الحمد وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فإن السحر ينتشر ويتفاوت انتشاره من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن أشخاص إلى أشخاص بحسب تفاوت الأسباب.
وفي العصور المتأخرة زاد انتشار السحر والشعوذة، وتنوعت الأساليب؛ تبعاً لتقارب الزمان، واندراس كثير من معالم السنن والهدى.
وفيما يلي من صفحات بيان لبعض أسباب انتشار السحر، ثم يُعْقِبُ ذلك ذِكْرٌ لبطلان زيف السحرة، وفساد صناعتهم؛ فإلى تفاصيل ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
فيما يلي ذكر لبعض الأسباب التي ساعدت على انتشار السحر، مع ملاحظة أن بعضها داخل في بعض، وأن منها ما يعود إلى السحرة والمشعوذين، ومنها ما يعود إلى المتلقين والمخدوعين، ومنها أسباب خارجة عن ذلك.
وبمجموع تلك الأسباب تنتشر الخرافة، ويستطير شر السحر والدجل؛ فإلى تلك الأسباب:
1_ الجهل: فهو على رأس الأسباب التي تمكن للخرافة والسحر والسحرة؛ فتجد من المخدوعين من يجهل حكم الشرع في الذهاب إلى الكهان والسحرة، ويجهل حُكْمَ سؤالهم وتصديقهم، ويجهل عواقب الأمور، ويجهل الأسباب الحقيقية الصحيحة للشقاء والسعادة، وتحصيل الخير.
وتجد منهم من يجهل حقيقة السحرة والمشعوذين والكهان، وتراه يغتر ببعض ما يقومون به من مخاريق وأمور خارجة عن العادة، ويغتر بما يشاع عنهم من أخبار تفيد أنهم يعالجون، أو يجلبون السعادة، أو ما يدَّعونه من العلم، والولاية، والديانة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيجب أن يفرَّق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال _تعالى_: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)) يونس.[1]
وقال رحمه الله : "وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع، فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يُقبل منه كل ما يقوله، ويسلِّم إليه كلَّ ما يقوله، ويسلِّم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة".[2]
وقال: "وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي لله فإنه بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالُف في شيء.
ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟ !
وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة، أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو أن يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور.
وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء لم يُغْتَرّ به حتى يُنْظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه".[3]
إلى أن قال: "وكرامات أولياء الله _تعالى_ أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله؛ فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار، والمشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم، وأفعالهم، وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة .
مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ، ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابساً للنجاسات معاشراً للكلاب، يأوي إلى الحمامات، والقمامين، والمقابر، والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف".[4]
إلى أن قال: "فإذا كان الشخص مباشراً للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمامات، والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات، والعقارب، والزنابير، وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول، ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله، فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب، أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى، أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن _ فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن".[5]
2_ ضعف الإيمان والتقوى: قال الله _عز وجل_ في حق الذين يؤثرون السحر: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102).
قال ابن رجب رحمه الله في بيان معنى هذه الآية: " والمراد أنهم آثروا السحر على التقوى والإيمان؛ لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة.
وهذا جهل منهم؛ فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عداهما، فكانوا يحرزون أجر الآخرة، ويأمنون عقابها، ويتعجلون عز التقوى في الدنيا، وربما وصلوا إلى ما يأملونه أو إلى خير منه وأنفع؛ فإن أكثر ما يطلب بالسحر قضاءُ حوائجَ محرمةٍ أو مكروهة عند الله_عز وجل_.
والمؤمن المتقي يعوضه الله في الدنيا خيراً مما يطلبه الساحر ويؤثره مع تعجيله عز التقوى وشرفها، وثواب الآخرة وعلو درجاتها؛ فتبين بهذا أن إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل؛ ولذلك كان كل من عصى الله جاهلاً، وكل من أطاعه عالماً، وكفى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً"[6].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً فضل التقوى، وأنها سبب للولاية، وأن من كان ولياً لله أمكنه التفريق بين الصادق والكاذب.
قال: "فإذا كان العبد من هؤلاء _يعني من أولياء الله المتقين_ فرَّق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يُفَرِّق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق، وبين المتنبئ الكذاب؛ فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين، وموسى، والمسيح، وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين".[7]
3_ كثرة الوسائل المعينة على انتشار السحر، وسهولة الوصول إلى السحرة: حيث يوجد من القنوات الفضائية، والصحف، والمجلات، والكتب، ومواقع الإنترنت، وشركات الاتصالات، ما يعين على انتشار السحر، ونفاق سوقه.
