قضية انفيلد ..
لعل أي قضية من قضيا المس والتلبس لم تشعل جدلا وتجذب اهتماما واسعا كما فعلت قضية انفيلد , وذلك يرجع إلى كونها واحدة من القضايا النادرة التي تم توثيقها جيدا بالصوت والصورة وما زال أبطالها أحياء يرزقون .
القصة بدأت من منزل صغير مؤجر في ضاحية انفيلد اللندنية , وأبطالها امرأة مطلقة تدعى مارغريت هودجسون وأطفالها الأربعة , بيغي (12 عام) , جانيت (11 عام) , جوني (10 أعوام) , بيلي ( 7 أعوام) .
في إحدى الليالي من عام 1977 أرسلت الأم أطفالها للنوم مبكرا وجلست تتابع التلفاز لوحدها في غرفة الجلوس . بعد برهة سمعت ضوضاء قادمة من غرفة أبنتيها في الطابق الثاني , فصاحت تطالبهما بترك اللعب والخلود إلى النوم , لكن الضوضاء استمرت , فنهضت السيدة هودجسون وقد تملكها الغضب وصعدت إلى حجرة ابنتيها لتوبخهن على عدم النوم , لكن ما أن فتحت الباب حتى رأت الفتاتين جالستين بصمت في فراشهن وهن ينظرن برعب إلى خزانة الثياب الخشبية الثقيلة التي كانت قد تحركت من مكانها عند الجدار واستقرت في منتصف الحجرة , فتعجبت الأم من ذلك وقامت بدفع الخزانة ببطء حتى أعادتها لمكانها , لكن ما أن ابتعدت قليلا حتى تحركت الخزانة مجددا من تلقاء نفسها وعادت لتقف وسط الحجرة ! .. كان الأمر مرعبا , وراود الأم أحساس غريب بوجود شخص ما معهم في الحجرة .. شخص غير مرئي .. ثم سمعت ثلاث طرقات متوالية على الجدار , ساد بعدها صمت قصير , ثم عاد الطرق مجددا , لكن على جدار آخر ! .
الأم المرعوبة مما يجري أخذت أطفالها الأربعة وذهبت لبيت جارتها طلبا للنجدة , فأرسلت الجارة زوجها ليتحري الأمر , وكان هذا الزوج يدعى فيك , وهو رجلا ضخم قوي يعمل في مجال البناء , فدخل المنزل وراح يتفحص أرجاءه .. في البداية لم يلاحظ أي شيء خارج عن نطاق المألوف , ثم سمع طرقا على الجدار , فصعد إلى للطابق الثاني بحثا عن مصدر الصوت , ولشدة دهشته لاحقه الطرق إلى الأعلى .. بل كان يتبعه كظله أينما تجول في المنزل ! .. فأستبد الخوف بالرجل , إلا انه تشجع ونزل إلى القبو ظنا منه بأن مصدر الطرق ربما يكون عطلا في أنابيب المياه , لكن الأنابيب كانت سليمة , ومع هذا استمر الطرق . ففر الرجل عائدا إلى منزله .. وقد وصفت السيدة هودجسون رؤية جارها في تلك اللحظة قائلة : " لم أر في حياتي رجلا بهذه الضخامة مرعوبا بهذا الشكل " .
أخيرا قامت السيدة هودجسون باستدعاء الشرطة , فحضر شرطي وشرطية وفتشا المنزل طويلا بحثا عن مصدر الطرق على الجدران , لكن لم يعثرا على شيء , ثم فجأة صرخ أحد أبناء السيدة هدجسون مشيرا بيده نحو كرسي في غرفة الجلوس . الشرطية كارولين هيبز وصفت ما رأته في تلك اللحظة بما يلي : " كان هناك كرسي بجانب الأريكة , نظرت إليه ولاحظت بأنه يرتجف بقوة , ثم بدأ يتحرك من تلقاء نفسه حتى أستقر عند حائط المطبخ , لقد سار لمسافة 3 – 4 أقدام قبل أن يتوقف " . الشرطيان قاما بفحص الكرسي جيدا بحثا عن خيط أو خدعة ما .. لكنهما لم يجدا شيئا , فتملكهما الرعب وغادرا بسرعة بعد أن أخبرا السيدة هودجسون بأن ما يجري في منزلها ليس من اختصاص الشرطة .
