قرأت لك ....
ذخائر الحكمة المصرية السرية وأثرها علي الغرب
طالما اثارت مصر الفرعونية وتاريخها واثارها وفكرها العالم كله، من جذور تاريخ مصر القديم وحتي اليوم. ولقد تنوعت وانتشرت كل التحليلات والتفسيرات عن مصر في كل العصور، ولكننا لا نعرف منها اليوم إلا ما كتب عن علوم المصريات التي كشفها شامبليون العالم الفرنسي بعد ان فك طلاسم اللغة الهيروغليفية، في القرن التاسع عشر، وجعلنا نتعرف علي اسرار حضارة تجاوز عمرها 7 آلاف عام، إلا أن كنوز وذخائر الفكر المصري القديم تتجاوز علم المصريات، الذي يعتبر علما حديثا بالمقارنة بالعلوم الأخري، ويعتبر مجرد فرع من أفرع الدراسات المختلفة عن المصريات.
من بين الأفرع العديدة التي تزخر بها علوم مصر القديمة، يعتبر فكر الغيبيات والعقائد والمعتقدات الدينية، مجالا لم يطرق كثيرا، منذ أن فقدناه في القرنين التاسع عشر والعشرين بسبب صعوبة الخوض في فكر غيبي لا يستطيع المرء اثباته بشكل عقلاني. ولكن هذا الفكر ظل متداولا حتي القرن الثامن عشر، منذ أن أدرك الاغريقيون أن جذورهم الثقافية والروحانية تعود في التاريخ إلي الشرق الأدني وإلي مصر.
ولكن، ومنذ سنوات قليلة، عادت مصر القديمة، مصر المثالية التي في الخيال وفي الخاطر، إلي الساحة الثقافية في الغرب، وبدأت المجتمعات الفكرية تعتبرها بديلة للثقافة المعاصرة، فكل من يشعر بعدم الرضا بالعالم حوله، يلقي بنظره بعيدا إلي المصدر الذي جاءت منه الحكمة الأكثر نقاء.
ولقد ألقي ايريك هورنونج الكاتب واستاذ العلوم المصرية القديمة في جامعة بازيل بسويسرا، الضوء علي مصر الروحانية والغيبية في كتاب صدر مؤخرا بعنوان "ذخائر الحكمة السرية في مصر القديمة. وأثرها علي الغرب" يتحدث فيه عن "الحكمة المصرية" ويقدم دراسة عن "مصر التي في الخيال" والتي يعتبرها بمثابة المصدر العميق للحكمة الروحانية، أو المعرفة غير المرئية. يتحدث هورنونج عن مصر ويصف حكمتها بأنها "فكرة تجاوزت الزمن"، وترتبط فقط بعلاقة واهية مع الحقيقة التاريخية.
وان كان من الصعب وضع دراسة اكاديمية عن المسائل الغيبية، وهو ما يحاول الكاتب ان يفعله هنا، ففي رأيه ان المسائل الغيبية تتفاعل مع الحقائق الخفية التي لا يمكن الإلمام بها إلا من خلال الحدس أو الرؤي لذلك من الصعب تأكيدها. وهي وسيلة من وسائل التفكير، التفكير غير المنطقي والحدسي، لا يشعر بها أو يتفهمها إلا بعض الأشخاص الذين تمكنوا من الوصول إلي ادراك حسي عال.
ولكن كان هدف هورنونج هو شرح "مصر التي يتخيلها والتي يري انها المصدر العميق لكل المعرفة والحكمة الغيبية".
فمن خلال الكتاب الذي كتب باللغة الألمانية وترجم إلي الانجليزية، يتفقد هورنونج مدي تأثير مصر الدينية والغيبية علي الثقافة الغربية بدءا من العالم القديم، عبر العصور الوسطي وحتي عصر النهضة وكيف تعاملت مع مصر، ومنها إلي الحركات الروحانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعشقهم للهيروغليفية، ومنها إلي الحركة الرومانسية الألمانية وإلي القرنين التاسع عشر والعشرين وتعامل المفكرين في علم الروحانيات مع الفكر المصري القديم، وحتي يومنا الحالي.
يقول هورنونج في كتابه ان الاله تحوت، والعديد من الحكماء المصريين الآخرين الذين كان يعرفهم الأغريق، اندمج مع هيرميس الاله الذي اطلق عليه لقب "ثلاثي العظمة"، الذي يعتبر في الأساطير الاغريقية القديمة مؤسس فن الكتابة والحضارة. فان تحوت، حسب تعبير هورنونج، هو الشخصية المحورية في العلوم الروحانية المصرية القديمة، فقد كان قاضيا، والها ذا جناحين يحمل الرسائل، كان تحوت هو في الفكر المصري القديم، كاتب الالهة جميعا، وحامي عين حورس. ان معبد تحوت، يعتبر العمل الحقيقي الذي يعبر عن الحكمة المصرية ما بعد الحياة. ومع عصر البطالمة، تحول تحوت ليصبح الاله المصري الأول في مجال السحر ولا يجب النطق باسمه. في هذه الفترة، عام 570 قبل الميلاد، تحول تحوت، بقرار من الحاكم اليوناني إلي هيرميس ثلاثي العظمة، وبعد عام 240 قبل الميلاد، بات من الممكن تفقد تاريخ ديانة هيرميس.
كما يشير هورنونج إلي أن اللغة الهيروغليفية التي تعبر عن "الغيبيات" كانت موجودة بالفعل ولكنها كانت مغلفة بعلامات هيروغليفية تحمل معاني رمزية متعددة، وتشكل شفرات خاصة لا يعرفها إلا رجال الدين، فعلي سبيل المثال، تكرار العلامة الخاصة باسم اوزيريس 73 مرة.
يري هورنونج ان الكتاب الاغريق/ الرومان هم الذين وضعوا اسطورة الغيبيات المصرية، واعتبروها بديلا مثاليا وثقافيا للحياة الرومانية في ذلك الحين، تلك الحياة التي لم يكونوا يرضون عنها.
لقد منحت مصر، "مصدر كل الحكمة" وتحوت = هيرميس، "مؤسس الديانة" بديلا للأراء الفكرية والعقائدية الأخري التي كانت قد انتشرت في تلك الفترة. واصبحت اللغة الهيروغليفية المصرية القديمة هي اللغة البدائية والسرية لهيرميس.
يتبع
تعليق