4_ الطمع، والرغبة في كسب المال: سواء كان ذلك من قبل الساحر، أو قِبل القنوات الفضائية التي تُمكِّن لهم، أو من قبل شركات الاتصال، أو الصحف أو غير ما ذكر.
فإذا اجتمع إلى ذلك ضعفُ الإيمان أو انعدامه، وقلة المبالاة بمصدر الكسب _ فلا تسل عما سيحدث من شرخ وبلاء.
5_ الرغبة في استشراف المستقبل: فذلك يبعث إلى البحث، والسؤال؛ فالنفس الإنسانية مولعة بمعرفة الغيب.
يقول ابن خلدون رحمه الله : "اعلم أنَّ من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أمورهم، وعِلْمِ ما يحدث لهم من حياة وموت، وخير وشر، سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا، ومعرفة مُدَد الدول أو تفاوتها.
والتطلعُ إلى هذا طبيعةُ البشر، مجبولون عليها، ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام".[8]
فإذا اجتمع إلى ذلك الجهل، والفراغ، وضعف التقوى _ قاد إلى استشراف الغيب من أي مصدر ولو كان عبر السحر والشعوذة.
ولقد أشبعت الشرائع الإلهية، والرسل المبعوثون من عند الله هذه النزعة البشرية في النفس الإنسانية، فحدَّثت عن عالم الغيب، كالحديث عن الله _عز وجل_ وأسمائه وصفاته، وعن عالم الملائكة والجن، وعن الموت وسكراته، والقبر وفتنته، والبعث والنشور والجنة، والنار.
وكالحديث عن كثير من الحوادث المستقبلية كأشراط الساعة الصغرى والكبرى إلى غير ذلك من أخبار الغيب التي امتدح الله المؤمنين بها، وذم المكذبين بها.[9]
6_ كثرة الأمراض والأوهام: فهذا مريض مرضاً استعصى على العلاج، وذاك يعيش أوهاماً تقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهلم جرا.
فالرغبة في العلاج، والشفاء من تلك الأمراض تجعل المصاب يتعلق بأدنى شيء يوصله إلى ذلك.
7_ قلة العقوبات الرادعة للسحرة: ففي كثير من البلدان يسرح فيها السحرة، ويمرحون، ويزاولون أعمالهم دون رقيب عليهم.
بل ربما وجدوا الحماية، والتصريح لهم بفتح مراكز تعلم السحر، والكهانة.
8_ مشاهدة الصغار للأفلام الكرتونية المشتملة على الخرافة: كبعض ألعاب البلايستيشن وغيرها، مما يحتوي على ممارسات المشعوذين والدجالين، مما يجعل المشاهد يستمرئ ما يراه في صغره؛ فلا يكاد ينكره حال كبره.
ثانياً: بطلانُ زيفِ السحرة، وفسادُ صناعتهم
بطلان زيف السحرة واضح لكل ذي لب، وفساد صناعتهم يغني عن إفسادها ودحضها، وإذا اجتمع إلى ذلك بيان لباطلهم فهو زيادة في التنفير منهم.
والحديث فيما سيأتي بيان لشيء من ذلك على سبيل البسط.
1_ قيام صناعتهم على الكذب والدجل: فالسحرة والدجالون يسعون لإضلال الناس، ونهب أموالهم بِشُبَهٍ تروج على السُّذج، وأوهام يوحون بها أنها من أسرار الحكمة وهي _في الحقيقة_ من أسرارِ الغواية، وأكبرِ الأدلة على بطلان صناعتهم، وبُعْدها عن منهج التشريع مع زعمهم أن ما هم عليه هو الحقُّ، وأن ما يقولونه هو الطريق السوي الموصل إلى السعادة والحق.
يقول البوني[10] في خاتمة كتابه شمس المعارف المليء بالدجل والسحر والشر، يقول مخبراً عن هذا الكتاب: "فإنه نعم الرفيق، ونعم الأنيس الشفيق، ونعم الجليس الصديق لأهل الطريقة والحقيقة، ونعم السلاح للمجاهدة، ونعم الرماح للمشاهدة حتى إني ما نطقت عن الهوى، بل هي نار اقتبستها من أيمن وادي السعادة أشعلته من وادي طور النور على أغصان شجرة الحضور.
واعلم أن كتابي هذا لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله كما قال _تعالى_: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الرعد:11)".