في الأيام التالية زادت وتيرة الأحداث الغامضة في منزل السيدة هدجسون , وسرعان ما انتشرت الأخبار في الحي حتى وصلت إلى أسماع الصحافة , فحضر مراسلان من جريدة الديلي ميرور لتحري القضية , وقد وصف أحدهما تلك الزيارة قائلا : " كانت هناك فوضى عارمة .. الأشياء تطير في الهواء من تلقاء نفسها ! .. والناس يصرخون برعب " . وبعد نشر التقرير في الديلي ميرور تقاطر المراسلين على منزل العائلة , حتى أن هيئة الإذاعة البريطانية (BBC ) أرسلت فريقا قام بتسجيل صوت الطرق الغامض على الجدران , لكن عند عودتهم لمقر عملهم وجودا بأن الأجزاء المعدنية في أجهزتهم ألتوت بطرز غامض وجميع التسجيلات محيت .
بعد عدة أسابيع اتصلت السيدة هدجسون بجمعية البحوث الروحانية البريطانية أملا في أن يساعدوها , فقامت الجمعية بإرسال اثنان من محققيها هما موريس جروس وغاي ليون بلايفير , واللذان ألفا لاحقا كتابا عن تجربتها في أنفيلد . ومنذ اليوم الأول لهما مع العائلة شاهد المحققان أمورا في غاية الغرابة , المحقق موريس يقول بأنه شاهد مكعبات لعبة الليغو تطفو في الهواء , وحين امسك بواحدة منها كانت حارة , ورأى الأثاث يتحرك ويسير من تلقاء نفسه , وشاهد قميصا على الطاولة يرتفع سابحا في الهواء .
وسرعان ما أنتبه المحققان إلى أن معظم تلك الأحداث الغريبة كانت تتركز حول أبنتي السيدة هودجسون , خصوصا الابنة الصغرى جانيت , كان كل شيء يصاب بالجنون في حضورها , الأثاث يتحرك من تلقاء نفسه , الأشياء تطفو في الهواء , القضبان الحديدية تلتوي , أكواب الماء تمتلئ من تلقاء نفسها , الكتب تظهر وتختفي , التلفاز يعمل من تلقاء نفسه , الموقد الحجري الضخم ينقلع من الجدار ويتدحرج حتى منتصف الحجرة! .. كل شيء كان يدور حول جانيت .. وأقسم أهلها وبعض الجيران بأنهم شاهدوها تطير في حجرتها . ثم أخذت تدخل في حالة من اللاوعي تشبه الصرع , كانت خلالها تصبح في غاية القوة , حتى أنها دفعت مرة أحد الصحفيين فرمته في الهواء لمسافة أربعة أمتار .. وبدأت تتكلم بصوت أجش يخرج من فمها من دون أن تحرك شفتيها .. كان صوتا لرجل عجوز , متعب وفض .. وبظهور هذا الصوت أدرك المحققان بأنهما أمام حالة مس شيطاني , فأخذا يتحدثان مع الصوت , أو بالأحرى مع الكيان الذي تلبس بجسد جانيت , ويسجلان تلك الأحاديث على أسطوانات , وقد عرفا من خلال تلك المحادثات بأن صاحب الصوت هو عجوز يدعى بيل ويلكنز , عاش في المنزل منذ سنوات بعيدة , ومات وحيدا بجلطة في الدماغ , وقد وصف هو في إحدى محادثاته كيفية موته قائلا : " قبل أن أموت أصابني العمى وحدث لي نزيف في الرأس فشعرت بالنعاس ثم مت على الكرسي الموجود بجانب السلم في الطابق السفلي " .
