكن الملكة في حاجة لمن يؤكد لها أن ما تراه هو صرح ممرد من قوارير لو رأته كذلك. و لدخول الصرح كان لابد للملكة من أن تمر على مدخل أسفله ماء و أن هذا المدخل كان شفاف (لأنه من الزجاج), و أنها عندما طُلب منها الدخول للصرح عبر المدخل حسبته ماء فشمرت عن ساقها لكن من كان يستقبلها أكد لها أن هذا ليس ماء بل هو الصرح مبني من قوارير زجاج و ينتصب هذا الصرح و كأنه ماردا في البحر حيث أن أرضية الصرح موجودة في قاع البحر اللجي و مدخله في القمة و هو الجزء الظاهر على السطح. و كانت هذه الآية الثانية فلم تكن كملكة في مكانتها و عظم عرشها أن تنبهر أو تتعجب من رؤية المجوهرات أو التحف أو خلافة مما أعتاد الملوك أن يزينوا به قصورهم و لكن كان انبهارها أن صرح سليمان كان بهذه العظمة و الإبداع و أن يكون مشيد في الماء. فهذا يفوق قدرات البشر ..! لذلك أقرت بأن سيدنا سليمان ليس ملك عادي و أن لابد أن من وهبه هذا الملك هو الإله الحق, فأسلمت لله رب العالمين
وفاة سيدنا سليمان في معزل عن البشر :
نأتي لحدث وفاة سيدنا سليمان و الذي كان فيها عبرة للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب لما مكثوا في العذاب المهين , نرى أنه لم يكتشف وفاة سليمان إلا بعد فترة طويلة من موته و بقى في الصرح تلك الفترة و لم يعلم الجن بموته , و في هذا دلالة أن سليمان كان معتاد على التأمل و التفكر على نفس الهيئة و في نفس الوضع الذي مات عليه و لم يكن لهذه الوضعية شيء جديد على الجن و لقد أعتاد الأنس على تغيب سيدنا سليمان عنهم فلم يتساءل أي من الأنس عن غيابه و إلا لوصل ذلك التساؤل إلى الجن.
حقيقة أخرى أنه بعد موته لم يدخل عليه أي بشري و نعلم أن أي بشري و خصوصا من المقربون يستطيع أن يتعرف على موت سليمان, فأين كان هؤلاء البشر....! كان عدد جنود سليمان كثير و أكيد عدد القادة كذلك, و لو أسر سليمان لأحد المقربين من البشر بأنه سوف يموت و أن لا يخبروا الجن , فلابد أن يخبر هذا الشخص الآخرين حتى لا يدخلوا على سليمان أو يسألوا عنه أو على الأقل يكون هناك سبب مقنع للعامة و الخاصة يبرر غيابة و يعتبر في هذا كذب و من غير المعقول أن يكون نهاية وموت نبي و ملك عظيم بكذبه.
و عندما خصت الآيات الجن بأنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما مكثوا في العذاب المهين يدل أنه عندما مات لم يكن حوله أي بشري و كذلك لم يدخل عليه أي بشري كل هذه المدة.
كان من جند سليمان الطير و منهم الهدهد و لو كان سيدنا سليمان على جزيرة لاستطاعة رؤيته و معرفة موته و لذاع الخبر أو على الأقل تشككت فتحركت بريبه ملفته للإنتباه.
الأرجح أن سيدنا سليمان توفى في صرحه تحت الماء في معزل عن البشر و الطير و كان في اعتكاف و عبادة و تأمل و كان الجن يعمل حول صرحه ما اعتادوا علية من عمل و لم يشكوا في موته إلى أن أكلت دابة الأرض منسأته. و تخصيص الدابة بأنها دابة الأرض لتميزها عن محيطها فلقد أتت من اليابسة برفقه سيدنا سليمان و كذلك عصاه و طعامه و أشياء كثيرة مما كانت حوله داخل صرحه و كأن الآيات توضح لنا أن ما كشف موته هو دابة ليست من البحر بل أُحضرت من الأرض لداخل الصرح, أما الجن و ما يعملون فكانوا في البحر حول صرحه من الخارج.
ليست عصا و لكنها منسأة , و لم يرقد و لكنه خر :
وجدت في فقه اللغة للثعلبي عن العصا " فإذا استَظْهَر بها المَرِيضُ والضَّعِيفُ ، فَهِيَ المِنْسَأَةُ " و هذا يفيد ان سيدنا سليمان في أيامه الأخيرة كانت ترافقه منسأته , قال تعالى " فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [14] سبأ "
لقد أوضحت الآيات أن دليل موت سليمان هو أن تأكل ( فعل مضارع) الدابة منسأته, فلم تكن لدابة أن تتجرأ و أن تفعل هذا لو كان سيدنا سليمان حي و إلا لعاقبها , و لكن بالرغم من هذا الدليل إلا أن الجن لم يتيقن من موته إلا عندما خر! . فما الذي خر ؟
وجدت في فقه اللغة للثعلبي "في السقُوطِ). ذَرَا نَابُ البَعيرِ - هَوَى النَجْمُ - انقَضَّ الجِدَارُ - خَرَّ السَّقْفُ - طَاحَ الفَصُّ )."
و أما في لسان العرب فورد عن خر الرجال " وخَرَّ الرَّجلُ يَخُرُّ إِذا تَنَعَّمَ. "
بكل تأكيد ليس المقصود بخر أنه التنعم فكلمة خر تعني السقوط و لكنها لا تعني السقوط فقط بل و أيضا التفكك فالذي يسقط و يتفكك يقال عنه أنه خر, و أن يسقط بدن سيدنا سليمان و يتفكك أمام الجن ففي هذا خاتمة مستغربة لملك عظيم و هذا ما جعلني أرجح عدم حدوثه. و الأولى أنه مات راقدا في سلام و دفن محل موته.
يعتقد ناس كثيرة أن المقصود هو أن سيدنا سليمان مات و هو متكأ على العصا , و لم يحرك ساكنا حتى أكلت ( فعل ماضي) الدابة العصا فأنهار و هناك مآخذ كثيرة على هذا الاعتقاد أولها ما دليل هذا ,ثم من المنطق أن يتعبد سيدنا سليمان ليس أمام الجن بل لابد أنه كان يعتكف داخل الصرح في أحد محاريبه. فهو كان في الصرح للتعبد و ليس لمراقبة الجن و إمعان النظر إليهم و يستطيع تكليف من يشاء لفعل هذا. و أيضا عدم تحركه لفترة طويلة كان هو أجدر بأن يكون هو الدليل على موته و لكن الآيات أوضحت أن الدليل هو أكل الدابة للعصا و ورد الفعل مضارع و هذا يفيد أن الدليل إثناء الأكل و ليس كنتيجة عن الأكل في حال لو أتي الفعل ماضيا.
