ملائكة ناجيريف
قصتنا اليوم غريبة ، غير معقولة ، لولا أن تم توثيقها بالأوراق الرسمية والصور لقلت بأنها ضرب من ضروب الخيال . هي أشبه ما تكون بسيناريو فيلم مرعب عن بلدة نائية معزولة تفشى فيها وباء غامض فتحول سكانها بالتدريج إلى موتى أحياء (زومبي) يقتلون ويأكلون بعضهم البعض بصورة مخيفة ومقززة ، مع فارق أن البلدة التي سنحدثكم عنها لم تشهد إراقة دماء ، بل تم القتل فيها بصورة لطيفة ونظيفة على يد نسوة متشحات بالسواد باحثات عن الحرية والعشق بلا قيود ! .
دعونا لا نطيل الكلام ، ولنجمع خيوط قصتنا واحدا بعد الآخر ...
قبل قرن من الزمان كانت أوربا غارقة في الفوضى وعلى شفا حرب مدمرة ، عانى الناس الأمرين من الاضطرابات السياسية والاقتصادية ، وانعكس أثر ذلك جليا على الحياة الاجتماعية ، كان تأثيره سلبيا على المدى القصير ، تمثل في ازدياد الفقر والعنف ، لكنه أفرز واقعا جديدا على المدى البعيد خصوصا فيما يتعلق بالحريات ، لم تعد القيود والاعتبارات القديمة مقبولة ، وهذا هو لب المسألة حينما نفكر بعناية في الأسباب التي تقف وراء الأحداث الرهيبة التي جرت في بلدة ناجيريف الواقعة على بعد ستون ميلا إلى الجنوب من العاصمة المجرية بودابست (هنغاريا) .
لسنوات طويلة احتارت السلطات المجرية في السبب وراء نسبة الوفيات المرتفعة في تلك البلدة الصغيرة التي تمتد أكواخها الحقيرة فوق شريط أخضر من الأرض محاذي لنهر تيسا ، كانت البلدة تمتلك أعلى نسبة وفيات في البلاد ، لم يكن الأمر منطقيا البتة ، خصوصا حين نعلم بأن معظم تلك الوفيات كانت في صفوف الرجال ... لماذا يموت هؤلاء ولا تموت النساء ؟ .. هذا هو السؤال الذي أعيى المحققين وأثار حيرتهم .
وللإجابة على هذا السؤال علينا أولا إلقاء نظرة خاطفة على وضع المرأة في تلك الأصقاع ، ففي مطلع القرن العشرين لم تكن المرأة الأوربية تحظى بمعظم الحقوق التي ترفل بها اليوم . الوضع في الأرياف خصوصا كان مزريا ، كانت سلطة الرجل وقوانينه هي الحاكم المطلق ، وكان يجري الاتفاق على تزويج الفتيات من قبل عائلاتهن من دون الالتفات كثيرا لرأيهن ورغباتهن ، مما أدى لوجود زيجات فاشلة كثيرة ، وزاد الطين بله تعذر الطلاق في ظل القوانين التي لم تكن تبيحه آنذاك . لذا لم يكن أمام المرأة سوى أن تتعايش مع واقعها وتتحمل زوجها مهما كان سيئا .
نعيم الحرب !
الأمور تبدلت مع نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، إذ تم سوق الرجال بالجملة إلى جبهات القتال ، خلت البيوت والطرقات من الأزواج والإخوة والأبناء ووجدت النساء أنفسهن أمام واقع جديد تلاشت فيه سلطة الرجل وأصبحت كلمة حواء هي العليا . بلدة ناجيريف لم تكن استثناءا ، سيق رجالها أيضا إلى الجبهة .
كان على النساء الآن أن يقمن بجميع الأعمال التي دأب الرجال على القيام بها ، كالزراعة والعناية بالحيوانات وجمع الحطب وحتى أعمال النجارة والترميم والبناء ، لكن شقائهن لم يدم طويلا ، إذ جاءهن العون من حيث لا يحسبن ، فخلال الحرب شيدت الحكومة معسكرا لإيواء الأسرى بالقرب من البلدة ، معظم أولئك الأسرى كانوا من الجنود الروس ، ولم يكونوا يخضعون لحراسة مشددة ، لم يكن هناك خوف من هربهم ، إلى أين سيفرون ؟ .. لم تعد لديهم دولة أصلا ، فالثورة البلشفية أطاحت بدولتهم القيصرية ، وبلادهم غارقة في الفوضى . وبما أن الدولة المجرية كانت تعاني ضائقة مالية بسبب الحرب ، لذلك تم سوق هؤلاء الأسرى إلى البلدات القريبة من المعسكر للقيام بأعمال السخرة مقابل بعض الطعام .
