من لا نتحدث عنهم
حريٌّ بنا أن لا نتوقع الكثير في هذه القرية الهادئة الوادعة النائية التي تحيط بها الغابات من كل الجهات ، لكن لا يلبث مخرج الفيلم ( إم نايت شالامان ) حتى يضعنا في إطار تشويقي منذ الدقائق الأولى ، وأتمنى أن تستمتعوا بالترقب في كل لحظة عند متابعتكم لقصة الفيلم و ما يضفيه هذا النوع من أفلام الرعب النفسي.
يبدأ الفيلم بدفن أحد أعضاء القرية ، و يتضح حينها الزمن الذي يعيشه أولئك البسطاء و هو عام 1897 ، ثم يجتمعون لتناول وليمة يقوم أثناءها أحد أعضاء مجلس الشيوخ في القرية بإلقاء خطبة لها أبعاد نفسية وعلى اجواء اء موسيقى الفيلم المتقنة و التي كانت لافته جدا فقدت أعطت إيقاعا رائعا لأحداثه.
(من لا نتحدثي عنهم) هكذا يسمي أهل القرية تلك المخلوقات التي باتت تقض مضجعهم ، و تجعلهم في رعب دائم خصوصا بنشرهم التحذيرات و هي عبارة عن حيوانات منزوعة الفرو ؛ لتنبيههم بعدم نقض المعاهدة التي تنص على عدم تجاوزهم حدود القرية إلى الغابة المحيطة التي تسكن بها تلك الكائنات المخيفة و التي هي أشبه بالحيوانات من البشر ، يمتازون بالأردية الحمراء و ينجذبون إلى اللون الأحمر الذي تخلى عنه أهل القرية و ارتدوا اللون الأصفر و أحاطوا به حدود قريتهم للحماية ، كما بنو أبراجا للمراقبة لتحذيرهم في حال الهجوم المفاجئ من تلك المخلوقات البدائية.
والذي يترأسه إدوارد ووكر( وليام هورت) ، بوجود أم الشاب الأرملة فهي أحد أعضاء ذلك المجلس و التي تفاجئ به يطلب بشجاعة أن يتجاوز حدود القرية لإحدى القرى المجاورة ليجلب المؤونة التي يحتاجها أهل القرية بشدة و المتمثلة بالأدوية الضرورية معطيا مثالا على نوح (أدريان برودي) و هو شاب مصاب بإعاقة عقلية ، فقد تجاوز الحدود أكثر من مرة و لم تعاقبه المخلوقات ؛ لإحساسهم ببراءته و نقائه ، يٌقابَل لوشيس بالرفض مرتين ، و رغم ذلك يدفعه فضوله في إحدى المرات يحدوه في ذلك صفاء سريرته ، و شجاعة قلبه ، و صفاء نيته ، بتجاوُز الحدود دون إخبار أحدهم ، و لكن كارثة ألمت بالقرية بعدها ففي ليلة هاجم (من لا نتحدث عنهم) أهل القرية ، فدخلوا عنوة ، و اختبئ أهل القرية في ملاجئ مخصصة للطوارئ في بيوتهم حتى اطمئنوا بذهابهم ، ثم اجتمع مجلس الحكماء بأهل القرية بعد أن وجدوا العلامات الحمراء على كل باب من بيوت القرية ليطلبوا ممن خرق العهد أن يقر بذنبه ، ليعترف لوشيس بذنبه و دموع الندم تنساب من عينيه.
تتقدم آيفي بطلب لأبيها تستأذن منه أن تجلب الأدوية لتنقذه من موت محقق ، في تلك اللحظات الصادقة و الرائعة بين أب و ابنته يعترف لها بحقيقة أشبه بخرافة ، الحزن و الألم و الجشع و الأنانية ، تلك صفات تأذى منها ذلك الأب مما دفعه هو و أعضاء القرية أن يخترعوا قصة المخلوقات ؛ كي يمنعوا أهل القرية من الخروج منها ، هم من ارتدوا تلك الأزياء المروعة ، و هم من قاموا بإصدار تلك الأصوات المخيفة من فينة إلى أخرى ، و هم من قتلوا تلك الحيوانات المسكينة و سلخوا جلدها ؛ لينشرو الرعب في قلوب أهل القرية و فعلا هذا ما نجحوا فيه.
