رسول الشيطان ..
أنه شيء لا يمكنك أن تفهمه , لكن لدي شيء لأقوله , في الحقيقة لدي الكثير لأقوله , لكن الآن ليس الوقت ولا المكان المناسب . لا أعلم لماذا أضيع وقتي وأبذر أنفاسي . لكن ماذا بحق الجحيم ؟ .. بالنسبة لما قيل عن حياتي , كانت هناك أكاذيب في الماضي وستكون هناك أكاذيب في المستقبل . أنا لا أؤمن بالنفاق , بالمبادئ الأخلاقية لما يسمى بالمجتمع المتحضر . لا أحتاج إلى النظر ابعد من جدران هذه الحجرة لأرى الكاذبين والحاقدين والقتلة واللصوص وأولئك الجبناء المصابين بجنون العظمة , طفيليات الأرض , كل منهم في مهنته الشرعية . أنتم أيها الديدان تشعروني بالاشمئزاز , المنافقون منكم والجميع . لا أحد يعلم حقيقة ما أقول أفضل من أولئك الذين يقتلون الناس لغايات سياسية , سرا وعلانية , كما تفعل حكومات العالم التي تقتل بأسم الله والوطن أو لأي سبب وعذر آخر يروه مناسبا لتحقيق مآربهم . لست بحاجة لسماع مسوغاتكم الاجتماعية .. لقد سمعتها كلها في السابق , لكن الحقيقة تبقى هي هي " .
هكذا أجاب ريتشارد راميريز حينما سأله القاضي في قاعة المحكمة عن الدافع وراء جرائمه . وقد يظن البعض بأنه ما قاله هو مجرد هراء غير مترابط لمدمن مختل . لكن لو قرأنا كلماته بدقة لوجدنا - للأسف – أنها لا تخلو من بعض الحقيقة .
هناك فعلا مجرمين في هذا العالم لا يحاسبهم ولا يدينهم أحد , لا بالعكس , تراهم يخطرون بملابس أنيقة ويجلسون خلف مكاتب فاخرة ويتمتعون بالسلطة والمال والاحترام , مع أنهم لا يختلفون كثيرا عن راميريز .. فهم أيضا , بشكل أو بآخر , مجرد لصوص وقتلة ومغتصبين . الفارق الوحيد بينهم وبين راميريز هو أن ما يقومون به شرعي , أو بالأحرى تم إضفاء لباس الشرعية عليه بمبررات ومسوغات شتى .
طبعا هذا لا يبيح لراميريز وغيره قتل الناس , لكننا آثرنا أن نبدأ بهذه المقدمة المأخوذة من فم بطل القصة لكي نعطيك عزيزي القارئ لمحة عن طرز تفكير هذا السفاح الرهيب , ولتدرك بأن أغلب الجرائم التي تقترف في هذا العالم هي في أساسها نابعة عن الشعور بعدم المساواة وغياب العدالة الاجتماعية , مما يولد كراهية للمجتمع لدى بعض الأشخاص .
لكن دعونا الآن نترك قاعة المحكمة حيث يمثل راميريز بتهمة قتل العديد من الأبرياء , ولنعد بالزمن إلى الوراء , تحديدا إلى يوم 29 فبراير (شباط) 1960 في مدينة ال باسو بولاية تكساس الأمريكية حيث ولد طفل بريء جميل أطلق عليه والداه أسم ريتشارد وكان مقدرا له أن يصبح الرجل الذي سينشر الخوف على طول الساحل الغربي للولايات المتحدة .
كان تسلسله الأخير بين ستة أطفال لعائلة كادحة فقيرة . والده جوليان راميريز كان شرطيا في المكسيك , لكنه هاجر مع عائلته إلى الولايات المتحدة فأصبح عاملا في محطة للقطارات . كان رجلا عصبيا حاد المزاج يضرب أطفاله ويعنفهم لأتفه الأسباب . أما الأم , مارسيدس راميريز , فكانت عاملة مصنع , سيدة طيبة متدينة , بذلت كل ما في وسعها لكي يشب أولادها كأشخاص محترمين ومستقيمين , لكن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفنها .
راميريز كان طفلا هادئا , نال الحب والرعاية من لدن عائلته , خصوصا شقيقته الكبرى روث , التي تعلقت به كأنه أبنها , وظلت مخلصة له حتى لحظاته الأخيرة . لكن طفولة راميريز لم تخلو من بعض المنغصات , بسبب فقر العائلة , وحدة مزاج الأب , والمحيط الذي تعيش فيه الأسرة حيث تتفشى البطالة والجريمة والمخدرات .