فما وجدته فيه فاعلم أن الأمر فيه كما وجدته، وبالله أقسم لا ألقيه لك إلا ظاهراً، ولا أدعك فيه متفكراً".[11]
2_ أن كتبهم مليئة بالمخالفات الشرعية العظيمة: كالحلف بغير الله، وتعظيم من ليسوا على دين صحيح، وإلغاء معنى التكليف والابتلاء من الله _عز وجل_ وإسناد ما يجري إلى أسباب يرونها موجبة لما يحدث.
يقول البوني: "يا معشر الإخوان: ضمنوا الحكمة النفس الحية، ونزهوها من الصحف، والقراطيس، ولا تضمنوا ما يفتقر إلى غيره، بل اضمنوا ما الغير مفتقر إليه، فأولى الفنون بالتضمن فن البسط، والتكسير؛ إذ عليه أعمال الكون أجمعه، ومنه الطلاسم الدائمة إلى يوم البعث والنشور، والتأثير الذي لا ينكر، والسر الذي لا يجحد..".[12]
يقول الدكتور أحمد الحمد _حفظه الله_: "ومن اطلع ولو على فهرس كتاب من كتب هؤلاء القوم _ أدرك أنهم يرون أن كل حادث في الكون من خصائص ما ذكروه، ونتيجة طبعية لما وصفوه من علم الحرف، والأوقات المختارة للأعمال، والطبائع الأربعة، والكواكب، وطبائعها، ومعادنها، وحروفها، وأفلاكها، وأعوانها، وخدمها، وعلم الكسر، والبسط، وكيفية استخدام الأفلاك العلوية، والأرواح السفلية، وغير هذا من مذهبهم، وشروطهم.
وهذا، ونحوه مؤداه إبعاد البشر عن التعلق بالله _تعالى_ وإخلاص العبادة له؛ لاعتقادهم أن ما ينال من أسرار تلك الأسماء، إذا علم وباشره المتعلق بما يناسبه حصل له أثره، وكأن الأمر حتمى، لا ارتباط له بالخالق المتصرف الذي يعطي ويمنع، ويقبل ويرد.
وما قرره الشارع الحكيم من طلب الإخلاص في العبادة، والتضرع، والخيفة في الدعاء، مع ما أرشد إليه من سلوك مسببات إجابة الدعاء من إطابة المطعم والمشرب، ونحو ذلك _ يرد ما ذكروه، ويبطل ما وصفوه.
وإن اللبيب _حتى وإن قل علمه بالشرع_ ليعلم تمام العلم أن ما يذكره هؤلاء بعيد عن الصواب؛ لاختلاف الأحداث، وتباين الظواهر الكونية في كل الأعوام، ولو كان الأمر كما يذكر أولئك لحصل التشابه بين الحوادث، أو كان ما يحصل متقارباً في جميع الأعوام، وعلى مر العصور والأيام، فالحق ما أخبر الله _تعالى_ عنه بقوله: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35).[13]
3_ أن هناك أموراً كثيرة ترد مزاعم أولئك: خصوصاً من يرون تأثير الكواكب من المنجمين وغيرهم، ومن ذلك ما يلي:
أ_ أن آلاف الناس يولدون في دقيقة واحدة، ولو عملت دراسة على المواليد من واقع سجلات المستشفيات الكبرى في أي قطر من العالم لَوُجِدَ من الفروق ما يكذب ما يدعيه المنجمون الذين يرون أن من ولد في ذلك الوقت أو البرج سيكون حاله كذا وكذا.
ب_ ما يرى من آثار التربية، والثقافة، والصداقة على سلوك البشر: فالناس كلهم يولدون على الفطرة، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة÷ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه"[14].
ففي هذا الحديث دليل على أن جميع البشر يولدون على الفطرة وهي الإسلام الدين الحق.
وأن ما يحصل من فساد وتغير سلوك خارج عن الفطرة إنما هو بسبب أثر التربية من الوالدين والمعلمين والأصدقاء وغيرهم؛ فلا أثر لوقت الولادة من الطوالع، أو أحرف الاسم، أو غير ذلك في سير حياة الإنسان.[15]
جـ_ أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بكفر من نسب المطر إلى الأنواء: فقد روى البخاري عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب"[16].