بالنسبة لنساء غاب عنهن رجالهن لسنوات طويلة كان إغراء هؤلاء الشباب الشقر ذوي القامة الطويلة والعيون الزرقاء أمرا تصعب مقاومته . في الحقيقة نساء ناجيريف كن أشبه بأرض أصابها الجفاف لسنوات ، كن متحفزات عاطفيا وجنسيا ، وقد وجدن ضالتهن في هؤلاء الغرباء المتفجرين فحولة .. يا أهلا بالمطر ! .
فجأة أصبح الرجال متوفرون بكثرة ، كان بإمكان أي امرأة أن تحضا بعشيق ، لم يعد الأمر موجبا للخجل ، بل صار مدعاة للفخر والمباهاة ، كأنما هناك مسابقة لجمع أكبر عدد من العشاق . السيدة أونلا مثلا ، تلك الأرملة المحترمة التي قاربت الخمسين ، أصبح لديها ثلاث عشاق! .. أما باولا ، الزوجة المطيعة والأم لأربعة أطفال ، فاتخذت عشيقين أصبحا يعيشان معها في مزرعتها ... باختصار كل امرأة باحثة عن الحب حصلت على رجل وأكثر .
والآن تخيل الوضع عزيزي القارئ وتمعن في سخرية الأقدار .. الرجال يحاربون في جبهات القتال ، ينزفون دما لحماية الأرض والعرض ، بينما نسائهم يضاجعن العدو في بيوتهم وفوق أسرتهم .. يالها من معركة خاسرة ! ..
لكن الحروب لا تدوم إلى الأبد . ففي عام 1918 وضعت الحرب العالمية أوزارها أخيرا بهزيمة دول المركز ، وعاد ملايين الجنود إلى بيوتهم ، بعضهم لم ير أهله لسنوات . كان رجال ناجيريف من ضمن العائدين ، وليتهم لم يعودوا ...
هل جربت عزيزي القارئ أن تتوق إلى شيء بشدة ، تفكر فيه ليل نهار ، تعد الدقائق واللحظات للوصول إليه ، لكن حين تطاله يدك أخيرا يتبين بأنه لم يكن يستحق كل ذلك التفكير والانتظار .. هل جربت طعم الخيبة ، مرارة الغدر ، ألم الخيانة ، هل وقفت في منتصف طريق خالي في يوم مغبر تضرب كفا على كف غير مصدق ما يجري عليك من ظلم .. كل هذا جرى على رجال ناجيريف ، عادوا يحدوهم الشوق لحياتهم القديمة ، لكن أين هي تلك الحياة ؟ .. تبخرت ، لم يعد لها وجود ، ولم يعد بالإمكان العودة بعقارب الساعة إلى الوراء . اللوم لا يقع كله على النساء ، لكن مجريات الأحداث قادت إلى ذلك ، فحين تعطي شخصا ما حريته كاملة يصعب أن تسلبها منه مرة أخرى . ومن هنا بدأت المشاكل ، النساء رفضن العودة إلى الأيام الخوالي ، تمردن على القيود القديمة ، حتى أن البعض منهن رفضن التخلي عن العشيق ، وبالمقابل أصبح الرجال أكثر عنفا ، صاروا كوحوش ثائرة جريحة ، يعاقرون الخمر ليل نهار لعلهم ينسون هذا الواقع البائس اللعين .
بصراحة شديدة ، الكثير من نساء ناجيريف لم يردن عودة رجالهن أبدا ، تمنين لو طال أمد الحرب إلى ما لا نهاية ، لو أن رجالهن قضوا هناك في تلك الخنادق الدامية . أما الآن وقد عادوا ، فقد أصبح العيش معهم مستحيلا ، ويجب البحث عن حلول للتخلص منهم مجددا .
القابلة الطيبة
لا أحد يعرف تحديدا من أين أتت السيدة جوليا فازيكاس ، ليس هناك الكثير ليقال عن ماضيها المجهول ، لكن المعلوم هو أنها سكنت بلدة ناجيريف في وقت ما من عام 1911 . كانت قد ترملت حديثا ، ولم يطل الوقت حتى تزوجت مجددا بأحد رجال البلدة وانتقلت للسكن في كوخه . كانت في منتصف العمر ، ترتدي ثيابا داكنة . لم تكن ذات جمال ، ملامحها جامدة لا تنم عن أي شعور أو عاطفة ، لكن نظراتها الحادة الثاقبة تعطي انطباعا بقوة الإرادة وثبات العزيمة .