الضربة
العديد من القتلة المتسلسلين تعرضوا لحادث خطير في طفولتهم وصباهم , غالبا ضربة على الرأس كان لها الأثر الأكبر في تغيير آلية عمل أدمغتهم . عائلاتهم والمقربين منهم قالوا بأن شخصياتهم تغيرت جذريا بعد الضربة .. تحولوا إلى شخص آخر .. سريع الغضب , لا يزن ردود أفعاله وتصرفاته جيدا , لا يحاسب نفسه , ولا يعرف معنى الندم على أخطائه . وهذا هو بالضبط ما حصل لراميريز , فعندما بلغ العامين من عمره تعرض لإصابة خطيرة , إذ وقعت عليه حمالة الملابس فشجت رأسه , وأحتاج تقطيب جرحه إلى 13 غرزة .
ومرة أخرى عندما بلغ عامه السادس تعرض لضربة موجعة على رأسه , صدمته أرجوحة بينما كان يلعب في المنتزه فسقط مغشيا عليه , وأصبح يعاني من نوبات صرع استمرت معه لبضعة سنوات .
أبن العم السادي
حين بلغ راميريز العاشرة من عمره عاد أبن عمه (مايك) من فيتنام حيث كان يخدم في صفوف القوات الخاصة الأمريكية . مايك كان شخصا ساديا كريها ترك أثرا مدمرا على نفسية وسلوك راميريز , إذ راح يريه صورا ما كان لطفل بعمره أن يراها , صورا بشعة يظهر فيها مايك وهو يعذب ويغتصب ويقتل النساء الفيتناميات , إحدى تلك الصور التقطها له رفاقه وهو يغتصب امرأة , وفي صورة لاحقة يظهر ممسكا بالرأس المقطوع لنفس المرأة المسكينة .
وربما كنوع من التباهي , أخذ مايك يعلم أبن عمه الصغير أساليب القتال التي تلقاها خلال تدريباته في القوات الخاصة , والتي تتركز على التسلل بخفة ومباغتة الضحية بهجوم سريع لا يترك له أي فرصة للدفاع . علمه أيضا كيف يستمتع بتقطيع أوصال ضحاياه بالسكين , وهي دروس سيضعها راميزير موضع التطبيق لاحقا في حياته .
مع مايك أيضا بدأت رحلة راميريز الطويلة مع المخدرات , أخذ يتعاطاها وهو مازال طفلا في العاشرة من عمره . لكن أسوأ تأثيرات مايك تمثلت في قتله لزوجته أمام أنظار راميريز , أطلق الرصاص على رأسها فتناثر دماغها على وجه راميريز , قتلها لأنها طلبت منه أن يجد لنفسه عملا بدلا من تسكعه وإدمانه المخدرات . والغريب أن مايك لم يعاقب سوى بأربعة سنوات حبس , إذ نال حكما مخففا بدعوى أن الجريمة ارتكبت تحت تأثير الانفعال والغضب الشديد . راميريز لم ينسى أبدا ذلك المشهد الدموي , ولا النشوة العارمة التي اعترته حينما تناثرت دماء زوجة مايك على وجهه , وخلال السنوات القادمة سيحرص على إعادة تمثيل ذلك المشهد مرارا وتكرارا .. لكن بطريقته الخاصة .
النسيب المتلصص
كأنما كان مقدرا لراميريز أن لا يصاحب سوى الأشرار والأراذل من الناس , فببلوغه الثالثة عشر من عمره بدأ يتهرب من المدرسة والمنزل , ربما فرارا من غضب والده وتعنيفه المستمر , في البداية وجد ملاذا في مقبرة قريبة , كان ينام وحيدا بين القبور , ثم انتقل بعد فترة للعيش مع شقيقته الكبرى روث وزوجها روبيرتو الذي كان متلصصا ليليا بامتياز ؛ والمتلصص هو ذلك الشخص الذي يعشق مراقبة الناس سرا أثناء قيامهم بأمور شخصية وخاصة جدا , كتبديل الملابس والاستحمام وممارسة الجنس .. وقد يقدم على أمور خطيرة ومجنونة في سبيل إشباع رغباته , كأن ينتهك حريم منازل الجيران ليختلس النظر عبر النوافذ وثقوب الجدران التي يصنعها بنفسه .