فالحديث دليل على بطلان أثر الكواكب في نزول المطر، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن أن من نسب ذلك إليها فهو كافر، ومن أضافه إلى الله _عز وجل_ فهو المؤمن.[17]
4_ حال السحرة والمشعوذين: فهي تنبي عن بطلان دعاواهم، وتخبر عن فساد صناعتهم؛ إذ لو كان ما يدعونه حقاً لنالوا الخيرات، ولسلموا من السيئات.
ولكن واقعهم عكس ذلك؛ فالغالب على أحوالهم الفقر، والتعاسة، والحرمان، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك.[18]
5_ اعتراف كثير من زعمائهم بأن هذه الصناعة تقوم على التخرص والتوهم وأنها لا تفيد العلم ألبتة: يقول أبو نصر الفارابي: "واعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين؛ فجعلت السعد نحساً، والنحس سعداً، والحار بارداً، والبارد حاراً، والذكر أنثى، والأنثى ذكراً، ثم حكمت _لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة، وتخطئ تارة".[19]
6_ أن هؤلاء القوم أنفسهم أقروا بفساد صناعتهم: إذ إن كل فريق يحكم بفساد أصول الفريق الآخر، وكلما جاءت أمة نقضت أصول من سبقها، وادعت أن أصولها هي الصحيحة دون من سواها.
وهذا يبرهن على أن أصولهم المزعومة إن هي إلا محض دجل، وحدس.[20]
7_ أن دعاوى السحرة، والمنجمين مما أنكره الناس على مر العصور: حيث أدركوا ضلال هذا العلم، وكذب أهله، حتى صار بهتانهم مشهوراً بين الناس كافة من كثرة ما قيل فيه.
يقول قسُّ بن ساعدة:
علم النجوم على العقول وبال *** وطِلابُ شيءٍ لا ينال ضلال
ماذا طِلابك عِلمَ شيءٍ غُيِّبتْ *** من دونه الخضراءُ ليس ينال
هيهات ما أحد بغامضِ فطنةٍ *** يدري كمِ الأرزاق والآجال
إلا الذي فوق السماء مكانه *** فَلِوَجْهِه الإكرام والإجلال[21]
وقد أودع كثير من العلماء في مصنفاتهم كثيراً من الشواهد والأقوال على بيان دجل الكهان والمنجمين.ماذا طِلابك عِلمَ شيءٍ غُيِّبتْ *** من دونه الخضراءُ ليس ينال
هيهات ما أحد بغامضِ فطنةٍ *** يدري كمِ الأرزاق والآجال
إلا الذي فوق السماء مكانه *** فَلِوَجْهِه الإكرام والإجلال[21]
ومن هؤلاء العلماء ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة؛ حيث ذكر كثيراً من الأدلة على فساد أقوالهم.
8_ فساد إجماعاتهم: فهم إذا أجمعوا على وقوع شيء فإنه لا يقع غالباً.
وهذا دليل على فساد صناعتهم، وعلى أن أحكامهم مجرد ظنون كاذبة.
وقد حمل لنا التاريخ قصصاً كثيرة في هذا السياق.
ومن أشهر ذلك ما زعمه المنجمون من أن المعتصم لا يفتح عمورية، وراسلته الروم بأنا نجد في كتبنا أنه لا تُفتح مدينتنا إلا في وقت التين والعنب، وبيننا وبين ذلك الوقت شهور يمنعك من المقام بها البرد والثلج؛ فأبى المعتصم أن ينصرف، وأصرَّ على فتحها، وأبطل ما قالوا؛ فأنشأ أبو تمام قصيدته المشهورة التي مدح فيها المعتصم، وبيََّن كذبَ المنجمين، وفسادَ علومهم، فقال:
السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب *** في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
بيض الصفائح لا سود الصحائف في *** متونهن جلاء الشك والـريبِ
والـعِلْمُ فـي شُـُهبِ الأرماح لامعة *** بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ
أيـن الـرواية بـل أين النجوم وما *** صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقـــةً *** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
عـجـائباً زعـموا الأيـام مـجفلةً *** عـنهن في صفر الأصفار أو رجبِ
وخـوّفوا الـناس من دهياءَ مظلمةٍ *** إذا بـدا الـكوكبُ الغربي ذو الذنبِ
وصـيّروا الأبـرُجَ الـعليا مُرَتَّبةً *** مـا كـان مـنلقباً أو غـير منقلبِ
يـقضون بـالأمر عنها وهي غافلةٌ *** مـا دار فـي فـلكٍ منها وفي قطبِ
لـو بـينت قـط أمـراً قبل موقعهِ *** لـم تُخْفِ ماحل بالأوثان والصلبِ[22]
بيض الصفائح لا سود الصحائف في *** متونهن جلاء الشك والـريبِ
والـعِلْمُ فـي شُـُهبِ الأرماح لامعة *** بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ
أيـن الـرواية بـل أين النجوم وما *** صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقـــةً *** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
عـجـائباً زعـموا الأيـام مـجفلةً *** عـنهن في صفر الأصفار أو رجبِ
وخـوّفوا الـناس من دهياءَ مظلمةٍ *** إذا بـدا الـكوكبُ الغربي ذو الذنبِ
وصـيّروا الأبـرُجَ الـعليا مُرَتَّبةً *** مـا كـان مـنلقباً أو غـير منقلبِ
يـقضون بـالأمر عنها وهي غافلةٌ *** مـا دار فـي فـلكٍ منها وفي قطبِ
لـو بـينت قـط أمـراً قبل موقعهِ *** لـم تُخْفِ ماحل بالأوثان والصلبِ[22]
وقد ذكر الشيخ الدكتور عبدالمجيد المشعبي _حفظه الله_ في كتابه التنجيم والمنجمون عدداً من القصص في هذا القبيل.[23]
9_ أن صناعة السحر والدجل بأنواعها ضرر على من يتطلبها: وصدق الله إذ يقول: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ).