السيدة فازيكاس نالت شعبية جارفة بين نساء البلدة ، كانت قابلة خبيرة ، لكن خدماتها لم تقتصر على التوليد ، بل كانت أشبه بطبيبة نسائية ، لذا أطلقوا عليها أسم "الست الحكيمة" . جزء كبير من شعبيتها يعود لكون بلدة ناجيريف تفتقر إلى وجود طبي ، لا مستوصف ولا حتى عيادة طبيب ، شأنها شأن معظم البلدات الريفية المهملة والمنسية من قبل الحكومة .
يقال أيضا بأن السيدة فازيكاس كانت ضليعة بالسحر ، وخبيرة بالسموم . كما تضمنت قائمة خدماتها إجهاض النساء ، وهو عمل أزدهر كثيرا زمن الحرب لكثرة النسوة الراغبات في التخلص من الأجنة الناتجة عن علاقاتهن الغرامية خارج أطار الزواج . طبعا الإجهاض كان يعد جريمة آنذاك ، وبسببه ألقي القبض على السيدة فازيكاس أكثر من عشر مرات على مدى خمسة عشر عاما . لكن لحسن حظها كان القضاة آنذاك متعاطفين مع قضايا المرأة لذلك كانوا يفرجون عنها في كل مرة من دون أية عقوبة .
كانت السيدة فازيكاس طيبة ومتعاطفة جدا مع قضايا ومشاكل بنات جنسها ، لكن حين يتعلق الأمر بالرجال ، خصوصا الأزواج ، فكانت لديها حكمة شهيرة تقول : "الزوج الطيب هو الزوج الميت .. لأنه لا يفتح فمه أبدا " ! .
في عام 1913 مات زوج السيدة فازيكاس أثر وعكة صحية مفاجئة تاركا لزوجته كوخه وأرضه . وكان للسيدة فازيكاس صديقة ومعاونة تدعى سوزي أولاه ، وتعرف بين السكان بأسم الخالة سوزي ، مات زوجها هي الأخرى بصورة مفاجئة فورثت عنه أمواله . كان موت الزوجين في وقت متقارب مثيرا للريبة ، لكنه مر مرور الكرام ، خصوصا وأن الرجل المسئول عن إصدار وثائق الوفاة في البلدة كان من أقارب السيدة فازيكاس ، وكان بارعا جدا في تأليف أسباب مقنعة لموت الناس . وكانت الجثث ترسل مباشرة إلى مقبرة البلدة لعدم وجود مستشفى يقوم بالتشريح وتشخيص أسباب الوفاة .
القوارير السحرية
مشاكل بلدة ناجيريف بدأت تتصاعد منذ عودة رجالها من جبهات القتال ، تمرد النساء على القيود القديمة أدى لزيادة العنف الأسري . والكثير من أولئك النسوة المعنفات كن على استعداد لفعل أي شيء للتخلص من جبروت الأزواج والعودة مجددا إلى أحضان العشاق . وهنا جاء دور السيدة فازيكاس ، إذ كان لديها دواء مجرب كفيل بحل جميع المشاكل الزوجية إلى الأبد ! .
- " تفضلي ماريا .. امسكي بهذه القارورة " .. قالت السيدة فازيكاس لضيفتها الشابة ذات العيون الدامعة وهي تناولها قنينة صغيرة ذات لون بني غامق .
- " ماذا أفعل بهذه القارورة ؟ " .. تساءلت ماريا وهي تقلب القنينة بين أصابعها كأنما تريد أن تستشف محتواها .
- " ضعي بضعة قطرات منها في طعام جورج .. وسينتهي الأمر .. ستتخلصين من جميع مشاكلك دفعة واحدة " .. ردت السيدة فازيكاس بنبرة قوية واثقة .
- " هل تقصدين أن ... أووه ... لا يا ألهي .. لا أظنك تقصدين ذلك حقا ! " .. ردت الضيفة الشابة وقد ارتسمت على وجهها إمارات الدهشة ممزوجة بشيء من الخوف .