علاقة روبيرتو مع راميريز توطدت بسرعة , فأخذ يصطحبه معه في جولاته الليلية , وراح يعلمه كيفية التسلل لمنازل الآخرين بخفة والتلصص عليهم من دون أن يشعروا بذلك . وبالتدريج تحولت هذه الهواية الشاذة إلى حرفة ومهنة لدى راميريز , فهو لم يعد يكتفي بالتلصص , وإنما راح يسرق المنازل التي يتسلل إليها من اجل أن يوفر المال اللازم لشراء الكوكايين الذي يتعاطاه , ولم يعد يكتفي باختلاس النظر , بل أصبح يمد يده بجرأة ووقاحة متلمسا أجساد النساء . وشيئا فشيئا أصبح لديه سجل حافل بالسرقة والتحرش الجنسي لدى الشرطة .
رسول الشيطان
هناك من يرى بأن الفترة التي قضاها راميريز وحيدا في المقبرة كان لها الأثر الأكبر في صياغة أفكاره وتوجهاته , سألوه مرة بعد القبض عليه عن أفضل مكان يود قضاء السهرة فيه فأجاب قائلا : " شرب الخمر تحت ضوء القمر في مقبرة مهجورة" . برأي البعض فأن السلام والأمان الذي وجده راميريز في كنف الموتى , والذي لم يجده للأسف في كنف الأحياء , تحول بالتدريج إلى كره شديد للمجتمع ..
أصبح الناس برأيه مجموعة من المنافقين البارعين في التمثيل والتظاهر بالوداعة والطيبة فيما هم يقترفون جميع الأمور السيئة سرا , ولو كان الأمر بيده لقضى عليهم جميعا , عبر عن ذلك مرة قائلا بأن أعظم أمنياته تتمثل في :
" أن أضع إصبعي على زر التحكم بتفجير القنابل النووية " ! ..
هذا الكره الشديد دفعه للبحث عن عالم آخر يمكن أن ينتمي إليه ويصبح جزءا منه , وقد عثر على ضالته في جماعات عبدة الشيطان (Satanism ) .
يتذكر بعض زملائه في المدرسة بأنه كان يتهرب من الحصص ليتواجد في المكتبة ويقرأ عن الشيطان . كان مولعا حد العشق بالشيطان .. ذلك الشرير المتمرد على كل شيء . وبالمقابل أصبح لديه نفور شديد من الله , حين كانوا يسألونه لماذا ؟ .. كان يجيب ببساطة :
" إذا كان الله سيحاسبني ويعاقبني على أخطائي فلماذا أعبده ؟ ..
أليس من الأفضل أن أعبد من يكافئني ويثيبني على أخطائي ! " .
وعبثا حاولت أمه الكاثوليكية الملتزمة أن تعيده إلى جادة الصواب , أرسلته إلى جمعية لدراسة الكتاب المقدس , فأخذ يقرأ الآيات بالمقلوب ! . وبالتدريج تولدت لديه قناعة لا تتزعزع بأنه قد تم اختياره بعناية ليكون من أتباع إبليس المخلصين , وبأن مكانة مرموقة تنتظره في ملكوت الظلام إلى جانب أقرانه من القتلة والسفاحين . هذه القناعات الغريبة انعكست على سلوكه , فوشم جسده النحيل بنجمة الشيطان وطرز بها أركان حجرته , وأصبح شغوفا بموسيقى الميتال , خصوصا أغاني فرقة
(AC / Dc ) الأسترالية التي يقال بأن جرائمه مقتبسة من إحدى أغنياتها بعنوان "الجوال الليلي " . أصبح يرتدي الملابس السوداء المزينة برموز وأيقونات الشيطان , وصار الناس ينفرون منه ويخشونه بسبب مظهره المخيف ونظراته المفعمة بالحقد , فأشعره ذلك بنشوة عارمة لا تقل روعة عن تلك التي يحصل عليها من المخدرات , فهو الآن مخيف تماما كالشياطين التي يعشقها ويتمنى أن يكون منها , هو الآن يمتلك نفس قواها الخارقة , يستطيع التسلل إلى بيوت الناس من دون أن يشعر به أحد , ويستطيع نشر الموت والرعب من دون أن يردعه أحد .