فكرت كيف تكون خاتمة سيدنا سليمان حسب ما ورد في دلائل ألفاظ الآيات فرجحت التالي.
تعودت الجن بأن يختلي سيدنا سليمان في صرحه متعبدا متفكرا, ذلك الصرح الذي بنته له الجن في معزل عن البشر و أمور الحكم , فالصرح كان فقط خاص بسيدنا سليمان و ليس مسجدا للعباد و لم يرث الصرح أحدا من بعد سيدنا سليمان فكانت هذه دعوته , و قد أوضحت الآيات أن الجن صنع له محاريب عده و لا بد أن منها ما كان داخل الصرح , عندما يدخل سيدنا سليمان للمحراب فإنه يغيب عن نظر الجن و لا يتجرأ أحدا للدخول عليه في محرابه فيقطع عليه اعتكافه , كان يمكث وقت طويل هناك متعبدا متفكرا و في آخر أيامه كانت له منسأة ( المنسأة في لغة العرب هي العصاة التي يستخدمها كبير السن أو المريض و هذا يتوافق صحبتها لسيدنا سليمان في ايامة الأخيرة ) يضعها على باب المحراب كما كان يفعل بعض أصحاب المحلات عندما تحين الصلاة فلا يغلق الباب بل يضع عليه عصا كإشارة بعدم الدخول. و عندما حان القضاء دخل سيدنا سليمان المحراب على عادته تاركا منسأته على المدخل و رقد هناك في سلام و مات على هيئته , و لم يتجرأ أحد الدخول عليه , لقد كان موته غيبا و لكن دابة الأرض تجرأت و بدأت تأكل ( فعل مضارع ) منسأته , الدليل على موت سيدنا سليمان كان في استمرار أكل الدابة للمنسأه , فلقد ورد الفعل مضارع و ليس ماضي . لقد استمرت الدابة في أكل المنسأة و مع ذلك لم يخرج عليها سيدنا سليمان و كان هذا دليلا بأنه حل به شيء ما , بأن يمكث هناك فتره طويلة و أن تأكل الدابة منسأته , ما حل بسيدنا سليمان كان غيبي عن الجن و كان واضحا أنه مات و لكن الجن لم تتجرأ أن تفكر في هذا و كان ما حدث يؤكد عدم معرفة الجن بالغيب . مكثت الجن في عملها و لم تتبين أن سيدنا سليمان مات إلا عندما خر الصرح بالكامل و لم يخرج سيدنا سليمان فتأكدت من موته و أنها لم تكن تعلم الغيب. نرى في الآيات كلمة " فلما خر " و هذا يعني أنه لم يخر فجأه بل كان هناك وقت استمرار أكل الدابة للمنسأه و بين ما خر , فلو كان الإعتقاد السائد صحيح لكان التعبير أتي بما يفيد السرعة كأن يكون " أكل الدابه المنسأه فخر " .
بقايا الصرح و ما صنع الجن حول الصرح على ما ارجح لابد مازالت موجودة هناك في قاع البحر و العثور على تلك الدلائل ممكن جدا مع تطور تقنيات البحث , و كرامة لبدن سيدنا سليمان سيظل مدفونا هناك في سلام . و لكن تفاصيل الصرح و موت سيدنا سليمان لابد أن تدرك و أنها قد تكون ليس كما تناقله البشر غبر قرون , و التفصيل الصحيح لابد أنه المفصل في القرآن الكريم و الذي هو من عند الله علام الغيوب.
مكان صرح سيدنا سليمان:
مما سبق أجد روابط بين صرح سيدنا سليمان و البحر و ترجيح قربه من مملكة سبأ و جازان و أثيوبيا و بذلك يكون من الأرجح أن صرح سيدنا سليمان بإذن الله هو موجود في قاع البحر الأحمر ما بين السواحل اليمنية و الأثيوبية, أو قد يكون في قاع المحيط ايضا قريبا مما سبق, و قد تكون بعض الجزر الموجودة في المنطقة قد تكونت بسبب ترسيب على بقايا ما كان يصنع الجن و أطالب المستكشفين من التحقق من هذا بما ليدهم من قدرات و أدوات و إمكانيات.
وآمل أن يكون ما تقدمت به في هذا البحث الملخص صحيح و أن يعثر على آثار صرح سيدنا سليمان و ما أحاطه من تماثيل و جفان و قدر راسيات و أن يكون ذلك نصره للأقصى الأسير الذي يكاد ينهار إثر استمرار أعمال الحفر أسفله و حوله بحثا على بقايا ملك سيدنا سليمان.
إن كان ما وجدته صحيح فهو توفيق من المولى عز وجل و إن كان غير ذلك فمن نفسي و لا حول و لا قوة إلا بالله.
مقدمة :
توارثنا أن صرح سليمان كان في القدس و على الأغلب مصدر هذه المعلومة هو اعتقاد اليهود بأن ملك سيدنا سليمان كان هناك و كذلك الهيكل المزعوم و بالرغم من المجهود المبذول لإثبات هذا إلا أنه لم يتم العثور على أي دليل مادي يؤكده, في المقابل وجدت أن ما ورد في القرآن الكريم من خبر سيدنا سليمان مع مملكة سبأ يرجح أن الصرح كان مقام في البحر و مدلولات ما وصلت إليه لخصته خلال هذا البحث.
الصرح ليس هو الأقصى و لا الهيكل. الأقصى هو مسجد للناس جميعا يتعبدون فيه و أما الصرح فهو مكان خاص كان فقط لسيدنا سليمان و دليل ذلك أنه كان وحيدا هناك حين مات. و أما الهيكل فله تفاصيل مزعومة عند أهل الكتاب و لا تتوافق مع وصف القرآن للصرح , فالهيكل مبني من حجارة و الصرح ممرد من قوارير.
المسجد الأقصى هو محل الإسراء و المعراج , و المسجد الأقصى كان و مازال و سيبقى مسجد قصي و خاص فقط بدين التوحيد. و الذي أتى به كل الرسل و الذي ختم بالإسلام. للأقصى قداسته حيث أنه ثاني بيت وضع للناس و أنه قبلة لأهل الكتاب و لكن ليس لقداسته علاقة بصرح سيدنا سليمان , و لا يوجد أي رابط بين صرح سليمان و الأقصى سوى أوهام و تحريفات و إدعاءات ستنجلي بانجلاء الحقيقة.