وذلك أن متوقع السعادة من تلك الصناعة يحصل له من قلق المُتَوقَّع، وحرقة الانتظار ما يقطعه عن مصالحه؛ فإذا تأخر السعد أو تخلَّف _وهذا هو الأغلب_ وقع في حسرات وندامات على ما فاته من السعد الموهوم؛ فآل إلى ضرر محض.
أما متوقع النحس فهو حاصل له قبل وقوعه؛ فيبقى في غم، وفي انتظار غم؛ حيث جمع إلى انتظار الخوف خوفاً؛ فانتظار الشر أشد من وقوع الشر.[24]
ومن خلال ما ذُكِرَ وما لم يذكر يتبين فساد هذه الصناعة، وضررها المحض على الدين والدنيا، والمقام لا يحتمل مزيداً من التفصيل، وصلى الله وسلم على نبيناً محمد وآله وصحبه.
[1] _ الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية ص8.
[2] _ الفرقان ص58.
[3] _ الفرقان ص61.
[4] _ الفرقان ص61_62.
[5] _ الفرقان ص63_64.
[6] _ لطائف المعارف لابن رجب ص380_381.
[7] _ الفرقان ص65_66.
[8] _ مقدمة ابن خلدون ص587.
[9] _ انظر السحر والشعوذة د. عمر الأشقر ص263_266.
[10] _ هو أحمد بن علي بن يوسف أبو العباس البوني، متصوف مغربي الأصل له مصنفات عديدة جعلها في الضلالات منها شمس المعارف، واللمعة النورانية، ومنبع أصول الحكمة، والسلك الزاهر، وغيرها، توفي في القاهرة سنة 622. انظر كشف الظنون لحاجي خليفة 2/1062، والأعلام للزركلي 1/174، والسحر للحمد ص203.
[11] _ شمس المعارف 4/534، وانظر السحر بين الحقيقة والخيال د. أحمد الحمد ص203.
[12] _ منبع أصول الحكمة ص5، وانظر السحر بين الحقيقة والخيال ص204.
[13] _ السحر بين الحقيقة والخيال ص204_205.
[14] _ البخاري (6599)، ومسلم (1358).
[15] _ انظر السحر بين الحقيقة والخيال ص207.
[16] _ أخرجه البخاري (846)، ومسلم (71).
[17] _ انظر السحر بين الحقيقة والخيال ص208.
[18] _ انظر السحر بين الحقيقة والخيال ص208، والتنجيم والمنجمون د.عبدالمجيد المشعبي ص197.
[19] _ مجموع الفتاوى المصرية لابن تيمية 1/332، وانظر التنجيم والمنجمون ص185، وقد ذكر صاحب هذا الكتاب عدداً من أقوالهم. انظر ص185_187.
[20] _ انظر التنجيم والمنجمون ص187_190.
[21] _ انظر المحاسن والمساوئ للبيهقي ص327_ 328، والتنجيم والمنجمون ص108 و 190_191.
[22] _ شرح ديوان أبي تمام للتبريزي 1/24.
[23] _ انظر التنجيم والمنجمون ص193_196.
[24] _ انظر التنجيم والمنجمون ص197.