الوحش ينطلق
لا أحد يعلم متى شرع راميريز بقتل الناس , ولا العدد الحقيقي لضحاياه , بحسب ما ذكره هو لأحد زملائه في السجن فأنه قتل عشرين أنسانا خلال حياته . الشرطة تعتقد بأنه أقترف عدة جرائم قتل في مطلع شبابه , ربما كانت ضحيته الأولى طفلة في التاسعة من العمر عثر عليها شقيقها مشنوقة في قبو منزلهم , وتبين بتشريح جثتها بأنها تعرضت لضرب مبرح واغتصبت قبل أن يقوم المهاجم بشنقها . أصابع الاتهام تشير إلى راميريز لأنه كان يسكن قريبا من منزل الضحية في تلك الفترة ولديه سوابق عديدة بالتحرش الجنسي بالأطفال .
رسميا فأن مشوار راميريز الفعلي مع القتل ابتدأ في 28 يونيو / أيار عام 1984 , كانت أولى ضحاياه هي جيني فينكو - 79 عاما - . كان القاتل يبحث عن بيت ليسرقه في منطقة غلاسيل بارك في لوس انجلوس , ولأن الجو كان حارا في ذلك الوقت فقد كان من الصعب العثور على نافذة مفتوحة في تلك الأنحاء . لكن أخيرا وجد ضالته , فجيني كانت قد تركت أحدى النوافذ مفتوحة , وعبر هذه النافذة تسلل راميريز إلى شقتها من دون أن يصدر أي صوت حتى أن العجوز لم تشعر به طيلة مكوثه في منزلها , وبعد فترة من البحث لم يجد شيئا يذكر فاستشاط غضبا ودخل إلى غرفة العجوز النائمة فوقف بجانبها واخرج سكينا من طيات ملابسه ثم أنهال عليها طعنا في صدرها حتى مل من طعنها فقام بسد فمها بيده ثم نحرها كالنعجة .. لكن هل يكفي هذا كله قاتل مجنون مثله ؟؟ .. للأسف فقد قام بعد ذلك باغتصابها وهي ميتة ..
بعد اقل من سنة على مقتل جيني فينكو , قام راميريز بانتقاء ضحيته الثانية , ففي ليلة 27 مارس سنة 1985 عادت ماريا هرنانديز - 22 عاما – إل منزلها بعد يوم عمل طويل وشاق , وما أن دخلت بسيارتها للمرآب وأغلقت الباب حتى فوجئت بشخص طويل القامة يأتي من ورائها شاهرا مسدسه بوجهها , فراحت تتوسل أن يتركها على قيد الحياة , لكن القاتل المتعطش للدماء أطلق النار عليها فسقطت صريعة ... أو بالأحرى تظاهرت بذلك , فعندما أطلق القاتل النار عليها قامت بردة فعل طبيعية فرفعت يدها فارتطمت الرصاصة بميدالية المفاتيح الخاصة بها .
لسوء الحظ لم تكن ماريا وحيدة في المنزل , فصديقتها دايلي اوكازاكي - 43 عاما – كانت تعيش معها , وحين سمعت صوت الرصاصة اختبأت في المطبخ , وبقيت مختبئة عندما دخل راميريز إلى المنزل , لكنها للأسف لم تصبر كفاية , إذ خرجت من مخبأها بعد فترة ظنا بأن القاتل قد غادر , بينما كان هو في الحقيقة ينتظرها في الغرفة المجاورة , وما أن مدت رأسها لتستطلع الوضع حتى عالجها برصاصة في رأسها فخرت صريعة في الحال . أما ماريا فقد نهضت واكتشفت بأن الرصاصة جرحت يدها فقط , فركضت باتجاه الشارع , لكنها لم تبعد كثيرا حتى خرج راميريز من المنزل , فأصابها الذعر وعادت أدراجها إلى المرآب وهي تبكي بهستيرية ظنا منها بأن القاتل المجنون سيلحق بها ويقتلها , لكن لشدة دهشتها فقد تركها ورحل .
عندما وصلت الشرطة إلى مكان الحادث لم يعثروا سوى على قبعة القاتل مجهول الهوية , ولم يستطع المحققون معرفة الكثير من ماريا لأنها كانت في حالة صدمة , كل ما عرفوه هو أن القاتل شاب لاتيني ذو قامة طويلة يرتدي ملابس سوداء .
كان راميريز في اشد حالاته غضبا بسبب فشل عمليته الأخيرة , ولهذا قام بعد اقل من ساعة بقتل ضحيته الثالثة , كان يريد الهرب بطريقة أسرع , فقام بكل بساطة بفتح باب سيارة تسان ليان يو - 30 عاما - ورميها خارجا حوالي المترين ثم إطلاق النار عليها من دون أن ينظر إليها واخذ سيارتها وهرب بعيدا .