- " ولم لا ؟ " .. قالت السيدة فازيكاس ثم أردفت بشيء من الحدة : "لقد ضربكِ اليوم ، وكذلك يفعل كل يوم ، أنتِ بنفسكِ قلتِ بأن الحياة معه أصبحت مستحيلة ، وأنكِ موقنة من أنه سينتهي بكِ الأمر جثة هامدة على يديه في أحد الأيام ، فلماذا تنتظرين حتى يرسلكِ هو إلى القبر ، بادري أنتِ وأرسليه إلى حتفه ، زوجكِ الوغد لا يستحق الحياة " .
وبالفعل لم تمر سوى أسابيع قليلة على هذا الحديث حتى كان جورج المسكين يقبع في التابوت في طريقه إلى الجبانة القديمة ، خلف التابوت مباشرة كانت تمشي ماريا وهي تلطم الخدود وتشق الجيوب حزنا وكمدا على رحيل العزيز الغالي ! .. ومن وراءها سارت السيدة فازيكاس والخالة سوزي مع بضع أرامل أخريات منكسات الرؤوس ومتشحات بالسواد . كان موكبا غريبا بحق ، فيه القليل من الحزن والكثير من التمثيل ، ينطبق عليه المثل القائل : " يقتلون القتيل ويمشون في جنازته" .
قوارير السيدة فازيكاس سرعان ما وجدت طريقها لمنازل أخرى في بلدة ناجيريف ، وكذلك لبعض المنازل في مدينة تيساكورت المجاورة . وبالتدريج أصبح مشهد التوابيت السائرة نحو الجبانة منظرا مألوفا . فما بين عامي 1914 – 1929 أرسلت تلك القوارير السحرية أكثر من ثلاثمائة شخص إلى مثواهم الأخير .
اشرطة قتل الذباب
رغم تعاطف السيدة فازيكاس مع مشاكل بنات جنسها ، إلا أنها لم تكن توزع قاروراتها مجانا ، كان سعر الواحدة يقارب العشرين دولارا ، وهو ليس مبلغا قليلا بحساب تلك الأيام . تلك القوارير لم تكن تحتوي على سائل سحري كما زعمت السيدة فازيكاس لزبائنها ، محتوى الزجاجة لم يكن في الواقع سوى سم الزرنيخ المستخلص من شرائط قتل الذباب اللاصقة . وأظنك عزيزي القارئ شاهدت مثل تلك الشرائط سابقا ، فهي تعلق داخل البيوت والمحال التجارية للتخلص من الذباب ، فيها مادة لاصقة يعلق فيها الذباب فيموت . في أيامنا هذه لا يضعون فيها الزرنيخ ، لكنهم كانوا يفعلون في الماضي . وبطريقة ما توصلت السيدة فازيكاس إلى استخلاص ذلك الزرنيخ عن طريق نقع الشرائط بالماء ، كانت طريقة ساذجة وبسيطة ورخيصة ، كل ما على السيدة فازيكاس فعله هو أن تضع جزءا صغيرا من الشريط السام في قارورة مليئة بالماء ثم تتركها لتتخمر فتتحول إلى سم زعاف . كانت السيدة فازيكاس تحتفظ بالعشرات من هذه القوارير في قبو منزلها .
أما طريقة استعمال السائل السحري فكانت بسيطة جدا . السيدة فازيكاس وزبائنها كانوا يتجنبون تسميم ضحاياهم مرة واحدة لئلا يفتضح أمرهم ، كانوا يستعملون طريقة الجرعات . في بادئ الأمر يضعون كمية صغيرة من السم في طعام الضحية لكي يكون أثره بطيئا فلا يثير الشكوك ، يستمرون بذلك حتى تظهر أعراض التسمم ، وهي أعراض يصعب تمييزها لكونها شبيهة بأعراض الكثير من الأمراض ، خصوصا المعوية منها .. كالألم في المعدة ، والإسهال ، والقيء ، والدوخة والصداع .
بعد ظهور الأعراض الأولية تعمد القاتلة إلى التمويه عن طريق الظهور بمظهر الحريص الخائف على سلامة ضحيتها ، فتتطوع للذهاب إلى المدينة المجاورة لشراء دواء من الصيدلية ، وهنا تبدأ المرحلة الثانية من التسميم ، حيث تبدأ القاتلة بدس كمية صغيرة من السم مع كل جرعة دواء ، وهكذا فأن الدواء الذي يفترض به معالجة المريض يصبح هو أداة القتل الرئيسية ، ويستمر هذا الحال لعدة أسابيع حتى يصل الضحية إلى مرحلة الغيبوبة ويلفظ أنفاسه .
يتبع
تعليق