العجيب هو أن جانيت كانت لا تتذكر أي شيء مما تقوله الروح على لسانها بعد خروجها من حالة اللاوعي أو التلبس , كأنها كانت مخدرة أو نائمة . وللتأكد من أن الفتاة لا تصطنع تغيير صوتها جعلها المحققان تشرب القليل من الماء وتحتفظ به في فمها خلال فترة تكلم الصوت على لسانها , وقاما أيضا باستشارة طبيب مختص بالحنجرة , فأخبرهما بأن احتمال أن تكون الفتاة تتصنع التكلم بهذا الصوت الغليظ من دون أن تحرك شفتيها يبدو مستحيلا , لأن ذلك سيؤدي حتما إلى تدمير حبالها الصوتية خلال دقائق معدودة . أما أغرب ما في الأمر فهو أن شخصا أتصل بالمحقق موريس بعد عدة شهور واخبره بأنه أبن السيد بيل ويلكنز , وبأن والده مات فعلا في منزل السيدة هدجسون قبل سنوات طويلة .
الأحداث الغريبة في منزل عائلة هودجسون استمرت لحوالي أربعة عشر شهرا وبدأت تهدأ بالتدريج ابتداء من خريف عام 1978 , كانت هناك أصوات وطرقات من حين لآخر , لكن ليس مثل الأول . ولم تعد جانيت تتعرض لنوبات المس ثم تزوجت مبكرا في سن السادسة عشر وغادرت المنزل . وبصورة عامة لم يكن المستقبل كريما مع عائلة هودجسون , فالابن جوني مات يافعا في سن الرابعة عشر جراء إصابته بمرض السرطان , وكذلك فقدت جانيت أبنها الذي مات خلال نومه في سن الثامنة عشر . أما الأم مارغريت هدجسون فقد عاشت في المنزل وحيدة بعد أن غادر أبنائها حتى فارقت الحياة عام 2003 .
بعد موت الأم مارغريت سكنت المنزل عائلة جديدة تتكون أيضا من أم وأربعة أطفال , لم يكونوا يعلمون شيئا عن تاريخ المنزل , ولم يطل الوقت على أطلت الأمور الغريبة برأسها من جديد , الأم قالت بأنها كانت تشعر بأن هناك من يراقبها باستمرار , وقال أطفالها بأنهم كثيرا ما كانوا يستيقظون في ساعة متأخرة من الليل على صوت أناس يتحدثون في الطابق الأرضي مع أن جميع من في المنزل كانوا نائمين . وقال أحد الأبناء أنه أستيقظ في إحدى الليالي ليشاهد رجلا مخيفا يقف فوق رأسه وينظر إليه بطريقة غريبة .. وكانت تلك الحادثة كافية لكي تلملم العائلة حقائبها وتغادر المنزل من غير عودة .
حاليا المنزل مسكون من قبل عائلة أخرى ترفض الحديث إلى الصحفيين .
ما الذي جرى فعلا ؟
كما أسلفنا فأن قضية انفيلد تم توثيقها بالصوت والصورة , ويوجد عشرات الشهود عليها .. الجيران .. الصحفيين .. الشرطة .. المحققين الروحانيين .. الخ . لكن كل ذلك لم يمنع من ظهور مشككين , وهؤلاء لديهم حججهم وأدلتهم , فهم مؤمنين بأن كل ما جرى في المنزل من أمور غريبة كان من اختراع وتلفيق الشقيقتين بيغي وجانيت , فتلك الأمور الغريبة لم تكن تطل برأسها إلا بوجود الشقيقتين ولا تحدث إلا في حجرتهن , خصوصا جانيت , التي وصفها البعض بأنها "ذكية جدا جدا " .. وبالفعل تم الإمساك بالفتاتين في عدة مناسبات وهن يقمن بتلفيق الأدلة , موريس نفسه أمسك بهن مرة وهن يقمن بلي الملاعق التي زعمن لاحقا بأن روح بيل هي التي قامت بليها . وفي مناسبة أخرى تمكن ساحر أميركي زار العائلة للتحقق مما يجري من الإمساك بجانيت وهي تحاول خداعه . أما بالنسبة للصورة التي تظهر جانيت وهي تطير في الهواء فهي بنظر المشككين لا تنطوي على إي غرابة , لأنها مجرد صورة لفتاة تقفز في الهواء من فوق سرير نومها , وتتلاشى غرابة الصورة تماما إذا علمنا بأن جانيت كانت عضوا في فريق الجمناستك بمدرستها . أما مسألة الصوت فيقول بعض الخبراء بأن الإنسان يمكنه تغيير صوته وإخراج الأصوات من معدته بالقليل من التدريب .. فهي ليست مسألة مستحيلة كما يظن البعض . أما سبب قيام الفتاتين بهذه الخدع والألاعيب فيعزوه المشككين إلى الرغبة في جذب الانتباه , وإلى الخواء العاطفي الذي سببه انفصال والديهما .