الإدعاء بالهيكل المزعوم هو إدعاء يهودي أصلا و تفصيلا , حيث أنهم يعتقدون أن الأقصى قد شيد محل هيكل سليمان , و مع أن المكتشفات الأثرية لم تثبت أي شيء بهذا الخصوص حتى الآن إلا أن أعمال الحفر مستمرة هناك مما يضر بسلامة الأقصى .
لقد أنعم المولى عز و جل علينا بأن حفظ لنا القرءان الكريم كما أُنزل . و من واجبنا البحث و التدقيق لإظهار صور الأعجاز العلمي و الغيبي في الآيات و مع التدقيق نستطيع تصحيح ما أختلف فيه من روايات و قصص الأولين المنقولة عن أهل الكتاب. التدقيق في الآيات يقودنا للوصول لحقائق منطقية يمكن إثباتها من خلال بحوث علمية و أثرية و في ذلك رد " بأن القصص في القرءان ليست أساطير الأولين" كما يدعي كل من لا يعرف الإسلام. و تثبت للمسلمين بأن ما لديهم هو الحق, و دعوة إلى الغير مما يدعون أن ديننا لا يرتكز على أسس علمية و منطقية بأن نثبت لهم و بالدليل المادي على أن القرءان هو من عند الله علام الغيوب .
قال تعالى: (وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [5] قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً [6] ) [سورة: الفرقان]
و قال تعالى: (لَقَدْ وُعِدْنَا هَـَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ [68] قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [69] ) [سورة: النمل]
"خلاصة ما وصلت إليه هو أن صرح سيدنا سليمان كان مشيد في البحر بالقرب من اليمن و ليس في القدس و لقد كان صرح ضخم و عالي تم تشيده بواسطة عمال بناء و غوص مهره من الجن و الشياطين و كانت مواد البناء متناسبة مع البيئة بأنها من قوارير الزجاج . و أنه بلغ في ضخامته و علوه أن كانت قاعدته و أرضيته مثبته و مستقرة على قاع البحر و قمته و مدخله يعلو سطح البحر و كأنه يشبه القارورة حيث يتسع من اسفل و يضيق من أعلى. و ان الصرح ظل مشيدا فترة طويلة بعد موت سيدنا سليمان ثم خر و اصبح أطلالا تحت الماء و يمكن العثور على بقاياه و بقايا ما كان يصنع الجن في قاع البحر حول الصرح من محاريب و تماثيل و قدر راسيات و غيرها "
ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا :
أخبرتنا الآيات بأن سليمان لم يكفر و أن الشياطين هي التي كفرت و أن الشياطين تتلو أخبار غير صحيحة عن ملك سليمان و أن هناك من اتبع ما تتلو الشياطين. وفي هذا يعني أن العديد من المتداول بين الناس ليس بالضرورة أن يكون صحيحا بل بعضها ما هو إلا مفتريات شياطين الأنس و الجن لتحقيق أهداف معينة.
من قصص الفلكلور :
قد يكون في قصة المارد و القمقم و خاتم سليمان مثال على نسج خيال الراوي و لكن الملاحظ وجود رابط بين سيدنا سليمان و البحر, فلقد حكت القصص بأن سيدنا سليمان كان يحبس مارد الجن داخل قمقم ثم يرميه في قاع البحر, و أما خاتم سيدنا سليمان فيستخرجه صياد من بطن سمكة.
ليس بالضرورة أن يعني هذا الرابط شيء و لكنه على أي حال يطرح بعض التساؤلات,و منها مثلا لماذا يحبس ماردا في القمقم في قاع البحر...! و كيف وصل خاتم سليمان لبطن سمكة....! كان لسيدنا سليمان سلطة على الشياطين و الجن و يستطيع أن يعاقب و يحبس من يشاء كيف شاء و أن صح أن صرحه كان مبني من قوارير و كان ذلك الصرح مشيد في الماء فيكون بحبس ماردا في قمقم متوافق مع طبيعة و مكان الصرح . و لو علمنا أن ملك مات في البحر و أن من رموز ملكه الخاتم فيكون بلع سمكة لخاتم سليمان قريب للأذهان.
الموقع الجغرافي :
ارتبط خبر إسلام مملكة سبأ بسيدنا سليمان و يخبرنا المؤرخون بأن بعض قبائل الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة العربية و السواحل الغربية لإفريقيا اتخذوا من اليهودية دينا و لهم معتقدات متوارثة بأنهم من أحفاد سليمان و الواضح القرب الجغرافي و الذي يدل أيضا على وجود رابط تاريخي.
مملكة سبأ :
كانت سبأ مملكة من الممالك القديمة القوية و بعد اضمحلال سبأ تفرق أهلها و سكن بعضهم بلاد الشام و أطلق بعضهم على قراهم الجديد نفس أسم المناطق التي قدموا منها و يعرف هذا بالتيمن. و لقد ورد خبر سبأ في القرآن الكريم و ما حل بهم من تفرق و تشتت أصابهم بعد سيل العرم, و بالرغم من عدم كشف كل تفاصيل مملكة سبأ بعد إلا أن موقعها لا خلاف عليه بأنه كان في بلاد اليمن .
جازان (حيزان ):
منطقة تقع شمال اليمن و جنوب غرب السعودية العربية , و هي منطقة ساحلية تطل على البحر الأحمر و يقابلها عدد كبير من الجزر , و لأهل جازان معتقدات و قصص قديمة تعود لفترة حكم سيدنا سليمان . و يعتقد بعض أهالي جازان بأن منطقتهم كانت مقر لسيدنا سليمان حيث كان يجازي الجن لذا أشتق أسمها من "جازى الجن".
و تعد جازان قريبة من مملكة سبأ و بها عدد كبير من الجبال الشاهقة يفصلها وديان سحيقة. و الجدير بالملاحظة أن تقارب الجبال و كثرة عددها بتوافق مع ذكر الآيات للجبال ( بصيغة الجمع ) و التي كانت تسبح مع سيدنا داود , قال تعالى {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ }ص18 , في المقابل لا يوجد في القدس جبال بمفهوم الجمع كالتي في جازان.
أثيوبيا و اليهودية :
يسكن أثيوبيا قبائل يهودية (كيهود الفلاشة) لها معتقدات تمتد لأزمنة بعيدة و يعتقدون بأنهم أحفاد ملكة سبأ و ليس مستبعدا لجوء بعض أهل سبأ لبلاد شرق إفريقيا بعد إنهيار مملكتهم و تشتتهم و من هؤلاء بعض بني إسرائيل أو من جاورهم .