بعد أسبوعين في 27 مارس / آذار تسلل راميريز إلى منزل فنسنت زازارا - 64 عاما - وزوجته ماكسين - 44 عاما - , كان منزلهما يقع في أطراف مدينة ويتر بمقاطعة لوس انجلوس . راميريز قتل الزوج بثلاث رصاصات بينما كان مستلقيا على الأريكة , وأطلق ثلاث رصاصات أخرى على الزوجة العجوز لكنها لم تمت في الحال فشرع بطعنها ونحت رسوما بالسكين على جسدها , واقتلع عينيها من محجريهما , تاركا وراءه جثة مشوهة يصعب النظر إليها لهول منظرها .
وفي 14 مايو / أيار عام 1985 أقتحم راميرز منزلا آخر يعود لـ بيل دوي - 66 عاما - وزوجته المقعدة ليليان - 56 عاما - , قام بمباغتة بيل أولا فقتله بإطلاق النار على رأسه بينما كان مستلقيا في غرفة نومه , ثم قام بتقييد ليليان واغتصابها , ثم سرق المنزل وولى هاربا .
بعد أقل من أسبوعين ضرب راميريز مجددا , هذه المرة في مونروفيا , الضحية هي روث ويلسون - 41 عاما - , قام بتقييدها هي وأبنها ذو العشرة أعوام ثم شرع بسرقة كل ما خف حمله وغلا ثمنه , وقبل أن يغادر عاد إلى روث واغتصبها , وفي لحظة كرم نادرة منه , ربما لأنها أعجبته , فقد تركها حية هي وأبنها . وتعتبر روث هي الضحية الأولى التي أعطت أوصافا دقيقة عن القاتل الغامض .
وباستمرار مسلسل الجرائم المرتكزة على اقتحام البيوت الآمنة وقتل من فيها فقد بدأت الصحافة ووسائل الأعلام تتحدث عن قاتل طليق أسبغوا عليه لقب "المتعقب الليلي" , وساد جو من الرعب والترقب على طول الساحل الغربي لأمريكا , خصوصا في ولاية كاليفورنيا حيث وقعت جميع الجرائم , أصبح الناس حريصين على قفل أبوابهم ونوافذهم , وصار الأبناء والأحفاد يأتون لبيوت ذويهم من كبار السن ليقوموا بحراستهم .
الشرطة بدورها جندت كل إمكاناتها وأطلقت حملة واسعة للإيقاع بالسفاح , لكن كل جهودها باءت بالفشل , فراميريز كان حريصا على أن لا يترك أثرا ورائه , وكان ينتقي ضحاياه بعشوائية وبدون تخطيط مسبق وفي أماكن متباعدة .
في 29 مايو / أيار قاد راميريز سيارة بنز سوداء مسروقة إلى مدينة مونروفيا في مقاطعة لوس أنجلوس وتوقف بها أمام منزل المعلمة المتقاعدة مابيل - 83 عاما - وشقيقتها المقعدة فلورانس - 81 عاما - . تسلل إلى المنزل عبر نافذة مفتوحة وهجم على الشقيقتين فقام بضربهما وتقييدهما وشرع بسرقة كل محتويات المنزل الثمينة , ثم عاد وأغتصب فلورانس ورسم نجمة الشيطان على فخذها ثم تركها مع أختها وهما في حالة يرثى لها, ولم يتم اكتشاف الجريمة إلا بعد يومين , عثر الجيران على الشقيقتين وهما في حالة غيبوبة . ولاحقا ماتت مابيل في المستشفى أما فلورانس فقد نجت .
بعد ثلاثة أيام أقتحم راميريز منزلا آخر في أركاديا بمقاطعة لوس انجلوس , الضحية كانت سيدة عجوز تدعى ماري لويز - 75 عاما - , ضربها على رأسها بمصباح المنضدة بينما كانت نائمة في سريرها , ثم أتى بسكين كبيرة من المطبخ وراح يطعنها مرارا حتى مزق جسدها أربا .