بغض النظر عما يقوله المشككون يبقى الكثيرون مؤمنين بصحة وصدق الأحداث في قضية انفيلد , وفي مقدمتهم المحقق موريس الذي رافق العائلة لأكثر من سنة , والذي يقر بأن الفتاتان قامتا أحيانا بفبركة بعض الأمور , ربما لجذب الانتباه , لكنه يؤمن بأن معظم ما حدث في المنزل كان حقيقيا و ويقول بأنه حتى لو افترضنا بأن الفتاتين لفقتا كل شيء , فكيف نصدق بأن طفلتين بهذا العمر بإمكانهما معرفة أن عجوزا مات قبل سنوات بعيدة في منزلهما , وكيف لطفلة بسن جانيت أن تقوم بتحريك بعض الأشياء التي يعجز الكبار عن تحريكها مثل الموقد في حجرتها الذي يزن مئات الأرطال والذي أنقلع من مكانه في الجدار وتدحرج إلى وسط الحجرة . وماذا عن الطرق على الجدران الذي كان يحدث أحيانا بوجود جميع أفراد العائلة في مكان واحد مما يشير إلى أن شخصا آخر ليس من العائلة هو الذي يقوم بالطرق , وهذا الطرق كان غريبا إلى درجة انه كان ينتقل من حجرة إلى أخرى , وأحيانا يأتي من مكانين متباعدين في آن واحد .
"من خلال تجربتي الخاصة أعرف بأن الأمر حقيقي .. لقد كان ذلك الشيء يعتاش علي , على طاقتي .. يمكنك أن تدعوني مجنونة أو مخادعة إذا شئت . لكن تلك الأمور حدثت فعلا , وتلك الروح كانت معي حقا , واشعر بكل معنى الكلمة بأنها ستظل دائما معي " .
وتقول أيضا :
" كنت اشعر بالرعب وأنا عائدة إلى المنزل من المدرسة . الباب الأمامية ستكون مفتوحة حتما , سيكون هناك أناس يدخلون ويخرجون , ولا يمكنك أن تتوقع ما سيحدث , كنت اقلق كثيرا على أمي لأنها سبق أن تعرضت لانهيار عصبي . وفي المدرسة كانوا يضايقوني , كانوا يدعوني بالفتاة الشبح ويضعون عصا الذباب أسفل ظهري من دون أن اعلم , أما شقيقي فكانوا يدعونه الفتى الغريب الأطوار القادم من بيت الأشباح , والبعض كانوا يبصق عليه في الشارع ".
أما عن سبب حدوث الأمور الغريبة في منزلها فتعتقد جانيت أن السبب هو قيامها بلعب الويجا مع شقيقتها قبل أن تبدأ الأحداث بأيام قليلة , وبأن ذلك فتح الباب على مصراعيه لذلك الكيان الخفي الغامض للدخول إلى عالمنا . جدير بالذكر أن جانيت أدخلت إلى مصحة عقلية عام 1978 وأجريت اختبارات كاملة على سلامتها العقلية والنفسية , وجاءت النتيجة سليمة .