الرومان و دورهم في تغيير التاريخ :
هيمنت الإمبراطورية الرومانية على مناطق شاسعة من مركز الحضارات القديم و كانت الإمبراطورية تدين بالديانات الوثنية قبل أن يدين بعض ملوكها بالمسيحية, و كان للرومان دور كبير في اضطهاد أهل الكتاب و تدمير معابدهم و مصادرة و حرق كتبهم. حيث وصفوا سواهم من البشر بأنهم برابرة بدائيون, و تعاملوا معهم بتكبر و كان للرومان الدور الأساسي في طمس و تشويه سمعة العديد من حضارات العالم القديم, إلى أن استطاع علماء الآثار العثور على مكتشفات هامة و فك بعض رموز النقوش القديمة. تؤكد أن التاريخ لم يكن تماما كما تم تدوينه بواسطة أصحاب المصالح. بالتالي كان أولى إعادة النظر في الكثير من المعتقدات المتوارثة و التي كتبت حسب أهواء كاتبها.
والجدير بالذكر أن الأثريون مازالوا يبحثون في القدس على دليل مادي يثبت المتوارث إلا أنهم لم يجدوا في فلسطين كلها شيء أثري يرجع لمملكة سليمان, و مزيد من البحث سيكشف حقائق التاريخ المزيف و أن الكثير مما هو متوارث ما هو إلا تحريفات كان للرومان و بعض أهل الكتاب دور كبير بها.
تفرد ملك البحر لسيدنا سليمان ( ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) :
استعان بعض البشر بالجن و سخروهم و خدموهم و ما زاد بعضهم بعضا إلا رهقا و أما سلطة سيدنا سليمان على الجن و الشياطين لم تكن لأحد قبله و لا بعده. و كان لبعض الملوك الذين أتوا بعد سليمان ملك عظيم و كانت سلطتهم و نفوذهم على سطح الأرض و لم نعلم أو نسمع عن أحد ملك البحار أو عن مملكة في البحر.
أرجح أن ما تفرد به سيدنا سليمان عن جميع ملوك العالم بعد أن دعا المولى عز و جل أن يهبه ملك لا ينبغي لأحد من بعده. فلقد ملك سيدنا سليمان البر و البحر. كان هذا الملك فقط لسيدنا سليمان و لم يكن لأحد قبلة و لم و لن يكون لأحد بعده.
صرح سيدنا سليمان :
كان لسيدنا سليمان موقف مع الصافنات الجياد حيث شغلته لوقت ما عن ذكر الله . و عندما أستدرك الأمر أسرع فدعا الله أن يغفر له و أن يهبه ملك لا ينبغي لأحد من بعده. يتكرر هذا الموقف مع كثير من الصالحين بأنهم عندما ينتبهون لتقصير أتى منهم في عبادتهم فإنهم يتوجهون للمولى عز و جل بالدعاء طلبا للعفو و المغفرة و لا يكتفون بذلك بل يجتهدوا في العبادة و العمل الصالح رغبة في إرضاء المولى عز و جل.
وهذا ما حدث مع سيدنا سليمان فأراد إرضاء الله بأن يهبه ملك يعينه على التعبد و العمل الصالح , و لكن بالرغم من أن الملك يمنحه فرصة عظيمة لإرضاء الله بالعمل الصالح إلا أن في أمور الملك الكثير مما يكفي ليشغله عن العبادة . لذلك فمن المنطق أن يخصص وقت تفرغ للعبادة ينعزل فيه عن الناس و كل ما يلهي حتى لا يتكرر معه ما حدث مع الصافنات الجياد, و عادة يختار الصالحون مكان يصلح للاعتكاف و التعبد , و في الماضي كان بعض الصالحين يعتكفون في معابد أو كهوف تكون في أعلى الجبال بعيدة عن البشر.
لقد كان لسيدنا سليمان ملك عظيم و يستطيع أن يختار المكان الذي يناسبه للتعبد و أن يشيد أروع المعابد و القصور أينما أراد و بالعدد الذي يحتاج حتى يكون موزع على أتساع مملكته. و أرجح أن أنسب مكان يستطيع سيدنا سليمان أن ينعزل فيه عن البشر هو البعد عن البر بالكامل و أن يشيد له قصر في البحر حيث لا يوجد من أمور الملك ما يشغله , كذلك لكي لا تنشغل مملكته في أمور بناء قصره أو الإعجاب بروعته و جماله عن أمور دينها و دنياها. و يرجح صحة تلك الفرضية أن من قام ببناء قصره هم الشياطين و الجن و نرى الآيات تخبرنا بأنه حشر له جنود من الإنس و الجن, أما في أمور بناء قصره و تزينه وغيره فلم يكن ذلك من عمل الإنس بل اختصت به الشياطين و الجن. و للبناء ضروريات كانت لابد و أن تشغل و تعيق حياة البشر و ربما سببت في بعض الأذى إن كان ذلك البناء قريب منهم و خصوصا أن من يقوم بالبناء هم من الجن و الشياطين.
الغوص و البناء الزجاجي :
لقد أخبرتنا الآيات أن الجن و الشياطين قد سُخروا لخدمة سليمان و ذكرت الآيات أن كل بناء و غواص و اقتران البناء مع الغوص لوصف عمل الجن و الشياطين فيه دلالة أنهم كانوا يبنون له شيء في قاع البحر. يتطلب البناء في البحر عمال مهرة في البناء و الغوص, و لقد كان صرح سيدنا سليمان ممرد من قوارير (زجاج) و لقد أُسيل لسيدنا سليمان عين القطر (النحاس). و أن تكون مواد البناء المستخدمة هي الزجاج و تملأ الفواصل بعنصر إنشائي قوي مطيع مثل النحاس. بالرغم من عدم معرفتنا بقدرات الجن جيدا إلا أننا توارثنا خبر سكناهم في قيعان البحار , و نعلم أنهم من نار و بذلك يكون منطقي قدرتهم على بناء صرح من زجاج و ملأ الفواصل بالنحاس المنصهر السائل .
يسمح الزجاج بالرؤية و هذه الحاجة المعمارية تكون منطقية للمباني تحت الماء أما على اليابسة فمستغربة بل ليست منطقية. أن يكون قصر مشيد من قوارير الزجاج تحت الماء مقبول هندسيا, أما أن يكون الصرح العالي الضخم المبني من زجاج مقام على اليابسة فكم ترى كانت تبلغ درجة الحرارة داخله بفعل الاحتباس الحراري و خصوصا في أيام الصيف.