وفي 5 تموز / يوليو ظهر راميريز مجددا , هذه المرة في سييرا ميدرا بمقاطعة لوس انجلوس , تسلل إلى منزل المراهقة ويتني بينيت – 16 عاما – وهاجمها بينما كانت نائمة , ضربها على رأسها بقضيب معدني حتى توقفت عن الحركة والتنفس ثم توجه إلى المطبخ بحثا عن سكين ليذبحها , لكنه لم يعثر على سكين مناسبة , فقرر أن يشنقها بسلك الهاتف , وبينما هو يلف السلك على رقبتها فتحت الفتاة عينها فجأة وأخذت تتنفس بسرعة , ففر راميريز مذعورا ظنا بأن معجزة قد حصلت . أما الفتاة المسكينة فنقلت إلى المستشفى ونجت بعد أن تم تقطيب رأسها بـ 478 غرزة .
بعد يومين تسلل راميريز إلى منزل السيدة جويس نيلسون – 61 – عاما , فلكمها وركلها بقسوة حتى ماتت , ثم تسلل إلى منزل مجاور يعود للسيدة صوفيا دكمن – 63 عاما - فقام بضربها وحاول اغتصابها ولم يتركها إلا بعد أن سلمته كل مجوهراتها وأقسمت له بالشيطان بأنها أعطته كل ما تملكه .
في 20 تموز / يوليو خرج راميريز مجددا بحثا عن ضحية , هذه المرة وقع اختياره على منزل ماكسون نيدلنغ – 68 عاما – وزوجته ليلى – 66 عاما - , هاجمها بواسطة مانشيتي – مدية طويلة – ومثل بجثتيهما ثم سرق المنزل وغادر . وفي نفس الليلة قرابة الساعة الرابعة فجرا عاد فأقتحم منزل عائلة خوفينانث , قتل الزوج برصاصة في الرأس ثم هدد الزوجة بقتل أبنها ذو الثمانية أعوام ما لم تسلمه كل المال والمجوهرات في المنزل , ولم يغادر إلا بعد أن اغتصبها وأجبرها على أن تقسم بالشيطان بأنها أعطته كل ما تملك .
في السادس من آب / أغسطس قاد راميريز سيارة مسروقة نحو ضواحي مدينة لوس انجلوس وتسلل إلى منزل كريس بيترسون - 38 عاما - وزوجته فرجينيا – 27 عاما – , أطلق النار على رأس فرجينيا أولا فسقطت تتخبط بدمها , ثم أطلق النار على كريس فأصابه , لكن لشدة دهشته نهض كريس مجددا وهاجمه بقوة , فأطلق عليه رصاصتين أخريين لكنه أخطئه , وأمام بطولة كريس لم يجد راميريز بدا من الهرب . ولحسن الحظ فقد نجا كلا الزوجان من إصابتيهما .
بعد يومين توجه راميريز إلى مدينة دياموند بار في مقاطعة لوس أنجلوس وتسلل إلى منزل الياس ابو واث – 31 عاما – وزوجته سكينة – 27 - , فقتل الزوج النائم أولا برصاصة بالرأس ثم قيد أبنه وهدد بقتله ما لم تسلمه سكينة كل مقتنيات المنزل الثمينة , ولم يرحل إلا بعد أن قام باغتصابها وجعلها تقسم بالشيطان أنها لم تخفي شيئا عنه .
في 18 آب / أغسطس ترك راميريز لوس انجلوس وذهب إلى سان فرانسيسكو , هناك أقتحم منزل بيتر بان – 66 عاما – وزوجته باربرا – 62 عاما – فقتل الزوج أولا برصاصة في الرأس واغتصب الزوجة قبل أن يرديها قتيلة هي الأخرى , ولم ينس أن يترك توقيعه قبل أن يغادر , فرسم نجمة الشيطان بدماء ضحاياه على حائط غرفة النوم .
بعد أسبوع , في 24 آب / أغسطس , قاد راميريز سيارة تويوتا برتقالية اللون مسروقة إلى مدينة ميسيون فيجو الواقعة في مقاطعة أورانج , تسلل من الباب الخلفي لمنزل بيل كارنيز – 29 عاما – وأطلق ثلاث رصاصات على رأسه بينما كان نائما ثم بدأ بضرب خطيبته كارول سميث – 27 عاما – وهو يصرخ كالمجنون قائلا : "أنا المتعقب الليلي" , جعلها تقسم بأنها تحب الشيطان وهدد بقتلها لو كذبت عليه أو حاولت أن تختلس النظر إلى وجهه , وبعد أن سرق المنزل قام باغتصابها ثم طلب منها أن تخبر الشرطة بأن : "المتعقب الليلي كان هنا" .