تتوجه آيفي إلى الغابة مُتوجة بتوصيات أبيها فأقرب قرية تبعد نصف نهار ، و لكنها تصادف المتاعب هناك عندما يهاجمها أحد تلك المخلوقات الخرافية ، فتجذبه إلى الفخ بفطنتها ، و بصيرتها ، و توقعه في حفرة وقعت فيها مُسبقا ، ويموت ذلك الكائن الذي لا يتعدى أن يكون نوح متخفيا بالزي الذي أخفاه والديه في الغرفة التي حُبس فيها بعد أن وُجـِد مُلطخا بدماء لوشيس ، و الذي كان سيكشف أمر الشيوخ و أكاذيبهم و يحطم حلم مدينتهم الفاضلة.
عندما تصل آيفي المدينة سَنـُذهـَل للحقائق التي تظهر تِباعا ، فالغابة التي تقع عليها القرية ما هي إلا محمية ممنوع الاقتراب منها مدعومة من قبل آل ووكر الأثرياء ، و ما أن تتجاوز آيفي السور بتسلقه سوف نجد نمط حياة مختلف ، حارسُ محميةٍ يركب سيارة حديثة يقودها على شارع أسفلتي يساعد الفتاة المسكينة و المفاجأة تفغرُ فاه ، ترجع آيفي بالأدوية و تخبرهم عن قتلها للكائن ( نوح ) فتفزع أمه ، و يعترف الشيوخ بفضله في استمرار عيشهم في هذه القرية.
أما صلة الفيلم بما هو حقيقي فيعود لما سنعرفه باختصار عن طائفة الآميش التي تتقاطع مع فكرة هذه القرية في عدة نواحٍ ، و لمن يريد الاستزادة (راجع موضوع الأميش للمزيد من المعلومات) .
الآميش طائفة دينية مسيحية نشأت في أوروبا تحديدا في ألمانيا و سويسرا و هاجرت إلى أمريكا بعد الاضطهاد التي تعرضت له ؛ بسبب الأفكار الجديدة التي اتبعها اصحاب الطائفة آن ذاك ، لا يزالون يتحدثون بلغة قريبة من الألمانية ، و تمتاز هذه الطائفة بأنها منعزلة عن العالم الخارجي و لا تؤمن باستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة من سيارات ، و هواتف ، و غيرها ، يعيشون ببساطة بعيدا عن البذخ ، يحرصون على المساواة فيما بينهم ، و لا يزالون يطبقون ما كانوا عليه في العصور الوسطى من ثياب ، و بيوت ، و أثاث ، و وسائل نقل كالعربات التي تجرها الأحصنة ، يقتاتون من مزارعهم ، و لا يتعاملون بالمال ، يحافظون على النقاء بالابتعاد عن كل ما له علاقة بالحياة الحديثة و مغرياتها ، ودودون و مسالمون لا يعتدون على أحد و لا يعرف مجتمعهم العنف أو يشهد الجرائم.
إن تأثر الفيلم بحياة الآميش واضحة جلية ، فمجلس الشيوخ في القرية كان له وحده الحق في إصدار القرارات ، كما في حياة الآمش الذين يعتمدون على مجلس مشابه لإصدار القرارات و الفتاوى و على الطائفة إتباعها كما كان أهل القرية يفعلون .
و العالم الافتراضي المنعزل الذي اتبعه أهل القرية ما تتبعه الآن هذه الطائفة ، و ما عزز الفكرة خلق المشاهد في إطار زمني محدد يشابه ما كان في العصور القديمة من مأكل و ملبس و طريقة حياة.
في الفيلم كان هناك حرص على الحفاظ على " البراءة " التي فـُقدت نتيجة العالم المادي الذي نعيش فيه ، و نستطيع أن نلاحظ أن عدم اختلاط هؤلاء القرويين بهذا العالم الحديث أنشأ أناسا بسطاء لطيفي المعشر و هذا ما يمتاز به الآميش حاليا.
و ما سيحدث فعلا بعد مشاهدتك للفيلم أن نفسك ستواجهك بأسئلة تطاردك ، ليس فقط حول تَأثـُر محتوى الفيلم بحياة الآميش البعيدة عن المغريات ، بل أيضا حول وقع الخوف في نفوس البشر و ما قد يقودهم لتصديقه فيصبحون كالسذج يتحكم بهم ذاك الخوف ؟ و حول ( البراءة ) التي جسدتها تلك القرية المثالية ولو كان وجود القرية حقيقيا ألن يظهر الجانب المظلم من الإنسان و لو على حين غرة ؟ و مجلس الشيوخ أكان من حقه تزييف الحقائق و إخفائها !! هذا ما طرأ في خاطري ، أترك لكم الانطباعات التي تجلت عند متابعة هذا الفيلم او قراءة هذا الموضوع .
تعليق