أن يكون مبني مستقر في البحر فتكون أرضيته على القاع و يرتفع المبنى إلى الأعلى حتى السطح حيث أن الجزء العلوي هو المدخل وتتم عبره التهوية و هذا يبرر أن يكون الصرح ممرد فلعلو البنيان وظيفة, أما على اليابسة فالعلو في البنيان أستخدم في السابق للمراقبة أو الإنارة و كانت تبنى هذه المباني من الحجارة الضخمة و هذا لا ينطبق على صرح سيدنا سليمان.
عادة تحاط القصور بالمساحات الخضراء و لكن لو كان صرحا في قاع البحر فيكون أولى إحاطته بتماثيل و منحوتات , و صرح مصنوع من زجاج شفاف يحتاج لمحاريب (غرف) للعبادة و للنوم و خلافة. و صرح بعيد عن البشر يحتاج لقدور كبيرة لخزن الغذاء و الماء و خلافه.
أين ذهب ما كان يصنع الجن ؟
كان من جنود سيدنا سليمان إنس و جن يتمتعون بقوة و علم نافذ وكانت أعمالهم خارقة و إن قارنا تلك القدرات مع إنجازاتهم فلابد و أن تكون ضخمة و عظيمة و بأن منهم من كان يعمل محاريب و تماثيل و قدر راسيات – قد تكون راسية في قاع البحر – و لنتخيل ضخامة حجم وكثرة عددهم مع التذكر بأن العمل ظل مستمر حتى بعد موت سيدنا سليمان, نتساءل أين يمكن على اليابسة أن يوجد مكان يستوعب هذا العمل و أين هو هذا العمل مقارنة بالآثار المعروفة حاليا كالأهرامات , فهل اختفى كل هذا العمل بموت سيدنا سليمان بالرغم من ضخامته و كثرة عدده ....! ولماذا لم يحتفظ من جاء بعد سيدنا سليمان بجزء من هذه الأعمال..! أرجح أن المكان الذي يستوعب هذا العمل هو قاع البحر حول صرح سيدنا سليمان. و نعلم جيدا أن قاع الكثير من البحار مازال غامضا و مجهولا. و مازال يحمل من الأسرار الكثير. و قاع البحر يتسع فعلا لمثل هذه الأعمال الضخمة مع علمنا أنها كانت محاريب و تماثيل بصيغة الجمع لتبيان كثر عددها. كذلك فمثل هذه الأعمال تكون زينة و ضرورة حول صرح مشيد في الماء و لا داعي لها و تعد إلهاء لو كان الصرح على اليابسة
تسخير الرياح :
سخر المولى عز و جل الريح تأتمر بأمر سيدنا سليمان و في قولة تعالى (وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) [سورة الأنبياء : الآية -81]
كلمة "تجري" جاءت في القرءان الكريم في مواضع عدة ترتبط بجريان المياه أو الأنهار أو الفلك التي تجري في البحر أما الريح فنعلم أنها يمكن أن تهب أو تعصف و لكن الريح لا تجري. و هذا يعني أن بعض تنقلات سيدنا سليمان مابين صرحه و الأرض المباركة كان عن طريق سفينة شراعية, يركبها و يأمر الريح العاصفة بأن تدفع سفينته لتجري بأمان و بسرعة كبيرة إلى الوجهة التي يريدها.
يعتقد البعض أن سيدنا سليمان كان يركب ما يشبه المنصة الطائرة و كان يأمر الريح لنقله حيث أراد و لكننا نعلم أن بعض تنقلاته كانت برا و نستدل على ذلك عندما مر بوادي النمل , و نرى المنطق هنا مرة أخرى يقودنا لشيء هام و هو أنه كان لسليمان وسيلتين للتنقل الأولى بحرية يستخدمها في حال وجود مسالك مائية متاحة له للوصول للمكان الذي يريد , و الوسيلة الثانية و هي البرية و التي كان يستخدمها لعبور اليابسة في الأماكن التي لا يوجد خلالها مسالك مائية.
كان جيش سليمان قوي و منظم و بالرغم من ضخامته فلقد كانت حركة جيوشه محكومة بشكل جيد و بالرغم من أن كان لبعض جنود سليمان قدرات هائلة مثل إحضار عرش ملكة سبأ إلا أن تلك القدرات كانت تستخدم فقط عند الحاجة. و إلا لما أحتاج سليمان و جيشه لأن يتنقلوا برا أو بحريا أو حتى كما يعتقد جويا و لكان أسرع و أضمن أن يعتمد على قدرات بعض أعوانه في تحركاته ..... صعب تخيل ذلك.
انضباط الهدهد :
حددت الآيات نوع الطائر الذي أتى بخبر سبأ, بأنه هدهد و لهذا التحديد أهميته فلطائر الهدهد قدرات محدودة و هي قدرات لا تتعدى قدرات طائر و دليل ذلك تأخره عن مجلس سيدنا سليمان. و تخبرنا الآيات أنه عندما تفقد سيدنا سليمان الطير لم يجد الهدهد و أن سليمان توعد الهدهد بالعقاب بسبب تغيبه و أكدت الآيات أنه هدهد حقيقي و أنه كاد أن يذبح عقابا .
من الأمور الأساسية عند الجنود إتباع النظام, و ينطبق هذا على الهدهد فهو من جنود سليمان. عادة يقوم القائد بتفقد جنوده و يعاقب من يقصر أو يتغيب بدون عذر, و كان الهدهد يدرك ذلك فعندما حضر عند مجلس سليمان بعد تغيبه وقف في مكان ليس قريب و بدأ يبرر تغيبه خوفا من العقاب. و من المنطق أن لو كان مجلس سيدنا سليمان بعيد عن مملكة سبأ مسافة كبيرة , فعلى الهدهد أن يطير مسافرا هذه المسافة و لأدرك منذ البداية أنه كان سوف يتأخر و أي جندي منظم لن يقدم على ذلك بدون إذن مسبق أو أن يخبر من يقوم بدورة أو يعتذر عنه بما هو مقنع , و هذا لم يحدث, فهل كان الهدهد عديم المسئولية إلى هذه الدرجة بأن يسافر بدون إذن....! (من القدس لسبأ مسافة تصل 2000 كم).
كان لسيدنا سليمان جيوش من الأنس و الجن و لم يفطن أحدهم لعبادة سبأ للشمس و لكن طائر الهدهد أستطاع , و لقد وجدت تبريرا لهذا بأنه بسبب قرب مجلس سيدنا سليمان من مملكة سبأ أخفوا عبادتهم خوفا من سيدنا سليمان, فلو كان بعيدا لما أخفوا عبادتهم . كان الهدهد يطير عاليا و من فوق رأى ما لم يراه غيره , فلم يتردد في السعي للتحقق بنفسه حتى لا يكون خبر ظني بل خبر يقين, و أخبر سيدنا سليمان عنهم و تعجب كيف أنهم لا يسجدون لله الذي يعلم ما يخفي الناس و ما يعلنون .