أثناء مغادرة راميريز لمنزل بيل كارنز شاهده صبي من الجيران يدعى جيمس روميرو , الصبي أرتاب في هذا الرجل الغريب ذو الملابس السوداء فقرر أن يسجل أرقام لوحة سيارته . وما أن غادر راميريز حتى علا صراخ كارول التي استطاعت أن تفك قيدها ثم زحفت إلى منزل الجيران تطلب النجدة , وسرعان ما وصلت الشرطة وعربات الإسعاف فقامت بنقل بيل كارنيز إلى المستشفى والذي بشكل لا يصدق نجا من موت محقق بعد أن اخرج الأطباء رصاصتين من رأسه .
خلال التحقيق أعطت كارول أوصافا دقيقة عن المهاجم , وهي أوصاف جاءت مطابقة لتلك التي أدلى بها بقية الناجون من ضحايا راميريز . فأدركت الشرطة بأنها إزاء نفس الشخص , وجاء المنعطف الكبير في القضية عندما أتصل والدا جيمس روميرو بالشرطة وأخبروهم بأن أبنهم قام بتسجيل أرقام لوحة سيارة المهاجم , فأصبح لدى الشرطة لأول مرة رأس خيط يمكن أن يقودهم للسفاح , وبالحال شرعت الشرطة بحملة بحث واسعة عن السيارة حتى عثروا عليها بعد بضعة أيام متروكة على جانب طريق فرعي خارج مدينة لوس انجلوس , وتبين أن السيارة مسروقة , لكن المحققين أجروا مسحا شاملا عليها بحثا عن بصمات الأصابع . ومع أن راميريز كان حريصا كل الحرص على مسح جميع بصماته , إلا أن الشرطة عثرت على بصمة واحدة كان راميريز قد تركها وراءه , وبالبحث في أرشيف الشرطة توصل المحققون إلى أن البصمة تعود لريتشارد راميريز , وهو شاب في العشرينات من العمر لديه سجل حافل بالمخالفات المرورية والتحرش الجنسي وتعاطي المخدرات , وتأكدوا من أنه الشخص المطلوب من خلال عرض صورته المحفوظة في سجلات الشرطة على الضحايا . والآن وقد انكشفت هوية "المتعقب الليلي" فأن الوصول إليه أصبح مسألة وقت ليس إلا , خصوصا بعد أن عممت الشرطة صورته على جميع وسائل الإعلام , وظهر رئيس الشرطة بنفسه في مؤتمر صحفي وهو يمسك بصورة راميريز موجها كلامه إليه : " نحن نعرف الآن من تكون , وقريبا سيعرفك الجميع , لن يكون هناك مكان تستطيع الاختباء فيه " .
الوحش في قبضة العدالة
على سطح فندق سيسل في لوس انجلوس , كان راميريز يجلس كل يوم في حجرته المستأجرة ليطالع الصحف المحلية و نشرات الأخبار , كان شغوفا بمتابعة تداعيات جرائمه , مستمتعا بكونه حديث الناس . لكنه لسوء حظه لم يكن متواجدا في حجرته في اليوم الذي عممت فيه الشرطة صورته , كان في زيارة لأخيه في أريزونا , وهكذا لم يعلم بأن الجميع في أمريكا باتوا يعرفونه . وعندما عاد في يوم 31 أب / أغسطس كان غافلا تماما عن انكشاف هويته , فراح يمشى في الطرقات من دون خوف أو وجل حتى مر ببعض النسوة العجائز اللواتي نظرن إليه بغرابة ثم صرخن برعب : "ال ماتدور" , أي القاتل باللغة الاسبانية , فأدرك راميريز بأن هناك خطبا ما , وأخذ يسرع بخطواته حتى مر بمكتبة فأنتبه صدفة لصورته المنشورة على صفحات الجرائد الأولى , فأصيب بالفزع , وراح يركض مذعورا هربا من الصيحات التي بدأت تطارده , وكعادته حاول أن يسرق سيارة , فهجم على سيدة وحاول إخراجها بالقوة من سيارتها , لكن بعض المارة ضربوه فأنقذوا السيدة , فأبتعد مهرولا تطارده الصيحات والأنظار , وحاول سرقة سيارة أخرى , لكن الفشل كان نصيبه هذه المرة أيضا , ثم أخذ يقفز من فوق أسوار المنازل مخترقا الحدائق الخاصة حتى وجد نفسه في نهاية المطاف محصورا في أحد الأزقة الفرعية , كان منظره بائسا في تلك اللحظة , بدا كجرذ مذعور يبحث عبثا عن جحر صغير يختبأ فيه , وخلال لحظات أحاط به الرجال من كل جانب وعاجله أحدهم بضربه قوية على أم رأسه بقضيب معدني فسقط أرضا وتلقاه الناس بالركلات حتى وصلت الشرطة فانتزعته منهم بشق الأنفس .