قال تعالى " أَلاّ يَسْجُدُواْ للّهِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [25]-النمل.
لقد ظهر الخبء و أتى الهدهد بخبر يقين , الأرجح أن الذي حدث هو أن الهدهد و الذي له نظر حاد , كان يطير عاليا ضمن جنود سليمان في مرورهم برا بالقرب من مملكة سبأ حيث مروا بوادي النمل و كانت مملكة سبأ لا تبعد كثير عنهم و في مجال نظر الهدهد و سرعة طيران الهدهد بحيث لا يتأخر سوى سويعات عن موكب جنود سيدنا سليمان , و أن مملكة سبأ لفتت نظر الهدهد فطار إليه يستبينه و هناك بقي بعض الوقت حيث أحاط و أدرك عبادة القوم للشمس و كان هذا سبب تأخره عن الجنود.
الدخول يعني قرب المكان :
تأكيدا لفكرة أن صرح سليمان كان أقرب لمملكة سبأ أن الهدهد أستطاع حمل رسالة لمملكة سبأ و لو كانت المسافة كبيرة لكان عليه مشقة و لأختار سليمان من الجنود من يرافق الهدهد لحمل الرسالة. كذلك لو وضعنا أنفسنا مكان أهل سبأ و جاءتنا رسالة من هدهد ( أكيد رماها عليهم ) فكيف لهم أن يعرفوا من هو صاحب الرسالة و أين هو, لقد ذكرت الرسالة أنها من سليمان و دليل أنهم عرفوه أنهم أرسلوا له رسلهم .هذا يؤكد أن سليمان و جنوده كانوا بالقرب من مملكة سبأ . و هذا ما أخاف ملكتهم حيث قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها (نلاحظ اللفظ "دخلوا") , ذلك أن لو كان هناك مسافة كبيرة ربما خطر في بالها أمور عده: مثل أن من هو سليمان و ما مقدار قوته و هل يعقل أن تطاوع مباشرة لمجرد تسلمها لرسالة مع أن ملكها كان عظيم و أن من حولها كانوا أولوا قوة و بأس شديد . ثم لماذا لم تفكر في التحصين و الاستعداد أو ربما الاستعانة بالأحلاف و لكن على ما يبدوا أنها رأت أن سليمان و جنوده (الكثير عددهم) كانوا قريبين كفاية و لم يبقى لهم إن أرادوا أن يدخلوا المملكة إلا مسافة صغيرة , فحاولت إرضاء سليمان بالهدايا و لما رفض رأت أن تذهب هي إليه أسلم لمملكتها من أن يدخل هو و جنوده عليهم. فلقد عرفت أن الملوك إن دخلوا بلدة يجعلوهم أعزة أهلها أذله, و أن تذهب هي لمقابلة سيدنا سليمان يؤكد قرب المسافة و أنها لن تعاني من مشقة السفر الطويل.
"فلما رآه مستقرا " :
قال تعالى " فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ {36} ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ {37} قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ {38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ {39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ {40} قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ {41} فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ {42} وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ {43} قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} - النمل.
" لما " هي ظرف زمان شرطية تأتي محل " حين" و لاحظت أنها تكررت في مواضع عدة كما هو واضح في الآيات السابقة , وردت الجملة " فلما رآه مستقرا" و لم ترد " فرآه مستقرا". ورود التعبير الأول يجعل ترجيح أن إحضار العرش استغرق وقت أطول من طرفة عين كما يعتقد البعض و هناك أقوال في تقدير هذا الوقت في قوله تعالى: "قبل أن يرتد إليك طرفك"، قال سعيد بن جبير: يعني: من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى، وهو أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك. قال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر. وقال مجاهد: يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً. وقال وهب: تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه، حتى أمثله بين يديك، قال بعضهم: معناه: أنا آتيك به قبل أن يصل إليك من كان منك على مدّ البصر قال آخرون: بل معنى ذلك: من قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته. الطبري ...
سرعة من كان لديه علم فاقت سرعة عفريت من الجن, و إدراك هذا مهم فبدون العلم يصبح السهل صعبا و الممكن مستحيلا, لذا كان دوما يحثنا ديننا على العلم و التعلم و أن نفيد و نستفيد من علمنا و أن نستعيذ من كل علم لا ينفع. و ليس العلم مقتصرا فقط بحفظ دعاء كما أعتقد البعض و أنه من خلال هذا الدعاء تلبى الرغبات, فالعلم مبني على أسس و قواعد و العلم يعلم, صحيح أن الدعاء لا غنى عنه و لكنه يجب أن يكون دعاء بالتوفيق في العمل و دعاء توكل لا تواكل.
طلب إحضار العرش قبل أن تصل ملكة سبأ و من برفقتها يرجح منطقية أن المسافة بين مجلس سليمان و العرش ليست كبيرة , فلو كانت المسافة كبيرة لكان تطلب حضور ملكة سبأ وقت طويل و هناك متسع من الوقت لأن يحضر جنود سليمان العرش خلاله. و لكن أن تترك ملكة سبأ العرش خلفها و عندما تحضر عند مجلس سليمان تجد العرش أمامها بالرغم من قربها و سرعة حضورها , ففي ذلك رسالة تؤكد قدرة و قوة سيدنا سليمان. و أيضا قرب مملكة سبأ من المجلس و من موقع الصرح.
نكروا لها عرشها:
عندما رأى سيدنا سليمان عرش مملكة سبأ مستقر عنده حمد الله على ذلك, و كلمة "مستقر" هي عكس مضطرب فلقد وصل العرش على هيئته و كان سهلا على ملكة سبأ و من يرافقها التعرف على العرش لو لمسته و اقتربت منه كفاية, لكن سيدنا سليمان بحكمته أراد أمرا , فلقد طلب من أتباعه أن ينكروا العرش, و النكرة عكس المعرفة. و لا يكون تنكيره بتشويهه بل على الأرجح أنه وضع في وسط مائي حيث تنكسر رؤية الأجسام و لم يغير فيه شيء و إلا لأظهرت الآيات هذا أو لأنكرته ملكة سبأ, و لكن سألها من قابلها بأنه أهكذا عرشك. لم يشأ سيدنا سليمان أن يخبرها من قابلها مباشرة بأن ما تراه بعينها هو عرشها بل أرادها أن تستنبط هذا لوحدها و خصوصا عندما ترى لاحقا الصرح فتجد عرشها الذي كان فعلا عرش عظيم و لكنه لا يكاد يذكر إن قورن بصرح سليمان . و لفته أخرى أن في إحضار العرش تعدي على الخصوصية و لقد وجب تبيانه بأنه ليس تعدي عدواني و لكنه تعدي دعوي.
أرجح أن العرش أستقر في وسط مائي . و عندما حضرت ملكة سبأ الى مجلس الحكم بالقرب من الصرح سؤلت عن العرش و كان صعب عليها لمسه فهي تراه من بعيد من خلال الماء , لذا تطلب الأمر منها حنكة في الرد و هذا يفسر لماذا لم ترد يقينا بأنه هو مع أنها أحست بأنه هو و ليس شبيه له.و لم تستطع أن تنكره و بكل تأكيد كان أمرا صعب عليها و خصوصا لو رأت عرشها العظيم و قد نزعت عنه الهيبة, فلقد تركته عظيما خلفها فما بال مملكتها كلها و بكل تأكيد كان موقفها لا تحسد عليه.
حسبته لجة :
كذلك عندما طلب من ملكة سبأ أن تدخل الصرح , يبدو أنها لم ترى "صرح" و ما رأته حسبته "لجة" فكشفت عن ساقيها كي لا يتبلل ثوبها و ظنت أنها سوف تدخل في ماء . عندها أكد من كان في استقبالها أن ما تراه هو "صرح ممرد من القوارير" و نلتمس من هذا الموقف أن الصرح بالرغم من أنه كان بناء عالي كالمارد إلا أنه لم يكن ظاهرا بهذا الهيئة من اليابسة و لم تكن الملكة في حاجة لمن يؤكد لها أن ما تراه هو صرح ممرد من قوارير لو رأته كذلك. و لدخول الصرح كان لابد للملكة من أن تمر على مدخل أسفله ماء و أن هذا المدخل كان شفاف (لأنه من الزجاج), و أنها عندما طُلب منها الدخول للصرح عبر المدخل حسبته ماء فشمرت عن ساقها لكن من كان يستقبلها أكد لها أن هذا ليس ماء بل هو الصرح مبني من قوارير زجاج و ينتصب هذا الصرح و كأنه ماردا في البحر حيث أن أرضية الصرح موجودة في قاع البحر اللجي و مدخله في القمة و هو الجزء الظاهر على السطح. و كانت هذه الآية الثانية فلم تكن كملكة في مكانتها و عظم عرشها أن تنبهر أو تتعجب من رؤية المجوهرات أو التحف أو خلافة مما أعتاد الملوك أن يزينوا به قصورهم و لكن كان انبهارها أن صرح سليمان كان بهذه العظمة و الإبداع و أن يكون مشيد في الماء. فهذا يفوق قدرات البشر ..! لذلك أقرت بأن سيدنا سليمان ليس ملك عادي و أن لابد أن من وهبه هذا الملك هو الإله الحق, فأسلمت لله رب العالمين
وفاة سيدنا سليمان في معزل عن البشر :
نأتي لحدث وفاة سيدنا سليمان و الذي كان فيها عبرة للجن أن لو كانوا يعلمون الغيب لما مكثوا في العذاب المهين , نرى أنه لم يكتشف وفاة سليمان إلا بعد فترة طويلة من موته و بقى في الصرح تلك الفترة و لم يعلم الجن بموته , و في هذا دلالة أن سليمان كان معتاد على التأمل و التفكر على نفس الهيئة و في نفس الوضع الذي مات عليه و لم يكن لهذه الوضعية شيء جديد على الجن و لقد أعتاد الأنس على تغيب سيدنا سليمان عنهم فلم يتساءل أي من الأنس عن غيابه و إلا لوصل ذلك التساؤل إلى الجن.
حقيقة أخرى أنه بعد موته لم يدخل عليه أي بشري و نعلم أن أي بشري و خصوصا من المقربون يستطيع أن يتعرف على موت سليمان, فأين كان هؤلاء البشر....! كان عدد جنود سليمان كثير و أكيد عدد القادة كذلك, و لو أسر سليمان لأحد المقربين من البشر بأنه سوف يموت و أن لا يخبروا الجن , فلابد أن يخبر هذا الشخص الآخرين حتى لا يدخلوا على سليمان أو يسألوا عنه أو على الأقل يكون هناك سبب مقنع للعامة و الخاصة يبرر غيابة و يعتبر في هذا كذب و من غير المعقول أن يكون نهاية وموت نبي و ملك عظيم بكذبه.
و عندما خصت الآيات الجن بأنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما مكثوا في العذاب المهين يدل أنه عندما مات لم يكن حوله أي بشري و كذلك لم يدخل عليه أي بشري كل هذه المدة.
كان من جند سليمان الطير و منهم الهدهد و لو كان سيدنا سليمان على جزيرة لاستطاعة رؤيته و معرفة موته و لذاع الخبر أو على الأقل تشككت فتحركت بريبه ملفته للإنتباه.
الأرجح أن سيدنا سليمان توفى في صرحه تحت الماء في معزل عن البشر و الطير و كان في اعتكاف و عبادة و تأمل و كان الجن يعمل حول صرحه ما اعتادوا علية من عمل و لم يشكوا في موته إلى أن أكلت دابة الأرض منسأته. و تخصيص الدابة بأنها دابة الأرض لتميزها عن محيطها فلقد أتت من اليابسة برفقه سيدنا سليمان و كذلك عصاه و طعامه و أشياء كثيرة مما كانت حوله داخل صرحه و كأن الآيات توضح لنا أن ما كشف موته هو دابة ليست من البحر بل أُحضرت من الأرض لداخل الصرح, أما الجن و ما يعملون فكانوا في البحر حول صرحه من الخارج.
ليست عصا و لكنها منسأة , و لم يرقد و لكنه خر :
وجدت في فقه اللغة للثعلبي عن العصا " فإذا استَظْهَر بها المَرِيضُ والضَّعِيفُ ، فَهِيَ المِنْسَأَةُ " و هذا يفيد ان سيدنا سليمان في أيامه الأخيرة كانت ترافقه منسأته , قال تعالى " فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [14] سبأ "
لقد أوضحت الآيات أن دليل موت سليمان هو أن تأكل ( فعل مضارع) الدابة منسأته, فلم تكن لدابة أن تتجرأ و أن تفعل هذا لو كان سيدنا سليمان حي و إلا لعاقبها , و لكن بالرغم من هذا الدليل إلا أن الجن لم يتيقن من موته إلا عندما خر! . فما الذي خر ؟
وجدت في فقه اللغة للثعلبي "في السقُوطِ). ذَرَا نَابُ البَعيرِ - هَوَى النَجْمُ - انقَضَّ الجِدَارُ - خَرَّ السَّقْفُ - طَاحَ الفَصُّ )."