المحاكمة
ابتدأت محاكمة راميريز عام 1988 , أي بعد ثلاثة أعوام من إلقاء القبض عليه . وخلال ظهوره الأول في قاعة المحكمة رفع كفه وقد رسم عليها نجمة الشيطان وصرخ عاليا : "المجد للشيطان" .
محاكمة راميريز كانت الأكثر جذبا لوسائل الإعلام في تاريخ لوس أنجلوس وأكثرها تكلفة , إذ كلفت دافعي الضرائب الأمريكيين قرابة المليونين دولار . وشهدت جلساتها الطويلة تصرفات غريبة من قبل القاتل الذي بدا غير مباليا ولا نادما على أفعاله , بالعكس كان مستمتعا بالأضواء كأنه نجم سينمائي , وتمكن من إثارة الرعب في قلوب المحلفين وأعضاء المحكمة رغم القيود التي تكبل معصميه , إذ سرت في بداية محاكمته شائعة مفادها بأن راميريز يخطط لتهريب مسدس إلى داخل القاعة ليردي به المدعي العام , فتم وضع كاشف معادن على باب القاعة وأخضع جميع الداخلين لتفتيش دقيق وصارم .
وخلال جلسة أخرى تغيبت عضوة في هيئة المحلفين عن الحضور , ليتبين لاحقا بأنها ماتت مقتولة بالرصاص في شقتها , وساد جو من الفزع والهلع الشديد بين المحلفين , إذ ظن بعضهم بأن لراميريز يد في مقتل زميلتهم , خصوصا وأنه هدد بالانتقام في أكثر من مناسبة , لكن تبين لاحقا بأن المحلفة تعرضت للقتل على يد صديقها الذي عثرت الشرطة على جثته في نفس الشقة والأرجح أنه مات منتحرا . وسرعان ما تم استبدال العضوة القتيلة بعضوة جديدة , غير أن الخوف ظل مخيما على قاعة المحكمة إلى درجة أن العضوة الجديدة رفضت العودة إلى منزلها بعد انتهاء الجلسة وطلبت وضع حماية لها .
كان وصف الإدعاء العام والشهود لتفاصيل الجرائم مرعبا أيضا , وراح بعض الناجون , وكذلك أقارب الضحايا , يبكون بحرقة عند استماعهم لهذه التفاصيل المروعة . أما راميريز فكان غير مباليا ولا مراعيا لمشاعر ضحاياه , قال مرة : "اعشق قتل الناس . أعشق رؤيتهم يموتون . أقوم بإطلاق النار على رؤوسهم فيتشنجون ويتقلبون في أنحاء المكان ثم يتوقفون , أو أقوم بتقطيعهم بالسكين وأراقب وجوههم وهي تتحول إلى بيضاء شاحبة . أعشق كل ذلك الدم . طلبت من إحدى السيدات مرة أن تعطيني كل مالها , قالت لا , فقمت بتقطيعها وأخرجت عيناها من محجريهما " .
الأكثر غرابة في محاكمة راميريز هو إعجاب وهيام النساء به .. كان أمرا يصعب تصديقه , كيف لسفاح سادي مختل أن يحصل على كل هذا العدد من المعجبات ؟! .. كانت تصله عشرات رسائل العشق يوميا , الكثير من النساء أرسلن صورهن للسفاح عارضات عليه أنفسهن , والعديد منهن قمن بزيارته فعلا داخل السجن . كان الأمر مصدر إزعاج للسلطات إلى درجة أنهم قاموا بنقله إلى سجن آخر يصعب الوصول إليه ليتخلصوا من حشد المعجبات المهووسات . وبعد عدة أعوام تزوج راميريز من إحدى معجباته , وهي صحفية مستقلة تدعى دورين ليوي , والتي قالت بأنها ستقتل نفسها في اليوم الذي سيعدمون فيه راميريز , لكن المفارقة هي أن راميريز طلقها وتزوج بواحدة أخرى في الثالثة والعشرين من عمرها .
تعليق