و أما في لسان العرب فورد عن خر الرجال " وخَرَّ الرَّجلُ يَخُرُّ إِذا تَنَعَّمَ. "
بكل تأكيد ليس المقصود بخر أنه التنعم فكلمة خر تعني السقوط و لكنها لا تعني السقوط فقط بل و أيضا التفكك فالذي يسقط و يتفكك يقال عنه أنه خر, و أن يسقط بدن سيدنا سليمان و يتفكك أمام الجن ففي هذا خاتمة مستغربة لملك عظيم و هذا ما جعلني أرجح عدم حدوثه. و الأولى أنه مات راقدا في سلام و دفن محل موته.
يعتقد ناس كثيرة أن المقصود هو أن سيدنا سليمان مات و هو متكأ على العصا , و لم يحرك ساكنا حتى أكلت ( فعل ماضي) الدابة العصا فأنهار و هناك مآخذ كثيرة على هذا الاعتقاد أولها ما دليل هذا ,ثم من المنطق أن يتعبد سيدنا سليمان ليس أمام الجن بل لابد أنه كان يعتكف داخل الصرح في أحد محاريبه. فهو كان في الصرح للتعبد و ليس لمراقبة الجن و إمعان النظر إليهم و يستطيع تكليف من يشاء لفعل هذا. و أيضا عدم تحركه لفترة طويلة كان هو أجدر بأن يكون هو الدليل على موته و لكن الآيات أوضحت أن الدليل هو أكل الدابة للعصا و ورد الفعل مضارع و هذا يفيد أن الدليل إثناء الأكل و ليس كنتيجة عن الأكل في حال لو أتي الفعل ماضيا.
فكرت كيف تكون خاتمة سيدنا سليمان حسب ما ورد في دلائل ألفاظ الآيات فرجحت التالي.
تعودت الجن بأن يختلي سيدنا سليمان في صرحه متعبدا متفكرا, ذلك الصرح الذي بنته له الجن في معزل عن البشر و أمور الحكم , فالصرح كان فقط خاص بسيدنا سليمان و ليس مسجدا للعباد و لم يرث الصرح أحدا من بعد سيدنا سليمان فكانت هذه دعوته , و قد أوضحت الآيات أن الجن صنع له محاريب عده و لا بد أن منها ما كان داخل الصرح , عندما يدخل سيدنا سليمان للمحراب فإنه يغيب عن نظر الجن و لا يتجرأ أحدا للدخول عليه في محرابه فيقطع عليه اعتكافه , كان يمكث وقت طويل هناك متعبدا متفكرا و في آخر أيامه كانت له منسأة ( المنسأة في لغة العرب هي العصاة التي يستخدمها كبير السن أو المريض و هذا يتوافق صحبتها لسيدنا سليمان في ايامة الأخيرة ) يضعها على باب المحراب كما كان يفعل بعض أصحاب المحلات عندما تحين الصلاة فلا يغلق الباب بل يضع عليه عصا كإشارة بعدم الدخول. و عندما حان القضاء دخل سيدنا سليمان المحراب على عادته تاركا منسأته على المدخل و رقد هناك في سلام و مات على هيئته , و لم يتجرأ أحد الدخول عليه , لقد كان موته غيبا و لكن دابة الأرض تجرأت و بدأت تأكل ( فعل مضارع ) منسأته , الدليل على موت سيدنا سليمان كان في استمرار أكل الدابة للمنسأه , فلقد ورد الفعل مضارع و ليس ماضي . لقد استمرت الدابة في أكل المنسأة و مع ذلك لم يخرج عليها سيدنا سليمان و كان هذا دليلا بأنه حل به شيء ما , بأن يمكث هناك فتره طويلة و أن تأكل الدابة منسأته , ما حل بسيدنا سليمان كان غيبي عن الجن و كان واضحا أنه مات و لكن الجن لم تتجرأ أن تفكر في هذا و كان ما حدث يؤكد عدم معرفة الجن بالغيب . مكثت الجن في عملها و لم تتبين أن سيدنا سليمان مات إلا عندما خر الصرح بالكامل و لم يخرج سيدنا سليمان فتأكدت من موته و أنها لم تكن تعلم الغيب. نرى في الآيات كلمة " فلما خر " و هذا يعني أنه لم يخر فجأه بل كان هناك وقت استمرار أكل الدابة للمنسأه و بين ما خر , فلو كان الإعتقاد السائد صحيح لكان التعبير أتي بما يفيد السرعة كأن يكون " أكل الدابه المنسأه فخر " .
بقايا الصرح و ما صنع الجن حول الصرح على ما ارجح لابد مازالت موجودة هناك في قاع البحر و العثور على تلك الدلائل ممكن جدا مع تطور تقنيات البحث , و كرامة لبدن سيدنا سليمان سيظل مدفونا هناك في سلام . و لكن تفاصيل الصرح و موت سيدنا سليمان لابد أن تدرك و أنها قد تكون ليس كما تناقله البشر غبر قرون , و التفصيل الصحيح لابد أنه المفصل في القرآن الكريم و الذي هو من عند الله علام الغيوب.
مكان صرح سيدنا سليمان:
مما سبق أجد روابط بين صرح سيدنا سليمان و البحر و ترجيح قربه من مملكة سبأ و جازان و أثيوبيا و بذلك يكون من الأرجح أن صرح سيدنا سليمان بإذن الله هو موجود في قاع البحر الأحمر ما بين السواحل اليمنية و الأثيوبية, أو قد يكون في قاع المحيط ايضا قريبا مما سبق, و قد تكون بعض الجزر الموجودة في المنطقة قد تكونت بسبب ترسيب على بقايا ما كان يصنع الجن و أطالب المستكشفين من التحقق من هذا بما ليدهم من قدرات و أدوات و إمكانيات.
وآمل أن يكون ما تقدمت به في هذا البحث الملخص صحيح و أن يعثر على آثار صرح سيدنا سليمان و ما أحاطه من تماثيل و جفان و قدر راسيات و أن يكون ذلك نصره للأقصى الأسير الذي يكاد ينهار إثر استمرار أعمال الحفر أسفله و حوله بحثا على بقايا ملك سيدنا سليمان.
إن كان ما وجدته صحيح فهو توفيق من المولى عز وجل و إن كان غير ذلك فمن نفسي و لا حول و لا قوة إلا بالله.
تعليق